عمار الشريعي الرائي بالأنغام والألحان!
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
(1)
نادرًا ما أتوقف للحديث عن مبدع ينتمي لدائرة غير دوائر الإبداع الكتابي الذي يتخذ من اللغة أداة للإبداع والتشكيل. نعم أحب كل الفنون وأعشقها وأتذوقها بدرجات تتفاوت بين التذوق العام والانطباع التأثري وبين التذوق المتعمق المستند إلى بعض معرفة وإلمام بأصول هذا الفن أو ذاك..
وهكذا كتبت عن بعض الفنانين التشكيليين الكبار في الفن العربي الحديث والمعاصر (جاذبية سري وحلمي التوني وجمال قطب على سبيل المثال) وأشرت إلى قيمة نحات كبير بقيمة محمود مختار (صاحب تمثال نهضة مصر) وفي الموسيقى والألحان، كتبت عن سيد درويش وبليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب.
واليوم أقف قليلا عند موسيقار موهوب، ملحن فذ وقدير رحل عنا منذ اثنتي عشرة سنة، وما زال يملأ الدنيا ويشغل الناس ويمتعهم ويطربهم، وما زال يمتع الملايين بألحانه في كل أنحاء العالم العربي، لا مصر وحدها، بأعماله الرائعة خاصة تترات المسلسلات التي برع في تلحينها ووضع موسيقاها التصويرية، منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وحتى رحيله في 2012.
عن الموسيقار الكبير المبدع عمار الشريعي (1948-2012) أتحدث صاحب الألحان والأنغام والرائي بهما، والمفكر بالإيقاع، والمحلل لجمال اللحن والنغم والصوت في برنامجه الأشهر والأمتع "غواص في بحر النغم" الذي ظل يبث على إذاعة البرنامج العام لما يقرب من ربع القرن، وتحول إلى برنامج مرئي على شاشة الفضائيات في السنوات الأخيرة قبل رحيله.
(2)
ومن حسن الحظ، فإن كتابا صدر في القاهرة مطالع العام 2024 قد خصص بأكمله لهذا العبقري، كتبه صحفي قدير وباحث دؤوب ومؤرخ له أعماله التي تشهد بهذا الدأب والاستقصاء والإخلاص، أقصد كتاب "عمار الشريعي ـ سيرة ملهمة" لمؤلفه سعيد الشحات، الذي صدر عن دار ريشة للنشر والتوزيع، 2024. وسنعتمد على هذا الكتاب مصدرا أساسيا فيما نورده من معلومات سيرية عن الموسيقار الكبير.
ولا خلاف تقريبا حول ما يقرره مؤلف الكتاب من أن عمار الشريعي هو أحد أهم الموسيقيين في العالم العربي (وإن كنت أراه أيضًا أحد أهم الموسيقيين في العالم)، والذي استطاع أن يضع نفسه بين أهم (إن لم يكن على رأس) نجوم الموسيقى التصويرية، ويتغلب على إعاقته البصرية بحبه للفن والموسيقى وشغفه المجنون بهما حتى صار من كبار المتيمين بهما والمبدعين فيهما، والآخذ بيد المتذوقين لها.
ولد عمار الشريعي بمدينة سمالوط التابعة لمحافظة المنيا عام 1948، ثم التحق بمدرسة لرعاية المكفوفين تابعة للمعونة الأمريكية، فعرف حبه للموسيقى وأتقن اللعب على معظم الأدوات والآلات الموسيقية،
وللأسف فقد قاطعته أسرته وقاطعه أهله بمجرد علمهم بأنه ينوي العمل بالموسيقى أو بالأحرى اتخاذه قرار احتراف الموسيقى، وقال في أحد لقاءاته التلفزيونية، إن سبب رفض والدته عمله بالمجال الفني، خوفها أن يصبح منحرفًا، بالإضافة إلى أن والده كان يغلق باب المنزل في العاشر مساء لمنعه من الدخول، وقد توسط الفنان الكبير فريد الأطرش الذي كان صديقًا للأسرة لإقناع والده بموهبته الحقيقية، ثم قام بمحاولة الإصلاح بينهم، لكن والدته ظلت تقاطعه لمدة 5 سنوات كاملة.
(3)
ولن نستغرق في إيراد تفاصيل السيرة أو حياة عمار الشريعي لذاتها، لأن ما تركه فيها من "أعمال" و"ألحان" يوازي سيرة عشرات البشر، كان رحمه الله موهوبًا ولم يعتمد أبدًا على هذه الموهبة وحدها، بل نماها وطورها واستثمرها أحسن استثمار بالدراسة والوعي والخبرة والممارسة، حتى صار حكيما خبيرا أريبا، كلمته تكاد تكون الكلمة العليا في الفصل بين الأصوات والألحان،
كما كان كشافا عظيما عن المواهب والأصوات المميزة الجميلة، وليس أدل على ذلك من تكوينه فرقة الأصدقاء التي تشكلت من أربع أصوات رقيقة وجميلة كتب لها القبول والذيوع والانتشار طيلة عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وظلت أغاني كل من علاء عبد الخالق، ومنى عبد الغني، وحنان، وهدى عمار باقية، وتردد حتى اللحظة بين أبناء هذه الأجيال وحتى بين الأجيال التالية..
كان تتر مسلسل «الأيام» والموسيقى التصويرية لهذا المسلسل هي البداية أو الإعلان المدوي عن هذه الموهبة المتفجرة. كانت المقدمة الشاجية الشهيرة لمسلسل «الأيام» أحد أهم مسلسلات أواخر السبعينات، ولم يكن مألوفًا كما يقول الناقد محمود عبد الشكور، أن يحقق مسلسل عن حياة شخصية معروفة وحقيقية كل هذا النجاح فقد سبقه مثلًا عمل مرّ دون ضجة عن بيرم التونسي، من بطولة نبيل الدسوقي، وظهر فيه صلاح جاهين ضيفًا للشرف. في ظني أن أحد أسباب نجاح المسلسل الساحق هو تفجر موهبة عمار الشريعي المذهلة في تلحين التتر والأغاني والموسيقى التصويرية.
ثم تطل المطربة الكبيرة شادية على جمهورها بأغنية رائعة من تلحين الملحن الشاب آنذاك عمار الشريعي هي أغنية "أقوى من الزمان" التي هزت الأرواح والقلوب واستقبلت كأحسن ما يكون الاستقبال لملحن مميز، مختلف، لا يقلد أحدا، ويبحث عن نغمته الخاصة، وتوقيعه المميز الفريد، وهو ما دشن اسم عمار الشريعي ضمن الطبقة الأولى من الملحنين الكبار في ذلك الوقت.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى رحيله في 2012، أي ما يزيد على العقود الثلاثة سطع نجمه وعلا وتألق وازداد سطوعا ولمعانا وبريقا وحضورا بأعمال رائعة أقل ما توصف به أنها من صميم روحنا ومشاعرنا وإلا بماذا نفسر هذه الجماهيرية الكاسحة لتلقي هذه الأعمال والهوس بها حتى وقتنا هذا؟
تتجلى أعمال عمار الشريعي وموسيقاه في أذهان الجميع من خلال تترات المسلسلات التي سكنت وجدانهم وحفرت ذكرياتهم ونقشت في قلوبهم وأرواحهم، خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر، تترات المسلسلات الآتية:
مسلسل "أميرة في عابدين"، و"حديث الصباح والمساء"، و"أرابيسك"، و"رأفت الهجان"، و"الشوارع الخلفية"، و"شيخ العرب همام"، و"ريا وسكينة"، و"ليلة القبض على فاطمة"، و"دموع في عيون وقحة"، و"زينب والعرش"، و"الأيام"، كما لحن عمار الشريعي العديد من الأغنيات لمطربين كبار، منهم على سبيل المثال ميادة الحناوي.. وطبعا ذلك كله عظيم ورائع ومبدع، وبرنامجه الأسطوري في الإذاعة "غواص في بحر النغم" إبداع آخر ومساحة أخرى لم تتحقق لموسيقي من قبله ولا من بعده حتى اللحظة.
(4)
ولا أنسى أبدًا رغم استماعي إلى حلقة من حلقات "غواص في بحر النغم" قبل سنوات طويلة فائتة، بل سمعتها أكثر من مرة، فإن استماعي لها هذه ذات ليلة قريبة، حمل شيئًا جديدًا وجميلًا وممتِعًا فاق كل المرات التي سمعتها فيها سابقًا، كانت أول مرة أنتبه وألتفت بهذه الكثافة والسطوع إلى مقدرة الموسيقار المعجز عمار الشريعي الفذة على تذوق الشعر العربي، وفهمه، وتحليل جمالياته وموسيقاه وإيقاعه بهذه السلاسة والعذوبة و«الحرفنة»، معلم أسطى فنان عظيم!
بالدرجة ذاتها إن لم يزِد التي يحلل فيها الألحان والأنغام، ويشرح المقامات الموسيقية وأطوالها وسماتها وإمكاناتها.. حالة فنية استثنائية بكل المقاييس وحالة إبداعية منتشية لا تملك وأنت تسمعها إلا أن تصيح بحماسة «الله الله الله» «بصوت الشريعي نفسه الذي كان يردد هذه اللازمة عقب الانتهاء من إذاعة اللحن أو الأغنية أو القصيدة المغناة».
لم أكن قرأت هذه الأسطر التي تفيض إعجابا وتقديرا بالبرنامج التي كتبها أنيس منصور في عمود الشهير "مواقف"، بالأهرام:
"أنا من المعجبين بالموسيقار عمار الشريعي، إنه فنان في غاية النقاء ولذلك فهو ناقد عادل، وأنا أدعوك إلى أن تتابع برنامجه الفريد الذي عنوانه «غواص في بحر النغم»، وهو غواص فعلًا، ويعثر على اللؤلؤ في كل مرة، هو صياد يخرج لؤلؤًا جميلًا فيقدم لك الكلام الحلو في الأغنية والقصيدة مفتونًا بما قاله الشاعر الغنائي، ثم ينتقل إلى الموسيقى وإلى الأغنية وإلى الأداء، أما لغته العربية، فسليمة ويحسده عليها كثير من الأدباء الذين لا يعرفون لا خبر إن ولا اسم كان، وتندهش جدًّا كيف أن عمار الشريعي يكن كل هذا الحب لكل الناس، كيف أنه لا يقع إلا على كل جميل، إنه ليس ناقدًا ولا مؤرخًا فقط، ولكنه عاشق لكل أشكال الجمال، وهذا العشق تنتقل عدواه إلى المستمع".
(وللحديث بقية)
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عمار الشریعی
إقرأ أيضاً:
المجلس القومي للمرأة يهنئ اللاعبة نور الشربيني لفوزها ببطولة العالم للإسكواش
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
هنأ المجلس القومي للمرأة برئاسة المستشارة أمل عمار وجميع عضواته وأعضائه اللاعبة نور الشربيني لفوزها ببطولة العالم للاسكواش أمام منتخب أمريكا للفرق للسيدات بهونج كونج، ويعد هذا اللقب الرابع على التوالي لمنتخب سيدات الاسكواش والسادس في تاريخه.
عبرت المستشارة أمل عمار عن بالغ سعادتها وفخرها بهذا الانجاز المشرف الذى حققته بطلة مصر والعالم نور الشربينى، لرفعها اسم مصر عاليًا بفوزها ببطولة العالم للاسكواش، مؤكدة أن البطلة نور الشربيني نموذج مشرف لمصر والمرأة المصرية ونموذج ملهم لجميع فتيات مصر ، متمنية لها تحقيق المزيد من النجاحات والانجازات فى جميع المحافل الرياضية التى تشارك بها.
ومن الجدير بالذكر أن نور الشربينى لاعبة المنتخب المصري قد حسمت اللقب بالفوز على الأمريكية أوليفيا ويفر بنتيجة 3-1 في المباراة الثانية.