الربيع الحلبي الجديد.. ملامح لحظة تاريخية في مسار الحرية العربية
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
مع كل دورة من دورات التاريخ، تظهر لحظة تحمل في طياتها زخمًا قد يُعيد تشكيل الملامح السياسية والاجتماعية للأمم. يبدو أن ما نعيشه اليوم هو بداية "ربيع عربي جديد"، ينطلق من تحت رماد الإحباط والانكسار الذي خلفته موجة الثورات الأولى. لكن هذا الربيع الجديد يختلف عن سابقه؛ فهو يستند إلى وعي شعبي أعمق، ورغبة جارفة بتجاوز لحظة الاحباط والإنكسار، وبنية أكثر صلابة، وتجربة تراكمية تتيح استثمار اللحظة التاريخية الراهنة.
من ثورة 2011 إلى "ربيع حلبي جديد"
شهدت سوريا وبقية دول الربيع في 2011 ثورات عربية هزت عروش الأنظمة الاستبدادية، واسقطتها في دول اخرى، لكن تلك الموجة لم تحقق اهدافها في الجولة الأولي، لأسباب متعلقة ببنية الفواعل التي تبنت الثورة، أو التحديات الجمه التي واجهتها، أهمها تحالف الاستبداد المحلي، والدعم الإقليمي والدولي مع الاستبداد، وزج المنطقة بحرب طائفية كانت إيران ومليشياتها رأس حربتها.
اليوم بعد عقد من الزمن، تغيرت فيه الكثير من المعطيات، وبرزت العديد من التطورات، أبرزها ربما الانقلاب في مصر، وحدث ٧ أكتوبر في غزة، وحرب لبنان الأخيرة التي قصت أهم أذرع إيران في المنطقة، ما بجعلنا أمام مشهد مختلف، في سوريا، تحديدًا في حلب، والمنطقة العربية، يتجدد الحراك الشعبي في ظل ظروف محلية وإقليمية أكثر هشاشة للنظام وحلفائه.
نحن أمام لحظة فارقة في مسار الحرية العربية. ما يحدث في سوريا، وخاصة في حلب، ليس مجرد حراك شعبي آخر، بل هو بداية "ربيع حلبي جديد" قد يشكل شرارة لموجة ثانية من الثورات العربية.اليوم يبدو الأمر مختلف علي الأرض فالنظام السوري، الذي أبدى في العقد الماضي صلابة مدعومة بتحالفاته مع إيران وروسيا وبالمال السياسي العربي، يبدو اليوم أكثر هشاشة من أي وقت مضى. داخليًا، يعاني النظام من انهيار اقتصادي وانقسامات داخلية ، أما حلفاؤه، فقد باتوا غارقين في أزماتهم الخاصة؛ ويواجهون خطر خسران كل مكاسبهم الاستراتيجية في المنطقة، فإيران تواجه احتجاجات داخلية وضغوطًا دولية خانقة، وروسيا منهكة بحربها في أوكرانيا، بينما المال السياسي العربي يعاني من تحديات اقتصادية تقلل من فاعليته.
لكن التغيير الحقيقي لا يأتي فقط من هشاشة الأنظمة، بل من الوعي الجديد الذي بدأ يتشكل بين الشعوب.
معركة وعي جديدة
ثورات 2011 كانت موجة عاطفية، عبّرت عن توق الشعوب للحرية والكرامة. أما اليوم، فإننا أمام حركة أكثر نضجًا ووعيًا. الشعوب لم تعد تطالب بإسقاط الأنظمة فقط، بل تسعى لبناء دول جديدة على أسس الحرية والشراكة والعدالة. أدرك العرب أن الاستبداد ليس ظاهرة محلية، بل هو جزء من شبكة محمية بالمال السياسي العربي والدعم الإيراني.
هذا الإدراك جعل الثورات اليوم أكثر تركيزا ووضوحا في أهدافها. لم تعد المقاومة مجرد رد فعل على قمع محلي، بل أصبحت رأس حربة لمشروع عربي أوسع يسعى لاستعادة السيادة الشعبية ومواجهة التحالفات التي تعيق تطلع الشعوب للحرية ، معركة اصبح خصومهم الاقليمين والدوليين اكثر وضوحا، الاعتماد علي الذات ، وادارة التعايش الداخلي السياسي والفكري اكثر استراتيجية ، بل وعيا وجوديا لنجاح الثورة.
الكتلة الصلبة للثورات.. رأس الحربة
في حلب اليوم يتجلي قانون التغيير التاريخي ، ففي قلب هذا التحول الجديد، توجد “الكتلة الصلبة” للثورات، التي تشكلت من رحم شعب سوري المنفي قسرا ، التواق لوطنن ، لذكريات الطفولة في أزقة الحواري وساحات المدن ، هذه الكتلة ليست مجرد تنظيم سياسي أو تيار فكري، بل هي حركة اجتماعية متجذرة في الواقع، تمثل امتدادًا مباشرًا لمصالح الفئات الأكثر تضررًا من الاستبداد.
ما يميز هذه الكتلة هو تنوعها؛ فهي تجمع بين الإسلاميين، والليبراليين، والمستقلين، ما يجعلها قادرة على تمثيل طيف واسع من الشعوب. إضافة إلى ذلك، تراكمت لديها خبرة سياسية وتنظيمية عميقة من خلال سنوات من المقاومة والصمود تحت ضغط لا مثيل له.
الكتلة الصلبة التي قادت المقاومة في سوريا أصبحت اليوم رأس حربة لهذا المشروع الجديد. نجاحها يعتمد على قدرتها على استثمار هذه اللحظة التاريخية بحكمة وصبر، وتصحيح أخطاء الماضي، وبناء مستقبل يرتكز على الحرية والشراكة الحقيقية.لكن التحدي الأكبر أمام هذه الكتلة هو الحفاظ على وحدتها، وتجنب الوقوع في الفخاخ التي أعدتها الأنظمة وحلفاؤها، سواء من خلال الإغراءات المالية أو إثار ة الانقسامات الأيديولوجية.
مطالبة هذه الكتلة وقياداتها، تقاسم المغانم والمغارم، تحديد مناطق ومناصب التأثير في صنع القرار، ادارتها بحيادية وحنكة وتشارك، فإدارة مخاوف الشركاء تحدي كبير، بحاجة لمرونة، وتضحية. فمرحلة البناء اشد اختبار من مرحلة الثورة نفسها.
في عمق مفتاح التوازنات الإقليمية
حلب ليست مجرد مدينة عادية، بل هي مفتاح البداية والنهاية في المشهد السوري المعقد. عندما استعاد النظام السوري السيطرة على حلب، أعلن بشار الأسد قائلاً: "الآن يبدأ التحرير"، في إشارة واضحة إلى رمزية المدينة كمعقل استراتيجي ونقطة انطلاق لأي مشروع سياسي أو عسكري.
تمثل حلب مفترق طرق حيوياً بين الطموحات الإقليمية والدولية، فهي ليست فقط على تخوم العمق الاستراتيجي التركي في الشمال السوري، بل تشكل ساحة صراع مفتوحة بين المصالح الإيرانية والتركية. بالنسبة لإيران، حلب ليست مجرد مدينة، بل خط دفاع أول عن نفوذها في سوريا وساحة متقدمة لمواجهة خصومها الإقليميين. لهذا السبب، من المتوقع أن تزيد طهران دعمها للفصائل الموالية لها في سوريا، مع احتمال الاستعانة بوكلائها في العراق ولبنان لتعزيز موقفها أو إرسال رسائل إقليمية واضحة عند الحاجة.
تركيا بدورها تنظر إلى حلب كعنصر رئيسي في أمنها القومي، حيث لا يمكنها تجاهل أي تغيير في المعادلة هناك دون رد. وفي المقابل، سيكتفي الأوروبيون بالمراقبة الحذرة للتطورات على الأرض، مع استمرار دعمهم المحدود عبر منظمات المجتمع المدني، الذين يمثلون خط الدعم الأساسي بالنسبة لهم في هذه المرحلة.
لكن في النهاية، تبقى قوة الثورة وتماسكها العامل الحاسم في رسم معالم المستقبل الحلبي. فالثوار وحدهم قادرون على تحديد كيفية مواجهة هذه التدخلات المتشابكة، وتوجيه المسار نحو تحقيق تطلعات الشعب السوري، مهما كان حجم التحديات.
استراتيجية استثمار اللحظة الثورية
لتحقيق الأهداف الكبرى للحرية والشراكة، تحتاج الكتلة الصلبة إلى استراتيجية عمل طويلة الأمد، تستند إلى محاور رئيسية:
ـ تعريف الكتلة الصلبة الثورية ، ما هيتها الحالية ، وهذا مهم في ظل الضخ الاعلامي التابع لايران ، الذي يستغل مرحلة تاريخية لبعض الفصائل والقيادات لتشوية الثورة وقيادتها ، وهذا امر يجب ان يكون واضحا.
ـ بناء مشروع سياسي جامع اي أن تتحول الكتلة الصلبة إلى حاضنة لمشروع وطني يركز على إعادة بناء الدول، وليس فقط إسقاط الأنظمة. يتطلب ذلك رؤية واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية وضمان حقوق الجميع، بما في ذلك الأقليات والفئات المهمشة.
ـ استخدام الأدوات الناعمة للإعلام الجديد لتجاوز الهيمنة الإعلامية التقليدية باستخدام منصات التواصل الاجتماعي لنشر الوعي وتنظيم الحراك.
ـ إيجاد بدائل اقتصادية تدعم الحراك بعيدًا عن المال السياسي الخارجي.
ـ صياغة خطاب دولي جديد يركز على قضايا العدالة وحقوق الإنسان والتنمية ، واشراك كل السورين بالخارج للعمل وفق محدداتها " الدبلوماسية الشعبية"
إعادة تعريف مفاهيم مثل “الاستقرار” و”السيادة” و”الأمن” التي يستخدمها الاستبداد لتبرير وجوده، وتحويلها إلى أدوات تُحفز الحراك الشعبي.
ـ تحالفات جديدة واسعة لتجاوز العزلة الدولية من خلال بناء شراكات مع قوى عالمية وشعبية تدعم حقوق الإنسان وتطلعات الشعوب، سواء داخل العالم العربي أو خارجه.
التغيير لن يكون سريعًا أو مفاجئًا. النجاح يعتمد على التراكم التدريجي للإنجازات، واستثمار كل فرصة لإضعاف الأنظمة وتقوية الشعوب.
ختامًا.. لحظة تاريخية جديدة
نحن أمام لحظة فارقة في مسار الحرية العربية. ما يحدث في سوريا، وخاصة في حلب، ليس مجرد حراك شعبي آخر، بل هو بداية "ربيع حلبي جديد" قد يشكل شرارة لموجة ثانية من الثورات العربية.
الكتلة الصلبة التي قادت المقاومة في سوريا أصبحت اليوم رأس حربة لهذا المشروع الجديد. نجاحها يعتمد على قدرتها على استثمار هذه اللحظة التاريخية بحكمة وصبر، وتصحيح أخطاء الماضي، وبناء مستقبل يرتكز على الحرية والشراكة الحقيقية.
هذا الربيع لن يكون سهلًا، لكنه يحمل في طياته الأمل، والأهم، العزيمة التي اكتسبتها الشعوب من سنوات طويلة من الألم والصمود.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا سوريا سياسة رأي تحولات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه الکتلة فی سوریا فی حلب
إقرأ أيضاً:
الكتلة الثقافية الحرجة
"الحرب تسلب الأمم أصواتها الثقافية، وتحول الموروث إلى أطلال."
- إدوارد سعيد
من حقائق هذه الحرب الدائرة منذ الخامس عشر من ابريل 2023، ان اي محاولة لتقدير احجام الخسائر الناجمة عنها، سوف تصبح محاولة ناقصة، او اقل بكثير مما تقوله التصريحات الرسمية لإعلام الطرفين المتحاربين، أو ربما الجهات الدولية المختصة، أو ذات الصلة. فما تذهب اليه الاحصاءات الفعلية الواقعية من خلال المراقبة اليومية بما يضخ عن الحرب ربما هو الذي يقود إلى جادة صواب التقدير. إنها أعداد مهولة ومتجاوزة تدعو لضرب ناقوس الخطر في الحال. فنحن غالبا ما نكون قد تجاوزنا حالياً درجة العيش تحت وضع الكارثة الى ما بعده. فاينما ستنظر ستجد الفقد كاملا، وبحقيقته العارية الصادمة.
غير ان في الغد ستنجلي المعلومات اكثر عن حجم الضرر البشري والمادي الذي سببته الحرب. ذلك وبلا شك سيشمل أعداد الموتى بسبب قصف أسلحة الطرفين، او بسبب المترتبات الصحية المتدنية، المدمرة التي اوجدتها عمليات التهجير، والنزوح، والتجريد من الممتلكات. كذلك سيكون الفقد المرتبط بالحياة المادية من دمار مؤسسات ، وبيوت ، وموجودات ترتبط بمنجزات الانسان السوداني على مر التاريخ.
غير ان ما يهم هنا، هو التنبيه لمتغيرات الثقافة المادية نفسها في علاقتها بالحرب بتأسيس، وإتفاق مع مقولة فيكتور هوغو بأن "الثقافة تقاوم الحرب، لكن الحرب غالبًا ما تبتلع الثقافة."
ان الاسلامويين في ثنائيتهم المتحاربة بالجيش او الدعم السريع حققوا للخراب ذات نفسه، امنية عزيزة بجعله قدرا يخص السودان والسودنيين، ضمن اخرين، بما إستطاع سحقه في هذه الحرب من وثائق الهويات التاريخية المتعددة.
ان الخراب في هذه الأيام، وفي النسخ الأحدث، يبدو كعملية إبادة كاملة تستهف الإنسان والحيوان والارض بما يحفظه باطنها من ثروات.
ما اود تلمسه بالنقد، أوالتفكير النقدي هنا يتصل بتأثير الحرب على الثقافة والقيم بنقد لمقولة "عندما تتكلم المدافع فعلى الموسيقى أن تصمت.". هذه المقولة المجهولة المصدر، وبحكم تجارب شعوب كثيرة في الحرب او الحروب، تغدو من منتجات النظر السياسي القصير المحدود لماهية العلاقة بين الثقافة، والثقافة الفنية بصفة خاصة، والحرب. فهذا النظر الاحادي البعد يتأسس على افكار تتبنى، او تدعم صحة فرضية أن على الثقافة الفنية أن تكف عن الحديث أثناء الحرب. هذه الفكرة تلغي الدور المناط بالثقافة لعبه في البناء بتجميده وتاجيله لما بعد سكوت البنادق. وهذا يعني أن علي الثقافة الفنية، والتي منها "الموسيقى" ان تصمت أثناء تدفق لغة العنف الحربي.
تلك وفي تقديري نظرة تستبعد فكرة مهمة للغاية عن الحرب كونها تتمظهر بصفة يومية مستمرة ودائمة عبر التخلخل، والتشقق، والتغيير الذي يلحق بالنسق القيمي الثقافي للناس مما ينفي سلامة، وأصالة فكرة تجميد التفكير الثقافي لحين إنتهاء الحرب للبدء في التفكير الثقافي بعدها وإفتتاح أعمال العلاج والتعافي منها.
إن التحولات بالنسق القيمي للناس بازمنة الحرب امر يحدث أثناءها نفسها بما تنتجه من ظواهر أجتماعية، وفنية، وأخلاقية لحماية قيمها، وتصوير نفسها كحرب واقع وكقدر حتمي. فالحرب الحالية، ودونما تمييز للطرفين، او عزل لهما عن بعضهما البعض، هى حرب، وفي العمق الحيوي لها، تقوم على نهب الموارد، وهي وبسبب ذلك الهدف العزيز حرب تعمل على دعم أهدافها الخاصة عبر إنتاج قيمها الأجتماعية، والإقتصادية والفنية والادبية والاخلاقية دفاعاً عن توصيفها الذاتي لنفسها كونها حرب *كرامة*، بالنسبة للجيش، وحرب تخليص وتخلص من غول الإسلامويين *الفلول* بالنسبة للدعم السريع.
إن كلى الطرفين في هذه الحرب القذرة يستلهم ثقافة، وقيم، وفنون قتال ثقافي، كما منازلات إعلامية تروج لمحتوياتها بثقافة إعلامية ذات محتوى فني غنائي وموسيقي، وشعري لتأييد، وتحسين موقفه القتالي بالمعركة بما يؤكد صحة مقولة جورج أورويل " إن الحرب تجعل من الثقافة أداة للدعاية، بدلاً من أن تكون أداة للتنوير.".
وبما ان المهمة المنتظرة بعد توقف الحرب هي البناء الجديد وليس *اعادة البناء* كما هو شائع، فإن البناء الجديد يعني البناء على القيم المضادة، القيم المغايرة لثقافة الحرب من كراهية، وعنصرية قبلية، او حتى انعدام الديمقراطية الداخلية بالأحزاب. يقول مارتن لوثر كينغ "إن أسوأ ما تفعله الحروب هو أنها تجعل البشر ينظرون إلى بعضهم كأعداء، بدلاً من شركاء في الإنسانية." ذلك اذن يقترح ان النشاط الامثل لمقاومة تلك الكراهية يتمثل في أن ننشط أثناء الحرب نفسها لبث روح الإخاء والوحدة في المجتمعات.
ان المواد المكونة للنسق الثقافي القديم، واعني به النسق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفني الذي ساد تصبح جميعها من عداد الماضي. الماضي الذي ساهم بكلياته في اعداد حالة الحرب، ان لم هو ما تسببت في إشعالها أصلاً. ولكن فإن تيارات ومجموعات التفكير السياسي القصير النظر عندنا، ما تفتأ ان تستخدم كماضي ملهم ل "اعادة البناء" بإعتباره مكونا ذا "أصالة" وافضلية. ان ذلك موقف يستبعد ديالكتيك الحرب وما تولده من انساق قيمية جديدة باتت تشكل الحاضر القيمي الثقافي بما نكاد نشاهده، ونشهد عليه، ونتابعه، ونتعرف على عروضه البائسة عبر الميديا الجديدة بهذه الايام وما تضخه من غرائب وصدمات.
ان الحقائق اليومية المستخلصة من هذه الحرب هذه تشير الى استمرارها، واستمرار تدهور البنى البشرية والمادية معا ، مما يضع مهمة البناء بالمستقبل لا تبدا مع سقوط *النظام الثنائي* لحرب الاسلامويون ضد بعضهم البعض* جيش دعم سريع*، بل يجب ان تترافق مع ما يقع من هدم يومي بوجود قوة ثقافية ما، اقرب ما تكون للقوة الثقافية لمكافحة الانهيارات بسبب الحرب، وعلى ذات قاعدة مكافحة الظواهر التي تصنعها الحرب للامراض النفسية والفيزيائية المرتبطة بها وباستمرارها.
هنا اجد أننا سنكون بحاجة لإطلاق ما يمكن تسميتها بالكتلة الثقافية الحرجة التي يجب ان تتنظم للقيام بمهمتها المركزية في الدرء والتخفيف لآثار التدمير القيمي الثقافي الذاتي اليومي. فالدمار او الخراب لم يلحق فقط بقيم السياسة الشاخصة المرئية للجميع. ولكن بقيم الثقافة الاجتماعية التي تذروها الرياح وتتبدل وتتغير يوميا مع هذه الحرب، وبحيث تنتج نسقها القيمي المناوئ للتطور والتقدم. ان من المهم الإبقاء والصيانة للقيم الكبرى هنا والمتمثلة في الحرية والسلام والعدالة ولكن، على الحيز الاجتماعي لمجتمعات العيش والبقاء تحت القصف، ومجتمعات النزوح بالداخل والخارج والتي بدون وجود الكتلة الثقافية الحرجة سوف يكون ما نقوم به من جهود سياسية كما الحرث في البحر.
ان قمة جبل المأساة في النظام السياسي الثنائي المتورط في ادامة الحرب ينشط بمن يسانده ويؤيده من مجتمعات مصالح محلية، واقليمية، وعالمية، وان التخلص من كل ذلك، ومحاصرته لأجل إيقاف الحرب امر مهم وواجب بالطبع. ولكن التفكير السياسي الاستراتيجي الفعال يجب ان يعمل على معالجة الانساق الثقافية الاجتماعية المنهارة بشكل يفوق التوقع والوصف أثناء الحرب في حال اتباع تفكير سياسي قائد جديد . فقيم الفرد والجماعة اذا لم تتحرر من قيم الحرب، ويتم طرد الحرب نفسها من تلك القيم في أثناء إشتعال الحرب سنكون في إنتظار السلام المنقوص. سلام الخيبة والخيبات، وأعني به السلام السياسي. فمثل هذا السلام الذي تجتهد السياسة القديمة لتحقيقه. هنا علينا تذكر شعار اليونسكو القائل بأن الحرب: "تبدأ في عقول البشر، ولذلك يجب أن تبدأ ثقافة السلام من هناك أيضًا.".
إن ثمة اوقات اخرى ستكون في انتظار السلام السياسي ولكنه انتظار لن يكون بأسلحة بيضاء، ويمعركة بريئة تخلصنا منها نوايا السياسي صاحب الحسابات الآنية، ذلك المتعجل للتكوين والمشاركة وتقاسم المناصب في الحكومات. ما أعنيه ان تلك معركة اخرى جديدة تحتاج منذ الان الى اعداد مبكر في الوعي الثقافي الذي عليه أن يبحث عن تكوين كتلته وتمثيها بكافة مستويات العمل السياسي المقاوم للحرب. ان تأجيل المعركة مع النسق القيمي للحرب، هو ذات ما ترمي اليه غايات الاسلامويين من الطرفين في سباقهما المحموم للانفراد بالسلطة او بالتاثير في التشكيلات السياسية المكونة لسلطة ما بعد الحرب حتى تضمن عدم المساءلة عن جرمها الضخم الذي ارتكبته.
ان ما يستدعي التفكير والانتباه في ذات الوقت، هو ادراك، ومعرفة ان الطرفين المتقاتلين يعملان ضمن موقف ثقافي واحد. انه موقف غير معني وفي اطار ذاك النسق بفكرة الجودة، أو التحسين القيمي الثقافي. كلا الطرفين بما يحتويانه من موقف بائس من دمقرطة جودة الحياة نفسها سينصرفان الى غاياتهما الساخنة، لمراكمة اكبر قدر من الحماية، والمحافظة على ما تم نهبه، وارتكابه من جرائم، وإن افضل ما يمكن أن يفعلاه هنا توظيف الأخلاق والقيم بما يخدم مصلحتهما كمنتضرين، وليس توظيف الاخلاق المعبرة عن مصالح الشعوب السودانية وحقها في محاكمتهم. كل ذلك يؤكد أن المعركة الحالية، ومن الناحية الفعلية معركة مدنية ديمقراطية صرفة وحصرية بامتياز، *معركة أكثر من حرب بالنسبة لنا. انها معركة تكشف، وبجلاء، ان اعتبار أن لحظة وضع الحرب لاوزارها هي اللحظة المثالية للبدء في الانخراط ( سياسيًا) بغرض ايجاد الحلول والمعالجات الثقافية النفسية والذهنية، أمر سيعد وبلا ريب كارثة ومأساة لا تقل عن اي كارثة ومأساة أخرى تنبئ عن مجيء حروب مستقبلية، حروب سندفع أثمانها مجددا الأجيال القادمة كونها حروبا محتملة.
wagdik@yahoo.com