من هو أبو محمد الجولاني؟
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
سرايا - حتى 2012 لم يكن يُعرف الكثير عن أبو محمد الجولاني، عندما أعلن في ذلك العام تأسيس جماعة مسلحة متشددة في سوريا وسط فوضى الفصائل المنتشرة على طول البلاد وعرضها. لسنوات ظلّت هويته مجهولة والمعلومات حوله شحيحة، قبل أن تتكشف ببطء على مدى العقد الماضي، لتظهر رويداً رويداً ملامح من سيرة شخص عرضت الولايات المتحدة 10 ملايين دولار مقابل رأسه أو الإدلاء بمعلومات عنه، لكنه مع ذلك، خرج من الظل وبات يتصدّر واجهة الأحداث، كأحد أقوى قادة الحرب في سوريا.
هناك روايات عديدة ومتضاربة بشأن نشأة ومسيرة أحمد الشرع المعروف بـ"أبو محمد الجولاني"، بما في ذلك جذوره وعائلته والعوامل التي أسهمت في تشكيل أفكاره وانضمامه إلى تنظيم "القاعدة" في العراق في عام 2003، ومن ثم العودة إلى سوريا بعد بدء الصراع في عام 2011، مع خلية من عدة أشخاص، توسعت مع الوقت وأصبح عديدها عشرات الآلاف، واليوم تقود فصائل المعارضة السورية المسلحة في أكبر تهديد عسكري لحكومة دمشق، لم يشهده الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي حكم منذ عام 1970، ولا نجله بشار الأسد الذي خلف والده في عام 2000.
عائلة ميسورة وأب يساري
لم ينحدر الجولاني من بيئة جهادية أو ذات صلة بالعمل المسلح، بل ينتمي لأسرة من الطبقة الوسطى. والده خبير اقتصادي اسمه حسين الشرع من المحتمل أنه يحمل شهادة الدكتوراة، واختص في مجال النفط لسنوات، استقر خلالها في السعودية حيث ولد ابنه أحمد في عام 1982، قبل أن تعود العائلة إلى سوريا وتستقر في أحد الأحياء الراقية في العاصمة دمشق.
من غير المؤكد على نحو دقيق ما هي المؤهلات الدراسية للجولاني، فبينما تُشير مصادر إلى أنه درس الطب البشري لعامين أو 3 أعوام في جامعة دمشق، تقول مصادر أخرى إنه درس الإعلام في الجامعة نفسها، وفي الحالتين ما هو مؤكد أن الشاب لم يكمل تعليمه، مفضلاً السعي وراء هواه والالتحاق بركب المتوطعين لقتال الأميركيين في العراق.
أما اختياره لقب "الجولاني"، فيعود، وفق ما كشف أحمد الشرع نفسه، إلى المنطقة التي تنتمي لها عائلته في الأصل، وهي هضبة الجولان السوري المحتل جنوبي غرب البلاد، وبحسب تقرير، نشره موقع "الجمهورية" المستقل، نزحت العائلة إلى دمشق بعد حرب 1967 التي احتلت فيها إسرائيل أراضي 3 دول عربية.
وتناول التقرير بعض أفكار الشرع الأب السياسية، والتي ذكرها في كتاب أصدره بعنوان "قراءة في القيامة السورية"، اعتبر فيه أن "الانتقال السياسي، يكون ببناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية على أساس المواطنة بلا تمييز في العرق أو الدين أو المذهب، عبر وضع دستور جديد للبلاد يضمن استقلالها، والسيادة المطلقة للشعب، واحترام الحريات والرأي الآخر، والتعددية السياسية، وحرية عمل الأحزاب، وخضوع المؤسسات للقوانين، وإبعاد الجيش وقوات الأمن عن السياسة بعد تقديم المجرمين منهم لمحاكم عادلة".
لا يزال حسين الشرع على قيد الحياة، على الأرجح يعيش خارج سوريا. ومن غير المعروف ما إذا كان يتواصل مع ابنه، وما إذا كان لتوجهاته السياسية أي تأثير أو دور في الانقلاب الذي يزعم "الجولاني" أنه طال نهجه ورؤيته تجاه التغيير في سوريا أو حتى تجاه الأديان والمذاهب الأخرى، وكذلك موقفه من الولايات المتحدة والدول الغربية.
القتال في العراق
في موجة الحماس والاندفاع العاطفي التي غمرت الشارعين العربي والإسلامي في الأسابيع القليلة التي سبقت الغزو الأميركي للعراق، كان الشاب أحمد الشرع ابن الـ21 عاماً من بين المتطوعين الأوائل الذين قطعوا الحدود السورية وانضموا إلى الفصائل العراقية، وتُشير تقارير عديدة إلى دور أجهزة الأمن في سوريا بتسهيل عبور المقاتلين إلى العراق آنذاك.
ومن غير الواضح ما إذا كان الشرع اندفع بحمولة من الغضب لغزو بلد عربي، أو أنه استُقطب من شخصيات دينية متشددة أو تأثر بخطب الداعية السوري المعروف باسم "أبو القعقاع" الذي كان يحث عبر منابر المساجد على "الجهاد ضد القوات الأميركية في العراق" تحت مرأى ومسمع السلطات السورية، وهذا الأخير، واسمه الحقيقي "محمود قول أغاسي" لقي حتفه في عام 2007 إثر تعرضه لإطلاق نار بعد خروجه من صلاة الجمعة في مدينة حلب، ولا تزال ملابسات اغتياله وأنشطته الغامضة طي الكتمان.
في مقابلته التي بُثّت حديثاً مع شبكة CNN الأميركية، قال الجولاني، إنه لم يتوجه إلى العراق للانضمام إلى "القاعدة"، بل هبّ للدفاع عن العراقيين، وفق قوله، لافتاً إلى أنه في خضم انتشار الجماعات وجد نفسه في أحضان تنظيم متشدد، نافياً تورطه بأي انتهاكات ضد مدنيين خلال نشاطاته في العراق، وقال إنه لم يكن يتفق مع كل ما يفعله التنظيم.
بعد مراجعة العديد من المصادر، يمكن القول إن الجولاني انضم في بداية نشاطه في العراق إلى تنظيم "القاعدة" تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي، ولم يُعرف الكثير بشأن المهام التي كانت يتولاها في تلك الفترة، وفي مرحلة لاحقة ألقت القوات الأميركية القبض عليه، وأودعته في سجن أبو غريب ، ثم تنقل بين عدد من السجون من بينها بوكا، قبل أن يودع سجن تُشرف عليها السلطات العراقية.
وخلال وجوده في السجون تعرّف الجولاني على عدد من الشخصيات المتشددة، والتي سيتولى بعضها ويقود أنشطة التنظيمات المسلحة في السنوات اللاحقة.
في عام 2008، تم إطلاق سراح الجولاني، ليعاود نشاطه ضمن جماعات تحمل نفس النهج، لكن هذه المرة في صفوف ما يعرف بـ"الدولة الإسلامية في العراق" بقيادة إبراهيم إبن عواد المعروف بـ"أبو بكر البغدادي"، ليكسب ثقته ويعينه مسؤولاً عن أنشطة التنظيم في الموصل شمالي العراق.
من خلية إلى تنظيم كبير
بعد اندلاع الصراع في سوريا في عام 2011، إثر انتفاضة سلمية ضد السلطات، تحولت إلى نزاع مسلح بعد حوالي العام، توجهت أنظار التنظيمات العراقية نحو سوريا، حيث وجدت فيها فرصة سانحة لتوسيع أو نقل نشاطها إلى منطقة أخرى.
وكان الجولاني من بين عدة أشخاص أوفدهم آنذاك البغدادي إلى سوريا لتمهيد الظروف من أجل تأسيس فرع جديد لتنظيم "الدولة الإسلامية" على الأراضي السورية، واتخذت الخلية مقراً لها في بلدة "الشحيل"، بمحافظة دير الزور شرقي سوريا، وعلى مقربة من الحدود العراقية، واستهلت عملها عبر توزيع المساعدات، ليكون بوابة لكسب ود الناس وبناء سمعة جيدة لدى الشارع السوري.
وبالفعل بدأت في عام 2012 تنتشر مقاطع فيديو لعمليات توزيع مساعدات تشمل الخبز والأغذية وأسطوانات الغاز على الأهالي في بعض المناطق النائية، وعلى التوازي مع ذلك، عمل الجولاني على تجنيد أعضاء ومقاتلين في التنظيم، والاستعداد لتنفيذ عمليات ضد القوات الحكومية.
في يناير من العام نفسه، أعلن الجولاني في بيان، تشكيل "جبهة النصرة لأهل الشام"، داعياً السوريين إلى "الجهاد لإسقاط النظام"، وفي تلك الفترة كان يُخفي التنظيم ارتباطه بجماعات خارجية، وكان يقول قادته الميدانيون إن هدفهم "إقامة دولة إسلامية تقوم على نظام الشورى يسود فيها العدل والإحسان"، واستطاعوا ضم مقاتلين سوريين وأجانب، بعضهم قدم من العراق وبعضهم الآخر دخلو سوريا عبر الحدود التركية.
وسرعان ما أخذت أخبار العمليات النوعية التي نفذتها "جبهة النصرة" ضد القوات الحكومية صداها في وسائل الإعلام، وأبرزها في ديسمبر 2012 عندما اقتحمت مجموعة من عناصرها مبنى قيادة أركان الجيش في قلب العاصمة دمشق بعد تفجير سيارتين مفخختين يقودهما انتحاريان، ثم اقتحم عدة مسلحين المبنى وسيطروا عليه لعدة ساعات قبل أن يلقوا مصرعهم إثر تدخل السلطات واستعادة المبنى.
وفي بداياتها اقتصرت عمليات التنظيم على تنفيذ هجمات انتحارية سواء بالمفخخات أو الأحزمة الناسفة، إضافة إللى القيام بعمليات محدودة.
وسرعان ما شكّل التنظيم شبكة إعلامية تضم مجموعة مراسلين في العديد من المناطق السورية، وبدأوا ببث بيانات وإصدرات عن أنشطة "جبهة النصرة، منها مثلاً في منطقة القلمون وهي سلسلة جبلية شمالي غرب دمشق، حيث نشطت هناك خلية من "جبهة النصرة" بقيادة "أبو مالك التلي"، المعتقل المتشدد السابق في سجن صيدنايا الشهير، الذي أفرجت عنه السلطات السورية مع بداية الصراع، وهو الأمر الذي أثارت استغراباً وتساؤلات حول دوافع الأمر.
واستطاعت خلية "التلي" خطف العديد من الجنود اللبنانيين في عام 2014 والدخول في مفاوضات مع الجيش اللبناني للإفراج عنهم في صفقة تضمنت خروج شقيقه من سجون سوريا. كما عُرف في العام نفسه، خلال أزمة "راهبات معلولا" عندما اختطف عدداً من الراهبات وأطلق سراحهن مقابل صفقة حصل فيها على مبالغ طائلة. وانتقل إلى محافظة إدلب بموجب اتفاق بين "حزب الله" اللبناني و"هيئة تحرير الشام" في أغسطس 2017.
في الوقت نفسه كانت تنتشر مقاطع تُظهر ممارسات عنيفة لعناصر من التنظيم ضد مدنيين وعسكريين، على غرار الإعدام بإطلاق النار مباشرة على الرأس، وكانت تلك المشاهد تُثير الفزع والرعب والقلق من تمدد هذه التنظيمات مع ما تنتهجه من تشدد وعنف.
في ديسمبر 2012، صنفت الخارجية الأميركية "جبهة النصرة" كمنظمة "إرهابية". وفي مايو 2013، تم تصنيف أبو محمد الجولاني، على أنه "إرهابي عالمي مُصنَّف بشكل خاص"، وأعلنت الولايات المتحدة حجز ممتلكاته الخاضعة لنطاق سلطتها، ومنع أي مواطن أميركي من التعامل معه.
عقوبات أميركية
وفي العام نفسه أدرجت لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، الجولاني في قائمة "الإرهابيين المحظورين" وجعلته موضع تجميد دولي، ومنع من السفر، وحظر الأسلحة.
واستشهدت العقوبات الأميركية بـ"الرؤية الطائفية العنيفة" للتنظيم، وقالت إن "الهدف النهائي له هو الإطاحة بالنظام السوري واستبداله بدولة إسلامية لتعزيز أجندتها الخاصة كواحدة من الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا"، مضيفة أن الهجمات الانتحارية التي نفذتها مجموعته "قتلت مدنيين سوريين أبرياء".
وحمّلت الولايات المتحدة، التنظيم، مسؤولية "المجزرة التي راح ضحيتها 20 سورياً في قرية قلب لوزة الدرزية" شمالي البلاد في يونيو 2015، والتي قال الجولاني في أكثر من مناسبة إنها "تصرف فردي"، مؤكداً أنه "جرى محاسبة المسؤول عنها".
وفي عام 2017، عرض برنامج "مكافآت من أجل العدالة الأميركي" عن صرف مكافأة تصل قيمتها إلى 10 ملايين دولار أمريكي مقابل الإدلاء بأي معلومات متعلقة بالجولاني.
وخلال العقد الفائت، وثّقت العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية، انتهاكات مارستها "هيئة تحرير الشام" ضد المدنيين، تشمل الهجمات العشوائية، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب، وعمليات التصفية.
وفي تقرير سابق، قالت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا، إن "الهيئة متورطة بعمليات التعذيب والعنف الجنسي والمعاملة اللاإنسانية أو المهينة والاختفاء القسري أو الوفاة أثناء الاحتجاز"، بدءاً من عام 2012. وأشار تقرير عام 2021 إلى أنه "بينما بلغت الحوادث ذروتها في 2014، تم توثيق مستويات مماثلة من الانتهاكات من عام 2013 إلى عام 2019".
وقال إنه تم توثيق عشرات الشهادات من النشطاء والصحافيين والعاملين في شمالي سوريا الذين انتقدوا "هيئة تحرير الشام". وأضاف أن الناشطات والعاملين في وسائل الإعلام من النساء "تعرضن للضرب مرتين"، ووثقت تقارير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، شهادات لأشخاص وصفوا فيها بالتفصيل، تعذيبهم، أثناء احتجازهم من قبل الهيئة في محافظة إدلب.
وخلال عام 2024، قمعت "هيئة تحرير الشام" احتجاجات سلمية خرجت في إدلب ضد حكم الهيئة وزعيمها، ويوثق نشطاء ما يقولون إنه انتهاكات للتنظيم في مناطق سيطرته بالشمال السوري، والتي تشمل خطف واعتقال محامين وكتّاب وصحافيين، وسوء معاملة السجناء، واعتداء على المتظاهرين.
في المقابل، لطالما نفى الجولاني استهداف منتقدي الهيئة أو ارتكاب انتهاكات، وقال في مقابلة مع مراسل شبكة FRONTLINE PBS مارتن سميث عام 2021، إن الأشخاص الذين احتجزتهم الهيئة كانوا "عملاء للنظام" أو "عملاء روس يأتون لوضع الأفخاخ" أو أعضاء في تنظيم "داعش"، واصفاً الاعتقالات بأنها "تستهدف اللصوص والمبتزين".
وأضاف: "لا يوجد تعذيب. أنا أرفض هذا تماماً.. يمكن لمنظمات حقوق الإنسان أن تأتي وتتفقد السجون أو تقوم بجولة فيها. مؤسساتنا مفتوحة لأي شخص. المنظمات مرحب بها".
وفي المقابلة نفسها التي كانت الأولى له مع صحافي غربي، أكد الجولاني أن "هيئة تحرير الشام" التي يتزعمها "لا تشكل تهديداً للولايات المتحدة"، واعتبر أن "على الحكومة الأميركية إزالته من قائمة الإرهاب".
وأضاف أن "تصرفات نظام الأسد تتناسب مع تعريف الإرهاب لأنها تقتل الأبرياء والأطفال والفقراء والنساء".
وفي مقابلته الحديثة مع شبكة CNN، أقر الجولاني بحدوث بعض الأخطاء أحياناً في التعامل مع الاحتجاجات السلمية، وأشار إلى أنه تم حل تلك الإشكالات، لكنه اعتبر أن هناك ضوابط وقوانين للتظاهر في المناطق الخاضعة لسيطرته في الشمال.
تحولات الجولاني
ظلّت "جبهة النصرة" تتبع "الدولة الإسلامية في العراق" بقيادة أبو بكر البغدادي حتى قرر الأخير في عام 2013 دمج التنظيمين في كيان جديد أطلق عليه "الدولة الإسلامية في العراق والشام" والذي سيعرف لاحقاً باسم "داعش"، إلا أن الجولاني رفض الأمر، وأعلن بعد أيام في تسجيل صوتي مبايعة الزعيم العام لـ"تنظيم القاعدة" أيمن الظواهري الموجود آنذاك في أفغانستان قبل أن يلقي حتفه في غارة أميركية عام 2022.
ومنذ انفصال الجولاني عن "داعش"، ازدادت الخلافات بين التنظيمين، وخاضا صراعات مسلحة في أكثر من منطقة. ومع انحسار قوة البغدادي ازدادت نفوذ "جبهة النصرة"، لكنها ظلّت حتى ذلك الوقت، واحدة من فصائل كثيرة تُقاتل على امتداد الخارطة السورية.
وفي قرار مفاجئ خلال يوليو 2016، أعلن الجولاني فك ارتباط تنظيمه بـ"القاعدة"، وتغيير اسمه إلى "جبهة فتح الشام"، وقال في أول ظهور علني أمام الكاميرا بعد أن ظل لسنوات شخصية غامضة ومتوارية، إن القرار "جاء نزولاً عند رغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا وروسيا في قصفهم وتشريدهم عامة المسلمين في الشام بحجة استهداف جبهة النصرة التابعة لتنظيم قاعدة الجهاد".
في عام 2017 حاول التنظيم دمج عدد من الفصائل المعارضة ضمن تشكيل جديد باسم "هيئة تحرير الشام"، إلا أن الفصائل انسحبت سريعاً ليبقى التنظيم الأساسي بقيادة الجولاني معتمداً المسمى الجديد، ليتوسع في الفترة اللاحقة ويستقر في شمالي غرب سوريا وتحديداً في مدينة إدلب، حيث استطاع إقصاء وطرد فصائل المعارضة السورية، والقضاء على بعضها، بما فيها كتائب تابعة لـ"الجيش السوري الحر" و"جبهة ثوار سوريا"، لينفرد الجولاني في حكم بعض المناطق، ويفرض نفسه كأحد أقوى أطراف الصراع في سوريا.
"حكومة الإنقاذ"
وخلال السنوات التالية، عملت "هيئة تحرير الشام" بموازاة بناء منظومتها العسكرية، على إدارة مختلف القطاعات في مناطق سيطرتها، حيث أسّست "حكومة الإنقاذ" في نوفمبر 2017، لتتولى مهام الشؤون المدنية، بما في ذلك التعليم والصحة والأمن الداخلي والخدمات العامة.
ولدى دخول الفصائل السورية حلب، ثاني أكبر المدن السورية، في نوفمبر الفائت، ظهر الجولاني في مقطع فيديو، وهو يصدر أوامر عبر الهاتف ويذكر المقاتلين بإرشادات لحماية الناس ويمنعهم من دخول البيوت، وفي بيانات ورسائل متتالية أرسل تطمينات للأقليات في سوريا التي تخشى الجماعات المسلحة.
ودعا أحد البيانات طائفة العلويين في سوريا، إلى النأي بأنفسهم عن الحكومة، وأن يكونوا جزءاً من "سوريا المستقبلية" التي "لا تعترف بالطائفية".
وفي رسالة إلى المسيحيين بعد السيطرة على حلب، قال الجولاني "إنهم في أمان وممتلكاتهم مصانة"، وحثهم على البقاء في منازلهم ورفض "الحرب النفسية" التي تشنها السلطات.
وكان من اللافت، أن الهيئة، على خلاف نهجها السابق، تبنّت شعارات المعارضة السورية المدنية، سواء باعتماد علم الاستقلال السوري كراية لها، أو بالرموز على الزي الرسمي لعناصرها، لكن هناك من يُشكك بنواياها، ويرى أن ما تبديه من مرونة ورغبة في التغيير ليس إلا خدعة تسعى من خلالها إلى تقديم نفسها كطرف مقبول من المجتمع الدولي والقوى الإقليمي، ومن ناحية أخرى كسب ود وثقة المجتمع السوري المتنوع بأطيافه الدينية والمذهبية والعرقية.
ونقلت وكالة "رويترز"، عن جوشوا لانديز الخبير في الشأن السوري ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، أن "الجولاني أكثر ذكاء من الأسد. غير أدواته وغير مظهره العام وعقد تحالفات جديدة وأطلق رسالته المتوددة" للأقليات.
بينما رأى آرون لوند الباحث في مركز "سينتشوري إنترناشونال" للأبحاث، إن الجولاني لا يزال "على نهج التشدد إلى حد ما".
وبعد أيام من السيطرة على مدينة حلب، زار الجولاني قلعتها الشهيرة في وضح النهار، والتقط عدداً من الصور، في رسالة ربما أراد منها "إظهار الثقة والنفوذ الذين بات يتمتع بعها"، وربما أبعد من ذلك، إذ رغم تصنيفه من قبل الأميركيين والأمم المتحدة كشخص "إرهابي" إلا أنه لم يتردد في أن يستقل إحدى سيارات الهيئة لمسافة تُقارب الساعة، دون أن يخشى استهدافه بطائرة سورية أو روسية أو حتى أميركية.
ثم بدأ الجولاني فجأة إصدار البيانات موقعة باسمه الحقيقي، أحمد الشرع، وذلك في إطار محاولات إظهار أنه خلع ثوبه السابق كزعيم تنظيم متشدد، وبدأ ينحو أكثر فأكثر نحو "مشروع سوري وطني".
وفي حين ازدادت شعبية الجولاني لدى مناهضي الحكومة السورية، في ضوء التغيير الذي يبديه والتقدم العسكري الذي تحققه الفصائل التي يقودها، لكن لا يزال القلق والريبة يُسيطران على مشاعر فئات أخرى من السوريين الذين يعتبرونه صاحب مشروع راديكالي يُهدد النسيج الاجتماعي في البلاد التي أرهقتها الحرب، وقطّعت أوصالها وزادت الشرخ بين مواطنيها.
وفي مقابلته الأخيرة مع شبكة CNN الأميركية، رد زعيم "هيئة تحرير الشام" على سؤال "لماذا على السوريين أن يثقوا به وبمزاعمه حول التسامح والتعايش؟ بالقول "أقول للناس لا تحكموا على الكلام، بل احكموا على الأفعال".
مع ذلك، لم يُوضح الجولاني، باعتباره يحكم 3 محافظات سورية كبيرة ويواصل معركة السيطرة على باقي المناطق، شكل النظام السياسي الذي يتصوره للدولة في حال القضاء على حكومة دمشق، مقتصراً بالقول إنها ستكون "دولة مؤسسات وليست دولة أفراد".
إقرأ أيضاً : مصدر مقرب من الكرملين: لا خطة لدى روسيا لإنقاذ الأسدإقرأ أيضاً : هل تنجح المعارضة السورية بالاحتفاظ بما غنمته من أراض في سورية؟إقرأ أيضاً : أحداث متسارعة .. المدن السورية تتساقط الواحدة تلو الأخرى
تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا
طباعة المشاهدات: 1896
1 - | ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. | 07-12-2024 10:02 AM سرايا |
لا يوجد تعليقات |
الرد على تعليق
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * | |
رمز التحقق : | تحديث الرمز أكتب الرمز : |
اضافة |
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2024
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
كلمات دلالية: أبو محمد الجولانی المعارضة السوریة الدولة الإسلامیة الولایات المتحدة هیئة تحریر الشام فصائل المعارضة جبهة النصرة السیطرة على الجولانی فی أحمد الشرع فی العراق العدید من فی سوریا إلى أنه فی عام قبل أن
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن أن نفهم الجولاني؟
"الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى".
بهذه العبارة المهمة أصّل المنظر العسكري البروسي، كارل فون كلاوزفيتز، لظاهرة الحرب باعتبارها أحد مجالات ممارسة السياسة، وإحدى أدوات تحقيق الأهداف السياسية. ومن ثم فإن تقييم الانتصار في الحرب يتوقف بدرجة أساسية على مدى تحقق النهايات والغايات السياسية التي كانت الحرب قد اندلعت من أجلها، وليس فقط إحراز الانتصارات العملياتية في ساحات القتال.
ومنذ بدء عملية "ردع العدوان" التي دشَّنتها فصائل المعارضة السورية صباح الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أحرزت الفصائل المنضوية تحت ما يسمى "إدارة العمليات العسكرية" بقيادة السوري أحمد الشرع (الملقب بأبي محمد الجولاني) تقدما ميدانيا بالغ الاتساع في وقت قياسي، حيث لم يسبق لمعارك الثورة السورية أن حُسمت بهذا القدر من السرعة، منتقلة من إدلب إلى حلب وصولا إلى حماة المنيعة وحمص بين طرفة عين وانتباهتها، وكأنها تطوي الأرض طيا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل ساهم تغيّر خطاب هيئة تحرير الشام في نتائج "ردع العدوان"؟list 2 of 2القصة الكاملة لسقوط نظام الأسد في 12 يوماend of listوقبيل فجر اليوم الثاني عشر من بدء العمليات العسكرية، كانت فصائل المعارضة قد دخلت منزل بشار الأسد بالعاصمة دمشق بعد فراره خارج البلاد رفقة زوجته وأبنائه، لتكتب بذلك نهاية 53 عاما من حكم عائلة الأسد، مثيرة بذلك العديد من التساؤلات حول شخص أحمد الشرع (الجولاني) الذي أصبح اليوم العنوان العسكري والسياسي الأبرز للمعارضة السورية. ورغم أن الشرع ليس شخصا غريبا على الأضواء في السنوات الأخيرة، فإن تاريخه القريب جعله محل جدل كبير، فمَن يكون أحمد الشرع حقا؟ وكيف تطورت أفكاره وشخصيته؟ وكيف يرى سوريا في مرحلة ما بعد الأسد؟
أحمد الشرع بين أهل حلب خلال زيارة قلعة المدينة (مواقع التواصل الاجتماعي) تحولات الفكر والأداءعلى خلاف الصورة النمطية للقادة السياسيين، لا يزال الشرع في منتصف شبابه، حيث يبلغ عمره اثنين وأربعين عاما، قضى نصفها في حروب وصراعات طاحنة، وبخلاف التصور المعتاد حول المقاتلين أيضا، يمتلك الرجل حضورا إعلاميا جيدا ظهر في المقابلات القليلة التي أجراها، وهو متحدث هادئ ومفوَّه، ما مَكَّنه من تقديم نفسه ورسائله بشكل جيد مؤخرا، لكن هذه الصورة التي يبدو عليها ليست وليدة اليوم، وإنما سبكتها التجارب على مدار أكثر من عقدين.
إعلانبدأ الشرع، أو الجولاني كما عُرف حتى وقت قريب، مسيرته شابا مقاتلا ترك بلاده ودراسته للالتحاق بصفوف المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي بعد الغزو عام 2003، ومع اندلاع الثورة والحرب في سوريا انخرط الشرع في مواجهة قوات الأسد في سوريا، وقاد جهود تأسيس "جبهة النصرة" بدءا من أواخر عام 2011، حيث أسسها بتوجيه من قيادة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الذي كان يتبع تنظيم القاعدة آنذاك. ولكن بحلول منتصف عام 2013، وقع الشقاق بين القاعدة وتنظيم الدولة، فانفصل الشرع بجبهة النصرة عن تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق، والتزم بالبيعة لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة.
في مقابلته الأخيرة مع شبكة "سي إن إن"، حرص الشرع على تقديم تلك الفترة بوصفها حقبة ولَّت من حياته، مؤكدا أن أفكاره الحالية لا تتشابه مع التنظيمات التي انتمى إليها يوما ما، وأنه لم يشارك يوما في ترويع أو استهداف المدنيين، وأن نضاله اليوم يسعى إلى تحرير سوريا فقط.
بدأت رحلة هذا التحول عام 2016، حين قرر الشرع أن يميط اللثام عن وجهه، معلنا الانفصال الكامل عن القاعدة، وتغيير اسم تنظيمه إلى "جبهة فتح الشام"، التي سرعان ما اندمجت مع عدد من الفصائل المسلحة، مثل حركة "نور الدين الزنكي" و"لواء الحق" و"جبهة أنصار الدين" و"أنصار السنة"، مُشكِّلة "هيئة تحرير الشام" في 28 يناير/كانون الثاني 2017.
حاول الشرع أن يُظهر أن هذا الانفصال لم يكن إجرائيا أو شكليا، كما استغل كل مناسبة ممكنة عقب الانفصال لإعادة تقديم نفسه وتقديم تنظيمه في صورة مغايرة، بدرجة كبيرة، للصورة التقليدية للتنظيمات الجهادية السلفية. ففي مقابلة مع الصحفي الأميركي "مارتن سميث" في أبريل/نيسان 2021، خرج الشرع مرتديا "بدلة" حديثة مختلفة عن الزي العسكري أو العمامة التي اعتاد الظهور بها. كما فاجأ المراقبين بتوجيه رسائل هادئة إلى المجتمع الدولي مطالبا بإعادة النظر في إدراج الهيئة على قائمة التنظيمات الإرهابية، ونافيا بشدة نيته محاربة الولايات المتحدة والغرب، وأشار الشرع في اللقاء نفسه إلى أن مقاتلي هيئة تحرير الشام لم يترددوا في مواجهة تنظيم الدولة عسكريا.
إعلانكان الشرع قد بدأ في 2019 في توحيد الفصائل العسكرية التي لجأت إلى إدلب بعد تراجعها أمام هجمات قوات النظام السوري، وذلك إثر نشوب اقتتال داخلي بين هذه الفصائل، فأسس "غرفة عمليات الفتح المبين" لتكون مسؤولة عن تنسيق العمليات، وفي منتصف 2020، اتخذ قرارا بتوحيد الجهد العسكري، ومنع تشكيل أي فصيل أو غرفة عمليات أخرى في المناطق الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام.
لم تكن عملية توحيد الجهد العسكري سهلة، بل لاقت معارضة من أطراف مختلفة، وخاضت الهيئة بقيادة الشرع معارك أمنية وعسكرية ضارية ضد خلايا تنظيم الدولة وتنظيم حراس الدين المرتبط بالقاعدة، وربما يكشف ذلك عن أن الشرع كان جادا تماما في الانفصال عن ماضيه المتعلق بكلا التنظيمين.
وحتى في إستراتيجيته العسكرية، ثمة مؤشرات يمكن التقاطها تشي بأن الشرع حاول إبداء قطيعة مع النهج الإستراتيجي لكلٍّ من القاعدة وتنظيم الدولة، فلم يلتزم بالإستراتيجية التقليدية للقاعدة التي تنطلق من كون التنظيم في "مرحلة دفع صائل وليس في مرحلة إقامة دولة"، كما كان يقول مؤسس التنظيم أسامة بن لادن، حيث أظهر الجولاني اهتماما كبيرا بالحكومة وبناء مؤسسات سلطة محلية في الأراضي التي استولت عليها الهيئة، كذلك فإنه ابتعد عن إستراتيجية تنظيم الدولة المنطلقة من استحضار "ملاحم آخر الزمان"، التي طبعت آثارها على خطابه، كما كان يقول أبو محمد العدناني، المتحدث باسم تنظيم الدولة، مخاطبا الغرب: "سوف نفتح رُوماكم، ونكسر صلبانكم، ونسبي نساءكم، ونبيع أبناءكم في سوق النخاسة"!
وعلى عكس التنظيمين اللذين يتبنيان رؤية عالمية أيضا، لم تظهر دلائل طوال السنوات الماضية على أن الشرع حاول تنفيذ أية عمليات خارج سوريا، ولو ضد الدول التي تدخلت لدعم الأسد مثل روسيا وإيران، وتعمد إرسال رسائل عدة بأن هدفه هو تغيير نظام الأسد فقط، دون الإضرار بمصالح أي أطراف أخرى، محاولا بذلك تفادي تصنيفه ضمن تنظيمات "الجهاد العالمي". بيد أن الشرع وتنظيمه بقيا مصنفين على قوائم الإرهاب الأميركية، لكن في مستوى دون تنظيمات الدولة والقاعدة، ومن المحتمل أن يكون ذلك أحد أسباب تجنب الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة استهدافه شخصيا أو استهداف عناصر تنظيمه.
إعلانوفي حين يثق البعض بأن خطاب أحمد الشرع (الجولاني) وأداءه الميداني يثبتان بالفعل جدية تحولاته الفكرية وتطور مهاراته السياسية، يتشكك آخرون في مدى وصول هذه التحولات إلى درجة من الثبات والاستمرارية، وأنها لم تكن مجرد عملية تكيُّف براغماتية مؤقتة. وردا على سؤال حول ما إذا كانت تقلباته الفكرية قد وصلت إلى نهايتها أم أن ثمة تقلبات أخرى قد تأتي لاحقا، يقول الشرع في مقابلته مع "سي إن إن" في 6 ديسمبر/كانون الأول 2024: "إن الأفعال هي التي ستُثبت جدية تحولاته الفكرية وليست الأقوال".
كيف حكم إدلب؟في الحقيقة، لقد سعى الشرع خلال السنوات الماضية إلى تحويل إدلب إلى نموذج عملي لرؤيته لمسائل الحكم والسلطة. ففي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2017، تشكَّلت في إدلب حكومة الإنقاذ السوري، بدعم من هيئة تحرير الشام، تبع ذلك أسابيع من الصراع بين الحكومة الجديدة والحكومة السورية المؤقتة المدعومة من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، حيث قالت الأخيرة إن هيئة تحرير الشام قامت، من جانب واحد، بحل العديد من المجالس المحلية التابعة لها.
وبحلول نهاية العام، أصدرت حكومة الإنقاذ تحذيرا دعت فيه الحكومة المؤقتة إلى إخلاء مكاتبها من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة لتتولى هي السلطة فعليا. وقد تركت الهيئة لحكومة الإنقاذ مهام الإدارة المدنية ومن بينها إدارة جهاز الشرطة، مع الاكتفاء بدور الإشراف عليها. ومن جانبها، سعت الحكومة إلى تعزيز وجودها المجتمعي عبر تنفيذ مشروعات خدمة مدنية افتتح بعضها الشرع بنفسه، مثل إنشاء مدينة صناعية، إلى جانب إصلاح الطرق وشبكات المياه والصرف الصحي، وتقديم قروض زراعية لدعم المزارعين. كما عمل الشرع على مأسسة قواته العسكرية وإضفاء بعض سمات القوات النظامية عليها، من خلال إنشاء كلية عسكرية.
لاحقا، شكَّلت حكومة الإنقاذ ما عُرف باسم "إدارة الشؤون السياسية" منذ أبريل/نيسان 2022، لتكون مختصة بالتعبير عن المواقف السياسية التي تُمثِّل الحكومة، وكان أول بيان سياسي نشرته عبر حسابها على موقع "إكس" تعليقا على مجزرة التضامن التي اتُّهم فيها جنود الجيش السوري بإعدام عدد من المعتقلين السوريين والفلسطينيين، وإلقائهم في حفرة بحي التضامن في دمشق.
إعلانوفي المجمل يمكن القول إن الشرع والهيئة وحكومة الإنقاذ قد حاولوا، بدرجة ما، تقديم نموذج إداري يسيّر الحياة نسبيا مقارنة بمحدودية الموارد وتكدس اللاجئين وصعوبة الأوضاع الأمنية، فضلا عن العزلة عن العالم. ولكن رغم هذه الخطوات، ثمة تحديات هائلة ومعقدة تعرض لها مشروع الشرع في حكم إدلب، وستُضاف إليها طبقات أخرى من التعقيد مع توسع المناطق الواقعة تحت سيطرته العسكرية، فلا يزال الجولاني مدرجا على قوائم الإرهاب الأميركية، ولا يزال تنظيمه كذلك.
وفي ظل هذه الأوضاع، ربما يكون من الصعب الحصول على الاعتراف الدولي الذي يُمكِّن من ربط اقتصاد سوريا بالعالم والخروج من حقبة العقوبات والانهيار المالي والاقتصادي، ومع أن الشرع في خطابات سابقة قد أبدى المرونة في التعامل مع المنظومة الاقتصادية العالمية، لكن هذه الخطوات لم تُقابَل بخطوات عالمية مماثلة في حالة حكم إدلب، ومن المرجح ألا تجد أيضا حلولا سريعة فيما بعد إدلب، حيث ستكون سوريا أمام مخاض طويل للتوافق على شكل مناسب للسلطة في مرحلة ما بعد الأسد، والحصول على اعتراف دولي بهذه السلطة، ولن تكون تلك مهمة سهلة في ظل تعدد الفاعلين في الملف السوري وتضارب مصالحهم، وغياب التجانس في صفوف المعارضة نفسها.
أحمد الشرع (الجولاني) في إدلب (الفرنسية) ردع العدوان.. الإدارة السياسيةلا شك أن الجولاني، أو أحمد الشرع كما قدمته عملية "ردع العدوان"، يدرك هذه التحديات، ودفعه ذلك لاستباق الزمن سعيا لمعالجتها. وبالتزامن مع انطلاق العمليات العسكرية مؤخرا ضمن عملية "ردع العدوان"، حرص الشرع على توجيه رسائل سياسية هادئة عبر مقاطع مصورة قصيرة، ومن خلال لقاءات مع وسائل إعلام غربية، فضلا عن إصدار "إدارة الشؤون السياسية" التابعة لهيئة تحرير الشام بيانات متتالية تحمل المضامين الهادئة ذاتها، في محاولة للتناغم بين العمل السياسي والإعلامي والعسكري، بشكل متميز عن الأداء السابق للثورة السورية.
إعلانوفي لقائه مع "سي إن إن" في 6 ديسمبر/كانون الأول الحالي، حرص الشرع بشكل لافت على الابتعاد عن الخطاب العقائدي، مركِّزا على انتقاد السلوك السياسي لحكومة الأسد، قائلا إن "عقل النظام لا يتقبل حلولا سياسية"، وإن الفساد قد انتشر بشكل هائل في جسد الدولة والحكومة، وإن سوء إدارة سوريا أفقرها بدلا من إدارة مواردها بكفاءة. وقارن الشرع، في اللقاء ذاته، بين سلوك قوات الحكومة وسلوك فصائل المعارضة، فأكد أن المدن التي دخلتها لم تعانِ من تدمير أو يتعرض أهلها إلى تنكيل، بعكس المدن التي استعادتها قوات الحكومة سابقا، حيث تعرضت لإجراءات عقابية تجاه الأهالي.
أما الجانب الطائفي الذي مَثَّل سمة من سمات المشهد السوري خلال السنوات الماضية، فقد ابتعد عنه خطاب الشرع، مشيرا إلى أن المواطنين السوريين المسيحيين في حلب يعيشون بأمان بعد سيطرة المعارضة على المدينة، كما شدد على توجيه رسائل طمأنة إلى العلويين والدروز والإسماعيليين تطمئنهم على مستقبلهم، وتشدد على أنه لا يحق لأحد أن يلغي وجود طوائف أخرى أو يهمشها، وأن حكم القانون يُفترض أن يسود على الجميع.
لقد تواكبت تصريحات الشرع مع إصدار "إدارة الشؤون السياسية" لعدة بيانات، أحدها موجه لأهالي مدينة السلمية، التي يعيش بها مُكوِّن كبير من الطائفة الإسماعيلية، يطمئنهم على أرواحهم وممتلكاتهم، ويدعوهم إلى "الوقوف صفا واحدا ضد الظلم والاضطهاد"، فيما وُجِّه بيان ثانٍ لأبناء الطائفة العلوية في ريف حماة يدعوهم إلى فك الارتباط بنظام الأسد، وأن يكونوا جزءا من سوريا الجديدة التي لا تُعرف بالطائفية، حسب نص البيان.
ووُجِّه بيان ثالث إلى الأكراد بمدينة حلب يدعوهم إلى البقاء في المدينة للعيش فيها بحرية وكرامة، ويدين ما تعرضوا له سابقا من تنكيل على يد تنظيم الدولة الإسلامية، فيما ناشد بيان رابع أهالي قريتَيْ نبل والزهراء الشيعيتين بعدم الوقوف إلى جانب نظام الأسد، والتكاتف مع الشعب السوري لبناء دولة جديدة تحفظ تماسك نسيج المجتمع، وذلك بعد أن ساعدت هيئة تحرير الشام أبناء القريتين على الرجوع إلى منازلهم بأمان.
إعلانوفيما يخص العلاقات الخارجية، والدول التي لديها مصالح في سوريا، فقد حرص الشرع على الإشارة إلى حرصه على ألا تتحول سوريا إلى مصدر للأزمات لدول الجوار، وهو ما شدد عليه في كلمة مصورة قصيرة وجَّهها إلى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خاطبه فيها بألفاظ التوقير، داعيا إياه لعدم الزج بالعراق في شؤون سوريا الداخلية، في اتساق مع بيان وجَّهته إدارة الشؤون السياسية إلى الحكومة العراقية يطمئنها بأن سوريا الجديدة ستكون صديقة للعراق وليست مصدرا للتوتر بالمنطقة، وهو ما تكرر في بيان آخر مُوجَّه للشعب اللبناني بأطيافه كافة.
كما وجَّهت إدارة الشؤون السياسية بيانا إلى موسكو يشدد على أن الثورة السورية لم تكن يوما ضد أي دولة بما فيها روسيا، ودعاها إلى عدم ربط مصالحها بشخص الأسد ونظامه، وبناء علاقات إيجابية مع الشعب السوري تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، مع التعهد في بيان إضافي بحماية رعايا روسيا والصين في سوريا والبعثات الدبلوماسية للبلدين.
في المجمل، حرص الشرع وإدارة الشؤون السياسية أن يظهروا في مظهر رجال الدولة وليس رجال الفصائل والميليشيات، ولذا أشار الرجل في لقاء "سي إن إن" إلى أن "مستقبل سوريا لن يحدده شخص يحكمها، إنما مجلس شورى يصوغ دستورا ولوائح تنظيمية لإدارة شؤون البلاد"، وأن "هيئة تحرير الشام" نفسها مجرد وسيلة يمكن الاستغناء عنها إذا انتهت وظيفتها.
بيد أن الطريق لما يقوله الشرع أو الجولاني مليء بالتفاصيل والأسئلة الشائكة التي لم يطرح لها جوابا، ولا يبدو أن ثمة جوابا حاضرا حيالها، وهو ما يضع سوريا الجريحة والممزقة أمام مرحلة انتقالية، من المحتمل أن تكون عسيرة وقلقة للغاية. فرغم الانهيارات السريعة التي تعرضت لها قوات الأسد، فإن العديد من الأطراف لديها مصالح متضاربة داخل سوريا، ولديها أيضا مساحات نفوذ وسيطرة لم تُحسم حتى بعد فرار الأسد والسيطرة على دمشق. كما أن ميراث السنوات الأولى من الثورة السورية، والصراعات البينية التي وقعت بين فرقاء الثورة، والاختلافات الأيديولوجية وتضارب الرؤى والمصالح، وحضور تيارات "التطرف"، كل ذلك يُلقي بظلال ثقيلة على مستقبل البلاد.
إعلانلقد وضعت أربعة عشر عاما من الثورة السورية، وما رافقها من صراعات عسكرية وتدخلات خارجية، وضعت ما تبقى من البلاد على أتون من الانشطارات الطائفية والمناطقية، وتدهور اقتصادي حاد وقطاع مصرفي آيل للسقوط، ومؤسسات سياسية وأمنية ينخر فيها العطب والفساد، فضلا عن تعدد الفصائل المسلحة واحتمالية نشاط الكثير من الخلايا الكامنة، أربعة عشر عاما تلقي بظلال ثقيلة أمام مستقبل سوريا وأمام الشرع ، وتضع أسئلة كثيرة حول واقع جديد يريد أن يرتسم، وماضٍ قريب يتلكأ في الانصراف.