الشيخ ياسر مدين يكتب: إيتاء الزكاة (1)
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
جلس سيدنا جبريل الأمين عليه السلام، أمام سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يراه الصحابة الأجلاء رضوان الله تعالى عليهم فى صورة رجل غريب، وها هو سيد الخَلق، صلى الله عليه وسلم، يخبره عن الإسلام فى كلام شريف جامع، فيقول: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيمَ الصلاة، وتُؤتى الزكاة، وتصومَ رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً».
فأول الإسلام أن ينطق المرء بشهادة «أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وسلم».
وأول شىء بعد الشهادة هو إقامة الصلاة، والصلاة عبادة خالصة لله تعالى، وإقامتها تقتضى توفية حقوقها وأركانها، ثم بعد ذلك يأتى إيتاء الزكاة، والزكاة قدر قليل من المال يخرجه الغنى لثمانية أصناف من البشر هم المذكورون فى قول المولى سبحانه وتعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» [التوبة: 60]؛ أى: تُخرج زكاة المال لثمانية أصناف، الصنف الأول هم الفقراء، والثانى المساكين، والثالث العُمّال (الموظّفون) المكلّفون بجَمعها، والرابع الأشخاص الذين تُراد استمالة نفوسهم إلى الإسلام، حتى نُنقذ مهجهم من النار، والخامس العبيد لعتقهم من رقِّ العبودية، والسادس المدينون الذين لزمتهم ديون فى غير معصية الله تعالى ولا يجدون المال الذى يدفعونه لدائنيهم، والسابع فى سبيل الله، وهو مَصرف واسع المدلول، فيشمل تجهيز الجيوش للدفاع، ويجوز صرفه على طلبة العلم، ويجوز صرفه على مريد الحجّ، وقال بعض العلماء: إنه يشمل جميع وجوه الخير.
والثامن هو ابن السبيل، وهو المسافر الذى انقطع عن ماله فى سفره، فيُعطى من الزكاة ما يساعده على بلوغ موطنه، حتى لو كان غنيّاً فى بلده. وقد اشترط العلماء فيه ألا يكون سفره فى معصية.
وهذا معناه أن الزكاة تقتضى من المسلم أن يكون له دور اجتماعى بين أبناء مجتمعه، بحيث يتفقّد أحوالهم، ويعلم المستحقين للزكاة منهم، ويحدّد وجه استحقاق كل منهم، وأن يكون مدركاً للأحوال العامة فى مجتمعه ووطنه وأن يُشارك فيها بشيء من زكاة ماله من خلال سهم فى سبيل الله، ومن هذا السهم تُبنى الجسور، والقناطر، والحصون، والمساجد، ويكفّن الموتى، وغير ذلك من وجوه الخير.وهذا الدور الاجتماعى الذى يعين فيه الغنى الفقراء، سواء أكانوا من مجاوريه وأبناء بيئته وحيِّه أم كانوا من الغرباء، ويُشارك فى إعمار وطنه ببناء ما يحتاجه أبناؤه من جسور وقناطر ومساجد وحصون وتجهيز جيوش، أقول هذا الدور الاجتماعى جعله شرع الله تعالى عبادة يتعبّد الإنسان بها ربَّه تعالى، بل هو أحد أركان هذا الدين الشريف.وهذا يبين مدى رعاية شرع الله تعالى للبشر وعنايته بهم، حتى إنه جعل ذلك عبادة يتعبد بها المسلم ربَّه ويتقرّب بها إليه.وها هنا مسألة لا بد من الانتباه إليها، وهى أن البعض قد يظن أن الزكاة ركن يأتى بعد الصلاة، وذلك لأنه معطوف عليها بالواو فى قوله، صلى الله عليه وسلم: «وتقيمَ الصلاة، وتُؤتىَ الزكاة»، والحق أن العلماء قالوا: إن الواو العاطفة لا تقتضى ترتيباً ولا مَعيَّة؛ أى: ليس ما بعدها تالياً لما قبلها ولا معه فى نفس الوقت، بل إنها تقتضى أن المعطوف بها والمعطوف عليه مجتمعان فى هذا الأمر، وليس شرطاً أن يكون هذا منهما معاً فى نفس الوقت، فإذا قلتَ مثَلاً: (جاء زيد وعمرو) لا يعنى هذا أن مجىء عمرو متأخر عن مجىء زيد، ولا يُفهم أيضاً أنهما جاءَا معاً، بل المعنى أن المجىء حصل منهما، دون النظر إلى سبق أحدهما على الآخر أو مجيئهما معاً.
وبِناءً على هذا نفهم أن عطف إيتاء الزكاة على إقامة الصلاة معناه أن المسلم بمجرد إسلامه بنطقه الشهادتين صار مأموراً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ما دام لا يمنعه مانع من هذه العبادات، فهى كلها على قدم المساواة.وهذا معناه أن الزكاة التى هى لون من مساعدة البشر عبادة كالصلاة والصيام والحج، وهذا يبين مدى رُقى هذا الدين الشريف ورعايته للإنسان وعنايته به
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: رسول الله صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام صلى الله علیه وسلم الله تعالى ه تعالى
إقرأ أيضاً:
حكم الحث على الصبر والبلاء وإن طال وقته
قالت دار الإفتاء المصرية إن الابتلاء من أقدار الله تعالى ورحمته، يجعل في طياته اللطف، ويسوق في مجرياته العطف، والمحن تحمل المنح، فكلُّ ما يصيب الإنسان من ابتلاءات هي في حقيقتها رفعة في درجة المؤمن وزيادة ثوابه ورفع عقابه.
الحث على الصبر والبلاءوورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (10/ 105، ط. دار المعرفة): [وهذا يقتضي حصول الأمرين معًا: حصول الثواب، ورفع العقاب] اهـ.
وابتلاء الله تعالى لعباده لا يُحكم عليه بظاهره بالضر أو النفع؛ لانطوائه على أسرار غيبية وأحكامٍ علوية لا يعلم حقيقتها إلَّا رب البرية؛ قال تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: 168].
وأوضحت الإفتاء أن ليس المقصود هو الحكم بظاهر الابتلاءات؛ بل العلم بقدرة الله تعالى، والإسراع في الرجوع إليه، وأن يتفقد الإنسان نفسه بالسكون إلى قضاء الله تعالى والإذعان إلى مراده؛ قال سبحانه: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ [الأنعام: 43]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: 76].
وقد سمَّى الله تعالى غزوة "تبوك" التي استمرت شهرًا «ساعةَ العُسرة» كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 117]، تهوينًا لأمرها وتيسيرًا لهولها، وإخبارًا بعِظَمِ أجرها.
قال الإمام البقاعي في "نظم الدرر" (9/ 36، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وسمَّاها "ساعة": تهوينًا لأوقات الكروب، وتشجيعًا على مواقعة المكاره؛ فإنَّ أمدها يسير وأجرها عظيم خطير، فكانت حالهم باتباعه في هذه الغزوة أكمل من حالهم قبلها] اهـ.
وأضافت أنه لا ينبغي للإنسان أن ييأس من رحمة ربه، أو أن يضجر من الدعاء، أو يستطيل زمن البلاء؛ لأنه لا يعلم حكمة البلاء ولا يعي كنه أسراره، وأن تَفَقُّدَ الله تعالى للمكلفين بالمصائب والابتلاءات إنما هو رحمة بهم، وحفظًا لصحة عبوديتهم؛ قال الإمام ابن الجوزي في "صيد الخاطر" (ص: 439، ط. دار القلم): [فإياك إياك أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء؛ فإنك مبتلى بالبلاء، متعبد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله، وإن طال البلاء] اهـ.
وقال الشيخ ابن القيم في "زاد المعاد" (4/ 179، ط. مؤسسة الرسالة): [لولا محن الدنيا ومصائبها: لأصاب العبد -من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب- ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمن رحمة أرحم الراحمين: أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب، تكون حِمْيَةً له من هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان مَن يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه] اهـ.