عن لا جدوى الأنسنة في زمن الإبادة
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
قد تكون «الأنسنة» إحدى الركائز والأدوات الأساسية في خطاب الناشطين للدفاع عن الفلسطينيين، الذين يتعرضون لإبادة وحشية منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وهي، أي الأنسنة، حاضرة بمرادفاتها ومعانيها وافتراضاتها، في لغة المناشدات والنداءات، كما الإدانات لمظاهر وممارسات نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، في كل محفل وحيز.
وتتردد كل يوم، بل كل لحظة، يراقب فيها العالم بذهول الإبادة أسئلة من قبيل: «أين هي الإنسانية؟ أليس هؤلاء بشراً؟» وهي أسئلة طبيعية مفهومة دوافعها. لكن السؤال المشروع هو هل من جدوى في خطاب الإنسانية هذا؟
سأورد واقعة شخصية، مع أنني غالباً ما أوبّخ طلابي حين يسردون حكايات شخصية يستعينون بها في سياق شرح، أو مناقشة مصطلحات ومقولات، أو إيصال فكرة ما. لكن هذه السطور ليست في سياق أكاديمي، ولي فيها هامش حرية نسبية.
ذات مساء خريفي في نيويورك، دعاني أحد زملائي إلى عشاء مع عدد من الأكاديميين، وجلهم من اليساريين والليبراليين، لتكريم أكاديمي مرموق زار كليتنا وألقى فيها محاضرة عن الشاعر الأمريكي والت ويتمان (1819- 1892) والمناخ الديمقراطي في شعره. نالت المحاضرة استحسان الغالبية مع أنها أسقطت أو أغفلت الجانب المظلم، الذي يحتفي بالاستعمار الاستيطاني وبالتفوق العرقي، في عدد من أشعار ويتمان وموقفه المخزي من السكان الأصليين. سألني أحد الحضور: من أين أنت؟
وأجبته. كانت «داعش» أيامها تعيث فساداً في العراق وتقتل البشر وتهدم الحجر. وكان جواب الأكاديمي، حامل الدكتوراه، المختص بتاريخ الفن، الغربي طبعاً: «إنه لأمر محزن، ما يحدث هناك. في بلدك»، ثم أضاف، بالحرف الواحد: «أتعرف؟ لا يهمني البشر البتة، فبالإمكان تعويضهم. وهناك الكثير منهم. لكن الآثار والمنحوتات النفيسة، هذه لا تعوّض. وما يحدث كارثة كبرى».
لن أورد البذاءات التي خطرت في بالي ولا تلك التي اخترتها لإنهاء الحوار القصير الذي أكد لي خطأ حضور العشاء. لكنني رددت في سرّي وأنا أبتعد «ليت الفتى حجر»، لا لكي أحظى بتعاطف الليبراليين، بل لكي أنجو منهم ومن أسئلتهم وطروحاتهم، فقد سئمتها بعد ثلاثة عقود.
بالعودة إلى 2002 واستذكار الحراك الطلابيّ والمجتمعي في الولايات المتحدة للوقوف ضد خطط غزو العراق ومناهضة الحرب، التي كانت طبولها تقرع وأبواقها البشرية تحتل المنابر الإعلامية، كانت «الأنسنة» مقولة أساسية في الشعارات والمناشدات والمظاهرات والمقالات، التي كتبناها لتذكير وتنبيه المجتمع أن العراقيين بشر أيضاً.
وأن خلف صورة الديكتاتور ملايين منهم، يعانون، لا من سياسات الديكتاتورية فحسب، بل من سياسات الإمبراطورية، ومن حصار إجرامي، لكن استدعاء قيم الإنسانية وحيزها المشترك لم ينجح في تغيير المد المؤيد للحرب والتأثير عليه، إلا بنسبة قليلة. الأمر لا يتعلق بماهية الخطاب والمصطلح وسلالته وتاريخها وكل الإشكاليات في حمولته فحسب، بل بالمؤسسات والقوى التي تهيكل المجتمع والخطاب المهيمن والأفكار المترسخة في الوعي الجمعي.
حتى لو ارتقى الكائن الآخر من مصاف الحجر والحيوانات إلى رحاب الإنسانوية، فإنه سيضطر للدخول في تنافس شرس على أرضية تراتبية، حجزت مسبقاً مراتبها العليا، شاهقة الارتفاع لأعراق وطبقات دون أخرى.
ما زلت أذكر واحدة من التقارير التي نشرتها صحيفة «الغارديان» في الأسابيع الأولى لغزو العراق، كان الصحافي البريطاني برفقة جنود أمريكيين في عربة «همڤي» بالقرب من الناصرية.
وذكر الصحافي أن أحد الجنود قال له: لقد أمضينا ساعتين ولم أرَ «مول» ولا محل «وبنديز» (للوجبات السريعة). هل يمتلك هؤلاء أي شيء؟ وعلّق الصحافي على شكوى الجندي من خلو أرض العراق من مظاهر الحضارة «الحديثة»، إنهم كانوا على مقربة من مدينة أور، بكل ما تمثله من عراقة الحضارة الإنسانية. ترتبط الحضارة لدى الجندي بمظاهر الثقافة الاستهلاكية، وخيرات الرأسمالية. وحتى تعليق الصحافي على جهل الجندي وعنصريته المبطنة، لا يخلو من استشراق، إذ حضارة العراق وثقافته، هي في طيّات الماضي السحيق، لا في الحاضر، الذي يظل صحراء بآثار.
تعاطف الجنود الأمريكيون في العراق مع الحيوانات التي قابلوها وتعاملوا معها بـ«إنسانية» تفوق بكثير تعاطفهم مع الإنسان العراقي.
وتكونت شبكات غير رسمية، مكونة من أشخاص في عدة بلدان، تشرف على نقل الحيوانات (الكلاب في كل التقارير التي قرأتها) التي يتبناها الجنود الأمريكيون أثناء احتلالهم للعراق، على متن طائرات عسكرية للقواعد الأمريكية إلى الولايات المتحدة لتكون برفقة الجنود.
كانت حكايات لم الشمل الناجحة تروى ببهجة ونشوة انتصار على شبكات التلفزيون وفي التقارير الصحافية. حظيت الكلاب بما قد لا يحظى به البشر.
في سياق الاحتلالات الأمريكية في أفغانستان والعراق، يدخل البشر «الآخرون» الذين يعملون مع المحتل، التراتبية ويصبحون بشراً جديرين بالإنقاذ. وهذا الذي حدث بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مع المترجمين والذين عملوا مع الاحتلال الأمريكي.
نشرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تقريراً في 30 نوفمبر عن معاناة الحيوانات الأليفة في إسرائيل من جرّاء الحرب. فصفارات الإنذار ودوي القنابل والغارات كلها تؤثر سلباً على نفسية الحيوانات، ما يستدعي عناية مضاعفة وعلاجاً وحتى حبوباَ مضادة للاكتئاب. يستحيل أن يتعاطف الإسرائيليون مع البشر من الفلسطينيين، ولا أظن أن بمقدورهم أن يتعاطفوا حتى مع الحيوانات الأليفة في فلسطين.
بقيت ملاحظة أخيرة وهي أن صور الغزيين الذين يخرجون من بين الأنقاض وهم يحملون قططهم، أو الذين ينزحون وقد أصروا على اصطحاب قططهم أو طيورهم، تحظى بتعاطف واهتمام خاص على وسائل التواصل الاجتماعي.
وترافقها عادة تعليقات عن الإنسانية. لعلها تعيد إلى من يكتبها شيئاً من الأمل بأن الإنسانية مشروع قد يمكن إنقاذه! إن الإنسانوية لفي خسر! والبشر بحاجة ماسة إلى التوقف عند مقولات «الإنسانية» وتبعاتها، وإلى تفكيك ونقد تاريخها وسلالاتها المعرفية. علينا أن نجد منظومة أخرى لا تعيد إنتاج الإبادات وكوابيس التاريخ المستمرّة.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإنسانية الاحتلال شهداء مجازر غزة الإنسانية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
بعد تعدي سائحة هولندية على شاب ضرب حمارا..تعرف على عقوبة تعذيب الحيوانات
أخلت جهات التحقيق سبيل شاب وسائحة هولندية، وذلك على خلفية واقعة تعديها على الشاب بعصا خشبية بسبب تعديه على حمار في نزلة السمان قرب الأهرامات.
كشفت الأجهزة الأمنية بوزارة الداخلية ملابسات تداول مقطع فيديو على مواقع التواصل الإجتماعي يتضمن قيام أحد الأشخاص بالتعدي بالضرب على دابة بدائرة قسم شرطة الأهرام بالجيزة، قامت على أثرها سيدة تحمل جنسية إحدى الدول بالتعدي عليه والعدو خلفه.
وبالفحص أمكن تحديد وضبط مرتكب الواقعة أحد الأشخاص مقيم بدائرة القسم، وبمواجهته اعترف بارتكابه الواقعة وأضاف أنه حال وقوفه بجوار الدابة إنتابتها حالة من الهياج فقام بالتعدي عليها بالضرب لمحاولة تهدئتها، وفوجئ بالسيدة المشار إليها بمحاولة التعدي عليه فقام بنهرها والإبتعاد عنها، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية.
نصت المادة 355 من قانون العقوبات المصري على أن يعاقب بالحبس مع الشغل اولا: كل من قتل عمدا دون مقتضى حيوانا من دواب الركوب أو الجر أو الحمل أو من أي نوع من أنواع المواشي أو أضر به ضررا كبيرا.
ثانيا: كل من سم حيوانا من الحيوانات المذكوره بالفقرة السابقة، وكل شروع في الجرائم السابقة يعاقب بالحبس مع الشغل مدة لا تزيد عن سنة أو الغرامة.
ونصت المادة رقم 356 من ذات القانون أنه إذا ارتكبت الجرائم المنصوص عليها ليلا تكون العقوبة الأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث إلى سبع سنوات.
بينما نصت المادة رقم 357 من ذات القانون أن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو الغرامة كل من قتل عمدا ودون مقتضى أو سم حيوانا من الحيوانات المستأنسة غير المذكورة في المادة 355 أو أضر به ضررا كبيرا.
فيما تم تعديل قانون العقوبات بإضافة المادة 357 والتي جرمت قتل أو الإضرار بالحيوانات المستأنسة التي لم تذكر في المادة السابقة، ونصت على عقوبة الحبس الذى لا تزيد مدته على ستة أشهر أو بغرامة لا تتجاوز مائتي جنيه.