عربي21:
2025-02-11@12:32:34 GMT

عن لا جدوى الأنسنة في زمن الإبادة

تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT

قد تكون «الأنسنة» إحدى الركائز والأدوات الأساسية في خطاب الناشطين للدفاع عن الفلسطينيين، الذين يتعرضون لإبادة وحشية منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وهي، أي الأنسنة، حاضرة بمرادفاتها ومعانيها وافتراضاتها، في لغة المناشدات والنداءات، كما الإدانات لمظاهر وممارسات نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، في كل محفل وحيز.



وتتردد كل يوم، بل كل لحظة، يراقب فيها العالم بذهول الإبادة أسئلة من قبيل: «أين هي الإنسانية؟ أليس هؤلاء بشراً؟» وهي أسئلة طبيعية مفهومة دوافعها. لكن السؤال المشروع هو هل من جدوى في خطاب الإنسانية هذا؟

سأورد واقعة شخصية، مع أنني غالباً ما أوبّخ طلابي حين يسردون حكايات شخصية يستعينون بها في سياق شرح، أو مناقشة مصطلحات ومقولات، أو إيصال فكرة ما. لكن هذه السطور ليست في سياق أكاديمي، ولي فيها هامش حرية نسبية.

ذات مساء خريفي في نيويورك، دعاني أحد زملائي إلى عشاء مع عدد من الأكاديميين، وجلهم من اليساريين والليبراليين، لتكريم أكاديمي مرموق زار كليتنا وألقى فيها محاضرة عن الشاعر الأمريكي والت ويتمان (1819- 1892) والمناخ الديمقراطي في شعره. نالت المحاضرة استحسان الغالبية مع أنها أسقطت أو أغفلت الجانب المظلم، الذي يحتفي بالاستعمار الاستيطاني وبالتفوق العرقي، في عدد من أشعار ويتمان وموقفه المخزي من السكان الأصليين. سألني أحد الحضور: من أين أنت؟

وأجبته. كانت «داعش» أيامها تعيث فساداً في العراق وتقتل البشر وتهدم الحجر. وكان جواب الأكاديمي، حامل الدكتوراه، المختص بتاريخ الفن، الغربي طبعاً: «إنه لأمر محزن، ما يحدث هناك. في بلدك»، ثم أضاف، بالحرف الواحد: «أتعرف؟ لا يهمني البشر البتة، فبالإمكان تعويضهم. وهناك الكثير منهم. لكن الآثار والمنحوتات النفيسة، هذه لا تعوّض. وما يحدث كارثة كبرى».

لن أورد البذاءات التي خطرت في بالي ولا تلك التي اخترتها لإنهاء الحوار القصير الذي أكد لي خطأ حضور العشاء. لكنني رددت في سرّي وأنا أبتعد «ليت الفتى حجر»، لا لكي أحظى بتعاطف الليبراليين، بل لكي أنجو منهم ومن أسئلتهم وطروحاتهم، فقد سئمتها بعد ثلاثة عقود.

بالعودة إلى 2002 واستذكار الحراك الطلابيّ والمجتمعي في الولايات المتحدة للوقوف ضد خطط غزو العراق ومناهضة الحرب، التي كانت طبولها تقرع وأبواقها البشرية تحتل المنابر الإعلامية، كانت «الأنسنة» مقولة أساسية في الشعارات والمناشدات والمظاهرات والمقالات، التي كتبناها لتذكير وتنبيه المجتمع أن العراقيين بشر أيضاً.

وأن خلف صورة الديكتاتور ملايين منهم، يعانون، لا من سياسات الديكتاتورية فحسب، بل من سياسات الإمبراطورية، ومن حصار إجرامي، لكن استدعاء قيم الإنسانية وحيزها المشترك لم ينجح في تغيير المد المؤيد للحرب والتأثير عليه، إلا بنسبة قليلة. الأمر لا يتعلق بماهية الخطاب والمصطلح وسلالته وتاريخها وكل الإشكاليات في حمولته فحسب، بل بالمؤسسات والقوى التي تهيكل المجتمع والخطاب المهيمن والأفكار المترسخة في الوعي الجمعي.

حتى لو ارتقى الكائن الآخر من مصاف الحجر والحيوانات إلى رحاب الإنسانوية، فإنه سيضطر للدخول في تنافس شرس على أرضية تراتبية، حجزت مسبقاً مراتبها العليا، شاهقة الارتفاع لأعراق وطبقات دون أخرى.

ما زلت أذكر واحدة من التقارير التي نشرتها صحيفة «الغارديان» في الأسابيع الأولى لغزو العراق، كان الصحافي البريطاني برفقة جنود أمريكيين في عربة «همڤي» بالقرب من الناصرية.

وذكر الصحافي أن أحد الجنود قال له: لقد أمضينا ساعتين ولم أرَ «مول» ولا محل «وبنديز» (للوجبات السريعة). هل يمتلك هؤلاء أي شيء؟ وعلّق الصحافي على شكوى الجندي من خلو أرض العراق من مظاهر الحضارة «الحديثة»، إنهم كانوا على مقربة من مدينة أور، بكل ما تمثله من عراقة الحضارة الإنسانية. ترتبط الحضارة لدى الجندي بمظاهر الثقافة الاستهلاكية، وخيرات الرأسمالية. وحتى تعليق الصحافي على جهل الجندي وعنصريته المبطنة، لا يخلو من استشراق، إذ حضارة العراق وثقافته، هي في طيّات الماضي السحيق، لا في الحاضر، الذي يظل صحراء بآثار.

تعاطف الجنود الأمريكيون في العراق مع الحيوانات التي قابلوها وتعاملوا معها بـ«إنسانية» تفوق بكثير تعاطفهم مع الإنسان العراقي.

وتكونت شبكات غير رسمية، مكونة من أشخاص في عدة بلدان، تشرف على نقل الحيوانات (الكلاب في كل التقارير التي قرأتها) التي يتبناها الجنود الأمريكيون أثناء احتلالهم للعراق، على متن طائرات عسكرية للقواعد الأمريكية إلى الولايات المتحدة لتكون برفقة الجنود.

كانت حكايات لم الشمل الناجحة تروى ببهجة ونشوة انتصار على شبكات التلفزيون وفي التقارير الصحافية. حظيت الكلاب بما قد لا يحظى به البشر.

في سياق الاحتلالات الأمريكية في أفغانستان والعراق، يدخل البشر «الآخرون» الذين يعملون مع المحتل، التراتبية ويصبحون بشراً جديرين بالإنقاذ. وهذا الذي حدث بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مع المترجمين والذين عملوا مع الاحتلال الأمريكي.

نشرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تقريراً في 30 نوفمبر عن معاناة الحيوانات الأليفة في إسرائيل من جرّاء الحرب. فصفارات الإنذار ودوي القنابل والغارات كلها تؤثر سلباً على نفسية الحيوانات، ما يستدعي عناية مضاعفة وعلاجاً وحتى حبوباَ مضادة للاكتئاب. يستحيل أن يتعاطف الإسرائيليون مع البشر من الفلسطينيين، ولا أظن أن بمقدورهم أن يتعاطفوا حتى مع الحيوانات الأليفة في فلسطين.

بقيت ملاحظة أخيرة وهي أن صور الغزيين الذين يخرجون من بين الأنقاض وهم يحملون قططهم، أو الذين ينزحون وقد أصروا على اصطحاب قططهم أو طيورهم، تحظى بتعاطف واهتمام خاص على وسائل التواصل الاجتماعي.

وترافقها عادة تعليقات عن الإنسانية. لعلها تعيد إلى من يكتبها شيئاً من الأمل بأن الإنسانية مشروع قد يمكن إنقاذه! إن الإنسانوية لفي خسر! والبشر بحاجة ماسة إلى التوقف عند مقولات «الإنسانية» وتبعاتها، وإلى تفكيك ونقد تاريخها وسلالاتها المعرفية. علينا أن نجد منظومة أخرى لا تعيد إنتاج الإبادات وكوابيس التاريخ المستمرّة.

القدس العربي

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإنسانية الاحتلال شهداء مجازر غزة الإنسانية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

تحذير من غزو الثعابين الأسكولابية لبريطانيا.. منازل البشر هدفها القادم

تعالت التحذيرات من غزو الثعابين الأسكولابية للمملكة المتحدة خلال الأيام المقبلة، خاصة بعد أن هاجمتها مرتين من قبل عن طريق الخطأ، إذ تفضل هذه الثعابين اتخاذ المنازل البشرية بيوتًا لها، وفقًا لدراسة بحثية جديدة أشارت إلى أن هذه الثعابين قد يصل طولها إلى ما يقرب من 7 أقدام.

غزو الثعابين لبريطانيا الفترة المقبلة

وعن طريق الخطأ، تم إدخال أكبر ثعبان في أوروبا، وهو من النوع الأسكولابي، إلى المملكة المتحدة، حيث كون مجموعة كبيرة من الثعابين المقرر أن تغزو بريطانيا في الفترة المقبلة، وفقًا لما نشرته صحيفة «ديلي ميل» البريطانية.

ووفقًا للأعضاء المشاركين في الدراسة، فإن المناخ البارد في المملكة المتحدة ووجود هذه الثعابين داخل جدران المنازل يعدان من العوامل التي تساهم في بقاء هذه الثعابين على قيد الحياة، وعلى الرغم من تحذير العلماء بشأن غزو الثعابين، إلا أن هذه الأنواع غير سامة.

غذاء الثعابين الأسكولابية

تتغذى الثعابين الأسكولابية بشكل أساسي على القوارض الصغيرة مثل الفئران، وحسب البروفيسور ولفجانج فوستر، عالم الثعابين من جامعة بانجور والمؤلف المشارك في الدراسة، يمكن لأي شخص قتل ثعبان أسكولابي بسهولة، لذلك لا يوجد خوف على حياة البشر، ولكن يجب الحذر من هجومها على الحيوانات الصغيرة والأرانب تحديدًا.

وعلى الرغم من انخفاض أعداد الثعابين في أوروبا، إلا أنها تنتشر في أجزاء من المملكة المتحدة، وفي الوقت الحالي، قبل أن تغزو بريطانيا، لا يمكن العثور على الثعابين الأسكولابية إلا على طول قناة ريجنتس في لندن وحول خليج كولوين في ويلز

يذكر أنه جرى إدخال هذه الثعابين إلى ويلز في سبعينيات القرن العشرين، بعد هروب عدد غير معروف منها من حديقة حيوان ويلز الجبلية بسبب انهيار حظيرتهم، ومنذ ذلك الحين، تمكنت هذه الثعابين الهاربة من تأسيس تجمع تكاثري مستقر في المنطقة المحيطة بالحديقة، وعلى الرغم من أن هذه الثعابين عادة ما توجد في جنوب فرنسا الدافئ، فإن الباحثين لم يكونوا متأكدين من كيفية بقائها على قيد الحياة في الطقس البارد لويلز.

مقالات مشابهة

  • موعد خروج مودة الأدهم من السجن بعد حبسها 6 سنوات.. باقى ليها سنة
  • تحذير من غزو الثعابين الأسكولابية لبريطانيا.. منازل البشر هدفها القادم
  • حديقة الحيوانات بالعين تحتفي بـ «يوم البيئة الوطني»
  • مفاجأة علمية.. اكتشاف كيفية تغلب الدماغ على الخوف
  • أردوغان: لا جدوى من مناقشة خطة ترامب «العقيمة» بشأن غزة لأنها لن تتحقق
  • الرهوي: صمودنا ثابت والأمريكي يسعى لإخضاعنا بلا جدوى
  • الروائي غيث حمور يوقع 6 كتب “كانت ممنوعة” في زمن النظام البائد
  • الكشف عن أبرز البنود التي تحوي المشروع الوطني الذي قدمته القوى السياسية
  • الإطار:”قد” يحضر الشرع لمؤتمر القمة الذي سيعقد في بغداد
  • بعد كورونا.. فيروس جديد يهدد البشرية| القصة الكاملة