حان الوقت لتجريم المشروع الصهيوني وليس قادة الكيان وحدهم
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
بعد تحقيقات استغرق إجراؤها فترة طويلة، توافرت لدى مكتب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية أدلة كافية على تورط كل من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ويوآف غالانت، وزير أمنه السابق، في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وبناءً على هذه التحقيقات، واستناداً إلى النظام الأساسي لاتفاقية روما، تقدم كريم خان، المدعي العام للمحكمة، بمذكرة في 20مايو 2024، يطلب فيها من الدائرة الأولى للمحكمة إصدار أمر باعتقالهما.
أثار صدور مذكرة الاعتقال عاصفة من النقاش. لقد شكك البعض في سلامتها من الناحية القانونية، من منطلق أن الكيان الصهيوني ليس طرفاً في النظام الأساسي لاتفاقية روما، وبالتالي لم يقبل أصلاً اختصاص المحكمة التي نشأت بموجبها، واستناداً أيضاً إلى أن فلسطين ليست “دولة” كاملة العضوية في الأمم المتحدة، على رغم كونها طرفاً في نظام روما الأساسي وقيامها بإيداع أوراق قبول اختصاص المحكمة في يناير 2015. وقام البعض الآخر بإعلان رفضه الصريح لهذه المذكرة التي لم يتردد في مهاجمتها بعنف، مؤكداً عدم التزامه ما جاء فيها.
ومع ذلك، يمكن القول إن هذه المواقف، والتي يغلب عليها الطابعان السياسي والأيديولوجي، لن تغير شيئاً من القيمة القانونية لهذه المذكرة، ولن تستطيع أن تشكك لا في صلاحية المحكمة التي أصدرتها، ولا في إلزامية ما ورد فيها من أحكام. فالمحكمة الجنائية الدولية هي وحدها المختصة بالنظر في مدى صلاحيتها في التحقيق في الجرائم التي تحال عليها من عدمه، وهي أيضا صاحبة الاختصاص الأصيل بالنظر في مدى صلاحيتها في تعقب ومحاكمة المتهمين بارتكاب هذه الجرائم، وخصوصاً إذا ثبت لها تقاعس القضاء الداخلي، أو تواطؤه.
في أي حال، لقد تابع العالم بنفسه، على الهواء مباشرة، ما تعرض له الشعب الفلسطيني في غزة من جرائم تقشعر لها الأبدان، شملت القتل والتشريد والتجويع والمطاردة والتدمير الكامل لجميع مرافقه الخدمية، الصحية منها والتعليمية وحتى الإغاثية، وهي جرائم أخذت بوضوح تام شكل الإبادة الجماعية الشاملة والتطهير العرقي، بل إن هذه الجرائم أصبحت موثقة بشكل جيد جداً، وخصوصاً بعد قيام حكومة جنوب أفريقيا برفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها الكيان الصهيوني بخرق الالتزامات الواقعة عليه بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وقامت هذه المحكمة بدورها، بعد أن تبيّن لها وجود دلائل على احتمال وقع جرائم إبادة جماعية، بإصدار أوامر تطالب الكيان بضرورة اتخاذ تدابير وقائية لحماية الفلسطينيين ومنع وقوع أعمال إبادة ضدهم، لكن الكيان لم يكترث مطلقا لهذه الأوامر. ولأن مذكرة التوقيف صدرت هذه المرة في حق مسؤولين ينتمون إلى كيان تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم الدول الغربية الكبرى، يصعب الإدعاء أن دوافعها سياسية، ذلك بأن تسييس المؤسسات الدولية، وخصوصاً القضائية منها، في حالة حدوثه، لا يتم عادة إلا لمصلحة الدول الكبرى صاحبة النفوذ الواسع والمؤثر في الساحة الدولية، وهو ما يفسر الترحيب الهائل بمذكرة الاعتقال من جانب الشعوب المستضعَفة في دول الجنوب على وجه التحديد، وأيضاً في الأوساط الليبرالية العالمية.
والواقع أنه ينبغي لنا أن نميز بين الأثرين القانوني والمعنوي لصدور مذكرة التوقيف الشجاعة هذه، وبين قابليتها للتنفيذ الفعلي في أرض الواقع. فمن الصعب تصور أنه يمكن فعلاً توقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير أمنه السابق وإلقاء القبض عليهما ومثولهما للمحاكمة أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، وخصوصاً في ظل أوضاع القوى وموازينها السائدة حالياً في الساحة الدولية، غير أن صدورها يُعَدّ في حد ذاته مسألة بالغة الأهمية، ويجعلها قابلة للاستغلال إلى أقصى حد لمصلحة القضية الفلسطينية، شريطة أن تحسن الدول العربية هذا الاستغلال وأن تتولد لديها إرادة حقيقية لمساندة دعم الشعب الفلسطيني إلى أن يتمكن من ممارسة حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة.
فلن يكون في مقدور كل من نتنياهو وغالانت، بعد صدور هذه المذكرة، المقامرة بالسفر إلى عدد كبير من دول العالم، خشية رفع دعاوى قضائية عليهما وصدور أحكام تجيز تسليمهما إلى القضاء الدولي بالفعل، ثم سوف تظل وصمة العار تلاحقهما بالفعل، كونهما مجرمي حرب. صحيح أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وفقاً للقواعد القانونية السليمة والمستقرة في العالم المتحضر، لكن بما أن المحكمة هي الجهة الوحيدة التي يمكنها إثبات البراءة من عدمه، فسيظل هروبهما الدائم وعدم مثولهما أمام القضاء بمنزلة إدانة ضمنية لهما، وهو ما سيؤدي إلى تثبيت صورتيهما كمجرمي حرب.
لذا، يبدو لي أن المشكلة بالنسبة إلى نتنياهو وغالانت لن تقتصر على القيود المتعلقة بالحركة والقدرة على السفر خارج البلاد، وإنما تكمن أيضاً في احتمال عزوف عدد كبير من قادة دول العالم أو كبار مسؤوليه على تجنب اللقاء بهما، سواء داخل الكيان أو خارجه، وهو ما قد يؤدي بهما إلى ما يشبه القطيعة ويولد لديهما إحساساً بالعزلة.
على صعيد آخر، من الطبيعي أن يؤدي صدور مذكرة بتوقيف رئيس الوزراء ووزير أمنه السابق، بتهمة التسبب بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بالتوازي مع استمرار نظر دعوى قضائية مرفوعة على الكيان من جانب جنوبي أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، إلى تذكير العالم بأن المشكلة الحقيقية لا تكمن في وجود أشخاص متطرفين في مواقع المسؤولية داخل الكيان، وإنما تكمن أساساً في طبيعة المشروع الصهيوني المنشأ لهذا الكيان، كونه مشروعاً استيطانياً إحلالياً لا يتحقق على أرض الواقع إلا بالاستيلاء على أراضي الغير وطرد الشعب الفلسطيني من وطنه.
ولأن المجتمع الدولي، ممثلاً بعصبة الأمم أولاً، ثم بالأمم المتحدة بعد ذلك، أدى دوراً محورياً في تثبيت دعائم هذا المشروع، عبر تبني العصبة لوعد بلفور وإدراجه في صلب اتفاقية الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1922، ثم عبر إقدام الجمعية العامة للأمم المتحدة على تبني مشروع تقسيم فلسطين التاريخية عام 1947، لذا آن الأوان أن يبدأ المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة حالياً، في تصحيح أخطائه التاريخية، وخصوصاً بعد أن تكشفت أمامه كل الحقائق التي تؤكد أن النظام السياسي للكيان الغاصب لأرض الغير لا يمكن إلا أن يكون عنصرياَ بطبيعته، وهو ما أكدته كل التقارير الصادرة مؤخراً، سواء عن الأمم المتحدة نفسها أو عن المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان.
كلنا يذكر كيف تنبه العالم العربي مبكّراً لعنصرية الأيديولوجيا الصهيونية، حين نجح في أعقاب حرب أكتوبر المجيدة، في استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، يدين الصهيونية كونها شكلاً من أشكال العنصرية (القرار 3379 لعام 1975)، لكن الحركة الصهيونية، بتعاون وثيق مع الولايات المتحدة والدول الغربية، نجحت عام 1990 في حمل الجميعة العامة للأمم المتحدة على إلغاء هذا القرار ومحوه كلياً من سجلاتها.
ساعد على ذلك توجه عدد من الدول العربية نحو إبرام معاهدات “سلام” مع الكيان، عبر موجات متلاحقة من التطبيع، بدأت موجته الأولى مع مصر التي قامت بإبرام معاهدة سلام منفردة معه عام 1979، ثم تبعتها موجة ثانية دشنتها منظمة التحرير الفلسطينية، بالتوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993 وتبعها الأردن، بالتوقيع على اتفاقية وادي عربة عام 1994، إلى أن وصلنا إلى الموجة الثالثة التي انطلقت في إبان ولاية ترامب الأولى (2017-2021)، حين أبرمت الإمارات والبحرين اتفاقيتي أبراهام، وتبعهما المغرب والسودان، ليتوالى انفراط العقد العربي بأكمله.
اليوم، بعد حرب إبادة جماعية شنها الكيان على الشعب الفلسطيني في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، ولا تزال مستمرة حتى الآن، وحرب عدوانية مدمرة شنها على لبنان، وفي ظل دعوى قضائية لا تزال مرفوعة على هذا الكيان حتى الآن أمام محكمة العدل الدولية، وبعد صدور مذكرة توقيف في حق رئيس وزرائه ووزير جيشه من جانب محكمة الجنايات الدولية، يبدو موقف الأنظمة الرسمية العربية بالغ السوء. فعلى رغم كل ما ارتكبه الكيان من جرائم، فإنه لم تجرؤ دولة عربية واحدة من الدول المطبعة مع هذا الكيان على سحب سفيرها من هناك.
ستتوقف الحرب في الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، لكن الكيان سيظل قائماً في عنصريته، وربما تزداد شراسته وتعطشه إلى الدماء، فكيف ستتعامل معه الأنظمة العربية مستقبلاً؟ هل ستواصل المسار نفسه الذي سلكته منذ سبعينات القرن الماضي، كأن شيئاً لم يكن، أم أنها ستعود إلى رشدها وتشرع في تغيير سياستها تجاهه. أظن أنه إذا لم تغير هذه الأنظمة سياستها، وتبدأ صياغة رؤية عربية موحدة لمقاومة المشروع الصهيوني، فسوف يتمكن الكيان الصهيوني من فرض هيمنته على المنطقة برمتها في الأجل المنظور.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
طائرة نتنياهو تغير مسارها لتجنب الاعتقال من المحكمة الجنائية الدولية
أفادت هيئة الإذاعة والتليفزيون الإسرائيلية أن طائرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، العائدة من رحلته إلى واشنطن العاصمة، غيّرت مسارها لتجنب التحليق فوق المجال الجوي الكندي، ويأتي هذا التغيير في المسار نتيجة لمذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، والتي تظل قائمة ضد نتنياهو، بحسب ما ذكرته قناة "كان" الإسرائيلية الإخبارية.
وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد وجهت في نوفمبر 2024 اتهامات لنتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي استمر لمدة 15 شهرا، وتعتبر هذه المذكرة جزءًا من التحقيقات المستمرة بشأن الانتهاكات المحتملة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال العمليات العسكرية في المنطقة.
وأكد رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، بعد وقت قصير من إصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرات الاعتقال، أن حكومته ستلتزم بالقرارات الصادرة عن المحكمة، وأوضح ترودو أن كندا ستتبع القوانين الدولية المتعلقة بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم الدولية، بما في ذلك القضايا المرتبطة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
من جهة أخرى، يشار إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تولى منصبه في يناير الماضي، بدأ على الفور في اتخاذ إجراءات قانونية ضد المحكمة الجنائية الدولية، حيث فرض عقوبات اقتصادية وحظر سفر على مسؤولي المحكمة، وكانت الولايات المتحدة، مثل إسرائيل، قد أعلنت عدم اعترافها بسلطة المحكمة الجنائية الدولية.
وفي سياق متصل، أصبح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، أول شخص يتعرض لعقوبات اقتصادية وحظر سفر من قبل الولايات المتحدة، وهو ما يعكس التوتر المستمر بين المحكمة الجنائية الدولية وبعض الدول الكبرى بشأن سلطتها في محاكمة القادة السياسيين والعسكريين.
الجيش الروسي يسيطر على بلدة ياسينوفويه في دونيتسك شرقي أوكرانيا
أفادت وزارة الدفاع الروسية، اليوم ، بأن الجيش الروسي تمكن من السيطرة على بلدة ياسينوفويه في جمهورية دونيتسك الشعبية شرقي أوكرانيا، وقالت الوزارة في بيان رسمي: "تم تحرير بلدة ياسينوفويه بفضل العمليات الحاسمة التي نفذتها وحدات من مجموعة قوات المركز الروسية".
وأضاف البيان أن وحدات مجموعة قوات المركز الروسية واصلت عملياتها الهجومية في مناطق عدة من جمهورية دونيتسك، حيث استهدفت القوى البشرية والمعدات العسكرية التابعة للقوات المسلحة الأوكرانية، وأوضح البيان أن القوات الأوكرانية تكبدت خسائر كبيرة خلال هذه العمليات، حيث فقدت أكثر من 505 من عناصرها العسكريين بالإضافة إلى عدد من المدافع والدبابات والمركبات القتالية المدرعة.
وأشار البيان إلى أن القوات الروسية نفذت، في وقت متأخر من الليلة الماضية، ضربة جماعية باستخدام أسلحة عالية الدقة بعيدة المدى وطائرات مسيرة، حيث تم استهداف عدة مرافق حيوية، وتشمل هذه الأهداف مجمع الغاز والطاقة الذي يدعم عمل المجمع الصناعي العسكري الأوكراني، بالإضافة إلى البنية التحتية للمطارات العسكرية ومواقع تخزين الطائرات والمعدات الخاصة بها، ووفقًا للوزارة، تم تحقيق أهداف الضربة بنجاح.
وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت في وقت سابق من هذا الأسبوع عن تحقيق مكاسب أخرى في المنطقة، حيث تمكنت القوات الروسية يوم الأحد من السيطرة على بلدة أوريخوفو-فاسيليفكا في جمهورية دونيتسك الشعبية، وقالت الوزارة في بيانها: "نتيجة للعمليات الهجومية المستمرة، التي نفذتها وحدات من مجموعة قوات الجنوب، تم تحرير بلدة أوريخوفو-فاسيليفكا".
وتأتي هذه التطورات بعد إعلان الوزارة الجمعة الماضية عن السيطرة على مدينة توريتسك الاستراتيجية، وهو ما يمثل نجاحًا كبيرًا في إطار العمليات العسكرية الروسية في المنطقة