العميد يبرز صدام الفكر التنويرى مع الإسلام السياسى فى الخمسينيات وخطاب التنوير ضد الأيديولوجيا
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
كانت مصر والعديد من الدول العربية خمسينيات القرن الماضي، فى خضم تحولات كبرى مع صعود القومية العربية وتأسيس أنظمة سياسية وطنية، مع رغبة حثيثة فى التخلص من الإرث الاستعماري. ووسط هذه البيئة، برزت جماعة الإخوان المسلمين كقوة ذات تأثير كبير، متبنية خطابًا يروج لقيام نظام إسلامى يُعلى قيم الدين على أسس الدولة القومية.
ويتناول مقال طه حسين الجماعة بلهجة تنم عن تخوف من قدرتها على التأثير فى المشهدين السياسى والاجتماعي، وقد استخدم لغة تتسم بالحذر والتحذير، حيث استخدم عبارات تُبرز جوانب الخطر فى أفكار الإخوان المسلمين وطموحاتهم السياسية، مما يخلق حالة من التوجس لدى القارئ. هذا الأسلوب اللغوى يعمل على دفع المتلقى لتبنى موقف دفاعى تجاه الجماعة، وجعلها تبدو كعنصر يهدد استقرار النظام العام.
ويظهر فى المقال توظيف طه حسين لألفاظ تعبر عن الصراع أو المواجهة، مثل "تهديد"، "خطر"، "سيطرة"، و"استغلال"، وهذه الكلمات ليست محايدة بل تحمل شحنة عاطفية تجعل القارئ يشعر بأن الجماعة تشكل تهديدًا وجوديًا.
اعتمد طه حسين على ثنائية "الدولة" مقابل "الجماعة"، حيث وضع النظام القومى والدولة الحديثة فى مواجهة جماعة دينية تسعى إلى بناء نظام بديل. يعكس هذا بناءً خطابيًا يهدف إلى إقناع المتلقى بأن الدولة الوطنية هى الكيان المشروع، بينما تمثل الجماعة تهديدًا لهذا الكيان. هذا الأسلوب يندرج ضمن استراتيجية خطابية تهدف إلى التأكيد على مشروعية الدولة القومية وضرورة دعمها ضد الجماعة. كما يُظهر طه حسين جماعة الإخوان المسلمين كأيديولوجية تتناقض مع قيم الدولة المدنية ومفاهيم التحديث. يعمل هذا التأطير على وضع الجماعة ضمن إطار "المعارضة" الدائمة، التى تحمل أجندات لا تتوافق مع مصالح الشعب أو طموحاته نحو الاستقلال السياسى والاجتماعي.
استراتيجيات الإقناع والتأثير
يشكل المقال نصًا خطابيًا يستهدف إثارة مشاعر القلق والتخوف تجاه الجماعة، ويستدعى فى القارئ مشاعر الولاء للوطن فى مواجهة من ينظر إليهم كقوى تقسيمية أو رجعية. هذا الأسلوب يقوى ولاء القارئ للدولة ويزيد من قناعته بأن الجماعة تهدد أمن المجتمع واستقراره.
ويتبنى طه حسين استراتيجية تلميحية للمستقبل، حيث يستخدم عبارات تستشرف سيناريوهات سلبية محتملة إذا ما توسع نفوذ الجماعة. هذا الأسلوب يخدم هدف الخطاب بإيصال رسالة واضحة إلى المتلقى مفادها أن التساهل مع فكر الإخوان المسلمين قد يؤدى إلى كارثة.
السياق السياسى والأيديولوجى وأثره فى الخطاب
يعكس المقال أيضًا تأثير الفكر القومى الذى كان سائدًا فى الخمسينيات، حيث عُدَّت أى حركة تسعى لغير هدف الدولة القومية تهديدًا لبنية الدولة الناشئة. ويبدو أن الكاتب تبنى هذا المنظور القومى وعكسه بوضوح فى خطابه، باعتبار أن الدولة القومية هى الحامى الحقيقى لمصالح الشعب واستقراره.
كما يبرز المقال ضمن موجة من الخطابات التى ظهرت كرد فعل على تصاعد الإسلام السياسى كقوة منافسة، حيث يُظهر المقال أن الإخوان ليسوا مجرد حركة دينية بل كيان سياسى يسعى للسيطرة على الحياة العامة. يعكس هذا أن الكاتب لم يكن معزولًا عن النقاشات الجارية آنذاك حول دور الدين فى السياسة، واستخدم المقال كمنصة لرفض طموحات الإخوان السياسية.
أثر السياق الثقافى والاجتماعى على محتوى الخطاب
لا يكتمل تحليل المقال دون فهم السياق الثقافى والاجتماعي، إذ كان المجتمع المصرى وغيره من المجتمعات العربية يشهد توترًا بين تيارات الحداثة والتقاليد الدينية. من هنا، استخدم طه حسين خطابًا يُعلى من شأن القيم الوطنية القومية فى مواجهة جماعةٍ تُصور نفسها كحاملة لمشروع ديني. وكان هذا التحليل الخطابى يدعم بقوة فكرة أن جماعة الإخوان، بتطلعاتها الإسلامية السياسية، تمثل قوى مناهضة للتطور المجتمعى الحديث، وربما كانت تعكس توجهًا ثقافيًا عامًا يدعو للفصل بين الدين والسياسة.
وأخيرا يُظهر المقال أن الخطاب المستخدم ضد الإخوان المسلمين فى الخمسينيات لم يكن مجرد نقد لحركة سياسية، بل تجسيدًا لصراع أكبر حول شكل الدولة والمجتمع. وقد صيغ هذا الخطاب بأسلوب يستند إلى التحذير والترهيب، حيث رسم صورة تهديدية للجماعة بوصفها كيانًا مناهضًا للمشروع القومى الحداثي. يعكس تحليل الخطاب هذا الحاجة إلى حماية المجتمع من القوى التى يمكن أن تستغل الدين لأهداف سياسية، وهو خطاب كان له تأثير واسع فى تشكيل المواقف الشعبية والرسمية تجاه الحركات الإسلامية فى ذلك العصر.
ولنقرأ معا مقال عميد الأدب العربى وتحذيره لنا من جماعة الإخوان التى تعد نبتا شيطانيا فى الجسد المصري.
المقال يحمل شحنة فكرية وعاطفية تجعل القارئ يشعر بأن الجماعة تشكل تهديدًا وجوديًا
تفكيك الخطاب الإخوانى وإقناع المتلقى بأن الدولة الوطنية هى الكيان المشروع بينما تمثل الجماعة تهديدًا لهذا الكيان
رخص الحياة بقلم: د. طه حسين
لم تهن حياة الناس على الناس كما تهون عليهم فى هذه الأيام، فقديمًا عرف الناس الحرب وأجروا دماءهم غزارًا فى سبيل الحق حينًا، وفى سبيل الباطل أحيانًا، وقديمًا عرف الناس المكر والكيد كما عرفوا البغى والعدوان، وقتل بعضهم بعضًا جهرًا مرة وغيلة مرارًا، ولكنهم كانوا يقدمون على ما كانوا يقدمون عليه من ذلك فى كثير من التحرج قبل أن يقدموا، وفى كثير من الندم والروع بعد أن يتموا ما أقدموا عليه. كانت الحياة الإنسانية شيئًا له خطره فقدستها الديانات، وعرفت حرمتها القوانين، ورعتها الأخلاق، وعظم أمرها المعتدون عليهم أنفسهم، فكانوا يرون أنهم حين يجترئون عليها، إنما يقترفون إثمًا عظيمًا.. لأنه من الآثام التى لا سبيل إلى تداركها.
فقد أتيح للإنسان أن يصلح كثيرًا من خطئه ويتدارك كثيرًا من ذنوبه ويمحو بالإحسان آثار الإساءة، ولكن شيئًا واحدًا لم يتح له وهو أن يرد الحياة إلى من حرم الحياة، فكان القتل خطأ أو عمدًا من الشر العظيم الذى يروع الإنسان ويملأ قلبه ذعرًا وندمًا وروعًا وإنكارًا.
وكان الناس يتحدثون عن المجرمين الذين يستبيحون القتل ولا يحسون عليه بعد اقترافه ندمًا، ولا يحسون منه قبل اقترافه رهبة أو خوفًا. كانوا يرونهم شذاذًا قد أفلتوا من قوانين الطبيعة الإنسانية التى تكبر الحياة الإنسانية، وتعظم الاعتداء عليها عن عمد أو خطأ، وربما دفع بعض الناس إلى شيء من الإمعان فى إكبار الحياة حتى تجاوزوا بها حياة الإنسان إلى حياة الحيوان نفسه، يرون أن الحياة جذوة مقدسة، ولا يجرؤ على إطفائها إلا الذين برئوا من شعور الرفق والرحمة والبر والحنان، فحرموا على أنفسهم أشياء استباحها غيرهم من الناس، يحرمون ذلك على أنفسهم دهرهم كله أو يحرمون ذلك على أنفسهم وقتًا معلومًا بين حين وحين.
ولأمر ما أمعن أبو العلاء فيما أمعن من الزهد حتى أنفق أكثر حياته لا يطعم إلا ما تنبت الأرض. ولأمر ما رأى قتل الحيوان جبنًا، ورأى فيه دليلًا على ضعة النفس التى تدفع إلى الاستعلاء على الضعيف، والبغى على ما لا يملك أن يدفع عن نفسه البغى والعدوان. وقد تحدث الذين ترجموا له أنه مرض مَرةً، وألح عليه المرض حتى اضطره إلى ضعف شديد، فوصف الطبيب له أكل الدجاج وامتنع هو على الطبيب، وعلى الذين كانوا يمرضونه. فلما اشتد عليه إلحاحهم أذعن لما أريد عليه، وقدمت إليه دجاجة فلم يكد يمسها حتى أخذته رعدة شديدة، فانصرف عنها وهو يقول لها:
استضعفوك فوصفوك *** هلا وصفوا شبل الأسد
يريد أن الدجاجة لا تستطيع أن تمتنع على من يريدها، فالناس يطعمون فيها ويصفونها للمرضى على حين يمنع الأسد شبله، فلا يطمع فيه طامع ولا يصفه طبيب لمريض.
فأبو العلاء يُحرج على نفسه، ويريد أن يحرج على غيره أكل الحيوان وما يخرجه الحيوان، حتى الشهد الذى تخرجه النحل، يرى ذلك ظلمًا وبغيًا، ويخالف بذلك ما أباحت الديانات السماوية للناس من هذا كله.
وتقديس الحياة الإنسانية هو الذى دعا الإنسان إلى إكبار الموت وما بعد الموت، وهو الذى دعا الناس إلى إعظام حرمة الجنائز مهما تكن. وقد روى أن جنازة مرت بالنبى صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه، فقام لها وقام أصحابه لقيامه ثم قيل له إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسًا.
وتقديس الحياة كذلك هو الذى دفع إلى ما شاع فى هذا العصر الحديث من إنكار عقوبة الإعدام مهما تكن جريمة من يقضى عليه بهذه العقوبة. ويرى أصحاب هذا الرأى أن الحياة أعظم خطرًا وأكبر حرمة من أن يستبيح الإنسان لنفسه سلبها، ويرون أن الحياة شيء لا يستطيع الإنسان أن يمنحه فلا ينبغى له أن يسلبه.. وإنما يسلب الحياة من منح الحياة.
وكذلك أمعن الناس فى تقديس الحياة وفى إنكار البطش بها والاعتداء عليها. وما زال أمر الله قائمًا بتحريم الحياة إلا بحقها وما زالت القوانين تحرم الاعتداء على الحياة وتعاقب عليه أشد العقوبات وأصرمها، ولكن الدين والقوانين شيء وما دفع الناس إليه فى حياتهم الحديثة شيء آخر. وليس من شك فى أن الناس لم يعرفوا قط عصرًا هانت فيه حياة الناس كهذا العصر الذى نعيش فيه.
تخالف الدول عن أمر الدين والقوانين، فتقدم على الحرب المنكرة التى لا تعرف لحياة الأفراد والجماعات حرمة، ولا ترجو للدين ولا القوانين ولا للأخلاق وقارًا، ولا تفرق بين الجند المسلحين والمشاركين فيها والعزل الوادعين الذين لا يريدون حربًا ولا قتالًا، ولا يتمنون إلا أن يعيشوا فى دعة وسعة، يحتملون أعباء الحياة ما خف منها وما ثقل، لا يؤذون أحدًا، ولا يحبون أن يريدهم أحد بالأذى. وإغراق الحرب الحديثة فى الإثم واستهانتها بالحياة واستخفافها بالمقدسات كلها وإشاعتها للموت وللهول بغير حساب، كل ذلك أهدر قيمة الحياة أثناء الحرب وأهدر قيمة الحياة أثناء السلم أيضًا.
وقد قرأت فى إحدى الصحف الفرنسية التى وصلت إلى من باريس فى هذه الأيام الأخيرة أن الفرنسيين قتلوا من أهل الجزائر سنة ١٩٤٥ بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها عددًا ضخمًا يبلغ المقللون له خمسة عشر ألفًا، ويبلغ المكثرون له أربعين ألفًا.
والله يعلم كم يقتل الفرنسيون من الجزائريين فى ثورتهم هذه القائمة، وكم قتلوا من التونسيين والمراكشيين، وكم يقتلون منهم أثناء هذا الصراع المتصل بين قوم يريدون أن يعيشوا كرامًا وآخرين يريدون أن يستذلوهم ويتخذوهم رقيقًا، بعد أن ألغت الحضارة الحديثة الرق فيما يقول أصحابها، وضحايا الاستعمار فى الهند الصينية من المستعمرين المناهضين لهم لا يحصون بعشرات الألوف، وإنما يحصون بمئاتها، ومن يدرى كم كان عدد الذين ضحى بهم الاستعمار الإنجليزى فى شرق الأرض وغربها منذ انقضت الحرب العالمية الثانية إلى الآن؟
وكنت أفكر فى هذا كله منذ وقت طويل، وأحمد الله الذى لا يحمد على المكروه سواه، وأقول لنفسى ولكثير من الناس، إننا ما زلنا فى عافية مما يمتحن به غيرنا من رخص الحياة الإنسانية، وغلاء المال والمنافع والمطامع على حقارتها.
مصر لا تحب العنف
ونحن نصبح ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول، وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أٌقطار الأرض.
وإذا كل واحد منا كان آمنًا أمن الغفلة الغافلة يظن أنه لن يتعرض إلا لما يتعرض له الناس الآمنون من هذه الآفات التى لا يسلطها الإنسان على الإنسان، وإنما تسلطها الطبيعة على الحياة. إنا كنا غافلين حقًا خدعنا ما عرفناه عن وطننا هذا الوادع الهادئ الكريم الذى لا يحب العنف ولا يألفه، ولا يحب أن يبلغ أرضه، فضلًا عن أن يستقر فيها.
ولم لا؟ ألم نشهد منذ عامين اثنين ثورة يشبها الجيش وفى يده من وسائل البأس والبطش ما يغرى بإزهاق النفوس وسفك الدماء، ولكنه يملك نفسه ويملك يده فلا يزهق نفسًا ولا يسفك دما ولا يأتى من الشدة إلا ما يمكن تداركه، ولا يجرح إلا وهو قادر على أن يأسو، ولا يعنف إلا وهو قادر على أن يرفق، وإذا ثورتنا فذة بين الثورات لا تأتى من الأمر ما لا سبيل إلى إصلاحه غدًا أو بعد غد.
كل هذا لأن مصر لا تحب العنف ولا تألفه، ولأن نفوس أهلها نقية نقاء جوها، صافية صفاء سمائها، مشرقة إشراق شمسها، تسعى فى طريقها مطمئنة كما يسعى نيلها مطمئنًا ناشرًا للخصب والنعيم من حوله. تضطرب فيها الضغائن والأحقاد بين حين وحين، ولكنها لا تلبث أن تثوب إلى العافية كما تثور فيها الرياح فتملأ الجو غبارًا ثم لا تلبث أن تعود إلى الهدوء الهادئ المطمئن.
كذلك عرفنا مصر فى عصورها المختلفة، وكذلك رأيناها حين ثار جيشها منذ عامين فأخرج الطاغية، ولكنه أخرجه موفورًا يحيا كما يجب أن يحيا مكفوف الأذى عن مصر، لم يؤذ فى نفسه قليلًا ولا كثيرًا.
واشتد على بعض أبنائها شدة يمكن أن يتداركها باللين فى يوم من أيام الصفو هذه التى تعرف كيف تملأ قلوب المصريين حبًا ودعة وأمنًا وسلامًا، ولكننا نصبح ذات يوم فنستكشف أن فريقًا منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لإخوانهم فى الوطن ولإخوانهم فى الدين ولإخوانهم فى الحياة التى يقدسها الدين كما لا يقدس شيئًا آخر غير من أمور الناس.
ما هذه الأسلحة، وما هذه الذخيرة التى تدخر فى بيوت الأحياء وفى قبور الموتى؟ ما هذا المكر الذى يمكن، وما هذه الخطط التى تدبر، وما هذا الكيد الذى يكاد؟ لم كل هذا الشر، لم كل هذا النكر، ولم رخصت حياة المصريين على المصريين، كما رخصت حياة الجزائريين والمراكشيين والتونسيين على الفرنسيين، وكما رخصت حياة الإفريقيين والآسيويين على الإنجليز؟
يقال إن حياة المصريين إنما رخصت على المصريين بأمر الإسلام الذى لم يحرم شيئًا كما حرم القتل، ولم يأمر بشيء كما أمر بالتعاون على البر والتقوى، ولم ينه عن شيء كما نهى عن التعاون على الإثم والعدوان، ولم يرغب فى شيء كما رغب العدل والإحسان والبر، ولم ينفر من شيء كما نفر من الفحشاء والمنكر والبغي.
هيهات إن الإسلام لا يأمر بادخار الموت للمسلمين، وإنما يعصم دماء المسلمين، متى شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ويرى قتل النفس البريئة من أكبر الإثم وأبشع الجرم، وإنما هى العدوى النكرة جاء بعضها من أعماق التاريخ وأقبل بعضها الآخر من جهات الأرض الأربع التى تستحل فيها المحارم وتسفك فيها الماء بغير الحق، ويستحب فيها الموت لأيسر الأمر.
جاء بعضها من أعماق التاريخ. من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، والذين كان أيسر شيء عليهم أن يستبيحوا دماء المسلمين مهما تكن منازلهم فى الإسلام، وأن يتحرجوا فيما عدا ذلك تحرج الحمقى لا تحرج الذين يتدبرون ويتفكرون ويعرفون ما يأتون وما يدعون!! وجاءهم بعضها الآخر من هذا الشر المحيط الذى ملأ الأرض ظلمًا وفسادًا. من هذا القتل المتصل فى الحروب يثيرها بعض الأقوياء على بعض، وفى البطش يصبه الأقوياء على الضعفاء فى البلاد المستعمرة التى يريد أهلها الحرية ويأبى المتسلطون عليها إلا الخضوع والإذعان والسمع والطاعة يفرضون ذلك عليها بالحديد والنار.
ليس من الإسلام ولا من طبيعة المصريين
وأنباء هذا الشر المحيط تملأ الجو من طريق الراديو، وتملأ القلوب والعقول من طريق الصحف، وتثير فى نفوس الأخيار حزنًا ولوعة، وفى نفوس غيرهم ميلًا إلى الشر ورغبة فيه وتهالكًا عليه.
ولم يأت هذا الشر الذى تشقى به مصر الآن من طبيعة المصريين لأنها فى نفسها خيرة، ولا من طبيعة الإسلام لأنه أسمح وأطهر من ذلك، وإنما جاء من هذه العدوى.
والخير كل الخير هو أن نطب لهذا الوباء كما نطب لغيره من الأوبئة التى تجتاح الشعوب بين حين وحين. وقد تعلم الناس كيف يطبون للأوبئة التى تجتاح الأجسام وتدفعها إلى الموت دفعا، فمتى يتعلمون الطب لهذا الوباء الذى يجتاح النفوس والقلوب والعقول فيغريها بالشر ويدفعها إلى نشره وإذاعته ويملأ الأرض بها فسادا وجورا؟
بهذا يأمر الله عز وجل فى القرآن العزيز حين يقول فى الآية الكريمة: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الإخوان المسلمين الادب العربي الإسلام السياسي الدكتور طه حسين الدولة القومية القومية العربية المقدسات جماعة الإخوان المسلمين الإخوان المسلمین الحیاة الإنسانیة الدولة القومیة جماعة الإخوان حیاة الإنسان هذا الأسلوب هذا الشر جماعة ت شیء کما طه حسین تهدید ا على أن
إقرأ أيضاً:
50 مليار دولار تُسرق من أجور العاملين في أمريكا سنويا (الحلقة الثالثة)
على ما يبدو، فإن الواقع الاقتصادى الأمريكى على الأرض قد صار أكثر سواداً مما نظن.
هذا هو الانطباع الذى يخرج به من يقرأ كتاباً أمريكياً جديداً «ضرب» الأسواق فى الشهر الماضى، محطّماً خيالات وردية بناها كثيرون حول الرفاهية الأمريكية.
هؤلاء الذين يرون أن الطريقة التى يُدار بها الاقتصاد الأمريكى هى النموذج أو المثال الأعلى الذى ينبغى أن يسير عليه كل اقتصاد يسعى للنجاح. حمل الكتاب عنوان: «ادفعوا للناس!»، وأعلن دفاعه المستميت عن قضايا مثل الأجور العادلة، ورفع الحد الأدنى للأجور، وقبلهما زيادة الضرائب على الأثرياء وإصلاح السياسات الاقتصادية التى يتبنّاها صنّاع التشريعات الأمريكية فى الكونجرس، والتى تصب فى نهاية المطاف فى صالح الفئات الأكثر ثراءً فى الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يأتِ هذا الكلام، كما اعتدنا أن نرى، من أشخاص فشلوا فى الاستفادة من النموذج الاقتصادى الأمريكى.. من مجموعة مهمّشة وغاضبة تشعر بأن «قطار» الرفاهية قد فاتها وصارت عاجزة حتى عن التمرّغ فى ترابه! تلك الأصوات التى تعلو عادة للهجوم على الأثرياء ثم تصمت بمجرد أن تُباع كتبها وتحقّق أرباحاً كافية لانضمامها إلى هؤلاء الأثرياء! لقد جاء الكتاب من قمة الرفاهية الأمريكية، بأقلام المليونيرات والمليارديرات الذين وُلدوا فى قلب الرأسمالية الأمريكية، وصعدوا بجهودهم ومهاراتهم المالية حتى وصلوا إلى رأسها. ثم عرفوا، بالتجربة المباشرة، كيف يُدار هذا الرأس.. وكيف يدور. وما الذى يساعده على التوازن.. وما الذى يؤدى به إلى الجنون والخلل؟
كلماتهم مسموعة لأنها كلمات «شهود» يرون الواقع بأعينهم ويحتكون به فى تعاملاتهم، لأنهم رجال «أعمال» يراهنون فعلياً بأموالهم على رؤيتهم لهذا الواقع.
ليسوا حالمين.. ولا ناقمين. ليسوا «غرباء» يرون الواقع الأمريكى على شاشات التواصل والتلفزة، ولا «جهلاء» يدّعون فهمهم لما لا يعرفون أمام متابعيهم الأكثر جهلاً!
هم هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم اسم «المليونيرات الوطنيين»، وهى المجموعة التى تكوّنت فى الولايات المتحدة منذ عام ٢٠١٠ حتى وصل عدد أعضائها حالياً إلى ما يقرب من ألف مليونير أمريكى.
يترأسهم أحد مؤلفي الكتاب، المليونير الأمريكي «موريس بيرل»، الذى شغل من قبل منصب المدير العام لمؤسسة «بلاك روك»، أكبر شركة لإدارة الأصول فى العالم، وشاركه فى تأليف الكتاب مليونير آخر هو «جون دريسكول»، الذى كان يترأس شركة كبرى للرعاية الصحية فى الولايات المتحدة، وله فيها تجربة رائدة، ضاعف فيها حجمها أربع مرات فى عشر سنوات، دون أن يخل بسياسات الأجور العادلة، التى يطالب بها «المليونيرات الوطنيون» بأفعالهم قبل أقوالهم.
ثلاثة أرباع الأمريكان سيختبرون الحياة تحت خط الفقر لمدة عام على الأقل.. والانهيار المالى يمكن أن يتعرّض له أى شخص الآنتلك المجموعة من «المليونيرات الوطنيين» صاغ أصحابها شعاراً يقول إن «بلادهم أهم من أموالهم»، وإن ترك السياسات الاقتصادية على ما هى عليه حالياً فى الولايات المتحدة هو أمر لا يستفيد منه سوى الأكثر ثراءً، لكى يزدادوا ثراءً، بينما يتركون الفقراء ليزدادوا فقراً، وتنهار الطبقة الوسطى الأمريكية بما يُهدّد انهيار البناء الاقتصادى كله من القلب إلى القمة.
هى الفكرة التى يوضّحها كتاب «ادفعوا للناس» الأمريكى، قائلاً: «إنه لم يعد هناك مجال الآن لإنكار أن التركيبة الحالية للاقتصاد الأمريكى لا تخدم سوى مجموعة صغيرة من الأشخاص الذى يتربّعون على القمة، بينما تترك مجموعات كبيرة من الأفراد يصارعون فقط من أجل البقاء.
هناك ملايين الأمريكان الذى يعملون فى وظائف بدوام كامل وما زالوا عاجزين عن الوفاء بالاحتياجات الأساسية لأنفسهم وأسرهم. إن الحد الأدنى للأجور الذى تحدّده اللوائح الفيدرالية الأمريكية لا يكفى لذلك، وبسببه لم يهبط خط الفقر إلى الحد الأدنى له، ليصبح فى الأرض، وإنما صار تحت الأرض!».
ويتابع: «صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية هى أغنى دولة فى العالم حالياً، إلا أن فيها أيضاً انتشاراً كبيراً للفقر المدقع مقارنة بباقى بلدان العالم المتقدم والحديث. ربما كان هذا أمراً سيئاً كما هو واضح بالنسبة لملايين الأشخاص الذين يعيشون فى هذا الفقر المدقع، إلا أن الواقع أننا جميعاً ندفع الثمن. مثل تلك الأرضية المنخفضة والهشّة التى يستند إليها المجتمع تعنى أن الأشخاص العالقين فى المنتصف، مشكلين الطبقة الوسطى الأمريكية، ومعهم حتى بعض الأشخاص على قمة المجتمع، يعيشون كلهم فى وضع من عدم الاستقرار».
الأسر الأمريكية التى تنتمى إلى الطبقة الوسطى «المستريحة» حالياً لا تفصلها سوى أزمة واحدة عن الانهيار المالى التام.. وأفرادها يعانون من قلق مكتوم ومستمرأكثر من ٤٫٥ مليون عامل أمريكى يتعرّضون لسرقة أجورهم على يد صاحب العمل
و٣٠٠ ألف موظف يقعون تحت خط الفقر سنوياً بسببها مواطن أمريكى يحمل لافتة «احموا الطبقة الوسطى» التى تحيا فى قلق مستمر
كثير من الموظفين لا يعرفون أنهم يتعرّضون للاستغلال والسرقة والجرائم تتم على يد الفئات الأكثر قوة ضد الفئات الأكثر ضعفاًهذه الحالة من عدم استقرار الطبقة الوسطى بسبب تزايد نسبة الفقراء الذين هبطوا كثيراً تحت خط الفقر إلى «ما تحت الأرض»، على حد وصف الكتاب الأمريكى، يرصدها الكتاب قائلاً: «إنه حتى الأسر التى تنتمى إلى الطبقة الوسطى «المستريحة» حالياً، لا تفصلها عادة سوى أزمة واحدة عن الانهيار المالى التام. أزمة واحدة تمر بها تلك الأسرة تكفى لنقلها إلى حالة من الانهيار الاقتصادى، والأصعب أن أفرادها يدركون ذلك الأمر جيداً.
هناك ملايين الموظفين والعاملين الذين يعيشون فى حالة من القلق المتواصل الذى يكتمونه فى أنفسهم ولا يسيطرون عليه إلا بالكاد. يحاولون أن يعيشوا حياة هادئة رغم المخاوف التى تغلى تحت السطح، مثلهم كمن يقف على حافة هاوية يمكن أن يسقط فيها فى أى لحظة».
ويتابع: «هذه الوضعية من الأمان الهشّ صارت واقعاً ملموساً ومحسوساً بشكل يفوق ما قد يتصوره البعض». يقول «مارك رانك»، الأستاذ المتخصّص فى مجال الرعاية الاجتماعية فى جامعة «واشنطن»، وأحد كبار الخبراء الأمريكان المتخصّصين فى مجال الفقر، فى مقابلة عام ٢٠٢٣ مع مجلة «نيوزويك» الأمريكية: «إن ما يقرب من ثلاثة أرباع الأمريكان سوف يختبرون الحياة تحت خط الفقر لمدة عام واحد على الأقل».
ربما كان من المريح بالنسبة للبعض أن يتصوروا أن فقراء أمريكا قد صاروا إلى هذا الحال بسبب خطأ ما فيهم. لكن الواقع أن الفقر أصبح أمراً يمكن أن يتعرّض له أى أحد.
الخوف من الفقر فى السنوات الأخيرة فى أمريكا جعل الكل يعيش على الحافة.. كل شخص أصبح أسوأ قليلاً مما كان عليه وأقل قدرة على إظهار التقدير للآخرينيرى الكتاب الأمريكى أنه عندما يحوم شبح الفقر أمام الأعين بهذا الشكل، فإن هذا الأمر يُمثل بالنسبة لصاحبه عبئاً نفسياً هائلاً. لقد صار الخوف من الوقوع تحت خط الفقر يمثل قلقاً مزمناً مكتوماً ومكبوتاً لملايين العاملين الذين يشعرون بأنهم صاروا أقرب إلى الوقوع فى هاوية الفقر بشكل أسرع مما كانوا يتخيلون.
الأمر الذى يؤثر على إنتاجيتهم فى العمل، وعلى قدرتهم على أن يكونوا أفراداً مساهمين فى مجتمعهم، أو آباءً جيدين فى بيوتهم، أو حتى مواطنين صالحين فى وطنهم. يقول الكتاب: «لقد أصبح الكل وكأنه يعيش على الحافة، وأن مجتمعنا قد بدأ يتفكك نتيجة لذلك. فى السنوات الأخيرة، يبدو الأمر وكأن كل شخص قد أصبح أسوأ قليلاً مما كان عليه من قبل، وأقل قدرة على إظهار التقدير للآخرين، وربما كان الحال كذلك فعلاً.
خاصة عندما يتعلق الأمر بالعاملين الذين لا يتلقون سوى الحد الأدنى للأجور، ويتهاوى كثير منهم عاجزين عن اللحاق بالتسارع المتزايد لتكاليف المعيشة.
بعضهم تحقّقت أسوأ كوابيسه بالفعل، والبعض الآخر رأى أن تلك الكوابيس تزداد سوءاً.
الأمر الذى يضع بصمته بوضوح على كل التعاملات الاجتماعية، ويجعل الناس ينفجرون فى وجه بعضهم لأدنى سبب، من أبسط المواقف فى الحياة اليومية إلى أكثرها تعقيداً».
من أجل ذلك، شعر «المليونيرات الوطنيون» الذين قاموا بتأليف الكتاب، أن الوضع الآن قد أصبح أكثر هشاشة وخطراً عن أى وقت مضى.
وبالتالى أصبح من الضرورى عليهم أن يواصلوا الضغط لتحقيق هدف كتابهم: «ادفعوا للناس»، من خلال إقرار قانون يزيد من الحد الأدنى للأجور فى أمريكا، ويضمن وصول أجور عادلة للعاملين.
يقول الكتاب الأمريكى: «لا يمكننا أن نضمن نجاح كل الناس فى أمريكا طوال حياتهم. لكن ما يمكننا أن نسعى لفعله، هو رفع الأرضية المالية، التى يمثلها الحد الأدنى للأجور، بحيث يشعر كل من يقف عليها بأنه يضع قدمه على قاعدة أكثر صلابة. زيادة أجور العاملين وتقويتها سوف تساعد حتماً من هم فى أسفل المجتمع، لكنها سوف تُقلل أيضاً من التوترات التى يعانيها من يقعون فى الطبقات الوسطى والعليا».
وهو كلام يبدو منطقياً، لكنه لا يحظى كما هو واضح بإجماع ولا بتأييد كثيرين ممن يريدون بقاء الوضع الاقتصادى فى أمريكا على ما هو عليه. ربما كان «المليونيرات الوطنيون» يملكون ضميراً يقظاً وحساً مجتمعياً راقياً، إلا أن مطالباتهم برفع الحد الأدنى للأجور تواجه معارضة من مليونيرات آخرين غيرهم، ومن أصحاب أعمال لا يرون فى منح أجور عادلة لموظفيهم أكثر من تكلفة زائدة على الورق، حتى إن كانت تعنى حياة وأماناً أفضل للجميع على الأرض.
يقول الكتاب الأمريكى: «إنه فى كل مرة يظهر فيها من يطالب برفع الحد الأدنى القانونى لأجور العاملين فى أمريكا، يجد فى وجهه فوراً مجموعة جاهزة من أصحاب المليارات، والمديرين التنفيذيين ورؤساء الشركات و«الخبراء» الماليين الذين يؤكدون أن زيادة أجور العاملين سوف تؤدى إلى انهيار الأعمال وتسريح العاملين والإضرار بالاقتصاد. ربما كان بعضهم يعتقد ذلك حقاً، لكن الأرجح أن كثيراً منهم لا يعنيه أمر الاقتصاد، وليس لديه أدنى اهتمام بحماية أصحاب الوظائف والمهن الصغيرة. هم يريدون حماية نماذج أعمال غير ناجحة وتكديس مزيد من الأرباح على المدى القصير، إذ إن هؤلاء المليارديرات يعتقدون أن دفع مزيد من المال للعاملين سوف يؤدى مباشرة إلى حصولهم على مكاسب أقل. وبالتالى فإن معركة أصحاب الأعمال الكبار ضد رفع الحد الأدنى للأجور لا يحركها ببساطة سوى الجشع».
لا ينكر الكتاب الأمريكى واقع أن أى رجل أعمال تحرّكه المصلحة، وأن قراراته يحكمها منطق الربح والخسارة. لكنه يواصل القول: «إن هذا الموقف القائم على دفع أجور زهيدة للموظفين هو موقف قصير النظر، بل إنه سيُؤدى فى النهاية لأن يصبح أصحاب الأعمال أكثر فقراً، وأن يصبح الاقتصاد أكثر ضعفاً. إن إدارة عمل يُدر أرباحاً على صاحبه لا ينبغى أن تتعارض مع حق العاملين فيه فى الحصول على أجور تتناسب مع جهودهم».
ويواصل: «بل إن أى عمل لا يمكنه الاستمرار فى الوجود إلا بدفع أجور هزيلة، تقل حتى عن الحد الأدنى القانونى للأجور لمن يعملون به، هو على الأرجح عمل لا يستحق الاستمرار ولا البقاء. وإذا لم يكن صاحب العمل قادراً على إدارته بشكل يكفل الكرامة المالية لموظفيه، فربما لا يصلح هذا الشخص لإدارة الأعمال من الأساس، ولا يوجد عمل حقاً غير مشروط فى البقاء تحت أى ظرف».
لكن الأمر المفزع، كما يكشف الكتاب، أن بعض أصحاب الأعمال فى أمريكا انتقلوا من مرحلة استغلال موظفيهم، إلى مرحلة السرقة الصريحة لأجورهم وإهدار حقوقهم، دون أى مساءلة أو مسئولية قانونية عليهم.
هى سرقة صارت تمثل جزءاً من نموذج الاقتصاد الأمريكى. لها أساليب وحيل ووسائل للتحايل على القوانين كأى سرقة أخرى. تكتب عنها التقارير الإخبارية، وتفتح التحقيقات التليفزيونية ملفاتها، لكن دون أن تجد أجهزة تطبيق القانون فى أمريكا حلولاً كثيرة لوقفها.
والأدهى أنها أصبحت أمراً «عادياً»، يتعامل معه الموظفون على أنه جزء من طبيعة العمل لا يمكن القيام بشىء تجاهه، وأمراً «معدياً»، ينتقل كمرض خبيث إلى باقى الأعمال التى تتّخذ من النظام الاقتصادى والمالى الأمريكى نموذجاً لها.
ما دام أصحاب هذه السرقات يقومون بها دون عقاب أو رادع، فما الذى يمنعهم من الاستمرار؟ وما الذى يمنع الآخرين من السير على خطاهم؟
يقول الكتاب الأمريكى: «فى كل عام فى الولايات المتحدة، يسرق أصحاب الأعمال نحو ٥٠ مليار دولار من أجور موظفيهم. هذا الرقم يزيد بثلاثة أضعاف عن قيمة سرقات المحلات السنوية التى تقدّر بـ١٤٫٧ مليار دولار، ويزيد بمقدار الضعف عن قيمة كل عمليات السطو وسرقة السيارات والسرقة العادية مجتمعة».
أكثر من ٤٫٥ مليون عامل أمريكى يتعرّضون لسرقة أجورهم على يد صاحب العمل و٣٠٠ ألف موظف يقعون تحت خط الفقر سنوياً بسببهاسرقة أصحاب الأعمال من أجور موظفيهم هى «سرقة خبيثة وصامتة» كما يصفها الكتاب، قائلاً إنه: «من السهل ألا يلاحظها الناس، لكن هناك آلاف الحالات التى تحدث منها يومياً بشكل يجعلها أوسع السرقات انتشاراً فى أمريكا. يقع ما يقرب من ٤٫٥ مليون موظف وعامل سنوياً ضحية لها، ويسقط ٣٠٠ ألف منهم تحت خط الفقر بسببها».
ويواصل: «معظم ضحايا سرقات الأجور من العاملين فى مهن بسيطة تمنح أجوراً قليلة، وهى الفئة التى لا تقدر على تحمل المزيد من ضياع الأجور، ولا تقدر فى الوقت نفسه على أن تواجه سخط أصحاب الأعمال لو طالبت بحقوقها».
لكن كيف يقوم أصحاب الأعمال بهذه السرقة؟ يقول الكتاب: هناك أساليب واضحة أو مكشوفة، كأن يمتنع مقاول عن دفع أجور عاملين لديه فى مشروع بناء، لأنهم من العمال المهاجرين الذين لن تكون لديهم الجرأة لرفع شكاوى لجهات العمل المختصة.
لكن الغالب، أن يكلف صاحب العمل موظفيه مثلاً بالعمل ساعات إضافية دون مقابل، رغم أن القانون يُلزمه بدفع أجر إضافى لهم فى هذه الحالة، أو أن يأخذ صاحب مطعم ما لنفسه نصف الإكراميات التى يمنحها الزبائن للعاملين، رغم أن ذلك ليس من حقه.
أو أن تكون هناك أساليب أكثر خبثاً، وإن كانت لا تقل ضرراً لسرقة جهد العاملين، كأن يخصم صاحب العمل من أجورهم بسبب تقصير ما أو خطأ فى العمل بشكل غير متناسب مع هذا الخطأ، أو أن يرفض منحهم ساعات للراحة أو لتناول الطعام ويجبرهم على العمل المتواصل فى تلك الساعات التى هى من حقهم قانوناً.
من الممكن أيضاً أن يعمل صاحب العمل على تسجيل العاملين لديه على أنهم أفراد يعملون معه بتعاقدات حرة كى لا يحصلوا حتى على الحد الأدنى للأجور.
ويتابع: «هذه الحيلة الأخيرة تظهر بوضوح مثلاً فى حالات عمال التوصيل. لو كان العامل موظفاً مسجّلاً فى دفاتر العمل فإن من حقه الحصول على الحد الأدنى للأجور، أما لو كان مصنّفاً فيها على أنه متعاقد حر، فيمكن لصاحب العمل أن يحاسبه وفق عدد المرات التى يقوم فيها بتوصيل الطلبيات، ولو مرت أيام كاملة لا توجد فيها طلبات للتوصيل، فلن ينال عامل التوصيل أى أجر».
حالة أخرى تظهر فى المطاعم، وهى من الأعمال التى يعمل فيها الكثير من الفئات الضعيفة التى لا تحظى بحماية قانونية كافية، فلا يتردد بعض أصحابها فى الاستيلاء على نصف الإكراميات التى يتركها الزبائن للعاملين، على نحو غير قانونى. وفى تحقيق صادم لوزارة العمل الأمريكى، وجد المحققون أن ٨٤٪ من أصحاب المطاعم ارتكبوا فى وقت ما نوعاً من سرقة الأجور من العاملين لديهم.
ويواصل: «على أن الصورة الأكثر انتشاراً لسرقة الأجور هى أن ينتظر أصحاب العمل من موظفيهم أن يعملوا ساعات إضافية فوق ساعات العمل الرسمية دون أن يتلقوا أجراً إضافياً على ذلك. تصل ساعات العمل الرسمية وفقاً للقانون الأمريكى إلى ٤٠ ساعة أسبوعياً، ولو عمل الموظف ساعة إضافية، يبدأ أجره الإضافى فى التزايد بنسبة ١٥٠٪ من أجره المعتاد على قدر زيادة هذه الساعات الإضافية. كان هذا هو العرف السائد فى ما مضى، إلا أن الشركات بدأت تتحايل على هذا النظام، واليوم أصبح هناك ما يزيد على ١٨ مليون موظف وعامل فى أمريكا يعملون أكثر من ٥٠ ساعة أسبوعياً، ولا يحصل كثير منهم على أى أجر إضافى لساعات عملهم الإضافية».
إن السبب الحقيقى لتعقد وتشابك مشكلة سرقة الأجور كما يقول الكتاب الأمريكى، هى «أن كثيراً من الموظفين والعاملين لا يعرفون أنهم يتعرّضون للاستغلال من صاحب العمل الذى لا يدفع لهم أجراً إضافياً مع زيادة ساعات عملهم. ربما يعتقد أحدهم أن وقف صاحب العمل لراتبه بسبب خطأ بسيط ارتكبه فى العمل هو أمر غير عادل، لكنه لا يعرف أنه أيضاً أمر غير قانونى. ولا يعرف عامل محل البقالة الذى يجبره صاحبه على العمل خلال ساعات الغذاء أن من حقه الحصول على هذه الساعة من الراحة أو تعويض مادى مقابلها. لا يملك غالبية الموظفين الوعى الكافى الذى يمكنهم من التفرقة بين أن يكون صاحب العمل متطلباً وضاغطاً بزيادة أعباء العمل عليهم، أو أن يكون قد تجاوز الحد نحو السرقة غير القانونية لأجورهم».
ويتابع الكتاب: «حتى لو أدرك العاملون أنهم يتعرّضون لسرقة أجورهم، لا يوجد أمامهم مجال كبير للمناورة ولا للمواجهة. فى أى مكان عمل، فإن وقوف أحدهم فى وجه المدير أو الشركة يمكن أن يؤدى به إلى الفصل. صحيح أن هذا ضد قانون العمل، إلا أنه ليس من الصعب تخيل صاحب عمل يتحايل على القانون لسرقة أجور موظفيه، ثم يجد فى نفسه حرجاً من فصلهم لو أنهم تجرأوا على تقديم شكوى ضده».
ويواصل: «تلك هى الأزمة الحقيقية: أنه كلما كان العامل أو الموظف فى وضع هش (كالمهاجرين وأصحاب المهن البسيطة)، صار فى موقف ضعف، وصار من الصعب عليه أن يقف فى وجه صاحب العمل حتى وإن عرف أنه يسرقه. ربما يقول العامل الذى يكافح لتأمين احتياجات معيشته لنفسه إنه من الظلم أن يفقد جزءاً من مرتبه، لكن فقدان عمله نفسه سيكون كارثة بالنسبة له. وهو ما يجعل سرقات الأجور أمراً يصيب أصحاب الأجور القليلة أكثر من أصحاب الرواتب الكبيرة الذين يملكون خيارات أوسع للانتقال والحركة وللعمل فى أماكن أخرى. أما أصحاب الأجور المنخفضة فليس لديهم بديل عن الاستمرار فى العمل، حتى مع علمهم بأنهم يتعرّضون للسرقة والاستغلال، لأن البديل هو أن يصبحوا عاجزين عن دفع فواتير معيشتهم واحتياجاتهم».
إنها جريمة متكاملة الأركان، كما يصفها الكتاب الأمريكى، يرتكبها أصحاب المال والأعمال الذين يُعتبرون أقوى الفئات فى المجتمع ضد الفئات الأكثر ضعفاً فيه، دون أن يحاسبهم أحد.
\