هل تكفي الموهبة والإبداع لحضورهم الفاعل في الساحة الثقافية؟!
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
ما دور الجهات الداعمة في شهرة الكاتب والكتاب؟ ومن يحتاج الآخر أكثر؟
يحفل التاريخ الثقافي بكثير من سير الأدباء، وأسرار حياتهم الشخصية، وما يعنينا منها في هذا التحقيق الثقافي سؤال: كيف استطاع كثير من الأدباء أن يثبتوا كفاءتهم ويتلمسوا طريق الشهرة، ويصلوا بأصواتهم لأبعد مكان يريدون، وكيف حققوا الفائدة من مهنتهم في الكتابة، ومن ساعدهم بذلك؟
ولماذا لم يصل غيرهم إلى هذا السقف من الانتشار، ويحققون ما يطمحون له، وعاشوا في الظل، طبعا مع وجود استثناءات قليلة جدا استطاعت أن تبني نفسها بنفسها بالجد والتعب.
الموضوع ليس تقليلا من كفاءة أحد من المبدعين في المجالات الثقافية أبداً، ولكن للدلالة على الموضوع بشكل أوسع لا بد من القول أن كثيرا من الأدباء كانت وراءهم أحزاب أو هيئات أو حكومات أو دور نشر، ويمكن أيضا القول بشكل ألطف، وجود رعاة لهم استطاعوا أن يصلوا بهم، وبموهبتهم حيث الشهرة وحيث المكانة المرموقة، وربما حيث الجوائز.
الأمثلة كثيرة
كي لا أدخل في معترك تعداد الأسماء وما يمكن أن يحدث من جدل حولها، فلا بد من الإشارة إلى أن أحزاب كثر في مصر والعراق والأردن ولبنان وسوريا ودول أخرى تبنّت أدباء، أو انتسب إلى صفوفها بعض المثقفين، نظرا لشيوعها وحضورها الفاعل في الساحة، وربما كان أحد الطرفين يحتاج للآخر كي يصل بصيته وصوته لأوسع شريحة ممكنة ويكون نافذاً ويحرك المياه الراكدة.
وقسْ على هذا بعض الحكومات التي تبنت أصوات أدبية، ودور نشر استفادت وأفادت الكتاب، وهذه العلاقة كما أسلفنا موضوع جدلي حتى بين المثقفين أنفسهم، فيقال هذا صنيع الحزب كذا، وذاك شاعر كذا..وهذا ينقد لمصلحة هذه الجهة أو غيرها..
هذه العلاقة الضاربة في عمق التاريخ الثقافي وليست وليدة اليوم، ولا زالت ممتدة، وهناك من يبحث عن مظلة تكون حامية لإبداعه وناشرة له كونه لا يجيد تسويق نفسه، مع أنه يمتلك الكفاءة الإبداعية.
وفي المقابل، يوجد أنصاف مثقفين، وأنصاف أدباء، وربما أقل من ذلك، وجدوا في مثل هذه البيئة الحاضنة مجال للشهرة والبروز، وعرفوا كيف يستثمرون وجودهم كي يبقوا في المشهد الثقافي، كواجهة غير فاعلة.
المشهد السوري
حملتُ أسئلتي وتوجهتُ بها لعدد من المثقفين والموجودين في الوسط الثقافي السوري للحصول على إجابات صريحة، فما يحصل هناك يحصل هنا، وهذا أمر شائع، البعض رحّب، والبعض أجاب بدبلوماسية والبعض تحدث بشفافية، وهناك من تملص من الإجابة بحجج واهية.
محاور هذه المادة هي: هل تكفي الموهبة والإبداع كي يحقق الكاتب الشهرة والظهور والفائدة من عمله الثقافي؟
وهل يجب أن يكون وراء كل كاتب معروف جهة داعمة له؟.
وهل تقف جهات داعمة وراء كل كاتب مشهور..مثل "جهات حكومية أو هيئات أو أحزاب أو دور نشر وغيرها"؟
تعالوا نتابع ماذا قال ضيوفنا:
الموهبة وحدها لا تكفي
الروائي د.حسن حميد قال: سؤالك جميل، ومركب، ومهم، ليس في هذا الوقت بل في كل الأوقات، أحياناً تكفي الموهبة، ويكفي ما يمتلكه الكاتب من روح الإبداع لكي يكون مشهوراً، وظاهراً ومعروفاً في وسطه الاجتماعي أو في بلده، وقد كان ذلك يحدث في الماضي، أما اليوم فما عادت الموهبة وحدها ولا ما يمتلكه من روح الإبداع كافيين لكي يكون الكاتب مشهوراً ومعروفاً على مستوى بلده أو العالم، ذلك لأن ضروريات الشهرة باتت كثيرة ومتطلبة.
الشهرة اليوم تحتاج إلى عزوم كثيرة أهمها: الموهبة والثقافة، وروح الإبداع، والتجربة، والحظ الكبير، والظروف المواتية، والعلاقات العامة، ثم الابتعاد عن الشغب، وتفادي ما لا يرغب به أصحاب دور النشر، والترجمة، والجوائز، وأهل السياسات الخفية.
وكل هذا يشكل جواباً عن الحالات العادية للكُتّاب، أما الحالات غير العادية فهي الأخطر حين يكون الكاتب صاحب قضية أو حلم، ويريد الدفاع عن هذه القضية أو بيانها وشرحها، أو السعي لتحقيق حلمه، ويكون في الطرف المقابل من يناهضون هذه القضية أو ذلك الحلم، أي أنه يكتب عن ما يراه عدلاً وحقاً وخيراً وجمالاً، والآخرون الأقوياء "بالإعلام والمال والسياسة والجوائز والترجمة" يرون في كتابته عنصرية وتحيزاً وباطلاً وشراً وقبحاً.
خذ مثلا محمود درويش، وتساءل: لماذا لم ينل الشهرة العالمية، ومثله أدونيس، وجبرا إبراهيم جبرا، كالشهرة التي نالها الطاهر بن جلون..؟!
في ظني ليس من الواجب أن يكون وراء الكاتب جهة داعمة حتى ينال الشهرة، هنا سيهبط التحيز هبوطاً مظلياً، وهذا الهبوط لا يخلو من الفظاظة والجلافة والباطل، فأنا أقدر الكاتب الروسي "شولوخوف" صاحب رواية "الدون الهادئ" ولكن تقديري لموهبته امّحى حين عرفت أن الاتحاد السوفييتي وقف داعماً ومرشحاً له ليفوز بجائزة نوبل، والحال في أيامنا هذه هي كذلك، بعض وزارات الثقافة العربية يطلب إليها ترشيح كاتب أو أديب أو شاعر لنيل جائزة ما، فترشح من لا يستحق، فتستحق هي الخيبة في معظم الأحيان.
الجهات والهيئات والأحزاب حين تدعم كاتبا لا يستحق، لا تسقط هي فقط، بل يسقط المعيار، ويسقط جمال الحق.
والأوفى والأجمل والأنبل هو أن ينال الشهرة من اكتملت موهبته فأدهشت، أي الموهوب الذي تعب على نفسه واجتهد في صقل ثقافته، والموهوب الذي اشتق وافترع الدروب والأساليب الجديدة ليقول حلمه الإنساني، عندئذ، وإن دعمته هيئة أو جهة يكون الدعم تصفيقاً صادقاً لموهبته ورؤاه، والشاهد القديم هنا عمنا المتنبي، والشاهد الحديث هنا أيضاً، العم ماركيز، أما مثال حرمان الموهوب جداً من التقدير/ الجوائز فهو اليوناني المدهش كازنتزاكي.
الجهات الداعمة موجودة في كل مكان
الكاتبة والناقدة فدوى العبود قالت: هذا سؤال مركب، لقد وضعتَ في سلة واحدة الأشياء التي لا تجتمع عادة في مهنة الأدب. الموهبة والظهور والفائدة، ولنفنّدها معاً، فالموهبة نسيج ذاتها وهي لا تتوسل، إنها تظهر كالنبتة البرية في الروح، أو لنقل الزهور النادرة التي كان يبحث عنها أجدادنا لعلاج أحدهم. كما أنها لا تستمد قوتها مما يقال، بل قد تعمل في كثير من الأحيان عكس التيار. حتى لو بدا ما حولك وكأنه يتقدم فإن الموهبة الحقيقية تستطيع التقاط الخلل إنها على صلة كبيرة بالبصيرة والحدس.
ولننتقل إلى الظهور، وهو يعتمد في وجوده على الآخرين، إنه نَهِم، كما أنه بخيل في عطائه لعل أهم ما يفتقر إليه هو البصيرة، لذلك يحاول الظهور أن يوائم نفسه مع توقعات الآخرين، في سنوات دراستي الجامعية الأولى كان لدي صديق يردد: حب الظهور يقصم الظهور. لاحقا عرفت أن الرغبة بالظهور قد تلتهم الراغب والمرغوب به.
أما الفائدة، فالتاريخ يعطيك الجواب؛ أهم الكتاب ماتوا فقراء ومعوزين.
وتابعت فدوى قائلة: حول المحور الثاني، قد أبدو عتيقة الطراز لكن ما معنى أن أكون كاتبة إن لم يكن لدي رؤيا أو حدس في مجالي! الجهات الداعمة توجد في كل مكان، في التجارة والشلليّة وفي المؤسسات الثقافية ودور النشر، لكن من ستدعم؟
دعنا نحدد ما نريد قوله، ولنعطي الأشياء اسماً كي نستطيع التحدث حولها. هل ستدعم الكاتب أم الكتاب؟
إذ كانت ستدعم الكتاب فهذا جيد، ولكن لا يجدر بها أن تكون أكثر من إشارة كتلك العلامات التي نجدها في الحدائق العامة والتي ترشدنا إلى الطريق. إذا كانت ستدفع الكاتب كمن يدفع مشلولاً. فهذا مضر بالأخير لأنه قد يجني نقوداً وحفلات تصوير لا أقل ولا أكثر. وبعد انتهاء الحفلة سيغادر الجميع تعساء: الكاتب والقارئ والكتاب.
أما المحور الأخير فقد أحببت ما ينطوي عليه من مضامين، لا مجال لتحليلها الآن لالتزامي بعدد الكلمات. وها أنا أصعّب الأمر على نفسي.
الأحزاب ودور النشر والهيئات الأممّية والمنظمات الحكومية. كل هؤلاء يريدون أن ينتشروا أن يفرضوا رؤاهم وتوجهاتهم على البشر. (هل رأيت شجرة سرو تطلب من صنوبرة أن تصبح شجرة سرو!)
"الإنسان يفعل ذلك" لكن السؤال الآن لدى الكاتب وهو وحده الذي يستطيع أن يجيبنا عليه.
أن وافقت رؤاه رؤى الحزب أو المنظمة فهذا يعني أنه كاتب منظمات، على القياس وقد ذكرني سؤالك بخياط الحي الذي كان يخيط لنا مرايل المدرسة، وكنا بمجرد ارتدائها نصبح متشابهين حدّ أن أحدنا لا يتعرف إلى نفسه، كانت لديه قصّة واحدة بالرغم من اختلاف أجسادنا فقد كان بيننا البدين والنحيل وغيره.
الكتابة حوار مع العالم، سؤال يطرحه الإنسان وهو يشتبك مع الآخرين، لذلك البوصلة الحقيقة هي القارئ وأنا أثق بالأخير، وهذا ليس تفاؤلا ساذجاً من ذلك النوع الذي يقول فيه أحدهم أبنائي لن يتخلّوا عني. لا. هذا منطق الأمور والحياة. فالقارئ إنسان يبحث عن ذاته وتحققّه. ولا يمكن لكاتب منظمات أو (الكاتب الخيّاط) أن يساعده، نحن هنا لنساعد أنفسنا وفي هذا يحدث أن نساعد آخرين.
ختاماً: "في البدء كانت الكلمة، وليس أي كلمة"
ليس كل مشهور مبدعا
الإعلامي عبد الفتاح العوض رئيس تحرير صاحبة الجلالة: الإبداع يعبر عن نفسه، والمبدعون الحقيقيون تعلن إبداعاتهم عنهم، أما شهرة المبدع فهي مرتبطة بالزمان والمكان وبالجهة والأشخاص والإعلام، وبوسائل التواصل الاجتماعي التي تدعم أفكار المبدع، وأقول باختصار وبكلمة واضحة، ليس كل مبدع مشهورا، وليس كل مشهور مبدعا، وخاصة مع ازدياد تأثير وسائل الإعلام وقدرة بعض الدول والشركات على السيطرة على خوارزميات الانتشار، من الواضح أن هناك تشجيعا وتمريرا لبعض الأفكار، وبالمقابل هناك حد ومنع من انتشار أفكار أخرى، لكن مع كل هذا فإن إبداع المبدع كفيل في وقت ما على أن يظهر على العلن حتى لو تأخر به الزمن.
الإبداع مثل نور الشمس ينتشر في كل الأرجاء رغم مرور الوقت، وتغيب فيه الشمس إلا أن المبدع يستطيع أن يضيء في أفكاره من أن يؤهله.
توجد جهات داعمة
يقول الشاعر توفيق أحمد: الموهبة والإبداع لا تكفي لتحقيق الشهرة والظهور لكنها بالتأكيد ضرورية جداً، لكن تحتاج الموهبة والإبداع لعناصر أخرى مكملة تلقي الضوء على الموهبة بمصداقية أولاً وإمكانيات واسعة للتسويق، والتسويق أحد أهم علوم العصر، قضية أن يكون وراء كل كاتب معروف جهة داعمة له؟، بصراحة بحقيقة رسالة الشعر الحضارية والأخلاقية والإنسانية ليس مهماً أن تكون هناك جهة داعمة، ولكن ما شهدناه في بعض الساحات الثقافية العربية أو الأجنبية خلال المائة سنة الماضية أنه كان هناك جهات داعمة وجهات أيديولوجية وطبعا سياسية وحزبية ودينية أيضا؛ أنا لست مع دعم كل هذه الجهات طالما هناك إبداع إنساني عالٍ شاسع واسع غير متخندق، صالح وغير متطرف، وغير معادٍ لأي حالة إنسانية على الإطلاق؛ الجهات الحكومية أو الهيئات أو دور النشر طبعا هناك الكثير من هذا يحصل كما حصل مع أمير الشعراء أحمد شوقي باعتباره شاعر الملك وشاعر القصر ولكن بنفس الوقت شوقي شاعر كبير استطاع القصر أن يعممه أكثر ويرسله إلى أنحاء العالم الواسعة "طبعا دون الانتقاص أبدا أو التقليل من كفاءة وإبداع شوقي الأدبية" نتحدث هنا كما سألتني عن الجهات الداعمة للمبدعين.
أما عن دور النشر قد تكون أقوى الجهات لتسويق المبدع لأن دور النشر جهة معنية جدا تجاريا أولاً ثم إبداعياً ثانياً.
الدعم مطلوب
الأديب والمسرحي داود أبو شقرة يقول: الموهبة شيء أساسي في الإبداع، وهي الأساس لكل إبداع ولكن إذا طبقنا هذا في الوطن العربي فإننا لن نجدها كما يجب أن تكون.
الموهبة موجودة لدى الكثير من الأدباء والفنانين والتشكيلين والمسرحيين لكن هذه الموهبة نجدها تُحارب في أغلب الأحيان، وهم بالمرصاد ومحط استهداف من قبل الذين تسلقوا على مقدرات ربما ليسوا أهلاً لها على كل حال، الموهبة إذا أضيفت إلى التجربة ربما تعطي الكاتب على المدى البعيد مساحة، وربما ينتبه إليه النقد وأخذ الفرصة وربما انقضى العمر وفارق الحياة.
الإبداع يحتاج إلى النقد الموضوعي الذي يعزل العاطفة ويكون أباً روحيا للإبداع، وليس ذلك النقد الذي يتمثل في مجالين إما مداح أو قداح بحسب وجهة نظر الناقد إلى المبدع.. تلك مسألة عويصة ليس في سوريا فحسب بل في أماكن كثيرة وعندما يتسلل رجل غير كفؤ إلى مكان مهم فإنه يحارب الإبداع ويمنح الفرصة لمن هم دون ذلك.
وتأسيساً على ما سبق إن الموهبة والإبداع وحدهما لا يمكن أن يحقق الكاتب من خلالهما ظهوراً وشهرة وفائدة من عمله الثقافي. ولعلك تتساءل لماذا؟ لأنه جزء من السؤال المطروح، إذا لم يكن وراء هذا الكاتب جهة داعمة له إن كانت حكومية أو حزبية أو حتى مؤسسات اقتصادية فانه لن يظهر لأنه لن يجد طريقه إلى الإعلام ولا الإعلان ولا إلى دور النشر؛ لأن كثيرا من المبدعين لا يستطيعون أن ينشروا نتاجهم الثقافي؛ لأنهم يفتقدون للمال لنشرها، والأنكى من ذلك أن المسابقات التي تجري وأنا لاحظت ذلك وطرحته حتى في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب، إن المسابقات التي تجري لجان التحكيم فيها ليست منتقاة بعناية، وحتى لو كانت كذلك فهي تميل إلى مرضاة الخواطر، والأهم من ذلك أنها تتوجه إلى من أعمارهم دون الخامسة والثلاثين، وكأن المبدع المحترف يصبح في طور العجزة والتقاعد ولا يجب أن ينافس. لماذا؟
العقل البشري لا يمكن أن ينتج إلا بعد الأربعين، ولا أن يبدع لونًا جديدا إلا بعد الخمسين ولا يمكن أن يجدد على ما سبق أو استوعب دروب الكتابة في العالم إلا بعد الستين.. وهذه السن عندنا يعني "خالص الصلاحية"!! هذه مشكلة..
المسابقات ذاتها لا تنتج إلا نصوصا "مرضاة خواطر". واضرب لك الأمثلة سواء في المسرح أو الرواية أو القصة والشعر تتجه الناس إلى "التيك توك" وليس إلى الأدب الحقيقي.
شاهدت مسرحية عربية فيها الكثير من الغرابة في الكتابة ولا أعرف كيف فازت بجائزة المركز الأول؟
وهناك رواية فازت بمسابقة كبرى أتمنى أن تستطيع أن تكمل قراءتها، ولا تمتلك عناصر الرواية، وتفتقد لكل الأسس الروائية ولا عرف كيف فازت؟
وكلمة لا بد منها إذا كنا على حريصين على تقدم الأمة علينا الانتباه إلى مسألة الإبداع الحقيقي، وإذا أردنا قياس تقدم الشعوب فإنه يكون بالثقافة والتقدم العلمي وبوجود المسرح الناضج الذي يعالج قضايا الناس، أقول هذا الكلام لكي أدلل على ما أوردته من محاور وعن ضرورة فسح المجال للأدب الحقيقي وعدم تبني ودعم ما هو فاسد ويسيء للمجتمع.
"نوبل" لا تصنع الأدباء
يقول الناقد التشكيلي والإعلامي سعد القاسم: هذا السؤال في الواقع ليس سؤال رأي، وإن كانت له مبرراته الواقعية، إذ كثيراً ما نسمع ونقرأ أقوالا لمثقفين، أو قريبين من الوسط الثقافي، ترد كل نجاح إلى جهة ما تقف خلف الكاتب، وأذكر أن صحفياً ثقافياً مغموراً عنون مادته الصحفية إثر فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل بـ: "من عملق نجيب محفوظ؟" موحياً للقارئ - دون مرجع أو محاكمة عاقلة - أن نجيب محفوظ مجرد كاتب قليل الشأن، وأن الجائزة هي التي منحته أهميته. مما دفع بزميل له ليجيب على السؤال بالقول: (عملقته رواياته التي عرفتنا على شوارع القاهرة وأزقتها وحياة أبنائها). من المؤكد أن دوافع شتى تقف وراء منح الجوائز الأدبية، أو حجبها، كما هو حال (أدونيس) المرشح الدائم لجائزة نوبل – والذي يستحقها بجدارة – لكن هذا لا يعني أن نوبل هي من تصنع الأدباء. هكذا تفكير ينطبق عليه القوال الشهير عن وضع الحصان أمام العربة. فالأمر مع الروائي أو الشاعر يبدأ بالموهبة فتطوير الذات بتنمية المعرفة وابتكار الأسلوب وبالتالي معرفة الناس به على نطاق ما، وعلى هذا نال الجائزة شعراء وروائيون لا يلتقون مع التوجه السياسي لمانحي (نوبل) كالشاعر التشيلي بابلو نيرودا عام 1971، والروائي الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز عام 1982. حتى أن أعضاء لجنة الجائزة درسوا اللغة السنسكريتية ليقرؤوا أعمال الشاعر والروائي البنجالي روبندرونات طاغور قبل منحه الجائزة عام 1913. إذا عدنا إلى الثقافة العربية نجد بين أكثر الأدباء شهرة وانتشاراً فيها الشاعر نزار قباني، والروائي حنا مينة. وكلاهما - رغم أهميتها - لم ينالا هذه الجائزة، وكلاهما وصل إلى الشهرة والنجاح دون أن تكون خلفهما جهات داعمة (حكومية أو مجتمعية أو حزبية) وإنما جمهور ثقافي يشتري إصداراتهما التي هي بدورها إصدارات غير رسمية. والأمر ينطبق أيضًا على الكاتب والروائي أمين معلوف الذي سبق نجاحه وانتشاره كل جائزة نالها من جائزة الصداقة الفرنسية العربية عام 1986 إلى جائزة (نونينو) عام 1998، مروراً بجائزتي (بول فلات) عام 19987، وجائزة (جونكور) عام 1993. وسواهما. من المؤكد أن الجوائز الأدبية أعطيت لكتّاب وشعراء لا يستحقونها، أو كان هناك من أجدر منهم لنيلها. لكن حتى هؤلاء كانوا يمتلكون قدراً ما من الموهبة.
للتوضيح
ليس كل دعم موجه لأي كاتب أو كتاب قد يكون خطأ، أو محط نقد لأنه متحزب أو تحت راية ما، فحتمًا يحتاج هؤلاء إلى مد يد العون والمساعدة، بشرط أن يكون أدبا حقيقيا، ومثقفا حقيقيا، كي يستطيع أن يقدم للمجتمع ماهو مفيد بعيدا عن التوجهات غير المرغوب فيها لتمرير وجهات نظر أو نظريات ما، أو نشر أفكار منافية للأخلاق.
المتخندقون وراء مثل هذا الدعم وهم غير مؤهلين إبداعيا حتما سيكونون عالة على الثقافة بكل أشكالها ويشكلون تشويها متعمدا للذائقة الثقافية بشكل عام، وقد يحدث أن يكون إقصاء مثقف حقيقي من المشهد على حساب شبه مثقف مدعوما من هذه الجهة أو تلك.
لذلك نتمنى من الجهات القادرة على الدعم أن توجه دعمها للشخص الذي يستحق وللمكان الصحيح، لما فيه خير للثقافة بشكل عام حيث الخلود دائما للكلمة التي يكتبها المبدعون الحقيقون.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الموهبة والإبداع الجهات الداعمة دور النشر أن یکون یمکن أن أن تکون لا یمکن من ذلک لیس کل
إقرأ أيضاً:
"إبداع"|| الزائر الغريب".. قصة للكاتب المغربي هيثم همامون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ارتدى مسعود جلبابه السميك المذهّب، وعيناه على المسجد. في القرية يلقبونه "ديك الصباح"، كيف لا وهو المؤذّن! كان صباحًا باردًا، وتلوح في الأفق نجمات بيضاء. عادة ما تجعله يهيم في مشيته. يقتفي الأثر للخروج من زحام الدّرب إلى الساحة الكبيرة الّتي يومض فيها عمود إنارة وحيد. تحيط به يرعات مضيئة. يُشعل ضوء مصباحه ذو بطّاريّات منتهيّة الصلاحية. كلّما انطفأ. أخرج البطاريّات، ثم انهال عليها بحجر حتّى تعوجّ، فيستعيد المصباح بريقه. وكأنه الوحيد الذي يعرف السرّ.
مسعود شيخ اختلط الشيب بشعره الأسود كالغراب، وله خمسة وعشرون سنًّا فقد إحداها إثر سقوطه من شجرة رمان. مسح رأسه المستطيل بكفيه الكبيرتين. تمشى بخطوات واسعة قبل فوات وقت الآذان...والظاهر أنّ ذلك السكون لم يطمئن إليه. فغالبًا ما يصادف كلابًا تعوي في طريقه، لكنها سرعان ما تصمت حين تتحسّس بأنوفها رائحة المسك. ويحدث أن يتهارش قطّان شقيّان فيرميهما بحصيات، ليصعدا فوق الجدران الطينيّة لإكمال النزال.
أرخى مسعود عمامته، وأطبق على أنفه الحسّاس؛ لئلا يتنفّس روائح جبال روث البهائم النفاذة، تجوب الزّقاق وتختلط ونسيم الصباح العليل. أصدر حشرجة، ثم ضرب بخفيه منزوعي اللّون أرضيّة الساحة. فجأة لطمت قدمه اليمنى حجرا صغيرا، فراح يتدحرج. قال في نفسه: يبدو أنّ هذه الحجارة حيّة كذلك. كان الخفّان متهالكان وأقرب إلى السواد. استرق النّظر كمسبار في جميع الجهات. لم تقع حدقته إلّا على شجرة خروب كبيرة وقاتمة وسط حفرة مربعة زاوية الساحة. المكان مليء ببقايا لفافات السجائر، وقشور بذور عبّاد الشمس المحمّص. عاد بتفكيره إلى سكون الحياة. وخطرت له بعض الأفكار الهامشية، من قبيل...دوره في السقاية، وجلب البرسيم للعنزة، وتسخين الزوج لحساء البارحة قبل العودة من المسجد.
كان عالما جميلًا، يحيا فيه مع الله، والأرض، والماء، والحيوان دون أن يتدخّل ذلك العقل في حياته. عدّل عمامته الصفراء المنسدلة على كتفيه المتخشّبتين. وعلى حين غفلة، ارتطم بأصيص زهور حبق أحد الجيران. قال بصوت مسموع:
-أعتقد أن هذه البلغة لديها طموحات أكبر من مجرد السير على الأرض.
أحنى ظهره وضغط بإبهامه الكبير على فجوة في بلغته يعيدها إلى الداخل، فهواء الصباح البارد يخترق فجوتها ويتسلّل بين أصابع قدمه. الطريق إلى المسجد قطعة من الجنّة بالنسبة له. يشعر فيها بمتعة واحدة، حين يتذكّر متعة الصلاة. يُعمل فيها بكل حواسه، وأعضائه، وجسده. يعرف أنّه لم يأت إلى هذا العالم ليعيش مثل جرذ أو ثور أو ببغاء، فقط للمتعة والأكل. وكثير من الناس يؤمنون بالجنة، ويتركون ألسنتهم وذوابّهم ترعى هناك. أمّا هو فليس عنده سوى عنزة واحدة. يعيدها راعي القرية مع الأغنام إلى أصحابها بعد أن اكتفت بما في الربوة البعيدة من حشائش هزيلة. ففي الشتاء لم تسقط نقطة مطر. وإذا انهمر يتحوّل إلى طوفان، يأتي على الأخضر واليابس.
يلزمه الآن تخطي مرتفع بسيط، وصعود كومة حجارة تركها أحدهم تنكيلا به بعد مشاحنات امتدّت لسنوات. كانت الحوانيت المتراصّة مغلقة، والجذران المغطاة بلون التراب انقلبت رمادية. مرّ خفاش فوقه بعدما حام حول عمود كهرباء دورة كاملة، ثم تلاشى في الظلام إلّا أنّ طقطقة جناحيه بدت واضحة في ذلك السكون كلطمة موج. أخرج المفتاح من بين قطع نقدية داخل خرقة معقودة وقاتمة. ثم أدخله في قفل باب المسجد بهدوء. فالإمام "ف" مازال يغطّ في سباته العميق داخل حجرته في المسجد. بسمل مسعود، وقدّم قدمه اليمنى كعادته. وما أن يدخل حتى يشعر كما لو أنّه ستنبت له أسنان جديدة. صعد الدّرج كشاب في ريعان شبابه. وراح يخاطب نفسه: لقد دخلت الجنّة على قيد الحياة. ثم يعيد السعال إلى داخله. ويكمل قائلا:
-كم أشعر بالراحة. وددت لو أبقى هنا للأبد. إنّ لكل إنسان جنّته الخاصة. هناك من جنته التململ والراحة، وبالنسبة لإنسان آخر ستكون ممتلئة بزجاجات النبيذ والخمر. وآخرون عقولهم بين أطباق الكفيار، واللحم...وعصير اللّيمون.
رفع جلبابه وفي الآن نفسه رفع ميكروفون المئذنة ليبدأ آذان الفجر. وما إن فتح فاهه حتّى سمعت القرية:
-عنزة...عنزة...عنزة...أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...يا ناس. الشيطان متنكّرا في صورة عنزة.
ثغت العنزة بصوت متهدج تردّد صداه في الهواء البارد كصرخة. أرخى الميكروفون، وهرع بخوف إلى أسفل الدّرج حافيّا. ارتفعت الضجّة. وأيقظ الإمام الذي لم يستوعب الواقعة. ركضا بسرعة فإذا بهما يجدان نفسيهما فجأة يقفان تحت شجرة الخروب الكبيرة وسط الساحة من شدّة الهلع. كان كلّ واحد منهما يستنشق الهواء أكثر ممّا ينبغي. ويضع يديه على صدره كي لا يخرج قلبه. نهج الإمام بشدة، ثم قال:
-الشيطان لعنة الله عليه. أفسد علينا في هذه الدنيا كلّ شيء، حتى النوم! دخل إلى المسجد! هل أنت متأكّد ممّا رأيت؟
-بالطبع، كانت عنزة سوداء بقرون شيطان مائلة ومتنافرة...أوه...نجوت بأعجوبة.
نظر مسعود إلى ساعته القديمة، ثم تكلّم بصوت مذعور:
-فات وقت الآذان. ما العمل الآن؟
-أذّن في الساحة. لا تثريب عليك.
كان الإمام عاريّ الرأس صامتا من هول الصدمة. واجتاحته قشعريرة غريبة. ثم تناهى لسمع الناس صوت الآذان في الساحة. فجاءوا مسرعين، وتحلّقوا حولهما. أمّا العجائز فقد عجبوا لتماطل المؤذن كغير عادته، وعدم رفع الآذان في وقته. وجدوا الإمام "ف" ومسعود في الساحة حافيين. استفسروا عن تفاصيل الواقعة الغريبة. فلمّا علموا بالتفاصيل. استقبلوا الخبر بقلق وتوتر. وفي خضم تلك اللحظة. قهقه أحدهم مدّة، ثم انبرى قائلا:
-ها...ها...إنّها عنزتك يا مسعود. ظلّت زوجك خديجة تبحث عنها بعد رجوع الأغنام في المساء. وقد علمت الأمر من زوجي البارحة. غالب الظنّ أنّها تسلّلت إلى المسجد عندما كنا نصلي صلاة العشاء.
وردّدت الساحة صدى ضحك عال. ثم أضاف آخر بعد فترة سكوت:
-يا لها من عنزة ناسكة! ها...ها...والحيوان كذلك يحبّ الأماكن المقدسة. حتى الحيوانات تحمل طابع الغموض! والإيمان شغف يعبر عن نفسه في كل شيء، حتى في حياة كائن صغير.