لعبة العداءات السياسية.. لماذا لا يحب ماكرون نتنياهو؟
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
"انتصارنا هو انتصار لكم، وانتصاركم هو انتصار لنا، هذه معركة الحضارة اليهودية المسيحية ضد البربرية"
بنيامين نتنياهو مخاطبا الفرنسيينفي يوم الخميس 30 مايو/أيار الماضي، خرج بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية المتهم حاليا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حسب المحكمة الجنائية الدولية، في لقاء متلفز على شاشة القناة الفرنسية الأولى "تي إف 1" وأختها الصغرى "إل سي إي".
جاء اللقاء في توقيت حساس، بعد أن صار اسم نتنياهو الأكثر ترددا في أروقة المحكمة الجنائية الدولية، قبل أن تصدر مذكرة اعتقال بحقه من المحكمة بعد ذلك بأشهر.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2دارمانان ابن الحرْكي الذي يريد حكم فرنسا خالية من المسلمينlist 2 of 2هل تكون قوات الاحتياط سببا في انهيار المجتمع الإسرائيلي؟end of listخلال اللقاء، لعب نتنياهو ببراعة على الحبال التي يعرفها جيدا، وفي مقدمتها خطر "الإرهاب الإسلامي الذي يهدد فرنسا وإسرائيل معا" وفق زعمه، كما أشار إلى أن التصعيد القانوني ضده لا يستهدف شخصه، ولكنه يستهدف دولة إسرائيل، مرددا قِطَعا من الدعاية الإعلامية الإسرائيلية الشهيرة حول حق الدولة اليهودية في الدفاع عن نفسها ضد خصومها الذين يحيطون بها.
إعلانتحدث "بيبي" أمام الفرنسيين أيضا عن الجهود المزعومة التي بذلتها حكومته من أجل إيصال المساعدات للشعب الغزي المنكوب برا وبحرا وجوا، مدعيا أنه يعتبر مقتل مدني فلسطيني واحد أمرا مريعا، وأن الجيش الإسرائيلي يحرص على حياة المدنيين الفلسطينيين حرصه على حياة جنوده.
وبالتزامن، كان طرفا من الرد على نتنياهو حاضرا في نفس اللحظة التي ألقى فيها خطابه، عندما تجمع المئات من المتظاهرين أمام مقر قناة "تي إف 1" للاحتجاج على إعطاء الكلمة لرجل يُشهد له بإراقة الدماء بلا رادع لتحقيق أهدافه السياسية وضمان البقاء في السلطة، كما يتهمه سياسيون في إسرائيل نفسها.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (يمين) والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (رويترز) البحث عن موطئ قدمفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، جاء النبأ الذي لم يتوقع أكثر المتفائلين أن يصدر يوما ما: مذكرة اعتقال أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق "بنيامين نتنياهو" ووزير دفاعه آنذاك "يوآف غالانت" بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، في علامة على أن الجريمة الإسرائيلية باتت أكبر وأكثر بشاعة من أن تتجاهلها أعين العالم رغم تواطؤ قواه الكبرى على دعم الإبادة الصهيونية في غزة على مدار أكثر من عام.
كانت فرنسا إحدى تلك الدول التي دعمت حرب نتنياهو الإجرامية منذ اليوم الأول، ليس لأن الرئيس الفرنسي ماكرون يحب نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين (ربما يكون العكس أقرب للصحة)، لكن لأن أوروبا قاطبة ترى دعم إسرائيل قدرا مقدورا.
غير أن حكم الجنائية وضع باريس في موقف محرج، حيث بات يتعين عليها الالتزام بقرار المحكمة بحكم عضويتها في نظام روما الأساسي، ما دفعها للإعلان على استحياء في بلاغ لوزارة خارجيتها دعمها للقانون الدولي، دون أن تؤكد بشكل واضح وصريح في أنها ستقدم على اعتقال نتنياهو أو غالانت إن هما وطئا ترابها، وهو موقف تراجعت عنه باريس لاحقا مؤكدة بشكل لا لبس فيه أن نتنياهو يتمتع بالحصانة (من الاعتقال) نظرا لأن إسرائيل نفسها ليست عضوا في نظام روما الأساسي.
إعلانأيام قليلة فصلت بين الموقفين الفرنسيين، لكن مياها كثيرة جرت خلالها. كان موقف فرنسا الأول، المتردد بين التزامها النظري بالقانون الدولي والتعقيدات العملية المرتبطة بهذا الالتزام، بمثابة تجلٍّ لمقاربة تعتمدها باريس منذ مدة، تقوم على اتباع سياسة "شد الحبال" مع تل أبيب، وتعني تقديم الدعم مع "بعض التحفظات" التي تتجاهلها إسرائيل غالبا، وهو النمط الذي ينعكس أيضا على العلاقة الشخصية بين إيمانويل ماكرون وبنيامين نتنياهو، والتي يمكن وصفها بأنها "مرتبكة" في أدنى الأحوال.
ففي يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول، خرج ماكرون عن بروده المعتاد حينما انتقد نتنياهو قائلا إن "الدفاع عن الحضارة لا يكون بنشر الهمجية في كل مكان"، وذلك خلال مؤتمر دولي هدفه المعلن هو دعم سيادة الشعب اللبناني بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية، وقد جاءت تعليقات ماكرون في معرض رده على تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي وصف خلالها الحرب على غزة ولبنان بأنها "حرب الحضارة ضد الهمجية".
لم تكن تلك التصريحات سوى حلقة في سلسلة من الانتقادات "الماكرونية" المبطنة والمعلنة ضد نتنياهو، بدأت بالتلويح بفرض حظر على توريد الأسلحة (المستخدمة في الحرب) إلى إسرائيل، ووصلت ذروتها بانتقاد عدم التزام إسرائيل بمقررات الأمم المتحدة، رغم أن الدولة العبرية تأسست بقرار من الأمم المتحدة (إشارة إلى قرار تقسيم فلسطين عام 1947)، في تعريض نادر لقائد غربي بالطريقة التي تأسست بها الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، استدعى ردا حادا من نتنياهو زعم فيه أن إسرائيل تأسست "بدماء مقاتليها الأبطال في حرب الاستقلال ومنهم ناجون من المحرقة التي شارك فيها نظام فيشي في فرنسا".
على كل حال، كان مؤتمر دعم لبنان أقرب إلى محاولة فرنسية يائسة لاستعادة دورها في الصراع المحتدم حاليا في منطقة الشرق الأوسط، بيد أنه، ولسوء حظ الفرنسيين أو لربما لسوء عملهم، أخفق في تحقيق أهدافه، حيث لم يحضر من الدول الـ54 المدعوين إلى باريس إلا ممثل حكومي واحد، وكان على رأس قائمة الغائبين "أنتوني بلينكن"، وزير الخارجية الأميركي الذي فضّل الذهاب إلى الدوحة بحثا عن اختراق في المفاوضات بين إسرائيل وبين حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
إعلانحاولت باريس التقليل من شأن عدم حضور بلينكن، مؤكدة أن السبب هو الأجندة المزدحمة لوزير الخارجية الأميركي، فيما تشير تقارير صحفية إلى أن عدم حضور السفير الأول لأميركا يأتي لعدم رغبة واشنطن في تزكية تحركات باريس، في الوقت الذي تزعم فيه الدوائر المحيطة بماكرون أن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي تحرص على التواصل المباشر مع جميع الأطراف للوصول إلى اتفاق حقيقي وواقعي.
منذ وصوله إلى كرسي الرئاسة في عام 2017، حاول ماكرون العودة ببلاده إلى الشرق الأوسط بعد انحسار دورها أمام تغول الأميركيين والبريطانيين وحتى الروس والصينيين، حنينا إلى تلك الأيام التي كانت فرنسا تبصم فيها على حضور في القاهرة ودمشق وبيروت. لذلك حاول الرئيس الفرنسي أكثر من مرة التحليق فوق المشكلات الداخلية التي يعاني منها لبنان، البلد الشرق أوسطي الأقرب لقلب فرنسا، والذي استُقبل فيه ساكن الإليزيه قبل أعوام استقبال الفاتحين من طرف شريحة من الشعب كفرت بسياسييها تماما، وباتت تنتظر المدد من أي شخص، وإن كان المحتل القديم.
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ضاعف ماكرون من تحركاته الدبلوماسية، وحاول خطف الأضواء حينما تطوع لاقتراح إنشاء "تحالف دولي ضد حماس"، يشبه التحالف الذي تم تشكيله لمحاربة تنظيم الدولة، بعدها أعلن عن عدة خطوات أخرى تأرجحت يمينا ويسارا بغير هدى، منها إرسال المساعدات الطبية لغزة، والعمل على الاعتراف بدولة فلسطينية، ثم محاولة التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار لمدة 21 يوما بعد اشتعال جبهة لبنان، ثم مؤتمر لجمع التبرعات، لكن كل هذه المحاولات لم تلقَ صدى واسعا، ولم تسعفه في الحصول على ما يريد، وأظهرت أن باريس فقدت الكثير من قوتها الخارجية، حتى في معاقلها التقليدية.
لقد مثّل طوفان الأقصى على وجه الخصوص تحديا غير مسبوق لسياسة فرنسا. فمنذ انطلاقة الطوفان، حرصت باريس على إظهار كافة ملامح الدعم الرسمي والشعبي للاحتلال الإسرائيلي، وتحزبت وسائل إعلامها لرثاء الإسرائيليين وشيطنة الفلسطينيين. لقد كان الجو العام في فرنسا بعد السابع من أكتوبر شبيها حد التطابق بما عاشه العالم بعد 11 سبتمبر، حيث هيمن عليه صوت واحد هو صوت السردية الصهيونية التي جرّمت أي تعاطف مع غزة وسكانها وليس مع المقاومة الفلسطينية فقط.
إعلانهذا "التصهين" في السردية السياسية سرعان ما بدأت تظهر مثالبه بعد تكشف الحقائق الدموية للحرب الإسرائيلية تباعا إلى درجة لم يعد من الممكن السكوت عنها، هذه الدماء يبدو أنها أصابت عين السياسة الفرنسية بالضباب، إلى درجة أنه لا أحد بات يعرف ما الذي يفكر فيه إيمانويل ماكرون وفريقه، المحاصر بين اليسار الذي كان يرى الرئيس ضليعا في جرائم الإبادة التي ترتكبها تل أبيب، وبين اليمين الكلاسيكي، وأقصى اليمين الذي واصل اعتناق السردية الصهيونية على قاعدة العداء المشترك للعرب والمسلمين، والذي بات يرى أن ماكرون لا يدعم إسرائيل بما يكفي، بل إنه ربما يكون متعاطفا مع الفلسطينيين.
مظاهرات في فرنسا مناهضة للحرب الإسرائيلية على غزة (وكالة الأناضول)في زيارة له لكندا في سبتمبر/أيلول الماضي، كانت صافرات الاستهجان تنتظر الرئيس الفرنسي من طرف مؤيدين للقضية الفلسطينية، حينها سيلتفت ماكرون نحو أحد الصحفيين قائلا له: "الناس يهاجمونني كثيرا، لكنهم لا يعرفون أبدا كيف أقاتل بكل ما أوتيت من قوة حتى تتحسن الأمور".
قبلها في مارس/آذار 2024، ولكن في مرسيليا الفرنسية هذه المرة، كان المشهد أكثر رومانسية حينما توجهت سيدة له بالكلام متوسلة إليه بأن يفعل أي شيء لحماية الأطفال من الموت الذي يواجهونه في فلسطين، ليجيبها بأنه سيفعل "كل ما يمكن القيام به" من أجل الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وما بين المشهدين، يستغرب ماكرون والمقربون منه من عدم الاعتراف بالدور الكبير الذي يقوم به الرئيس الفرنسي لوقف الحرب في غزة وفي لبنان، وفق ما أسرّ أحد المقربين منه لموقع القناة الأولى الفرنسية.
ماكرون لا يحب "بيبي"الخلاصة هي أنه لا أحد فهم تماما أو رضي عن سياسة ماكرون تجاه حرب غزة، بمن فيهم إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو. على العكس تماما، اختار نتنياهو ماكرون ليكون الدمية التي يوجه إليه ضربات الاستياء من عدم الحصول على ما يكفي من الدعم الغربي لحربه، وقد تجلى ذلك كثيرا عقب تصريحات ماكرون السابق الإشارة إليها حول نشأة إسرائيل، وتغريدة نتنياهو حادة اللغة على منصة إكس واستحضار دور نظام فيشي الموالي للنازية.
إعلانيخبرنا هذا الاشتباك اللفظي بحقيقة واضحة، وهي أن ماكرون لا يحب نتنياهو كثيرا، والعكس صحيح أيضا. في الواقع، يبدو أنه لا أحد في الغرب يحب شخص نتنياهو، بمن فيهم -للمفارقة- دونالد ترامب نفسه، وفق ما ذكره صهره جاريد كوشنر ضمن شهادته على فترة مقامه في البيت الأبيض. لكن الخلاف بين نتنياهو وبين ماكرون تجاوز الغرف المغلقة، وخرج إلى العلن متجاوزا الأعراف الدبلوماسية التي تحاول فرنسا الالتزام بها كثيرا للحفاظ على صورتها الخارجية.
في تقرير لها تناول العلاقة الشخصية بين الرجلين، تقول صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية إن كلّا من بنيامين نتنياهو وإيمانويل ماكرون تمكنا من العودة بالعلاقات الفرنسية الإسرائيلية 30 عاما إلى الوراء. العلامة الأكبر لهذه الردة كانت تلويح الرئيس الفرنسي بحظر تصدير الأسلحة لإسرائيل، صحيح أن جيش الاحتلال لا يعتمد على التسليح الفرنسي، حيث لا تتجاوز قيمة الصادرات الفرنسية لجيش الاحتلال 30 مليون دولار، وهو رقم ضئيل للغاية مقارنة بالمدد غير المنقطع الذي تقدمه الولايات المتحدة، إلا أن ذلك التلويح وحده لا يخلو من دلالة رمزية قوية.
تقول هآرتس إن العبرة لا تتعلق بكمية الأسلحة التي تتحصل عليها إسرائيل، ولا بالقيمة المادية لهذه الأسلحة، فالأمر متجاوز لذلك لأن فرنسا هي عضو دائم في مجلس الأمن، كما أن صوتها الدبلوماسي مسموع وإن بات اليوم أكثر خفوتا من ذي قبل. والأهم من ذلك هو أن الموقف الذي يلوح به ماكرون يستند إلى سابقة تاريخية، حينما أعلن شارل ديغول حظر تصدير الأسلحة لإسرائيل على خلفية حرب عام 1967، ما تسبب في برود كبير في علاقات الطرفين، ودفع إسرائيل للاستغناء عن طائرات ميراج الفرنسية والاعتماد بشكل حصري على الأسلحة الأميركية في العقود اللاحقة.
سيستمر الموقف الفرنسي "المتردد" تجاه إسرائيل حتى ولاية الرئيس الفرنسي "فاليري جيسكار ديستان" الذي كان متحفظا على اتفاقية "السلام" التي وقعتها تل أبيب من القاهرة في زمن أنور السادات. ومع وصول جاك شيراك إلى الحكم، الذي كان يصنف من قبل البعض صديقا لياسر عرفات (لدرجة أنه استقبله للعلاج في مستشفى في باريس قبل وفاته) ويرى القضية بعيونه كما يقول مقربون منه، لم تكن الأمور أفضل كثيرا لإسرائيل، ولا أدل على ذلك من مقطع فيديو شهير للرئيس الفرنسي الأسبق وهو يتلاسن مع مجموعة من رجال الشرطة الإسرائيليين داخل مدينة القدس التي كان يرفض الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليها.
إعلانلا يعني ذلك أن فرنسا نبذت إسرائيل تماما في زمن شيراك وقبله، فمن المؤكد أنها كانت أقرب لإسرائيل منها للفلسطينيين بفارق شاسع، لكن الساسة الفرنسيين في ذلك الوقت لم يعتنقوا الرواية الصهيونية تماما. لكن كل ذلك سيتغير تماما مع وصول نيكولا ساركوزي، الرجل القادم من اليمين الفرنسي الذي لم يتردد يوما في إبداء تقاربه الشديد مع رؤى إسرائيل وسياساتها، وهو ما سار عليه خليفته فرانسوا هولاند رغم كونه محسوبا على اليسار.
مؤخرا سيلتقي الرجلان (ساركوزي وهولاند) بجانب ماكرون في اصطفاف ثلاثي رئاسي جاء للترحيب بفريق كرة القدم الإسرائيلي خلال مباراته أمام منتخب الديوك في باريس الشهر الماضي. في البداية، كان ماكرون يعتبر الاختيار المثالي والرجل المناسب تماما لاتباع مسار سلفيه، لكن الرئيس الفرنسي الحالي، غير المتوقع تماما، اختار التأرجح بين مسار ساركوزي-هولاند وبين النموذج "الشيراكي"، مقتبسا -للمفارقة- ذات الملاسنات مع الشرطة الإسرائيلية في القدس الشريف باعتبارها إرثا سياسيا فرنسيا.
لكن على خلاف شيراك، يدافع ماكرون كثيرا عن إسرائيل علنا بلا غضاضة، ولا يمكن إحصاء عدد المرات التي أشاد بها في كلماته، وعدد المكالمات التي أكد فيها للإسرائيليين أن أمن إسرائيل هو من نفس قيمة أمن فرنسا بالنسبة إليه، ويكأنه يحاول إثبات أمر ما أو على الأرجح إخفاء حقيقة ما بهذه التأكيدات، هذه الحقيقة هي الخلاف الذي لم يعد من الممكن إخفاؤه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي.
يتقاسم ماكرون ونتنياهو الكثير من الملامح والتحديدات الشخصية، فهما متشابهان حد التنافر، ماكرون، وحسب عدد من التحليلات النفسية التي تناولت شخصيته، هو شخص لا يؤمن بوجود حدود أو ضوابط أخلاقية ثابتة تلجم رغباته وطموحاته الشخصية، فهو يؤمن بقدرته المطلقة تماما على فعل أي شيء لأنه مميز واستثنائي، كما أنه يمكن اكتشاف معالم "النرجسية الخفية" لدى الرئيس الفرنسي على مستوى قراراته السياسية.
إعلانفعلى سبيل المثال لا الحصر، وبعد أن أتت الانتخابات البرلمانية الأخيرة باليسار على قمة النتائج، لم يُعِر ماكرون أي انتباه لذلك، وضرب بأصوات الفرنسيين عُرض الحائط، وشكّل حكومة جديدة خالية من رموز اليسار الذين خاضوا الحملات الانتخابية.
على الجانب الآخر، نجد بنيامين نتنياهو، الذي يعيش على وقع نسخته الخاصة من "جنون العظمة" ويجر خلفه إسرائيل لتتبع أحلامه ومخاوفه وهواجسه. لم يتقن نتنياهو قط حرفة كما أتقن التجارة بالدم والمعاناة والخوف، لذلك فإنه انتقى كلماته بعناية شديدة يوم السابع من أكتوبر حينما اتصل بالرئيس الأميركي جو بايدن قائلا له: "لقد تعرضنا هذا الصباح لأسوأ هجوم منذ الهولوكوست"، لم يكن الوصف بريئا، بل كان استدعاء متعمد لتبرير أي رد فعل عنيف تجاه الفلسطينيين.
يؤكد "بيبي"، الجندي الفاشل وخبير التسويق البارع والسياسي الذي تحوم حوله شبهات الفساد، أنه لا يمكن بحال الوقوف أمام خططه الدموية في غزة وهو الذي أعلن كثيرا بالقول أو الفعل أنه لا يعبأ بالقانون الدولي وقيوده، كما يرى أن مصيره الشخصي ومصير إسرائيل متحدان بشكل لا ينفصم، مجسدا أعلى درجات الاستحقاقية المرضية كما يصفها المختصون، لذلك لم يُخفِ نتنياهو قط امتعاضه من كل رئيس غربي لا يجاري رغباته الجامحة، سواء كان اسم هذا الرئيس باراك أوباما أو إيمانويل ماكرون، القائد الغربي الأبرز الذي تجرأ على انتقاد نتنياهو علنا طوال أكثر من عام على الحرب.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتياهو (الفرنسية)في يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وخلال اتصال هاتفي بين نتنياهو وماكرون، احتج الأخير على الضربات الإسرائيلية الضارية والتي تثقل الفاتورة الإنسانية في غزة، كما عبر الرئيس الفرنسي عن قلقه الكبير من الوضع في الضفة الغربية بسبب العنف الكبير ضد المدنيين وارتفاع وتيرة الاستيطان في تحدٍّ واضح لقرارات الأمم المتحدة.
إعلانوفي الكواليس والغرف المغلقة، لم يكن ماكرون يخفي امتعاضه الكبير وحنقه الأكبر على بنيامين نتنياهو، وتقول تقارير صحفية إن الرئيس الفرنسي أسرَّ لمقربين منه بأن تحركات الإسرائيليين تجعلهم يخرجون شيئا فشيئا عن دائرة المواقف التي يمكننا دعمها من طرف الإليزيه. ليس هذا فقط، بل إن الإعلام الفرنسي أورد معلومات مفادها أن الثقة شبه منعدمة بين الرئيس الفرنسي ورئيس الحكومة الإسرائيلية، مشبها إياها بالعلاقة بين ماكرون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لبنان كلمة السريتحرج ماكرون كثيرا من الجرائم الإسرائيلية الحالية على ما يبدو، ويعد هذا مدخلا رئيسيا لفهم موقفه المتأرجح بين دعم إسرائيل والتنديد بالمبالغات الإجرامية لحكومة نتنياهو. رغم أن الإعلام الفرنسي والسياسيين على السواء -باستثناء بعض اليسارـ ما زالوا يعتبرون أن إسرائيل لها "الحق في الدفاع عن نفسها"، وأن عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والأبرياء ما هي إلا خسائر جانبية مبررة خلال هذه العملية.
وجاء حكم الجنائية الدولية بتوقيف نتنياهو وغالانت ليضرب قلب المعضلة السياسية الماكرونية، ويضع فرنسا وأوروبا بأكملها في حرج أكبر في الوقت الذي يضرب فيه فلاديمير بوتين القارة العجوز بضراوة غير مسبوقة. وعلى عكس أميركا التي تبجحت بمهاجمة المحكمة الجنائية وأفعالها، تخشى أوروبا أن سلوكا مماثلا مع إسرائيل سوف يصب في النهاية في مصلحة روسيا التي لن تفوت الفرصة -غير مخطئة في ذلك- من أجل تسليط الضوء على معايير العدالة المزدوجة التي يتبناها الغرب.
بالنسبة لفرنسا تحديدا، ربما يلحق مثل هذا التصرف ضررا لا يمكن إصلاحه بسمعتها، حيث سيعد نكوصا عن التزامها التاريخي في المحاكمات الدولية الكبرى، مثل دعم المحكمة الجنائية الدولية في محاكمة قادة يوغوسلافيا السابقة إثر الجرائم المرتكبة في البوسنة والهرسك، ومحاكمة المسؤولين عن الإبادة الجماعية في رواندا، ودعم الجهود الدولية لمحاسبة مرتكبي الجرائم في دارفور، وهو ما يعني أن دعم إسرائيل المتواصل سوف يأتي محملا بفاتورته الخاصة من التبعات.
إعلانأبعد من ذلك، هناك مصالح براغماتية تماما تجعل إيمانويل ماكرون راغبا في تحجيم سلوك إسرائيل في أدنى الأحوال، وكلمة السر هنا هي لبنان. فبعد كل شيء، لا تعد غزة، وفلسطين بأسرها، على أهميتها الجيوسياسية سوى مسرح للمناورات التكتيكية الفرنسية، أما بيروت فهي المكان الذي يهم باريس حقا، وهي للمفارقة البلد الذي اختار نتنياهو توسيع دائرة النيران إليه، وهو ما لم يعجب الإليزيه كثيرا.
في يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول، سيصعّد ماكرون غضبه تجاه إسرائيل خلال اجتماع لقادة مجموعة دول "ميد 9" التي تضم دول الاتحاد الأوروبي المطلة على البحر المتوسط، قائلا إنه من غير المقبول أبدا أن يستهدف الجيش الإسرائيلي قوات الأمم المتحدة الموجودة في لبنان، مشيرا إلى قصف جيش الاحتلال المقر الرئيسي لليونيفيل في رأس الناقورة، وهو واحد من الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة للمواقع التابعة "للقبعات الزرقاء".
وأردف ماكرون مؤكدا أن الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وفي لبنان بات ضروريا للجميع، وبات ملحّا لتحرير "أسرانا". في نفس الخطاب سيبرر الرئيس الفرنسي موقفه بشأن مسألة إيقاف تصدير الأسلحة لدولة الاحتلال برغبة باريس في عدم انتشار العنف في المنطقة، حيث سيقول في هذا الصدد: "بعض المسؤولين الحاضرين هنا قاموا أيضا بمنع إرسال الأسلحة إلى مسرح الأحداث، هذا هو السبيل الوحيد لمنع تصاعد العنف في المنطقة".
كانت كرة الثلج قد بدأت في التدحرج بقوة على الجبهة اللبنانية منذ اغتيال حسن نصر الله وقيادات حزب الله نهاية سبتمبر/أيلول الماضي لتصنع فجوة ضخمة بين إسرائيل وفرنسا. لقد تيقن ماكرون أن نتنياهو كان يخدعه طوال الوقت، تاركا إياه يسعى على قدم وساق، في حين يخطط هو لإشعال الحرب أكثر وأكثر بل وتوسيعها إلى لبنان رغم علمه بأهميتها بالنسبة لباريس.
إعلانلذلك، عندما صدرت مذكرة الاعتقال في حق نتنياهو، خرجت فرنسا بموقف غير حاسم في محاولة لتكديس أوراقها لانتزاع تنازلات من نتنياهو في الملف اللبناني، والضغط على إسرائيل لقبول فرنسا وسيطا في الاتفاق بجانب الولايات المتحدة.
لذلك، بمجرد أن لاحت بوادر الاتفاق اللبناني في الأفق، نكصت فرنسا على عقبيها مصرحة في بلاغ لوزارة الخارجية أن بنيامين نتنياهو سيتمتع بحصانة "الدول غير الأطراف" في المحكمة الجنائية الدولية، ومؤكدة أن فرنسا تعتزم مواصلة العمل بشكل وثيق مع نتنياهو لتحقيق السلام والأمن للجميع في الشرق الأوسط، بما يتناقض رأسا مع الإعلان السابق حول احترام نظام العدالة الدولية.
لم يكن هذا التراجع حبا في نتنياهو، ولكنه مناورة سياسية حتى تتمكن باريس من تتويج مسعاها في الوصول لاتفاق وقف إطلاق نار في لبنان، وهو ما لم يكن رئيس الحكومة الإسرائيلية ليقدمه لماكرون مجانا ودون مقابل، والأهم أنه عودة لنقطة الأساس في العلاقات الفرنسية-الإسرائيلية والأوروبية-الإسرائيلية بشكل عام. فإسرائيل هي ابنة أوروبا وأمها وصديقتها، وما سوى ذلك مجرد جمل اعتراضية وإشارات رمزية لا تزن كثيرا في أوقات الحسم، سواء صدرت عن جاك شيراك أو إيمانويل ماكرون.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أبعاد المحکمة الجنائیة الدولیة رئیس الوزراء الإسرائیلی أکتوبر تشرین الأول السابع من أکتوبر إیمانویل ماکرون بنیامین نتنیاهو الرئیس الفرنسی الأمم المتحدة دعم إسرائیل أن فرنسا فی لبنان فی غزة وهو ما أنه لا لم یکن فی یوم
إقرأ أيضاً:
لا تقدم جديدًا للقوات الإسرائيلية التي تتمركز عند مبنى محافظة القنيطرة
أكدت صحيفة "الوطن" السورية نقلا عن مصادرها اليوم الثلاثاء، أنه لا تقدم جديدًا للقوات الإسرائيلية التي تتمركز عند مبنى محافظة القنيطرة.
وأكدت الصحيفة أن "قوات الاحتلال الإسرائيلي تتمركز حاليا أمام مبنى محافظة القنيطرة عند مشتل الزهور (جسر الرقاد) حيث قامت بإنشاء السواتر على الطريق الواصل بين مدينة البعث وقرية الحميدية عند مبنى المحافظة".
وأضافت: "قوات الاحتلال تقدمت صباح الأمس لساعات قليلة إلى مفرق الفرن الغربي جانب مديرية الثقافة في الحي الخدمي بمدينة البعث، ثم تراجعت إلى الموقع السابق (مبنى المحافظة) وأي معلومات عن تقدم جديد لقوات الاحتلال غير دقيقة إطلاقا".
وأوضح أحد السكان المحليين للصحيفة: "قوات الاحتلال طالبت أهالي قرية الحرية بالإخلاء ولكن الأهالي رفضوا الخروج وأصروا على البقاء في منازلهم".
وأكد مصدر مسؤول في محافظة القنيطرة "تأمين مادة الخبز لأهالي قرية الحميدية كما تم تزويدها بالكهرباء وهناك تواصل مع قوات الطوارئ الدولية من أجل إدخال خزانات لتعبئتها بالمياه وتزويد الأهالي منها بعد تعطل الشبكة المزودة للبلدة بالمياه أثناء قيام قوات الاحتلال بإنشاء السواتر".
وأشار المصدر إلى تواصل عدد من الفعاليات الاجتماعية والشعبية مع قوات الأمم المتحدة بشأن تجاوز الاحتلال الإسرائيلي خط وقف إطلاق النار (1974).
من جهة أخرى نفى رئيس بلدية حينة في ريف دمشق الغربي جورج هيلانة ما ينشر على بعض المواقع حول دخول القوات الإسرائيلية للبلدة أو القرى المجاورة والحياة طبيعية واعتيادية.
كما نفى مختار تجمع قطنا بسام هزاع الشرعبي العنزي وجود أي قوات إسرائيلية بالقرب من منطقة قطنا أو مشارف خان الشيح، مؤكدا أن كل ما ينشر على بعض المواقع والصفحات عار عن الصحة.
يوم الأحد توغل الجيش الإسرائيلي عدة كيلومترات داخل الجولان السوري وسيطر على موقع جبل الشيخ العسكري السوري بعد أن غادرته قوات النظام، حسب ما نقلت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية.
وقال مستشار مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي دميتري جندلمان يوم الاثنين إن القوات الإسرائيلية تقوم بإنشاء منطقة أمان "عزل" إضافية خارج منطقة الفصل على الجانب السوري من جبل الشيخ.
ونشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي صورا قال إنها لقوات جيش الدفاع خلال مداهمتها منطقة جبل الشيخ في جزئه السوري.