السلاح يكشف الحقيقة دائمًا!
تاريخ النشر: 17th, August 2023 GMT
فى ساعة متأخرة من مساء الإثنين الماضى؛ اندلعت اشتباكات عنيفة بين «قوة الردع الخاصة» وعناصر «اللواء ٤٤٤»، عقب احتجاز الأولى العقيد «محمود حمزة» آمر اللواء ٤٤٤ فى مطار معيتيقة بطرابلس، قبل وقت سابق من اليوم ذاته. بعد مضى ساعات معدودة وخلال نهار الثلاثاء، وصلت حصيلة الضحايا إلى ٢٧ قتيلًا و١١٠ مصابين من الجانبين، بعد أن شهدت الاشتباكات استخدام الأسلحة المتوسطة وراجمات الصواريخ، فضلًا عن الانتشار الكثيف للقوات التابعة لـ«اللواء ٤٤٤» الذى أعقب استهداف نقاط الارتكاز والحواجز الأمنية من قِبل قوات الردع، هذا فتح الباب أمام رغبة كل طرف فى إيقاع أكبر خسائر ممكنة بالطرف الآخر، ومهد الطريق أمام نزول الآليات الثقيلة والدبابات إلى شوارع العاصمة «طرابلس».
قوات الردع الخاصة تابعة للمجلس الرئاسى، فيما يمثل «اللواء ٤٤٤» أهم وأكبر الأذرع العسكرية والأمنية لحكومة الوحدة الليبية، وهو ما يفتح باب التكهنات حول دوافع تلك المبارزة المسلحة الشرسة بين طرفين يُفترض أنهما ينتميان لمعسكر واحد. لكن ما بدا من استخدام كليهما للسلاح بهذه السرعة؛ أن الدوافع ربما تتجاوز عملية الاحتجاز التى تسببت فى اندلاع الاشتباكات، أو قد يكون الاحتجاز للقيادى العقيد «محمود حمزة» يمثل فى حد ذاته عرضًا لاحتقان مسبق مكتوم له أسباب لم تظهر على السطح بعد. تدخل مكون محلى يسمى «مجلس أعيان سوق الجمعة» مساء الثلاثاء، لإبرام صفقة وساطة تقضى بتسليم حمزة إلى جهة محايدة، على أن يُجرى ذلك بإشراف المجلس الاجتماعى لسوق الجمعة والنواحى الأربع. وقد سبق ذلك الاجتماع مع حكومة الوحدة الوطنية؛ جرى خلاله الاتفاق على تسليم آمر «اللواء ٤٤٤» إلى جهة محايدة، وإيقاف جميع العمليات العسكرية مع التعهد بعودة الوحدات إلى ثكناتها العسكرية، على أن يجرى بشكل عاجل حصر الأضرار المتمثلة فى الممتلكات العامة والخاصة، والقيام بتعويض أصحابها من حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة.
مركز طب الطوارئ والدعم، كشف عن زاوية أخرى من المشهد الذى استعر على نحو مفاجئ، حيث قدم الحصر الموثق الوحيد الذى رصد سقوط «٢٧ قتيلًا و١١٠ مصابين»، فيما أشير إلى أنه كان هناك اضطرار لإجلاء ٢٣٤ عائلة من مناطق المواجهات جراء الاشتباكات التى استُخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، مما استلزم أيضًا إنشاء ثلاثة «مستشفيات ميدانية» لإسعاف الجرحى. لذلك شهدت مناطق جنوب شرق طرابلس تطورات أمنية متسارعة على خلفية عملية الاحتجاز، حين قرر وزير الداخلية «عماد الطرابلسى» تشكيل «غرفة أمنية» داخل العاصمة، تتولى فض الاشتباكات ونشر عناصر أمنية من هيئة الشرطة، لتحقيق استتباب الأمن بأسرع وقت ممكن، ووضع الخطط الكفيلة بالتأمين والحماية وزرع الطمأنينة فى نفوس المدنيين داخل نطاق مدينة طرابلس ومحيطها، بالتنسيق مع مركز طب الطوارئ والدعم والجهات المعنية ذات العلاقة التى غابت عن المشهد فى ساعاته الأولى.
وزارة الداخلية كى تحاول احتواء ما جرى خصصت بشكل عاجل عددًا من الدوريات بلغ مجموعها ٤٢٠ دورية، تتبع ثمانى جهات. هذه الجهات هى جهاز دعم الاستقرار ورئاسة أركان القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، ومديرية أمن طرابلس والإدارة العامة للعمليات الأمنية، والإدارة العامة للدعم المركزى وجهاز الأمن والتمركزات الأمنية وجهاز الأمن الداخلى. فقد خيمت حالة واسعة من قلق العودة مرة أخرى للاحتكام إلى السلاح، لتقويض حالة الاستقرار الأمنى الهشة التى تشهدها العاصمة منذ شهور والتى تسعى الأطراف المعنية لاستثمارها من أجل المضى فى العملية السياسية. ليأتى هذا المشهد كى يكشف عن أن تلك الهشاشة تمور تحتها عشرات المخاطر، أبرزها هذا التعدد غير المسبوق للمكونات العسكرية والأمنية القادرة على حمل السلاح، والنزول للميدان وخلط الأوراق فى أى لحظة حتى وإن كانت الدوافع واهية أو الخلافات على تلك الشاكلة، التى تفاقمت فى ساعات لتروع سكان العاصمة برمتها.
المبعوث الأمريكى الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، يرى أن ليبيا حققت تقدمًا ما خلال الأشهر الماضية على عدة أصعدة، ولفت فى الوقت نفسه إلى أن العنف المسلح الذى اندلع فى العاصمة طرابلس يمكن أن يعيق هذا التقدم. رغم أن حوادث مماثلة تحمل هى الأخرى دلالات عدة، وقعت منتصف يوليو الماضى قبل شهر واحد من أحداث العاصمة، عندما أعلنت قبائل منطقة الهلال النفطى، عن إغلاق حقول النفط بـ«الجنوب الشرقى» للبلاد، فضلًا عن منابع النهر الصناعى التى تغذى العاصمة طرابلس. المثير للقلق أن خطوة بهذا الحجم كانت دوافعها المباشرة ضغطًا مباشرًا على السلطات فى طرابلس للإفراج عن وزير المالية فى الحكومة السابقة «فرج بومطارى»، بعد اختطافه فور وصوله إلى مطار معيتيقة من قِبل أحد المكونات العسكرية والأمنية. التهديد كان جديًا وبالفعل أغلق «حقل الفيل» النفطى تأكيدًا لتلويح زعيم قبيلة الزوى «السنوسى الحليق» حينها، كما اشتمل التهديد أيضًا على قطع المياه عن العاصمة فى حال عدم الاستجابة لمطالبهم، بعدما توجه عدد من المحتجين إلى الحقل النفطى وأجبروا العاملين على المغادرة تحت تهديد السلاح، وأوقف العمل بأحد أكبر الحقول النفطية فى البلاد. عواقب مثل تلك الأمور تتسبب فى تهديد واسع لسوق النفط الليبية، وترسخ فقدان الثقة فى قدرات الدولة وأجهزتها وتدفع بخلط كبير لمنظومة الأمن والاستقرار، مما يجعل خطة إجراء الانتخابات المقبلة يشوبها قدر عالٍ من عدم اليقين.
يبدو المشهد الأخير الذى جرى احتواؤه فى طرابلس، بعدما أسقط هذا العدد من الضحايا، واقترب بأكثر مما ظن القائمون على الأمر من مركز القرار والسيادة الافتراضية. كاشفًا عن عمق أزمة الغرب الليبى وجوهر معضلة العاصمة الرئيسية، المتمثلة فى الأجسام المتنوعة المزودة بالعتاد والسلاح الثقيل التى ظلت تأتمر بأمر مشغليهم ومموليهم، اليوم تلعب دورًا أشبه بـ«الدولة العميقة» التى تجاوزت قدرات هؤلاء جميعًا فى فرض القرارات على الأرض، ويمكنها تفجير كامل المشهد من الداخل حين تتعارض مصالحها مع أى من المكونات أو القوى المنافسة، فهل يتقدم أحد لمواجهة مثل تلك الحقائق والمتغيرات على قلب المشهد الهش، المنذر بمستقبل أكثر غموضًا وارتيابًا مما مضى على ساحة التفاعلات الليبية؟.
خالد عكاشة – صحيفة الدستور
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: اللواء ٤٤٤
إقرأ أيضاً:
هل "العمل عن بُعد" مستقبل دائم أم حل مؤقت؟
د. سعيد الدرمكي
رغم التحفظات التي أبدتها بعض الجهات في بدايات تطبيق العمل عن بُعد، إلّا أنَّ السنوات الأخيرة شهدت قبولًا متزايدًا لهذا النموذج من قبل الشركات والأفراد، بعد أن كان مقتصرًا على عدد محدود من الوظائف. تحوّل العمل عن بُعد من خيار اضطراري إلى توجه استراتيجي دائم تتبناه المؤسسات حول العالم.
ولم يعد يُنظر إليه كمجرد استجابة مؤقتة، بل أصبح عنصرًا أساسيًا في تصميم بيئة العمل الحديثة. هذا التحول أثار تساؤلات جوهرية حول مستقبل الوظائف، وأعاد تشكيل مفاهيم مثل الإنتاجية، التوازن بين الحياة والعمل، والاستدامة.
لقد أثبت العمل عن بُعد فاعليته في منح الموظفين مرونة أكبر لاختيار أوقات التركيز، مما انعكس إيجابًا على جودة العمل. وأظهرت دراسة لجامعة ستانفورد أن الإنتاجية ارتفعت بنسبة 13% لدى الموظفين العاملين عن بُعد، نتيجة تقليل الانقطاعات وتحسين بيئة العمل الشخصية.
اقتصاديًا.. يُعد العمل عن بُعد خيارًا فاعلًا للشركات، إذ يُسهم في خفض التكاليف المرتبطة بالبنية التحتية مثل فواتير الطاقة وتأجير المكاتب. ووفقًا لتقرير صادر عن تحليلات بيئة العمل العالمية، فإن المؤسسات يمكنها توفير ما يصل إلى 11000 دولار سنويًا عن كل موظف يعمل عن بُعد بدوام جزئي. هذا التوفير يتيح إعادة توجيه الموارد نحو الابتكار والتطوير.
وفي المقابل، يستفيد الموظفون من تقليل نفقات التنقل اليومية، إلى جانب خفض المصاريف الشخصية المرتبطة بالحضور، مثل وجبات الطعام والملابس المهنية. هذا يعزز من دخلهم الفعلي، ويوفر وقتًا يمكن استثماره في الإنتاج أو الراحة، مما يرفع مستوى الرضا الوظيفي.
من جانب آخر، يُسهم هذا النموذج في توسيع نطاق التوظيف؛ حيث يمكّن المؤسسات من استقطاب كفاءات من مختلف المناطق دون التقيّد بالموقع الجغرافي. وهذا يعزز التنوع ويوفر فرصًا عادلة للأفراد في المناطق البعيدة أو لمن يواجهون صعوبة في التنقل.
ورغم هذه الإيجابيات، لا يخلو العمل عن بُعد من تحديات. أبرزها ضعف التواصل والتعاون، وغياب الاجتماعات الواقعية، مما قد يؤثر على العمل الجماعي ويحد من الإبداع. كما يمثل الأمن السيبراني تحديًا؛ إذ إن العمل من خارج الشبكات المؤسسية يزيد من احتمالية التعرض للاختراقات، ما يتطلب استثمارًا أكبر في حماية البيانات وتوعية الموظفين.
ومن التحديات الأخرى، صعوبة الفصل بين الحياة المهنية والشخصية، بسبب غياب حدود واضحة بين المهام العائلية والعمل. ولذلك فإن نجاح العمل عن بُعد يعتمد على الإدارة الواعية، ووضع استراتيجيات فاعلة للتوازن وضبط الحدود بين الجانبين.
لمواجهة هذه التحديات، تتجه المؤسسات نحو نموذج العمل الهجين الذي يجمع بين مزايا العمل المكتبي والعمل عن بُعد. وقد بدأت الكثير من المؤسسات في اعتماده كخيار مرن يتناسب مع طبيعة الوظيفة. في سلطنة عُمان، تبنّت العديد من الجهات هذا النموذج، مستفيدة من تطور البنية الرقمية وتطبيق الدوام الجزئي لبعض الوظائف. كما أصدرت وزارة العمل خلال شهر رمضان توجيهات تسمح بالدوام المرن والعمل عن بُعد في القطاع الحكومي، مما ساهم في استمرارية الأداء وتقليل الازدحام. ووفقًا لوكالة الأنباء العمانية، فإن 70% من الجهات الحكومية العُمانية تبنّت سياسات مرنة تشمل العمل عن بُعد خلال فترات مُعينة.
خليجيًا.. يُعد نموذج حكومة الشارقة من التجارب الرائدة؛ حيث نُفّذ العمل عن بُعد تدريجيًا مع مُراعاة طبيعة كل جهة، مع الحفاظ على جودة الخدمات واستقرار الأداء. أما عربيًا، فقد بدأت وزارات في الأردن والمغرب بتطبيق أنظمة مرنة، خاصة في القطاعات التقنية والخدمات الإلكترونية، كخطوة نحو تحسين الكفاءة وتوسيع فرص التوظيف.
وعالميًا.. تبنّت شركات كبرى مثل مايكروسوفت، وجوجل، وأمازون، سياسات واضحة للعمل الهجين، تتيح للموظفين اختيار أيام العمل من المكتب أو من المنزل وفقًا لطبيعة الوظيفة. هذه السياسات ساعدت على رفع الإنتاجية، وتحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة، وزيادة مستويات الرضا الوظيفي.
وقد لعبت التكنولوجيا دورًا محوريًا في تمكين هذا التحول نحو أنماط العمل الحديثة، من خلال استخدام أدوات مثل "مايكروسوفت تيمز" و"زووم" لعقد الاجتماعات الافتراضية، إلى جانب منصات إدارة المشاريع مثل "تريلو" و"أسانا" التي تُستخدم لتنظيم المهام ومتابعة سير العمل. كما ساهمت خدمات التخزين السحابي في تمكين الموظفين من الوصول إلى الملفات والبيانات في أي وقت ومن أي مكان، مما عزز من مرونة الأداء ورفع كفاءة التنسيق بين الفرق المختلفة.
وفي الختام، لم يعد العمل عن بُعد مجرد خيار مؤقت فرضته الظروف الاستثنائية؛ بل أصبح مكونًا أساسيًا في مستقبل بيئات العمل. ومع استمرار التوجه نحو نموذج العمل الهجين، فإنَّ المؤسسات التي ستقود هذا التحول هي تلك التي تستثمر في البنية الرقمية المتقدمة، وتُرسّخ ثقافة مؤسسية قائمة على الثقة، والمرونة، والتركيز على النتائج.