قراءة فكرية في دور الفن والإبداع ضمن مسار مقاومة جرائم الإبادة الجماعية
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
ـ 1 ـ
تتجه الدّراسات الجمالية عامة، حينما تبحث في علاقة الكتابة بالواقع في الأزمات الإنسانية الكبرى خاصّة، إلى إحدى الوجهتين وإن اختلفت العناوين والتسميات:
ـ إلى اتجاه الفن للفن الذي يرى في الفنان عامّة، صانعا للجميل الممتع ولما يجعل من الفنّ فنّا، قياسا عليها. ورغم كل ما كان لهذه العبارات من الإطراء زمن هيمنة الدراسات الإنشائية، لا تبتعد صورة المبدع ضمنها اليوم كثيرا عن صورة الحرفيّ الذي يصنع أشكالا جميلة لا يستطيعها من لم يتدرّب على ضرب الحديد كفاية ليصبح بفعل الممارسة والدأب حدّادا.
ـ وإلى اتجاه الفن باعتباره التزاما ورسالة. ولا تَخفى هشاشة هذا الاستعمال أيضا. فصيغته تجعله عرّضة للتحامل والتبخيس. ففيه ضمنا ما يفيد أنّ الفنان يقيم في دنيا الفن كعابر السبيل لأنه يتقمّص دور المبدع ولكنه يجعل منه تقية ليخفي خلفه دور السياسي أو المصلح الاجتماعي اللذين يعيشهما في العمق.
ولن يكون الجمع بين "الممتع والمفيد" مجديا، فهو لا يزيد عن صيغة توفيقية لا ترتقي إلى فهم الإبداع باعتباره صيغة لسكنى الوجود وتصوّرا لمنزلة الإنسان فيه.
وفي سياقنا. الحالي يطرح سؤال ملح حول دور الفنان العربي إزاء ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إجرام إسرائيلي خاصّة أن القضية الفلسطينية مثلت المحور الرئيسي في تظاهرتين ثقافيتين جدّتا هذه الأيام في البلاد العربية.
ـ 2 ـ
مواجهة للتعتيم الإعلامي جعلت الدورة الخامسة والأربعين من "مهرجان القاهرة الدّولي للسينما"، السينما في فلسطين إبداعا وصناعة في واجهتها بغاية تبليغ الصوت الفلسطيني ومعاناة الفلسطينيين إلى أحرار العالم. وأحدثت المسابقات الخاصّة بها. فقد جعلت من فيلم "أحلام عابرة" للمخرج رشيد مشهراوي عرضت للافتتاح. وجعلت من مكونات برنامج "أضواء على السينما الفلسطينية" مناسبة لعرض أفلامها القصيرة ومن ضمنها "أحلام كيلو متر مربع" للمخرج قسام صبيح والوثائقي "سن الغزال" للمخرج سيف حماش، و"ولدت مشهورا" للمخرج لؤي عواد وجميع صنّاعها من المخرجين الشبان. وتفاعلا مع مبادرة المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي التي جمعت22 مخرجًا من غزة، حاولوا تقديم رؤيتهم السينمائية للحياة اليومية تحت القصف والقنابل عرضت أفلام قصيرة جدا منها "جنة الجحيم" و"سِحر" و"صحوة" و"جاد وناتالي" و"هنا عليوة" و"كل شيء على ما يرام" و"تاكسي ونيسة" و"24 ساعة" و"سليفي" و"خارج التغطية".
وضمن برنامج "آفاق السينما العربية"عُرضت عديد الأفلام الوثائقية الفلسطينية الطويلة. وأمكن للمتفرج مشاهدة أفلام كانت فلسطين محورها منها "عُطل في فلسطين" للمخرج الفرنسي "مكسيم ليندون" أو فيلم."غزة التي تطل على البحر" للفلسطيني محمود نبيل. واشتمل حفل الاختتام على قصيدة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" للراحل محمود درويش، وعرض فني لفرقة "وطن للفنون الشعبية" من فلسطين. فكان الفن معبّرا عن صوت المصريين المكتوم سياسيا.
ـ 3 ـ
وكان حضور القضية الفلسطينية في "أيام قرطاج المسرحية" خاصة من خلال الندوة الدولية التي عقدت بعنوان "المسرح والإبادة والمقاومة نحو أفق انسي جديد". وطبيعي أن يكون النص النقدي أكثر مباشرة في طرح قضايا الاحتلال ومناصرة المقاومة. وبالفعل فورقتها العلمية تعلن أنّ "للبشرية في زمنها المعاصر تحارب مريرة مع الدمار وللدمار معنى مادي هو تدمير الشوارع والطرق والمباني والمؤسسات والمقرات والتماثيل والمعالم وتعظيم كامل محتوياتها. ويكون هدف مقترفي التدمير من إبادة الأمكنة جعل حياة الناس عسيرة والتواصل بينهم متقطعا واللحمة التي يفترض أن تجمعهم مكسورة وحركة الإنتاج المادي والفكري لديهم أقل استمرارا وانسجام.
لكن الدمار يطال أيضا كل مواقع إنتاج الفنون وتداولها، وبذلك تكون له دلالة معنوية تجعله جزءا من إبادة الإثنية تغتال الذاكرات الإنسانية التي تحفظها تلك الفنون، مستودع التواريخ وأرشيف الحياة الجارية وسجل المستقبلات المنشودة حيث تمنع سرد الروايات الأهلية بأصوات الفنانين المتجذرين في ثقافاتهم".
ومن هذه الخلفية تنوعت جلساتها العلمية فجاءت بعنوان "المسرح والإبادة والمقاومة: أطروحات ومقاربات" أو "المسرح وأتيقيا التعبير عن الدمار والإبادة" أو :"المسرح والعنف والديكتاتورية. فتناولت التونسية إيناس زرق عيونه موضوع "الإبادة الجماعية في غزة على المسرح في تونس" تحت عنوان فرعي هو "أي أيطيقيا لأي أخلاقيات مهنية؟" ودرست الأردنية نجوى قندقجي "سرديات الجسد المقاوم والجماليات الأدائية المستترة". أما أنديرا راضي المصرية التونسية فبحثت في المقاومة عند "أوغوستو بوال" وتجلياتها الواقعية في غزة.
ونزّل عبد الحليم المسعودي عمل المسرحي ضمن سياق جمالي أشمل في ورقة بعنوان " الرهانات الجمالية على حواف مسرح الإبادة: من التراجيديا الإغريقية الى مسرح الهولوكست"، فيما نزّله الناقد والجامعي الفرنسي ألان جنحون ضمن سياق فلسفي في ورقة بعنوان ":من عقد عربي - فلاسفة وشعراء يدافعون عن غزة".
ـ 4 ـ
ولم تكن غزة وحدها موضوعا لعلاقة الفن بالمقاومة والتصدي لمحاولات الإبادة الجماعية في هذه الندوة. فضمن محور "الفرجة لمقاومة والاستعمار والحرب الأهلية" تم استحضار مآسي كثيرة منسية تجمع بينها الحروب الأهلية شأن ما حدث في البوسنة والهرسك زمانا أو ما يقع في اليمن اليوم. ولنا في ورقة الناقد السوداني السر سعيد محمد الذي عاقته الحرب عن الاستجابة لدعوة المهرجان خير دليل. ف قدم مداخلة مسجلة عن العنف المنظم والمقاومة في التجربة المسرحية السودانية استهلها بعرض شهادته عن الجرائم التي تحدث في الحرب الأهلية السودانية اليوم، ووجدها امتدادا لحروب كثيرة كان الشعب السوداني ضحية لها منذ القرن الثامن عشر.
يسهم "نظام التفاهة" اليوم في تزييف الوعي ليتغنى بمكتسبات الإنسان الحديث ويختزلها في عناوين براقة مثل "التخلص من العبودية" أو "التحرر من الاستعمار" أو "حرية استمتاع المرء بجسده" ضمن العمل على بسط الفرد لسلطته على كيانه وتخليصه من دكتاتورية الدين والأخلاق أو "تحرير المرأة من هيمنة المجتمع الباترياركي وحقها في التصرف في جسدها بما في ذلك الحق في الإجهاض.ثم عاد إلى مسرحية "الذين عبروا النهر" التي عرضت على خشبة المسرح القومي السوداني 2002 ليجد فيها تجسيدا لدور الفنان المقاوم. والعرض هو مسرحية من فصل واحد كتبها عادل إبراهيم محمد خير، وأخرجها منصور علي عبيد. فطرح فيها مأساة حرب الجزيرة أبا، مهد الثورة المهدية، التي حدثت في مارس 1970 لما هاجمت قوات جعفر النميري الجزيرة بمساعدة مقاتلات مصرية، بقيادة حسني مبارك، قائد في القوات الجوية المصرية حينها. وكانت المجزرة رداً على احتجاجات أنصار صادق المهدي على الحكومة المشكلة في الخرطوم وأبيد فيها نحو 12.000 وصادرت الدولة إثرها أملاك عائلة المهدي.
تحاول المسرحية التّسلل إلى باطن جندي شارك في هذه الحرب ومن خلال هواجسه تعرض مطاردته من قبل طيف الإمام لتتساءل من المنتصر في هذه الحرب؟ الغزاة أم الشهداء؟ لينتهي الباحث إلى أن العرض مثّل [مشهدا دراميا عميقا تآزرت فيه كل لغات العرض المسرحي لتتحقق في نفس الوقت مقولة العرض الرئيسة وهى "أن المنتصر في هذه الحرب هم الشهداء...هو الإمام، والمهزوم هم الغزاة... هو عنف الدولة.]
ـ 5 ـ
يسهم "نظام التفاهة" اليوم في تزييف الوعي ليتغنى بمكتسبات الإنسان الحديث ويختزلها في عناوين براقة مثل "التخلص من العبودية" أو "التحرر من الاستعمار" أو "حرية استمتاع المرء بجسده" ضمن العمل على بسط الفرد لسلطته على كيانه وتخليصه من دكتاتورية الدين والأخلاق أو "تحرير المرأة من هيمنة المجتمع الباترياركي وحقها في التصرف في جسدها بما في ذلك الحق في الإجهاض. ولكن البحث تحت هذه الطبقة السطحية يكشف لنا ألا شيء قد في هذا العالم المنافق. فالرق يتخذ اليوم أشكالا جديدة منها خاصة الرق الأبيض الذي يهين ذات المرأة باستغلالها في الدعارة ويشيئها بتحويل جسدها إلى أداة للتسويق أو الاستعمار المقنع الذي ينصب على الشعوب الفقيرة أتباعه للقيام بالدور الذي كان جيشه يقوم به ويفرض اتفاقيات ظالمة تنهب خيراته.
من هذا النفاق الدولي المعايير المزدوجة في تطبيق العدالة الدولية. فقانون الأمم المتحدة 96 (د – 1) المؤرخ في 11 كانون الأول / ديسمبر 1946، يجرم الإبادة الجماعية بجلاء. فيعلن [أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها ويدينها العالم المتمدن].
وتتضمن مادته الأولى [تصادق الأطراف المتعاقدة على الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها].
وتحدد المــادة الثانية معناها ف[تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
أ ـ قتل أعضاء من الجماعة.
ب ـ إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.
ت ـ إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
ث ـ فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.
ج ـ نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.]
وتحدد المــادة الثالثة الأفعال التي يقع تجريمها وهي [أ) الإبادة الجماعية.
ح ـ التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية
خ ـ التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية.
د ـ محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.
ذ ـ الاشتراك في الإبادة الجماعية.
ولكن أين هذا القانون من الإجرام الذي يتعرض له الشعبان الفلسطيني والسوداني وبنودها المختلفة تصنفه ضمن الإبادة الجماعية؟
ـ 6 ـ
لهذا النفاق آلياته الجهنمية التي تعتمد للمغالطة ولتزييف الوعي وتهميش الإبادة تجري وقائعها على الأرض هي الصورة. فقد مر استخدامها لاستلاب الشعوب بمرحلتين اختصت كل مرحلة بوظيفة.
في البداية كانت الصورة، التي تعتمد الخطاب البصري أساسا، وسيلة لنشر العمى. وهنا موطن المفارقة الكبرى كما هو بيّن. فقد كان الطرف المهيمن، وخالق الصّور الذي يريد أن يؤبد استعمار الشعوب عبر التحكم فيها عن بعد، من يختار لنا ما نرى من هذا الوجود ويختار لنا الزاوية التي يجب أن نرى منها الأشياء: فيجعل منها آليته لغزوه الثقافي الذي يجعلنا نرى الوجود بعينيه وندركه في النهاية بعقله المتآمر. يتحقق ذلك في نشرات الأخبار أو في العروض الركحية أو السينمائية، بل في المشاهد العادية من الحياة اليومية أحيانا.
ثم لما فقد هذا "المستعمر النبيل" القدرة على التحكم في الصورة وتوجيهها بعد أن باتت مشاعة بفعل انتشار التقنية وأصبح الجميع قادرا على إنتاجها غيّر من إستراتيجيته. فنشر عبر قنواته الفظاعة على نطاق واسع لتحيط بنا في كل ناحية إلى درجة تفقد معها الصورة كل تأثّر بهول المشاهد فننخرط ونحن نشاهدها في ما يشبه التنويم المغناطيسي. وتتحوّل وظيفتها من عرض ما يحدث من جرائم وفضح فظاعتها إلى وظيفة التهويم وتحويل هذا الواقع إلى عالم افتراضي متخيل. فلا نتفاعل مع المدن التي تهدم بأسرها على رؤوس قطّانها أو أشلاء الأجساد التي تُمزّق إلاّ كما نتفاعل مع سينما الخيال العلمي أو الفنطازيا التي يتخلّص فيها الأخيار في النهاية من الأشرار المفسدين في الأرض.
هنا يكمن الدور الخطير في للفن اليوم: أن يحررّنا من حالة الاستلاب التي نعيشها وأن يعيد إلينا إبصارنا فلا ندع الآخر يرى عالمنا بالوكالة عنّا وأن يوقظنا من حالة التنويم المغناطيسي التي نعيشها.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير دور الفلسطيني الاحتلال احتلال فلسطين فن ابادة دور أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإبادة الجماعیة فی هذه
إقرأ أيضاً:
أطروحات فكرية تجدد شرعية الاستبداد وتغذي تحالفات السلطة في العالم العربي
قبل عشر سنوات كتبت مقالا بعنوان: "أفكار في خدمة الاستبداد"، علقت فيه على أطروحتين تم تداولهما في مؤتمر عقدته مؤسسة مؤمنون بلا حدود بمراكش سنة 2014، تقول الأولى: إن المدخل إلى العقلنة والتنوير والحداثة يتم عبر العقلنة والتحديث، ونقد الموروث الديني، وتفكيك أنساق تفكيره. وتقوم الثانية، على فكرة إعادة إحياء التقليد بإحالاته المعروفة في الفقه السلطاني وتعزيز الثقة في المؤسسة الدينية التقليدية واعتبارها صمام أمان الاستقرار السياسي في المنطقة.
وقتها كان يبدو لي أن الفكرتين اللتين تبدوان متعارضتين مفصليا، وألا لقاء بينهما في مجال الفكر والمعرفة والمنهج، تخدمان في الواقع هدفا مشتركا في حقل السياسة، وهو خلق تحالف بين التقليد بكل مستوياته ومكوناته وبين الفكر الحداثي بكل تحققاته الواقعية، ورسم معادلة: "لا استقرار بدون تعايش مع الاستبداد" في مقابل معادلة: "لا استقرار بدون إصلاح وتغيير"، فيتم بناء تحالف في عالم الفكر، بقصد الوصول إلى تحالف آخر في عالم السياسة، يضع هدف مواجهة تيار مجتمعي، يؤسس لفكرة مواجهة الاستبداد من قاعدة المرجعية الإسلامية والفكر الإسلامي.
الآن، وبعد استقراء طويل لعدد من المشاريع والأطاريح الفكرية التي أصّل لها مفكرون ومثقفون من إيديولوجيات مختلفة، نضجت الفكرة النقدية أكثر، واتضح لي أن القصد لا يتوجه بالأساس إلى مواجهة ما يعرف بـ "تيار الإسلام السياسي"، بحجة أنه يمثل العائق الحقيقي أمام التحديث، وإنما يتوجه إلى إعادة تجديد الأطروحة السلطوية، وبناء مشروعيتها وحججها الفكرية والمعرفية، وأن الاختباء وراء نقد الموروث، أو القطع مع التراث والفطام عنه، أو طرح مفهوم "إسلام القرآن" في مقابل "إسلام الحديث"، أو "استعادة التنوير الرشدي" عند البعض، كان القصد منها بالأساس هو الاقتراب من مربع السلطة، وتقديم خدمات لها بعرض مشاريع فكرية لتجديد المشروع السلطوي، وتبرير تأخير معارك الحرية والعدالة والديمقراطية، وخلق خلط والتباس أو صراع أولويات بين مكونات منظومة الحرية بوضع الثقل كله في خانة الحريات الفردية، خاصة منها ذات البعد الغريزي، وإهمال الحقوق المدنية والسياسية، التي تعتبر الهيكل الأساس لـي مشروع تنويري حداثي.
معركة الحرية ومواجهة الاستبداد تراجعت بالمطلق، وصار مطلب "القوى المستنيرة" هو إنقاذ المجتمع من "إسلام تيارات الإسلام السياسي"، سواء بالتحالف مع المؤسسة الدينية التقليدية، أو بدعم التصوف، أي دعم اللامعقول، أو من خلال التمييز بين إسلام القرآن، وإسلام الحديث، أو من خلال دعم شرعية الدولة بإحياء أطروحة الأحكام السلطانية بعيدا عن مطلب دمقرطة الدولة وتحديث السياسة. في هذا المقال، نتقاسم مع القارئ مسار التحول في فكرة خدمة الاستبداد، وبعض المشاريع الفكرية التي حاولت تجديد المشروع السلطوي، ونقدم مساهمة في كشف الجسور التي التقت عليها هذه المشاريع مع اختلاف أصولها وخلفياتها الفكرية والمعرفية. لكن، قبل ذلك، من الضروري الإشارة في مدخل هذا لوثيقة مهمة اسمها "الإسلام المدني الديمقراطي"، صدرت عن مركز راند، وصدر لنا كتاب مستقل في تحليليها والكشف عن خلفياتها، تشير توصياتها إلى الكيفيات التي يمكن من خلالها إحداث التحالفات الممكنة بين التيارات الثقافية في العالم الإسلامي، حتى ولو كانت متعارضة من حيث المواقع الفكرية، لأن ما يبرر اجتماعها مع تناقضها الفكري هو مواجهة تيار الإسلام السياسي بمختلف مكوناته، والبحث عن تأويلات معتدلة وحداثية للإسلام.
تعارض مفصلي في حقل الفكر والتقاء في عالم السياسة
تقدم ورقة "الإسلام المدني الديمقراطي" تصنيفا لأربعة اتجاهات فكرية تخترق العالم العربي والإسلامي، كل منها يحمل تأويلا خاصا للإسلام. أولها الأصوليون الذين يتمسكون بالإسلام كمرجعية وإيديولوجية، ويضم هذا الاتجاه طيفا واسعا ومتباينا يجمع ملالي الشيعة وحزب التحرير وطالبان والوهابيين، وتميز الورقة بينهم بضابط ممارسة الإرهاب والعنف من عدمه. واتجاه تقليدي محافظ يحرص على تطبيق الشعائر والطقوس الدينية الرسمية مع مجاورة دائمة للدولة. واتجاه حداثي، يؤمن بأن الإسلام جاء لمرحلة زمنية مضت، ويمكن اليوم تطويره بحسب الواقع الجديد والقيم العصرية، واتجاه علماني، يقول بفصل الدين عن الدولة.
توصي ورقة "راند" بعدد من التوصيات التي تحكم طبيعة التحالفات التي ينبغي الاشتغال عليها لتقريب بعض هذه الاتجاهات من بعض وإبعاد بعضها عن البعض الآخر، وترى أن محاصرة الأصوليين، ينبغي أن تتم من خلال سيناريو التحالف بين التيار الحداثي والاتجاه التقليدي، مع العمل ما أمكن على عدم تقديم الولايات المتحدة الأمريكية أي دعم ظاهر الاتجاه العلماني، لأن ذلك قد يرتد على ردود فعل مجتمعية معاكسة، تفسد اللعبة كلها. وتوصي الورقة بضرورة دعم التصوف بمختلف تياراته، بما في ذلك الأشكال الأكثر معاداة للعقل منه، ولا تطرح أي فكرة بخصوص مواجهة الاستبداد، أو أي دور يمكن أن يقوم به الإسلام، أو على الأقل تأويلاته المعتدلة في مواجهة استبدال السلطة، لأنها في البدء والمحصلة مشغولة بفكرة واحدة هو إبعاد تيارات الإسلام السياسي سواء التي تستبيح العنف والإرهاب، أو التي تطرح فكرة التغيير السلمي، لأن ذلك يشكل في نظرها خطرا على المصالح ألأمريكية.
نسوق هذه الورقة، لأنها تلخص الرؤية الأمريكية للتغيير المطلوب في العالم العربي، والتي تركز أساسا على فكرة ترويج فهم معتدل للإسلام، أو تأويلات مدنية له، لكنها في جوهر الأمر، لا توصي بالتركيز على المضامين التحررية في الإسلام، أي التأصيل لذات القيم الثورية التي أنتجت الثورة الفرنسية، أو الأفكار الأساسية التي كانت وراء نهضة أمريكا، أي فكرة العدالة والحرية المساواة والديمقراطية، وإنما تركز فقط على فكرة "تطهير" الإسلام والنص الديني عموما من العنف، علما أن العنف في المفهوم الأمريكي يتسع لدلالات كثيرة، بما في ذلك مقاومة الاحتلال.
وإذا كان اشتغال مستودعات التفكير الأمريكية بمثل هذه الأفكار مشروعا، لأنها في البدء والمحصلة، تبحث تحقيق المصلحة الأمريكية، وإحداث تحول في العالم العربي، يخدم المصلحة الأمريكية، فإن سقف المثقف العربي، يختلف تماما عن هذه الرؤية، أو هكذا يفترض أن يكون، لكن، الواقع، يؤكد بأن الرؤيتين، تقتربان في عالم السياسة، بل يقوم المثقف العربي، من حيث لا يدري بخدمة هذه الرؤية الأمريكية التي تقصد إخضاع العالم العربي كله للمصالح الأمريكية. فالمثقف العربي، المزهو بفكرة التقدم، يتغافل أزمة النخب، وبشكل أساس نخب الحكم (أطروحة برهان غليون النقدية مهمة في هذا الصدد) ويحاول أن يبحث عنها في مكان آخر، في الدين والتراث والعقل الإسلامي وقواعده، ويلتقي في ذلك، سواء درى أم لا يدري بالرؤية الأمريكية، التي تختصر التغيير في العالم العربي في سطر واحد هو إعادة قراءة الإسلام قراءة معتدلة، حتى توفر لإسرائيل أمنا مستداما لم تحلم به من أكثر من سبعة عقود.
العروي قيدوم أطروحة دعم الاستبداد
كشف الدكتور محمد عابد الجابري في لقاء مع إحدى القنوات الفضائية الفرق بين مشروعه الفكري ومشروع عبد الله العروي، وذكر أن العروي كان على هامش حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وأنه يؤمن بأطروحة التعاون مع السلطة لإنجاز التحديث، بينما كان الجابري، يلح على أن فعل التحديث والدمقرطة لن يتم إلا ممن خلال "كتلة تاريخية" تتسع لمشاركة تيارات الإسلام السياسي التي كان يعدها العروي الوجه الآخر للتقليد الذي لا يمكن بناء الحداثة من غير مواجهته.
تكشفت أطروحة العروي مع كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" الذي أثار ضجة كبيرة، بنقده للسلفية والقومية والاشتراكية، وتأكيده على أن هذه التيارات كلها، وإن كان بعضها يحمل عنوان التحديث، إلا أنها في الجوهر تتبنى التقليد كمنهج من أجل الوصول إلى الحداثة، وأنها في نهاية المطاف ستجد نفسها داعمة للتقليد لا الحداثة.
بينما كان الجابري يؤصل لفكرة الكتلة التاريخية، وتحديد مكوناتها الأساسية، والعناوين التي يمكن اللقاء على أرضيتها، كان مشروع العروي يتلخص في بناء تحالف مع السلطة السياسية، ببرنامج "فكري ثقافي" يهدف ابتداء تقويض نفوذ تيارات الإسلام السياسي باعتبارها الرمز الأقوى للتقليد، والمساهمة في إضعاف الخلفية الفكرية والثقافية والتراثية التي يقتات منها، وتقوية المضامين الحداثية، على الأقل في برامج التربية والتعليم وأوعية الثقافة وقنوات الإعلام. تأسست أطروحة العروي على دعامتين مترابطتين، الأولى أن المرور نحو التحديث يتطلب استلهام نفس القواعد التي التزمتها الحداثة الأوربية لتأصيل نفسها في المجتمع، وهو ما دعاه إلى طرح فكرة الليبرالية كمرحلة انتقالية. فيما أصل في الدعامة الثانية لفكرة إمكان حصول "اللبرلة من فوق"، أي بشكل قسري من خلال السلطة، على اعتبار أن فعل التحديث، قد لا ينجح إذا تم الاقتصار فيه على فعل التيارات المجتمعية، وأنه في هذه الحال، يمكن اللجوء إلى فكرة وسط، أو أرضية لقاء بين تيارات التحديث وبين السلطة، عنوانه، "التحديث من فوق"، وأرضيته الأساسية "الفطام عن ثقافة الأم"، بما تعنيه هذه الثقافة من موروث تراثي وثقافي متصل بالمصادر المرجعية للأمة والعلوم التي دارت حولها.
وبينما كان الجابري يؤصل لفكرة الكتلة التاريخية، وتحديد مكوناتها الأساسية، والعناوين التي يمكن اللقاء على أرضيتها، كان مشروع العروي يتلخص في بناء تحالف مع السلطة السياسية، ببرنامج "فكري ثقافي" يهدف ابتداء تقويض نفوذ تيارات الإسلام السياسي باعتبارها الرمز الأقوى للتقليد، والمساهمة في إضعاف الخلفية الفكرية والثقافية والتراثية التي يقتات منها، وتقوية المضامين الحداثية، على الأقل في برامج التربية والتعليم وأوعية الثقافة وقنوات الإعلام.
وإذا كانت انتقادات أمس للعروي تركز على أسباب تغافله عمق التقليد داخل السلطة نفسها، وفي الآن ذاته تجاهل المضمون الديمقراطي في التحديث، فإن النقد المتوجه اليوم إلى هذه الأطروحة يسائل مستقبلها وما أنجزته بناء على الأطر التأصيلية التي اعتمدتها، إذ يبين الفارق الزمني بين "الإيديولوجية العربية المعاصرة"، وبين كتابه "ديوان السياسية" أو "السنة والإصلاح" ألا شيء تحقق على مستوى هزم ثقافة الأم، وألا شيء تحقق أيضا على مستوى الاتجاه نحو الليبرالية إلا ما كان من تحريف لمضامينها، وتبني مفهوم هجين لها، يجمع بين الشيئ وضده، وأن النتيجة التي لا يشك فيها أحد أن السلطوية جددت شرعيتها، وأن تيارات التحديث توارت بشكل كلي، لتخلق طبقة أخرى بديلة كليا للمثقفين، هي طبقة المؤثرين، أضحت السلطة مستغنية بالكامل عن خدمات العروي وأمثاله لبناء وتجديد شرعيتها من جديد.
مفكرو نقد الموروث الثقافي
منذ أن كتب المستشرق البريطاني هاملتون جب كتابه "الاتجاهات الحديثة في الإسلام" عن تجزيئية أو ذرية العقل الإسلامي، انصرفت كتابات العديد من المفكرين إلى نقد التراث، ونقد العقل العربي، ودراسة تكوينه وبنيته وقواعد تفكيره، وأصبحت موضة التأصيل لفكر النهضة، أو نقد التخلف، هي جلد الموروث الثقافي، والبحث فيه عن جينات التخلف.
في الواقع لا يمكن أن نقيس أدبيات فكر النهضة التي كانت تنبه على أهمية نقد التراث، إلى كتابات المعاصرين ممن اندمجوا في فكرة خدمة الاستبداد، فما كتبه طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر" أو حتى في كتابه: "نظام الأثينيين" أو ما كتبه سلامى موسى وفرح أنطون وغيرهم، كان مبررا بفعل واقع الصدمة اكتشاف الغرب، والقناعة بأن العقل اليوناني كان سببا في إقلاع الحضارة الغربية، وأن سر نهوض الحضارة العربية الإسلامية يعود إلى اكتشافها لهذا العقل الهليني سواء مع ابن رشد أو مع غيره.
كتابات النهضة التي حملت نفس المضمون النقدي للتراث الأدبي والديني والثقافي، كانت محكومة بهاجس سد فجوة التأخر، بالأفكار التي استلهمها مفكرو النهضة لحظة الصدمة والاكتشاف للغرب، ولم تكن قضايا العدالة والحرية والتمثيل الشعبي غائبة عن مشاريعهم النهضوية، لسبب بسيط هو أن همهم كان النهوض، وكانت الحل هو الوصفة نفسها التي سار عليها الغرب، ولذلك، لم يتردد طه حسين في القول بأنه يجب اتباع الغرب في كل شيء حلوه ومره، قبل أن يتداعى في آخر حياته إلى كتابة الإسلاميات. أما الجيل الجديد من المفكرين المعاصرين المشغولين بفكرة نقد الموروث الثقافي، فمع تمكنهم من فكر الأنوار، وفكر التحديث، وآخر التقليعات الفلسفية فيه (هابرماس)، فإنهم أزاحوا من اهتمامهم قضايا الحريات والعدالة ودمقرطة السلطة، ووضعوا كل بيضهم في سلة نقد الدين، سواء بالتركيز على الاجتهادات التراثية في مختلف مستوياتها الكلامية والفلسفية والشرعية، أو التوجه بشكل مباشر إلى نقد النصوص الشرعية قرآنا كانت أم سنة، أو محاولة الفرز التكتيكي بينهما من خلال تبني أطروحة "الاكتفاء بالنص القرآني" دون السنة، وأن منظومة الاستبداد كلها جاءت من خلف نص"الحديث" وفقهه.
بالأمس القريب، حصل توافق كبير بين المفكرين الإسلاميين والعلمانيين على فكرة مخاطر أدبيات "الأحكام السلطانية" في تكريس منظومة الاستبداد، وكتب الترابي في الفقه السياسي مبينا تأثيرات فقه التغلب على الفكر الإسلامي، تماما بنفس الطريقة التي كتب بها خصومهم من العلمانيين، وبدأت تتسع أرضية المشترك بين الطائفتين على ضرورة أن يخضع التراث الإسلامي لنخل عميق، وأن يميز النص الشرعي بمقاصده العليا عن الفهوم التي تلبست بالتاريخ، وتأثرت بإكراهات السياسة، وأثمر هذا الالتقاء البحث عن صيغ تنقل المشترك المعرفي إلى ساحة السياسة، أي البحث عن "كتلة تاريخية" تجمع كل المؤمنين بضرورة توطين الديمقراطية في وطنهم على أرضية واحدة لمواجهة الاستبداد، لكن اليوم، سار جزء مهم من المثقفين في المسار الخطأ، أي مسار تبديد هذه المساحة المشتركة، والعودة إلى المربع الأول، أي اعتبار الدين والمضامين الدينية، أساسا للتخلف، واعتماد صيغة واحدة للانطلاق نحو التقدم، هي القطيعة مع الموروث الديني سبيلا للنهوض، وتأجيل قضايا الحريات والعدالة والديمقراطية إلى ما بعد التخلص من عقائد الأمة.
لقد حصلت أزمة كبيرة في الفكر النهضوي العربي المعاصر، بسبب هامشية التيارات العلمانية في الوطن العربي، وعزلتها وضعف تأثيرها في المجتمع، وأيضا بسبب العجز عن فهم تيار الإسلام السياسي في الوطن العربي. وبينما كان المطلوب أن تتحد الجبهة لمواجهة الاستبداد، ذلك العدو الذي شخص النهضويون الأوائل أزمة الأمة من زاويته، تغيرت البوصلة تماما، وصار الطلب على التحالف مع الاستبداد لمواجهة العدو الأول، أي تيار الإسلامي السياسي، بحجة أن عدو التقدم هو الموروث الديني، وأنه ما لم يتم التخلص منه مجسدا في تيارات الإسلام السياسي، فلا كلام عن التحديث.
قدم عبد الله العروي الوصفة النظرية. فلا مرور إلى التقدم دون فطام مع ثقافة الأم وقطيعة مع الموروث الديني، ولا سبيل لهذه المرحلة دون ليبرالية، ولا ليبرالية بدون تحالف مع السلطة، لأنه "الليبرالية من تحت" تتطلب فعلا مجتمعيا، تعدم التيارات الحدتثية القدرة على القيام به، وما دام هناك مشترك بين السلطة وهذه التيارات هو مواجهة تيارات الإسلام السياسي، فالأولى في هذه المرحلة، تبني "فكرة اللبرلة من فوق" ولو بشكل تكتيكي، حتى يتم التخلص من وجع الإسلاميين، ثم يتم التفرغ بعد ذلك إلى التحديث السياسي، أي مواجهة تغول الدولة.
والمشكلة التي لم يتم الانتباه إليها هؤلاء أن هذا التحالف التكتيكي، أو زواج المتعة بين تيارات التحديث وبين السلطة، تم في الواقع في سياق غير متكافئ، فالسلطة كانت قوية في ميدانها ضعيفة في شرعيتها، بينما كانت التيارات العلمانية، ضعيفة في ميدانها (الفكري)، فاقدة للشرعية في محيطها الاجتماعي، وهو ما جعل ناتج هذا التحالف يؤول من جهة إلى تجديد شرعية السلطة وتقوية تغولها في المجتمع، ومن جهة أخرى إلى ابتلاع نخب التحديث، ودخولها في مربع الارتزاق، أو على الأقل مربع الانحراف عن وظائفها التنويرية. فأصبح التكتيك (التحالف مع السلطة) لأداء مهام مرحلية، زواجا شرعيا محاطا بشرط التأبيد، وتحولت كل نظريات التحديث إلى مجرد هدم القديم أو نقد الماضي والتراث، دون تطلع إلى المستقبل، فالمستقبل هو السلطة، ولا مستقبل لتيارات التحديث سوى فيما تقدم السلطة لهم من فضاءات ومواقع وامتيازات.
رضوان السيد من نقد التقليد إلى إعادة إحياء منظوماته
لا نريد أن نسرد الكم الهائل من المشاريع الفكرية التي تفرغت في جلد التراث، باسم التأسيس للتقدم، فالسلسلة ممتدة من عبد الله العروي إلى علي حرب، ولا يوجد نشوز في تضاريسها إلا ما تعلق بانتقاء أجزاء تراثية يراد تأسيس الفكر العقلاني من متنها (المعتزلة، ابن رشد، ابن باجة، ابن حزم أحيانا، ابن خلدون). فسواء تعلق الأمر بفكرة القطيعة أو الانتظام التكتيكي في التراث من أجل القطيعة معه، فالحصيلة واحدة، هي أن البيض كله وضع في سلة أخرى غير سلة مواجهة عدو الأمة الأول، أي الاستبداد، فما أسهل نقد التراث الذي لا كلفة فيه، إلا ما كان من تعرض لنقد الإسلاميين، وما أثقل نقد السلطة، لأن المثقف العضوي، صار خلف الستار، وصار مثقفو نقد التراث يخافون من كلفة الالتزام.
لقد حصلت أزمة كبيرة في الفكر النهضوي العربي المعاصر، بسبب هامشية التيارات العلمانية في الوطن العربي، وعزلتها وضعف تأثيرها في المجتمع، وأيضا بسبب العجز عن فهم تيار الإسلام السياسي في الوطن العربي. الجديد في موقف المثقفين، أن التناقض الذي كان بشكل دائم موضوعا رئيسا للنقد الماركسي والماوي، صارت تسوغه اعتبارات السياسة، فلا مشكلة إن حصل التناقض في حقل الفكر، بقصد تحقيق الوظيفة في عالم السياسة.
رضوان السيد، الذي وجه جزءا مهما من مشاريعه الفكرية المبكرة لنقد الأشكال الانحطاطية في التراث، لاسيما الأجزاء التي تسوغ الانحطاط، وبشكل خاص، أدبيات الأحكام السلطانية، ويعتبر أنه يؤسس للاستبداد السياسي، ويكرس واقعه هيمنة السلطة، وتغولها على المجال العام، حصل له انقلاب كبير في عالم الأفكار، فصار يدعو إلى التصالح مع المؤسسة الدينية التقليدية ومع الآداب السلطانية، ومع المنظومة التراثية التي تعيد إنتاجها، وفي الآن ذاته، يجعل من التحالف مع السلطة، ضرورة لمواجهة تيارات الإسلام السياسي وإيديولوجيتهم الفكرية والسياسية.
بدأنا المقال، بأطروحة راند في "الإسلام المدني الديمقراطي" قصدا لكن تتبع إفلاس المشروع الفكري الحداثي، أثبت أنه لم تعد له من وظيفة تحديثية إلا وضع "عقله" في خدمة الاستبداد. فإذا كانت اعتبارات السياسة، ومتطلبات التمكين للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، اقتضت في مرحلة دعم الأنظمة الاستبدادية، واقتصت في مرحلة أخرى دعم التحول السياسي، وفي المرحلتين معا، ظهرت عقبة الإسلام السياسي، لأنه يمثل المعارضة السياسية الأولى للأنظمة الاستبدادية، ويمثل الرابح الكبير من دعم التحولات السياسية، فإنه في الحالتين معا، لا بد من عمل على الواجهة الفكرية يوازي العمل الذي تقوم به واشنطن وحلفاؤها في مواجهة هيمنة هذا التيار على الحياة السياسية والثقافية، وهو ما يبرر دور المثقفين الحداثيين المعاصرين.
تقوم أطروحة "راند: على فكرة محاصرة تيارات الإسلام السياسي، في شقها الأصولي التطرف، أو المعتدل، وترى أن أقرب طريق لذلك أن يحدث تحالف متين بين تيارين رئيسيين، الليبرالي، والديني التقليدي، وترى أن ذلك ضروري لسحب المشروعية الدينية على تيارات الإسلام السياسي، وتقوية السلطة السياسية.
هي الأطروحة نفسها التي يطرحها رضوان السيد بعد أن أفضى مشروعه الفكري في مساره الطويل إلى تثبيت فكرة التناقض في حقل الأفكار، ذلك أنه وضع في حقل السياسة سيناريو يعتبر ضمن المخاطر التي ينبغي تجنبها، وهي فكرة حدوث تحالف بين تيار الإسلام السياسي وبين المؤسسة الدينية التقليدية، وأن ذلك، يعني إضعاف للسلطة السياسية واضطرارها للخضوع لضغط الإسلاميين، ويعني ذلك مزيدا من العزلة للتيارات الليبرالية والعلمانية، ولذلك وجب الاشتغال على سيناريو مقابل ه تحالف الاتجاه الحداثي مع التيار الديني التقليدي، فجمع بين أطروحة راند في هذا الشق، وأطروحة العروي، في الشق المتعلق بإحياء أدبيات الأحكام السلطانية.
والمحصلة، أن معركة الحرية ومواجهة الاستبداد تراجعت بالمطلق، وصار مطلب "القوى المستنيرة" هو إنقاذ المجتمع من "إسلام تيارات الإسلام السياسي"، سواء بالتحالف مع المؤسسة الدينية التقليدية، أو بدعم التصوف، أي دعم اللامعقول، أو من خلال التمييز بين إسلام القرآن، وإسلام الحديث، أو من خلال دعم شرعية الدولة بإحياء أطروحة الأحكام السلطانية بعيدا عن مطلب دمقرطة الدولة وتحديث السياسة.