خطبة الجمعة بالحرمين: الشريعة اشتملت على أنفس الآداب والأخلاق.. والصلاة ركن الاستقامة وحصن السلامة
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
ألقى الشيخ الدكتور ياسر الدوسري خطبة الجمعة اليوم في المسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله -عز وجل- فإنَّها خيرُ ما تتزوَّدُونَ، وأرْجَى مَا تَدَّخِرُونَ، وهي النَّجاة ممَّا تَحذَرُونَ، وبهَا تُرزقُون مِنْ حيث لا تحتسبونَ.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: إنَّ مكارمَ الأخلاق لباسٌ تزيَّنَ به الأنبياءُ الأصفياءُ، ورداء تجمَّلَ به الأتقياء الحُنفاء، هي أساس مِنْ أُسسِ الإسلام، وركيزة مِنْ ركائزِ الإيمانِ، ومظهرٌ مِنْ مظاهرِ الإحسانِ، بها تُنَالُ الدرجاتُ العَليَّةُ، والمَقَامَاتُ السَّنِيةُ، وجوارُ خيرِ البريَّةِ.
وأوضح أن نصوص الوحيين حثت ورغَّبتْ في الفضائلِ، وحذَّرت ورهَّبت منَ الرذائلِ، فالشريعة اشتملتْ على أنْفَسِ الأعلاقِ، في الآدابِ والأخلاق، ما بينَ تأديبٍ وتربيةٍ، وتهذيبٍ وترقيةٍ، وجِماعُ ذلكَ كلّه قولُ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق”. رواه البيهقي.
وأكد أن الله تعالى منَّ على نبيه صلَّى الله عليه وسلَّمَ بكمالِ العقلِ، والرأي الجَزْلِ، والكلامِ الفَصْلِ، وزيَّنَه بالأعمال الصالحةِ، والأخلاق الكاملة، فأثنَى عليه بقولِهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، والسيدة عَائِشَة -رَضِي اللَّه عَنْهَا- حِينَمَا سُئِلَت: كَيْفَ كَانَ خُلُق النَّبِي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ؟ قَالَت: كَانَ خُلُقُه الْقُرْآنَ. رواه أحمد. فكانَ له منَ الأخلاق أكملُها وأجلُّها، وحازَ في كلِّ خَصلة منها المقامَ الأعلى، والمنزلة الأسمى، فبلغَ قِمة الكمالِ الإنساني، وغاية النُّبْلِ البشري. وبيَّن الدكتور الدوسري أن حُسن الخُلقِ يُمْن، وسُوءه شُؤْمٌ، وأحسنُ الأخلاق ما جمَّلَ صاحبَها وَزَانَ، وأرذلُهَا ما دنَّسَه وَشَانَ. ولا يقتصِرُ حُسنُ الخُلقِ على طلاقة الوجه وطِيب الكلامِ، بل هو أوسعُ في شريعة الإسلام، فيشملُ بذلَ النَّدَى، وكَفَّ الأذَى، وفِعلَ الأوامرِ والفضائلِ، واجتنابَ النَّواهي والرذائلِ.
ونبه فضيلته إلى أنَّ مِنَ الأخلاق مَا يكونُ في الإنسان جِبلِّيًا، ومنهَا مَا يكونُ مُكتسبًا، والناس في ذلكَ متفاوتونَ، فالأخلاق غرائزُ كامنة، تظهر بالاختيارِ، وتُقهرُ بالاضطرارِ فالعلمُ بالتَّعلُّمِ، والحِلْمُ بالتَّحلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخيرَ يُعطَهُ، ومَنْ يتوقَّ الشرَّ يُوقَهُ، ومَا أُعطِي أحد عطاءً خيرًا مِنْ خُلقٍ حَسنٍ يَدُلُّه على الصلاحِ والتُّقى، ويردَعُه عنِ الفسادِ والرَّدى، ومَن طلبَ الأخلاق مُخلصًا لربِه الأعلَى، مُتبعًا لسنة النبي المُصطفى، سعِدَ في الدارين ونالَ الجزاءَ الأَوفى.
وأبان إمام وخطيب المسجد الحرام أن نظرية الأخلاق في الإسلام تقومُ على أساس عَقائدي، وهي منهجٌ متكاملٌ، يطَّردُ باستقامة واتزانٍ، وجمال وثبات لا يتغيَّرُ بتغيُّرِ الزمانِ والمكانِ، ويشملُ أحوالَ المسلمِ كلَّها، صغيرَهَا وكبيرَهَا، دقيقَهَا وجليلَهَا، وكلُّ أمرٍ بالتقوى فالأخلاق بريدُهَا، فهمَا مُتلازمان لا ينفكَّان، والوصية بهما صِنْوان، ولذا كانَ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- كثيرًا مَا يجمعُ بينهُمَا في وصايَاه، وذلكَ مِنْ سُنته وهُدَاه، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي -صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ- قَالَ: “اتَّقِ الله حيثمَا كُنْتَ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ”. رواه أحمد.
وقال فضيلته إن مِنْ تقوى الله تعالَى أنَّ النَّفسَ الشَّريفة تطلُبُ الصِّيانةَ، وتراعي النَّزاهةَ، فالنَّزاهَة خُلُقٌ ثَمِينٌ، وَمَعْدِنٌ أصيلٌ، تُثْمِرُ الوَرَعَ، وَتَدفعُ الطمعَ، وتُنمِّي التَّقْوَى. والنَّزاهة تُقاسُ بالدِّيانة والصدقِ والعدلِ، وحفظِ الوقتِ والجدِّ في العملِ، مع الأخذِ بالأمانةِ، والاهتِمامِ بالمصلحة العامَّةِ. وحينَ تَضعف الديانة تضمحل الأمانة، وتشيعُ الخيانةُ، ويدبُّ الفسادُ، فتصدأُ الضمائرُ ويَكثُرُ العقوقُ، وتُباع الذمم وتستباح الحقوق.
وأكد أن الشريعة حذرت من الفسادِ بكلِّ صورِه وأشكالِهِ، فكلُّ انحرافٍ عمَّا وُضِعتْ له الوظيفة هو فسادٌ وخيانة وجريمةٌ، وهو مُخالفة للأحكام الشرعيَّةِ، والقِيَمِ الأخلاقيَّة، والأنظمَة المرعيَّة فعَن عَدِي بْنِ عَمِيرَة رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنِ اسْتَعْمَلْنَاه مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِه وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِي مِنْه أَخَذَ، وَمَا نُهِي عَنْه انْتَهَى”. رواه مسلم.
وأضاف فضيلته: لقد جاءَ الوعيدُ الشديد فيمن امتدتْ يدُه إلى ما حرَّمَ الله من أجلِ إشباعِ شهواتِه ونزواتِهِ، أو زيادة مكاسبِه وأموالِهِ، فعَنْ خَوْلَة الأَنْصَارِيَّة -رَضِي اللَّه عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِي -صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّه بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ”. رواه البخاري.
وأوضح الدكتور الدوسري أن من تضييعِ الأمانة الاعتداء على المالِ العامِ بالإهمالِ والتقصيرِ، والإسرافِ والتبذيرِ، وقبضِ الرشوة والاختلاسِ، وتعطيلِ مصالحِ الناسِ.. قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا لَا تَخُونُوا الله وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وشدد على أن الخيانة في كلِّ مالٍ يتولاه الإنسان منَ الكبائرِ المحرَّمة إجماعًا، وهي منْ أعظمِ الذنوبِ، وأشرِّ العيوبِ، فالخيانة عملٌ دنيءٌ تعافُه النفوس الكريمة، وتستقبحُه العقول السليمة، وتردُّه الفِطَرُ القويمةُ.. مؤكدًا أنَّ مُحاربة الفسادِ ومكافحتَه واجبٌ شرعي ووطنيٌّ، لا يقتصرُ على جهة مُعيَّنةٍ؛ بلْ هو مسؤوليَّة الجميعِ ديانة وأمانة وخُلُقًا، ممَّا يُوجبُ التعاونَ بين أفرادِ المجتمعِ والجهاتِ والهيئاتِ المعنيةِ إرشادًا وتبصرة، ونصيحة وتذكرة.
* وفي خطبة الجمعة بالمسجد النبوي الشريف أوصى الشيخ الدكتور صلاح البدير المسلمين بتقوى الله تعالى، فهي ركن الاستقامة وحصن السلامة، والحرز الحريز من موجبات الندامة قال جل من قائل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }.
وأوضح إمام وخطيب المسجد النبوي أن الصلاة علامة الإيمان وعصمة الدين، فرضها الله على العباد، أمر بالمحافظة والمداومة عليها في أوقاتها، قال تعالى آمرًا بالمحافظة عليها وتعظيم أمرها ومعرفة قدرها ورجاء أجرها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }.
وبين فضيلته أن تكرار الأمر بإقامة الصلاة في القرآن دلالة على عظم شأنها وعلو منزلتها، قال تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}، وقال {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}. وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُر الْعَصْرُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَر الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا لَمْ يطلع قرنُ الشَّمْس”.
وأشار إمام وخطيب المسجد النبوي إلى الترهيب الشديد والتخويف البالغ والتهديد الزاجر والوعيد لمن تعمد إخراج الصلاة المكتوبة عن وقتها المقدر، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُون}. مبينًا أن المقصود من الآية هو إضاعة الوقت بلهو حتى يضيع الوقت، فيما توجه فضيلته لتارك الصلاة بالنصح قبل الموت بالعودة إلى صلاته، وأن عليه الاعتبار بمن رحل من القرناء، وطوى الموت الأحبة.
وحث فضيلته على تعاهد الأهل والأولاد، وتذكريهم وإرشادهم، والأمر بأداء الفرائض، فعن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “مُرُوا أولادكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سِنينَ، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عَشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المَضاجِعِ”.
ودعا فضيلته إلى الإكثار من صلاة النوافل تقربًا لله وجبرًا لما نقص، منوهًا بأن من فاتته صلاة مفروضة أو نام عنها وجب قضاؤها متى ذكرها، ففي الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ”مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا. لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ”. مشيرًا إلى أن من نقص من صلاته زيد عليها من النوافل والتطوع حتى تتم، فعن أبي هريرة قال إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن أول ما يحاسب به العبد المسلم يوم القيامة الصلاة المكتوبة، فإن أتمها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك “.
وفي الخطبة الثانية بيّن إمام وخطيب المسجد النبوي أن على المسلم أن يتنبه أن يلهيه المال والولد كما لا تنسيه تجارته وبيعه ولا يشغله السوق عن أداء الصلاة في مواقيتها، فعن ابن مسعود أنه رأى قومًا من أهل السوق، حيث نودي بالصلاة، تركوا بيعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبدالله : “هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: { رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ…}”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟”، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط”.
واختتم الخطبة إمام وخطيب المسجد النبوي بأن مراعاة أوقات الصلاة تبعد صاحبها عن مباشرة القاذورات وتعاطي المحرمات والشبهات، وتجافي عن أفعال الخائنين للأمانات.
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية إمام وخطیب المسجد النبوی صلى الله علیه وسلم خطبة الجمعة رضی الله ى الله ع
إقرأ أيضاً:
ننشر نص خطبة الجمعة المقبلة بعنوان مفهوم المواطنة
حددت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة القادمة بعنوان: "ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"، وقالت وزارة الأوقاف: إن الهدف من الخطبة توعية جمهور المسجد بأهمية التعايش السلمي باعتباره من أهم أسباب استقرار المجتمع.
وقالت وزارة الأوقاف: إن موضوع الخطبة الأولى موحد على مستوى الجمهورية، وإن موضوع خطبة الجمعة الثانية يستهدف معالجة مفهوم المواطنة، بباقي المحافظات.
ويسرنا أن ننشر (النموذج الثاني) لموضوع خطبة الجمعة بعنوان:
"ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"
الحمد لله رب العالمين، بديع السماوات والأرض، ونور السماوات والأرض، وهادي السماوات والأرض، أقام الكون بعظمة تجليه، وأنزل الهدى على أنبيائه ومرسليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فهذه كلمات نورانية خرجت من لسان الجناب المعظم صلوات ربي وسلامه عليه، لتعبر عن دعوته الشريفة إلى التحلي بأسمى آيات الإحسان والبشر والبر والإكرام في التعامل مع خلق الله تعالى: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق»، وها هو خير الخلق وحبيب الحق صلوات ربي وسلامه عليه قد وسعت ابتسامته الصادقة وأخلاقه السامية الدنيا بأسرها، في مزيج محمدي مدهش يجعل القلوب تأرز حبا إلى حضرته وتستبشر بدعوته.
فيا أيها المحمديون، إن هذا السر النبوي الشريف هو الذي جذب القلوب والأرواح والعقول، ليؤسس فلسفة الحب بين البشر جميعا، فاعلموا أيها الناس أنكم لن تصلوا إلى القلوب بأموالكم ولا بعوارض دنياكم، وإنما تسعون قلوب البشر بالأخلاق التي أتم الجناب الأنور بناءها، ورفع قدرها، حين قال عن ذاته الشريفة: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
فقف أيها العقل عند منتهاك، وأنت ترى الأخلاق المحمدية تسمو فوق السماء برا وبشرا ووفاء ولطفا، حين تبدو نواجذه الشريفة، كأن النور يخرج من بين ثناياه، لتفتح ابتسامته الصافية وكلماته الطيبة قلوب الناس إجلالا واحتراما وإقبالا على هذا الدين القويم ولهذا النبي المصطفى الأمين الذي كرمه ربه بهذا الوصف المقدس {وإنك لعلى خلق عظيم}.
أيها المحمدي، ألم يحك التاريخ لك عن الرسائل والخطابات النبوية للأمراء والقياصرة والأكاسرة وقد جمعتها لغة واحدة هي لغة الاحترام والتفخيم والبهاء وبذل السلام؟! ألم تكتب الصفحات عن رقي التعامل النبوي مع وفد نجران الذي أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في أن يصلوا صلاتهم بمسجده الشريف في مشهد يبهر الدنيا ويأسر القلوب؟!
أيها النبيل، اعلم أن هذا الحال الشريف هو باب هداية الخلق، ومفتاح الإقبال على الحق، فحبيبك صلى الله عليه وسلم هو من أبهر الدنيا بأصول التعامل مع الناس على اختلاف عقائدهم، وهذا تلميذه النجيب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يعدد محاسن الإسلام ومفاخره ومناقبه للنجاشي في مشهد عجيب، وحوار مهيب درس جعفر أدواته، وعرف كيف يخاطب الأدب النبوي قلوب الملوك ليسعها ببسط الوجه وحسن الخلق، حين قال للنجاشي: «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام»، فما كان من النجاشي إلا أن انفتح قلبه، واستبشر وجهه ووجدانه بهذا الدين العظيم، فبكى حين تذكر أخلاق عيسى عليه السلام الذي جعله الله تعالى باب بر ووفاء وحنان ورحمة وعلم، وجعله الله تعالى آية في العطاء والتسامح والسلام؛ لينطلق لسانه قائلا: «إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة».
أيها السادة، لقد استقى الشعب المصري هذه الأنوار المحمدية وتلك العظمة المصطفوية، فكانت اللحمة الوطنية حاضرة بكل ربوع المحروسة، وكان احترام شركاء الوطن منهجا مرسوما، فأصبح الشعب المصري نسيج وحده بجميع طوائفه تعايشا وتكاملا، تغمره السكينة والطمأنينة، مجبورا مستورا منصورا.
*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيا أيها الناس، إن شريعتنا الغراء تفيض الخير على الجميع، شعارها إكرام الخلق وإيصال الرحمة إليهم على اختلاف عقائدهم ومشاربهم وأفكارهم، وإن شئتم فانظروا إلى المعاملات، بيعا وشراء، عدلا وقسطا، وزواجا مباركا وحسن جوار، في إطار متين من الإرشاد الإلهي الذي يجمع الناس جميعا تحت مظلة المواطنة التي تجمع ولا تفرق، يقول ربنا سبحانه: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.
أيها النبيل، انتبه إلى وصف رب العالمين لمقام النبي الأمين صلوات ربي وسلامه عليه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، ولقول الجناب المعظم صلى الله عليه وسلم: «بعثت للناس كافة»، فالآية الكريمة والحديث الشريف يرسخان لمواطنة حقيقية قوامها التواصل بالخير والتعاون والتكافل بين أبناء الوطن جميعا، على ميثاق الحقوق والواجبات الذي لا يفرق بين مواطن وآخر، في ظل وطن واحد لا تعكر صفوه شبهة، ولا تؤرقه فتنة.
ألا تعلم أيها النبيل أن المواطنة أساس البنية الاجتماعية المتماسكة والترابط المجتمعي في ظل وطن واحد تجمعنا شوارعه وحاراته، وتحوطنا أحلامه وطموحاته؟! إنها إيمان حقيقي بالتعددية والتنوع الإنساني الذي أراده الله رب العالمين في الكون، {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}، {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}.
فلننشر ثقافة المواطنة والتعايش بين أبناء الوطن جميعا؛ حتى ننعم بالسلام والأمان، ويفيض الخير على وطننا المبارك.
اللهم انشر السلام والطمأنينة في ربوع مصرنا الحبيبة
وأفض علينا من كرمك وجودك وسعة رحمتك