«تحت الظلال» والقضايا الإنسانية لفرقة مسرح الخليج العربي بمهرجان الكويت
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
عكست مسرحية «تحت الظلال»، التي قدمتها فرقة مسرح الخليج العربي في أول عروض مهرجان الكويت المسرحي الرابع والعشرين، قدرة المسرح على طرح القضايا الإنسانية المعقدة بطرق جديدة ومبتكرة، فكانت بمثابة تجربة جمالية وفكرية أثارت العديد من التساؤلات حول الأبعاد النفسية والاجتماعية التي يواجهها الإنسان في عالم تتشابك فيه الظلال مع حالته الداخلية.
النص المسرحي مستوحى من نص "ذاكرة في الظل" للكاتبة مريم نصير، وحمل عمقا فلسفيا وذلك من خلال قصة تدور حول رجل بحار يتذكر أحداث حياته منذ الطفولة والشباب وصولا للحياة الزوجية، والآلام التي عاشها، ويظهر معه ظله الذي يمثل له الشخصيات الموجودة في عقله، مما يتسبب له في صراع نفسي لأنه لا يريد ان يعيش وهو حامل لكل تلك الذكريات المؤلمة والمأساوية ويتمنى لو انه لا يشعر ولا يتألم كي يستطيع ان يتعايش مع كل ما واجهه في حياته، وفي النهاية يبدأ الظل بالتحرر من الرجل ويتحول الرجل الى ظل.
لم يكن النص مجرد سرد لمواقف وحوارات، بل كان رحلة داخل الذات البشرية، تنتقل بين الوعي واللاوعي، مع الإشارة إلى أن الإنسان يظل طوال حياته تحت تأثير قوى غير مرئية، قد تكون هي شبح الماضي.
حمل الإخراج توقيع محمد الأنصاري، والذي أظهر قدرة كبيرة على تحويل النص إلى تجربة بصرية وسلوكية عميقة، واستخدم الإضاءة بشكل مبدع من خلال الفوانيس التي حملها الممثلون ليعكس تدرج الصراع بين النور والظلال، محاكيا بذلك الصراع الداخلي لدى بطل القصة، بمصاحبة موسيقى متميزة أعطت المسرحية طابعا دراميا مشحونا.
وكان الديكور المتحرك الذي أخذ شكل سفينة مؤثرا للغاية في إبراز الشخصيات والتوترات التي تمر بها، كما استخدم الأنصاري الفضاء المسرحي بذكاء وجعل من العرض مكانا ضيقا يلاحق فيه الظل البطل ويمنعه من التحرر.
فيما يتعلق بالأداء التمثيلي فقد أظهر الفنانون عبدالله البصيري وخالد بدر الديحاني وعبدالعزيز بهبهاني وعبدالله البلوشي ونورة وليد ومصعب السالم مستوى عال من الأداء، وتمكنوا من تجسيد أدوارهم بكل صدق وواقعية، وكان لكل حركة جسدية قدموها معنى، ما سمح للمتلقي بالتفاعل معهم بشكل مباشر، حيث كانت الحركات والنظرات والأنفاس جزءا لا يتجزأ من تطور الشخصيات وتفاعلها مع أزماتها الداخلية.
وتبقى الأسئلة الرئيسية التي طرحها العرض: هل يمكن للإنسان أن يتحرر من الظلال التي تحاصره؟، وهل يمكنه تجاوز القيود الاجتماعية والنفسية التي تشده إلى الوراء؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة، مما يدعو إلى التأمل في رحلة الفهم والتفسير تجاه قضايا الإنسان والمجتمع، والهوية، والحرية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الخليج العرب الخليج العربي القضايا الإنسانية النص المسرحي زوجية مهرجان الكويت المسرحي
إقرأ أيضاً:
“الشيالين: رقصة الظل المكسور“
إبراهيم برسي - 9 يناير 2025
لم أكن أهتم كثيرًا لشأن “الشيالين”.
لولا تعليقات تاج السر الملك الفلسفية الطريفة عنهم، التي جعلتني أرى “رقصة الضوء والظل ولادة الصوت”.
كان إذا أمطرت السماء، يتساءل:
“أسّي الشيالين ديل يكونوا عاملين كيف مع المطرة دي؟”
هم، في نظري، كانوا دائمًا هناك، خلف الأضواء، خلف الأصوات.
كأنهم تفاصيل صغيرة في لوحة كبيرة، غير مرئية للعين، لكنها تمسك بخيوط التوازن كله.
جملة تاج السر العابرة هذه كشفت لي عن عالم لم أنتبه له من قبل.
عالم لا يُرى إلا حين ينحسر وهج الضوء عن خشبة غامضة الملامح.
أو مسرح مفتعل، حيث يتشابك فيه التراب مع الخشب في انحناءة واحدة.
هناك يقف “الشيالون”، متأهبين كأعمدة مشدودة بين الأرض والسماء؛ بين الحضور والغياب.
وجوههم ليست سوى أقنعة تتوهج بلمعان موارب غريب، كأنها تتأرجح بين التواضع القسري والكبرياء المكسور.
كأنها تصرخ بما لا يُقال:
“لو لم نكن هنا، لما اكتمل وهج النجم في الضوء.
لكن الظلال التي نحياها تمنحنا دائمًا مرارة عدم الاكتمال.”
يحملون أجسادهم كأطياف.
تارة ثابتة كأنها أحجار صامدة.
وتارة تتمايل كأغصان تهتز في موجات ريح لا تُرى.
ريح تحمل معها أصداء أرواحهم المتعبة.
لا أحد يلاحظهم حقًا.
لكن وجودهم ينسج المشهد بأكمله.
حين تبدأ الأغنية، تنبعث أول زفرة موسيقية من الفنان:
“الجننني!”
كأنها نداء حياة يخترق الصمت.
يتراجع “الشيالون” خطوة إلى الوراء، يرددون:
“الجننني، الجننني… خلاني أغني”، “الجنننيييييييييييييي!”
بأصوات تتسع كدوائر في ماء ساكن.
فتمنح الكلمة معنى جديدًا.
كأنها وُلدت من جديد بين حناجرهم.
هذا التراجع ليس هروبًا، بل هو إعادة خلق للمشهد.
في تلك الخطوة الصغيرة إلى الوراء، يتحول “الشيالون” من حضور مركزي إلى ظلال تحتضن الضوء.
من أبطال إلى نسيج خلفي يجعل اللوحة ممكنة.
الظل هنا ليس عدوًا للضوء؛ بل شريكه الخفي، الكيان الذي يمنحه حدوده ومعناه.
هم يدركون، دون أن ينطقوا، أن وجودهم ليس في الضوء المرئي.
بل في الظل الذي يحدد أبعاده.
الفنان “يعلو بصوته”، يشتعل في وهجه.
فيتفاعل الجمهور معه بعاصفة من التصفيق والانفعال.
فينحسر الضوء عن “الشيالين”.
يتملكهم شعور متناقض.
خليط من الحب للفنان، إعجاب بأدائه، وغيرة خفية تحاول أن تنكر نفسها.
يرغبون في الضوء.
في أن يكونوا هناك، حيث تقف الأعين، بعيدًا عن الظل الذي خُصّوا به.
لكنه في ذات الوقت، هو الظل الذي يمنحهم هويتهم.
في أعماقهم، يعرفون أنهم هم من يمنحون صوت الفنان صدى الحياة.
يلتقطونه كنبضة، يكررونه كارتداد لا ينتهي.
لكن هذا الإدراك لا ينزع عنهم شعور المرارة.
ذلك الشعور بأنهم دائمًا خارج بؤرة السطوع.
كأنهم يطوفون حول وهج الحقيقة دون أن يُسمح لهم بالدخول.
مغلوبين على أمرهم، مكتفين بالدوران في مدارات الشك والتمني.
لكن ثمة فصول أخرى في هذه الرقصة.
حدثني المهندس الصادق ديلون، أو في رواية اخري: الصادق جالون، بلهجة ناقدة لا تخلو من الامتعاض، عن تجربة بعض “الشيالين” الذين لجأوا إلى “الكسرة” لتخفيف حدة أغاني الحماسة.
قال لي:
“ديل قالوا: غناء الحماسة ده حار شديد.
لازم نخففه بشوية كسرة.”
ثم أردف:
“كيف يمكن لفن مثل هذا أن تتسرب إليه ألوان قوس قزح؟
الحماسة كانت لونًا واحدًا، صافيًا كالنار.
كيف تجرؤ الظلال على مد يدها نحو الضوء، وهي تعلم أن طبيعتها قد تُمحى في وهجه؟”
هذه الفكرة، رغم اعتراض الصادق، تحولت إلى رمز لأداء بعض “الشيالين”.
كأنهم خرجوا من أدوارهم المحددة ليضيفوا شيئًا شخصيًا.
شيئًا يجعلهم أكثر من مجرد ظلال.
لكن في الوقت ذاته، يُدخلهم في مواجهة مع ذاتهم.
“في عالم لا يعترف بالحدود، يصبح الضوء والظل لعبة متبادلة.
واحدة تُظهر الأخرى، لكنها لا تذيبها.
كل ضوء يحلم بظل يحدده.
وكل ظل يتمنى وهجًا يُخرجه من فناء الصمت.
في هذه الرقصة الكونية، لا منتصر، بل دائرة أبدية من الفقد والرغبة.”
في جانب آخر من هذه الحكاية، حدثني كمال قسم الله عن تجربة مختلفة تمامًا.
كان ذلك في شبابه، في حفلة عرس، حيث تخلف أحد “الشيالين”.
وكان هو المرشح الوحيد لأداء هذا الدور.
رفض العرض بشدة، وأصر على موقفه.
لكن المحرضين لجأوا إلى حيلة “الشري البارد” – نوع من الخمور التي تسكن الجسد لكنها تزلزل الروح.
كانت هذه الحيلة متبوعة بحلف العريس بالطلاق.
قال لي:
“في البداية قاومت.
قلت لهم إني لا أحفظ الأغنية.
لكنهم ردوا: بأن المقطع سهل جدًا.
ما عليك إلا تردد: “كُل ما تَهِب طَرَاوة… نارنا تزيد غَلاوة.”
ضحك كمال ساخرًا وهو يروي لي القصة.
ليس فقط من بساطة الكلمات، بل من نفسه آنذاك.
في النهاية، استسلم.
اكتشف أن “الشري البااااااااارد” لم يترك له خيارًا.
قالها، ورددها، وشعر بنشوة غريبة كأنها انتصار مؤقت.
نشوة تلامس الكبرياء وتترك وراءها مرارة الظلال.
صار يتحرك مع زميله الشيّال الآخر بإيقاعات متقاطعة.
يبتكران الحركات، كأنهما راقصان في مهرجان صامت.
يدوران حول نفس العبارة: “كُل ما تَهِب طَرَاوة… نارنا تزيد غَلاوة.”
مُحدثين سيمفونية عبثية لا يسمعها إلا من غاص في ذلك العالم الضبابي بين الحضور والغياب.
“كل ظل يحمل معه ندبة من الضوء الذي تركه.
لكن تلك الندبة، برغم مرارتها، تبقى الدافع الذي يحركه نحو الأمام.
فحتى الظل يرقص، لأنه يعلم أن السكون يعني الموت.”
لكن “الشيالون” في داخلهم، هناك شيء آخر.
رقصة لا تراها العيون، مليئة بأسئلة لا إجابات لها:
“هل نحن هنا لأنفسنا؟
أم لأننا ضرورة تكمل المشهد؟
هل يمكن أن نصبح أكثر من مجرد ظلال خلف الضوء؟”
هذه الأسئلة تهدر داخلهم مع كل نبضة إيقاع.
تتصارع مع لحظات النشوة الوهمية التي يمنحها التصفيق.
يتوقف الفنان لحظة ليضيف:
“خلاني أغني.”
يرددون:
“الجنننييييييي” مرة واحدة، كأنهم يضعون نقطة في نهاية الجملة.
يختتمون دورة كاملة من المعنى.
هذا التبادل بين الفنان و”الشيالين” هو أكثر من مجرد لعبة صوتية.
إنه طقس وجودي.
رقصة كونية حيث الفرد والجماعة يذوبان في بعضهما البعض.
الفنان يمنحهم الكلمة.
لكنهم يعيدونها له أكثر عمقًا، أكثر صدقًا.
كأنها اكتسبت طبقات من المعنى أثناء عبورها حناجرهم.
وفي لحظة الصمت الأخيرة، حين تخفت الأصوات وتنطفئ الأضواء، ينسحب “الشيالين” كما جاءوا.
كأنهم لم يكونوا هنا أبدًا.
لكن صداهم يبقى.
عالقاً في الهواء، يمتزج مع الغبار، يروي أن هذه الرقصة – رقصة الضوء والظل – هي صراع أبدي.
لأن الظل، حتى وهو يتراجع، هو الذي يجعل الضوء ممكناً.
zoolsaay@yahoo.com