لا يمكنك أن تتنقل داخل أروقة أي فضاء عربي سواء كان واقعيا أو افتراضيا عاما أو خاصا شعبيا أو نخبويا رسميا أو غير رسمي دون أن يطرق سمعك حديث عن واقع الشعوب المرير اليوم. لقد أحدثت انتكاسة الثورات حالة من الحزن الصامت واليأس القاتل الذي تحوّل شيئا فشيئا إلى ما يشبه سحابة ثقيلة خانقة تقبض على المشهد القاتم بقوّة.
يتفّق الجميع تقريبا على أن الشعوب اليوم من المشرق إلى المغرب ومهما اختلفت سياقاتها تتقدم بسرعة نحو الهاوية السحيقة التي وقعت فيها ليبيا وسوريا واليمن والعراق والسودان ولبنان. بل إن الجميع يقرأ الفنجان اليوم عن الدولة أو الدول التي سيأتي الدور عليها لتسقط في الخراب الكبير.
في غضون ذلك استعاد النظام الرسمي العربي ممثلا في الجامعة العربية قوّته وبطشه اللذان كانا له قبل الثورات ونجح حتى في تعويم سفاح الشام الذي قتل أكثر من مليون سوري وهجّر الملايين.
فهل تعني هاته المؤشرات نهاية مقولة الشارع العربي؟ هل انتهت الشعوب وفُقد الأمل في كل قدرة على التغيير؟ هل استتبّ الأمر للطغاة والوكلاء نهائيا؟
حتمية التغيير
علميا لا يمكن الجزم بنهاية القدرة على التغيير لأن السياقات والأجيال تتغير وتتطوّر فحتى إذا سلّمنا بنهاية هذا الجيل فإن الأجيال القادمة لن تكون لها نفس ردّة الفعل. لكن لا يمكن من جهة أخرى أن ننكر أن الأجيال التي تتجدد هي نفسها التي قد تنقل إلى الأجيال التي تليها مبدأ القابلية للخضوع والقبول بالفساد بمعنى أن الجيل الذي يتربى على القابلية للاستبداد لن يكون قادرا على التحرر مما لم يتحرر منه الجيل الذي سبقه.
لقد برهنت الشعوب بصمتها وسكوتها عن أنها قابلة لما تتعرض له من قمع وقتل وتشريد وهو الأمر الذي خلق حالة من اليقين لدى النظام الرسمي من أنّ فزاعة الشعب قد انتهت إلى الأبد.للتدليل على هذه الفرضية تمكن الإشارة إلى أنّ أجيال السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات كانت أكثر حماسا وتحركا ووعيا سياسيا من الأجيال الحالية التي لم تعد تتفاعل بالقدر الكافي مع تطورات المنطقة. لكن من جهة أخرى هناك من يرى أن الأجيال الجديدة أقل قدرة على التنظير والطرح الفكري الأيديولوجي لكنها أقدر على الفعل وردّ الفعل مثلما حدث خلال الثورات الأخيرة.
التغيير في البلاد العربية مسألة حتمية لأن الحال لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه بعد شبح الإفلاس الذي يهدد أكثر من دولة وهو ما يفتح دولا عربية عديدة على المجهول الذي يشمل انهيار الأنظمة وسقوطها بفعل داخلي أو خارجي أو بفعل مشترك بينهما.
الثابت من المشهد الإقليمي والدولي أن هناك متغيرات كثيرة في الطريق فكل المؤشرات تؤكد على أنها متغيرات بفعل خارجي هذه المرّة كما يدل على ذلك الصراع في سوريا أو في النيجر أو في السودان أو في اليمن أو في ليبيا. في هذه المساحات الإقليمية يظهر جليا الصراع الدولي على النفوذ وعلى الثروات والقواعد العسكرية والموارد الأولية بعد أن عجزت الشعوب والأنظمة على حد سواء عن حماية سيادتها وثرواتها.
الشعوب وضياع فرصة الجيل
لا شك أن الثورات التي اجهضت قد مثلت فرصة تاريخية نادرة تكون فيها الشعوب الفاعل المركزي في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي لأول مرّة في تاريخ المنطقة. لكن الجموع التي استطاعت إسقاط أربعة من أعتى الدكتاتوريات لم تنجح في إنقاذ المسارات الانتقالية إذ سرعان ما انقبلت عليها الدولة العميقة وعاد الاستبداد أقوى من ذي قبل عابرا على صوت الرصاص ومشاهد المجازر والمذابح.
كانت مشاهد الموت القادمة من سوريا ومناظر المذابح القادمة من مصر وليبيا كاشفة عن حجم السكون الذي أصاب ردّة الفعل الشعبية فكيف يمكن أن نفسر سكوت ملايين المصريين عن مذبحة رابعة مثلا؟ كيف يمكن أن نفهم صمت عشرات الملايين عن قتل المدنيين وحرقهم في الشوارع والساحات؟
التغيير في البلاد العربية مسألة حتمية لأن الحال لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه بعد شبح الإفلاس الذي يهدد أكثر من دولة وهو ما يفتح دولا عربية عديدة على المجهول الذي يشمل انهيار الأنظمة وسقوطها بفعل داخلي أو خارجي أو بفعل مشترك بينهما.لقد برهنت الشعوب بصمتها وسكوتها عن أنها قابلة لما تتعرض له من قمع وقتل وتشريد وهو الأمر الذي خلق حالة من اليقين لدى النظام الرسمي من أنّ فزاعة الشعب قد انتهت إلى الأبد. بقطع النظر عن وجاهة هذه الخلاصة فإنه لا بد من الاعتراف بأن الحدود سايكس بيكو قد نجحت نجاحا كبيرا في عزل الشعوب والمجتمعات عن بعضها البعض.
وهو ما يفسر سكوت شعوب الخليج مثلا عما يحدث في السودان أو في سوريا بشكل يمكن أن يمثل ضاغطا على النظام الرسمي العربي نفسه. إن أكبر مظاهر الخطر وتراجع الوزن الشعبي إنما يظهر في تباعد اهتمامات الشعوب بعضها عن بعض خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية التي تضرب المنطقة.
من جهة أخرى يرى كثيرون أن ردة الفعل الشعبية لا تخضع للمنطق التحليلي ولا للدراسات الكمية بل هي طاقة انفجارية غير متوقعة مثلما حدث خلال الثورات الأخيرة. وهو الأمر الذي يعني أن الثورات نفسها ليست إلا جزءا من مسار أكبر تكون هي داخله موجة أولى ستعقبها حتما موجات لاحقة.
لكنّ الثابت الأكيد هو أن المنطقة العربية قد طوت طورا أساسيا من تاريخها الحديث وأنها قد دخلت طورا جديدا سيكون الفاعل الرئيس داخله جيل جديد أيضا عاصر الثورة وشهدها وعايش تبعاتها سلبا وإيجابا. وهو الأمر الذي سيحصّن حتما موجات التغيير القادمة من الانتكاسات التي عرفتها الموجة السابقة.
يشهد الشارع العربي اليوم رغم كل الأزمات نوعا من الغربلة الذاتية التي تُذيب رواسب الأيديولوجيا النظرية وشعارات النخب السياسية فتتخلص منها لتفرز محفّزات واقعية مادية ستكون الرافعة اللازمة للتحرر من طريق الفناء والخروج من دائرة العدم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه عربي الثورات سياسة عرب رأي مآلات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة لا یمکن یمکن أن
إقرأ أيضاً:
حين تتصدّع الشرعية ويُختَطف العقد ويشتعل الرجاء: متى تثور الشعوب؟
في لحظة ما، دون إنذارٍ مسبق، يُشعل أحدهم عود ثقاب على حافة مدينة نائمة. لا يظنّه أحد أكثر من فعلٍ فرديّ، انفعاليّ، عابر، لكن تلك الشعلة الصغيرة تُوقظ في ملايين الناس ما ظنّوا أنّه مات فيهم: الغضب، الكرامة، والحقّ في السؤال.
الثورات لا تُدبَّر على ورقٍ أبيض، ولا تُولد بمرسوم، ولا تمضي وفق تعليمات. إنّها انفجار مؤجل، تأتي حين تتآكل السلطة من الداخل، لا حين تسقط من الخارج. تأتي حين تُصبح الطاعة خيانة للذات، ويغدو الصبر مرضا جماعيا، ويصبح السكوت حُكما جائرا.
“ماذا تثور الشعوب؟"، ليس سؤالا صعبا، فالجوع، والذل، والقمع كفيل بجعل الأرض تغلي. لكن السؤال الأكثر إلحاحا هو: متى تثور الشعوب؟ ولماذا لا تثور دائما؟ ما اللحظة التي تنقلب فيها الموازين؟ متى يصبح الحُكم بلا غطاء، والخوف بلا وظيفة، واليأس بلا فائدة؟
الجوع، والذل، والقمع كفيل بجعل الأرض تغلي. لكن السؤال الأكثر إلحاحا هو: متى تثور الشعوب؟ ولماذا لا تثور دائما؟ ما اللحظة التي تنقلب فيها الموازين؟ متى يصبح الحُكم بلا غطاء، والخوف بلا وظيفة، واليأس بلا فائدة؟
لنفكّك هذا السؤال لا كمجرّد حدث سياسي، بل كتحوّلٍ أخلاقي- تاريخي، نقرأه من خلال ثلاث عدسات فكرية كاشفة: الماوردي، وروسو، وإرنست بلوخ.
لا يجمعهم عصر ولا مدرسة، لكن يجمعهم إدراك عميق بأنّ الطغيان لا يُهزَم بالسيف فقط.. بل بكشف زيفه، ونزع القداسة عنه، واستعادة الحلم من بين أنقاضه.
الماوردي: حين تتحوّل الشرعية إلى قيدٍ على الناس لا على السلطان
كان الماوردي ابن زمن سياسي مختلّ، حيث الخلافة العباسية قد فقدت هيبتها، والسلطة الواقعية انتقلت إلى السلاطين والولاة. لكن ما قاله في "الأحكام السلطانية" ظلّ أخطر من صراعات العروش:
"إذا جار السلطان، واستُنفدت وسائل النصح، وفُقد الأمل في إصلاحه، وصار بقاؤه فتنة على الجماعة.. جاز خلعه، إن وُجد العدل سواه".
بهذه العبارة، أسّس الماوردي لمفهوم شرعية مشروطة، لا شرعية مطلقة. فالسلطان لا يُطاع بوصفه رمزا، بل ما دام حافظا للعدل. والعدالة ليست فضيلة أخلاقية فقط، بل مبدأ بقاء سياسي.
هذه الرؤية تفسّر انفجار الثورة التونسية في شتاء 2010-2011: حين تحوّلت الدولة من حامٍ للشعب إلى عبءٍ عليه، حين صار القانون أداة انتقام، وكرامة المواطن محلّ مساومة، حين استُنفدت كل وسائل "الإصلاح من الداخل"، انقلب الناس على شرعية صارت أداة استعباد.
لم تكن الثورة مجرّد ردّ على بطالة أو فساد، بل كانت صرخة ضدّ دولة خانت معنى وجودها. ولهذا لم يكن الشعار الاقتصادي هو ما هزّ الشارع، بل الشعار السياسي العميق: "الشعب يريد إسقاط النظام".
حين تُصبح الدولة مظلّة لاحتكار السلطة والثروة، فإنها، وفق الماوردي، قد فقدت شرعيتها.. حتى وإن بقيت على الورق "قانونية".
روسو: حين يُختَطَف العقد الاجتماعي وتُقنّن الهيمنة
كتب جان جاك روسو عن السلطة في عصر بدا ديمقراطيا على الورق، لكنه حوّل الناس إلى رعايا باسم القانون:
"حين تمثّل الدولة مصالح فئة قليلة، فإنّها لم تعُد شرعية، حتى وإن بدت قانونية".
العقد الاجتماعي، عنده، ليس وثيقة مؤرشفة، بل ميثاق حيّ بين الناس. وإذا اختُطفت الإرادة العامة، سواء بالبيروقراطية أو المال أو الإعلام، فإنّ الدولة تصبح تمثيلا زائفا.. لا شرعية حقيقية.
انظري إلى ثورة يناير في مصر: لم تكن المشكلة في غياب المؤسسات، بل في أن هذه المؤسسات لا تُمثّل أحدا، البرلمان كان أداة تلميع، الانتخابات كانت مُسيّرة، والدولة كانت تتحدث عن الشعب، لكن دون أن تستمع إليه.
وحتى بعد الثورة، اختُطِف العقد من جديد، عادت الدولة في زيّها العسكري-المدني، تُعيد إنتاج منطق الهيمنة باسم "الاستقرار".
روسو لا يقدّس الثورة من حيث هي فوضى، بل يراها لحظة استعادة للعقد المغتصب، وحين تُستبدل الثورة بثورة مضادة ذات واجهة قانونية، يصبح الانفجار القادم أكثر عنفا.. وأقل توقيرا للنظام.
بلوخ: حين يتحوّل الحلم من رغبة فردية إلى طاقة جماعية
الثورة ليست معادلة حسابية، ليست حاصل ضرب الجوع في الظلم في القمع، بل هي لحظة شديدة التعقيد، تتولد حين يتصدّع هيكل الشرعية، ويُختطَف تمثيل الإرادة العامة، ويشتعل الرجاء في هوامش الحياة
لم يكن إرنست بلوخ مهتما بما يحدث فقط، بل بما يُمكن أن يحدث:
"ما من شيء عظيم حدث، إلا وكان مسبوقا بصورة عنه في الوجدان الجماعي".
الحلم، عند بلوخ، ليس خيالا مجرّدا، بل هو وقود التغيير. الثورة تبدأ حين ترى الجماهير في نفسها شيئا أكبر من وضعها، وتؤمن بأن هذا العالم لا يستحقّها كما هو.
هكذا بدأت الثورة الروسية، ليس فقط في مصانع بتروغراد، بل في تخيّل عالم بلا قياصرة، وهكذا خرج شباب السودان عام 2019 لا ليرفعوا لافتات خبز، بل ليقولوا: "حرية، سلام، وعدالة".
الحلم عند بلوخ ليس ترفا فكريا، بل ضرورة سياسية. فمن لا يحلم، لا يثور، ومن لا يرى مستقبلا آخر، لن يُخاطر بالخروج من الحاضر.
خاتمة: حين يلتقي الوعي بالهشاشة ويقوده الرجاء
الثورة ليست معادلة حسابية، ليست حاصل ضرب الجوع في الظلم في القمع، بل هي لحظة شديدة التعقيد، تتولد حين يتصدّع هيكل الشرعية، ويُختطَف تمثيل الإرادة العامة، ويشتعل الرجاء في هوامش الحياة.
الماوردي يحذّرنا من شرعية لا تحرس العدل.. روسو يكشف لنا أن العقد الاجتماعي لا يُكتب مرة واحدة.. بلوخ يمنحنا وعدا: أنّ الحلم ليس ترفا، بل نواة التحوّل.
السؤال إذا ليس: لماذا لا تثور الشعوب؟ بل: هل ما زالت ترى وجها آخر للمستقبل؟ هل ما زالت تحتفظ بصورة ما عن حياة تستحق أن تُعاش؟ فإن وُجد هذا الرجاء، ولو في أغنية، أو قصيدة، أو نظرة في الميدان.. فإنّ الثورة آتية، لا محالة.