المُريد الذى أهداها تميمةَ الحياة
تاريخ النشر: 5th, December 2024 GMT
بمناسبة مرور العشرية الأولى على رحيلهامصر تحتفى بذكرى رضوي عاشور
«هناك دائماً فرصة لتتويج جهودنا بنتيجة غير الهزيمة، طالما أننا نعقد العزم على ألا نموت قبل أن نسعى إلى الحياة» هكذا آمنت وعاشت وكتبت رضوى عاشور، «رضوى»؛ التى لم تمتلك يوماً حرفاً من اسمها، فصارت اسماً غير وفىٍ لمسماه، بعد أن اختارت كل أدوارها فى الحياة من محطات الرفض والثورة والغضب، فأجابها القدر بربط مصيرها بقصة حرب» مستعصية على السلام، وزوج جامح على فرس الشعر، وابن يحمل أوراقاً ثبوتية ستظل تؤرقه فى كل المطارات، ونهاية تملؤها المعاناة والمرض؛ ولكن لأن الله يسكن دائماً القلوب البيضاء، فقد رأت «رضوى» قبل المغادرة الآخيرة بصيصاً من أمل، آنار ميادين الوطن وكل الميادين العربية، فقد تزامنت هرولة السرطان إلى جسدها، بهرولة الشباب العربى إلى فيض الكيل، فخرجوا عما ألفوه من اعتياد وصبر، وثاروا على كل جبارعتيد، رفضوا مؤانسة السمر فى المقاهى، وفضلوا أن يَصلبوا أطوالهم فى الميادين.
ولأن المرض كان يحدد إقامتها فى هذه الأيام فى أحد أسرة مشافى الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت كلما أفاقت من جرعات الألم، تنظر إليه وتسأله؛ (إيه الأخبار يا «مُريد»؟)؛ ليخبرها أن الأخبار أقرب إلى الحلم منها إلى الحقيقة، ويطلب منها أن تنتصر لقلمها وأن تشارك فى الحدث، ويقول لها: « اكتبى يا رضوى».
مُريد البرغوثى هذا الشاعرالشاب المفعم بالغربة والألم، الذى التقى فتاة جاءت من منزل على ممشى النيل فى المنيل؛ ذلك الحى القاهرى الهادئ، وفكت ضفائرها لتوها بعدما تخرجت من مدرسة حرية الليسيه الفرنسية، يلتقى الشاعر العربى فتاة مصرية على سلم المكتبة المركزية لجامعة القاهرة، فتلبُد داخل قلبه حتى آخر العمر، لا يقدرعليها فيه غربة ولا قربة ولا سطوة العباد أو البلاد، وتُثبت له الوفاء فتنشده:» وأنا أقرأ لك، أتخيّلك وأنت تكتب، أرى وجهك، جلستك، حركة يديك، مكتبك، فأشتاق أكثر.أن يمضى الزمن، وتمر السنوات، وتتبدل المشاهد، وتبقى صورتك، كما قرّت فى نفسى فى لقاءاتنا الأولى».
ويغادر «مُريد» مصرمضطراً، لتعيش «رضوى» وابنهما «تميم» تجربة النفى داخل الوطن لمدة سبعة عشرعاماً، لا يجمعهما بزوجها سوى الهاتف فى الحجرة البعيدة المغلقة، لتقطع حديثهما عاملة الهاتف كل ثلاث دقائق» المكالمة انتهت.
فقد التقيا كطالبين يدرسان اللغة الانجليزية وآدابها فى جامعة القاهرة فى الستينيات، وتزوجا عام ١٩٧٠. وانتقلا معا للعيش فى الكويت أعواماً بضع. ثم أهدتهما الحياة هديتها الكبرى ابنهما الشاعرتميم البرغوثى عام ١٩٧٧.
«اكتبى يا رضوى» هذا صوت «مُريد»، الذى يحمل من اسمه كل حرف فى قلب رضوى، فمُريد له دائما ما يريد، لكن جسد رضوى منهك، يمر مشرط الجراح عليه كل يوم، يجتزئ منه ما يشتهيه ليلقى به فى سلة القمامة. هل تعلم أيها القارئ أن رضوى دخلت فى التاسع من فبراير 2011 إلى غرفة العمليات ولم تخرج منها إلا فى الحادى عشر. هل يتذكر أحدكم ذلك التاريخ، ويسترجع أهميته، لقد كانت أياماً مفصلية فى تايخ مصر!! تغيربعدها كل شيء فى الوطن والجسد. فقد أصبح الوطن مثقلاً لا أحد يعرف أين ترسو أشرعته. وأصبح جسد رضوى خفيفاً بعدما أخذ منه المرض ما أراد.
فيعود الصوت من جديد:»اكتبى يا رضوى». وبجهد منها للتذكًر بسبب كل جرعات المخدر التى تؤدى إلى النسيان. حاولت رضوى كتابة كل شئ عن حياتها فى كتابها الآخير الذى حمل سيرتها الذاتية كما حمل اسماً أثقل منها، هذه ليست مزحة، بل هى حقيقة, فقد كان الكتاب يحمل اسم» أثقل من رضوى».
تحدثت فى البداية من كونها فتاة أمها الوحيدة وأنها عاشت وسط عدد من الأخوة الذكور، وعن وضع كفيل أن يجعلها فتاة أمها المدللة، لكنه ما لم يكن. تذكرت طفولتها ومراهقتها فى مدرسة الحرية، تلك الحرية التى ستظل تبحث عنها طوال عمرها لنفسها ولزوجها وابنها واحفادها من بعدها.
وقد أرّخت «رضوى» فى كتابها هذا الآخيرعن أزمتها فى الجامعة فى الرابع من نوفمبرعام 2010 ، الجامعة التى قضت بها أربعة عقود تدرس بها الأدب والترجمة، كما وثقت لأحداث الثورة فى مصر خاصة واقعة أحمد محمود.
ولم ينته أمر السيرة الذاتية لرضوى عاشور بكتابة الجزء الأول «أثقل من رضوى» ، بل أتبعته بجزء ثانٍ، جاء تحت عنوان «الصرخة» هذا العنوان يوضح لنا أن الأمر تجاوز خفة الجسد ووصل إلى صرخة الروح من الألم، وهى فى هذا الجزء تتحدث عن الألم، وعن العمر الذى اقترب من نهايته، فى محاولة منها للربط بين وضعها الصحى والحالة السياسية فى مصر بين عامى ٢٠١٣-٢٠١٤. وقد كتبت رضوى جزءا كبيرا من هذا الكتاب، ولكنها رحلت قبل ختامه، لكنه صدر بما خط قلمها فقط، وقد حرص ابنها «تميم» على نشر الكتاب كما هو دون أى تدخل فى النص حرصاً على رحيق أمه الآخير، وهو ما تم تسجيله على غلاف الكتاب.
«الأموات يحتاجوننا كما نحتاجهم، إن لم نوافهم بالسؤال يثقلهم الحزن و تركبهم الوحشـة» هذا تذكير لرضوى من أحد معجبيها، وتذكير لنا جميعا ممن نحب وغادر.
وتجسيدا لقيم الوفاء تجاه من قدم وأعطى للفكر والثقافة فى مصر، احتفل القطاع الثقافى متمثلا فى المركز القومى للترجمة بذكرى مرور عشرة أعوام على رحيل الكاتبة الكبيرة رضوى عاشور، وذلك من خلال تنظيم المركز مؤتمرا علميا برئاسة الدكتورة كرمة سامى رئيس القومى للترجمة، و بحضور كل من الكاتبة اعتدال عادل، والدكتورة فاتن موسى، والدكتور أحمد درويش.
وليس من قبيل الصدفة أن ينطلق التذكيربعشرية رضوى عاشور الأولى من المركز القومى للترجمة. ومن أين تأتى الصدفة والترجمة كانت هماً من هموم رضوى الأولى، ولذلك سلط المؤتمرالضوء على العلاقة الوطيدة بين أعمال رضوى عاشور والترجمة على تنوع مساراتها وأوجهها المتعددة. ففعل الترجمة فى حالة أعمال رضوى عاشور ليس مجرد ممر للعبور من ثقافة إلى أخرى، بل عبور دائم وواع بقوة الكلمة، ووقع الفكرة، وأهمية السرد. وسعى هذا الحدث العلمى الثقافى إلى تناول الأوجه المتعددة للترجمة سواء الترجمة المباشرة لأعمال رضوى عاشور إلى اللغات المختلفة، أو ما ترجمته رضوى عاشور من نصوص أدبية، وكذلك ما أوردته من ترجمات لمقتطفات واعية فى أعمالها الأدبية أو النقدية فضلا عن الترجمة كمجاز دالِ ومهيمن على أعمالها وتنقلها من النص التاريخى إلى السردى والتناص الترجمى فى متن النص الإبداعى، بحسب ما أكدت الدكتورة كارمة سامى.
فى كلمتها الافتتاحية فى المؤتمر عن دور الروائية والقاصة رضوى عاشور فى إثراء المركز، وقالت «كرمة»: أثرت دكتورة رضوى عاشور رصيد المركز القومى للترجمة بإشرافها على ترجمة الجزء التاسع والأخير من موسوعة كمبريدچ فى النقد الأدبى: القرن العشرون المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية، تحرير ك. نِلووج، ك. موريس، ج. أوزبورن. وصدر الجزء التاسع عام ٢٠٠٥ ضمن مطبوعات المشروع القومى للترجمة، وتميز بداية من المقدمة بحضور شخصية دكتورة رضوى وتميزها ليكتسب مشروع ترجمة العمل صفات إضافية نعرفها عن رضوى عاشور عبر جوانب أخرى فى حياتها معلمة وناقدة وكاتبة.
أما عن جلسات المؤتمر فكان من أجوائها ورقة بحثية تحت عنوان محطات من الحياة الأدبية للراحلة رضوى عاشور، وكانت البداية من الدكتور أحمد درويش الذى مهَد لحديثه عن المبدعة رضوى عاشور قائلا: رضوى عاشور كاتبة لا تصلح للنهايات، بل ستظل دائما صاحبة البدايات المتوهجة، مؤكدا ان رضوى عاشور مثلت نموذجا جيدا لفكرة الوسطية التى من شانها طول الأمد، وأنها لم تكتفِ بالعربية حبا وهضما، ولكنها جمعت أطراف اللغات والثقافات الاخرى لتبدأ منها تجربتها الخاصة.
وتابع درويش: «حتى حين انغمست عاشور ادبيا وفكريا فى مجتمعها شكلت وسطية تجمع بين الرؤية والابداع، فكانت ثورية فى التعبير عن رايها، وفى ذات الوقت لم تتخل عن المبدعة التى سكنتها طوال حياتها.
من جانبها قالت الكاتبة اعتدال عثمان: «إن رضوى عاشور واصلت طريقها كمبدعة وناقدة متميزة وأستاذة جامعية صاحبة رسالة تعليمية رفيعة المستوى»، مؤكدة أنها كانت ذات حضور شخصى مميز.
وأضافت: «رضوى عاشور كانت حاملة لقضايا التحرر الوطنى والحلم بالنهضة وأبرزها قضية فلسطين». وإنها حرصت على إرساء قيم أصيلة فى العمل و سعة الاطلاع.
واضافت «عثمان»: « ان رضوى عاشور اكثر من تمكن من تداخل الخاص لديه بالعام حوله، بشكل بعيد عن الازدواجية سواء فى الفكر أو الإبداع.
وتابعت : أما على المستوى الإنسانى فكانت رضوى تحمل بداخلها جوهرة صدق ومحبة ومقدرة على التواصل وتحمل من هموم الوطن ما يمكنها من مواجهة الواقع وانكساراته، و ظلت رضوى تكتب لأخر لحظة متحملة الالم متسلحة بالأمل.
وأنهت الكاتبة الدكتورة فاتن موسى الجلسة باستدعاء صوت رضوى عاشور من خلال قراءة خاصة ومداخلة منها عن ثلاثية غرناطة، وقتما فضلت الراحلة مقعد القارئ لأعمالها.
كما تضمن المؤتمر عروضا تقديمية عن حياة وأعمال رضوى عاشور بعنوان «وطن محرر»، وآخر بعنوان «سيدة المعانى والمضامين».
ولدت عاشور فى ٢٦ مايو ١٩٤٦ حصلت على درجة البكالوريوس فى اللغة الإنجليزية فى جامعة القاهرة عام ١٩٦٧ قبل أن تنتقل لإكمال درجة الماجستير فى الأدب المقارن من جامعة القاهرة عام ١٩٧٢. حصلت عاشور على درجة الدكتوراه فى الأدب الإفريقى الأمريكى من جامعة ماساتشوستس، أمهرست، عام ١٩٧٥. بدأت التدريس فى جامعة عين شمس فى القاهرة عام ١٩٦٧، حيث ظلت أستاذة للأدب الإنجليزى. وتُعد»عاشور» من الأصوات القوية بين الكتاب المصريين من جيل ما بعد الحرب. يعتبرها الكثيرون كاتبة تتمتع بنزاهة وشجاعة استثنائيتين، حيث تتناول أعمالها بعمق موضوعات السياسة والتاريخ والمنفى، وتنوعت أعمالها ما بين النقد الأدبى والرواية والقصة والسيرة الذاتية، وترجمت نصوصها، إلى عدة لغات، منها الإنجليزية والإيطالية والإسبانية، واشتهرت بثلاثيتها المعروفة باسم ثلاثية غرناطة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: القومى للترجمة جامعة القاهرة رضوى عاشور
إقرأ أيضاً:
كتابان من إصدارات المركز القومي للترجمة ضمن القوائم الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها للعام 2024 – 2025
أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، القوائم الطويلة لفروع "الترجمة"، والتي ضمت 19 عنوانًا مقدمة من 12 دولة.
كرمة سامي مدير المركز القومي للترجمة
وقد صرحت الأستاذة الدكتورة/ كرمة سامي، مدير المركز القومي للترجمة أن الكتابين اللذين جاءا ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب هذا العام هما كتاب: "مدريد الإسلامية" للكاتب دانيال خيل بن أمية، ترجمه من الإسبانية إلى العربية "خالد سالم" من مصر، وصدر عن المركز القومي للترجمة في 2023.
وهو طرح جديد وامتداد لما قيل مسبقًا حول الأصل العربي لاسم العاصمة الإسبانية، الذي ظل قرونًا يمثل جدلًا بين المختصين في التاريخ واللغة، إلى أن عُثر عليه في كتب تاريخ الأندلس العربية، وقد كان السائد حتى الآن تسمية هذه العاصمة الأوروبية التي بناها العرب باسم مدريد العربية، وجاء دانيال خيل ليضع كتابه: "مدريد الإسلامية"، على اعتبار وجود العنصر البربري في صناعة الأندلس، منذ الفتح، أو الغزو، إلى سقوط غرناطة، آخر المعاقل الإسلامية في الأندلس عام 1492.
نبذة عن "مسرح ما بعد الدراما"
أما الكتاب الثاني فهو: "مسرح ما بعد الدراما" للكاتب هانس - تيس ليمان، ترجمته من الألمانية إلى العربية "مروة مهدي عبيدو" من مصر، وصدر عن المركز القومي للترجمة في 2023.
ويوضح الكتاب اقتراب مسرح ما بعد الدراما من التفاهة والبديهية وبساطة اللقاء وتلاقي النظرة في موقف مشترك. ومع ذلك، فإنه يعطي إجابة محتملة بخصوص الطوفان اليومي للصيغ الاصطناعية المكثفة، حيث أصبح التضخيم الدرامي المخدر للأحاسيس اليومية لا يطاق ليست زيادة الكم هنا هي المحك، بل تعميق وضعية الموقف