بوابة الوفد:
2024-12-12@07:53:11 GMT

تقرير أخير عن السيدة «راء»

تاريخ النشر: 5th, December 2024 GMT

جلبة غير عادية فى المقهى هذا اليوم .. خلق كثير جاءوا من بعيد ليشهدوا ما سوف يحدث فى المساء ، يتحرك النادل العجوز ومساعده الصبى الصغير بخفة بين الموائد يعيد ترتيبها ورصها على شكل صفوف دائرية فى متتالية عددية صف أول ، صف ثان، وفى المنتصف وضع منضدة عتيقة أعدت خصيصاً لتجلس عليها السيدة «راء» ، مليئة بنقوش وأدعية وأعلام بأحرف عربية وآرامية وأمازيغية تنتمى لجغرافيا العالم العربى وتاريخه ، كما وضع على المائدة حزمة من الكتب بالأنجليزية والأندلسية ومخطوطات ودواوين شعر فلسطينية .


على كل مائدة باقة من الورد الأحمر الغامق مع وردتين بنفسجتين ووردة صفراء ، فلازال النادل العجوز يؤمن بالحب والألم والفراق .
أجلس كما أنا على مقعدى الأثير فى الزاوية البعيدة التى تطل على أطراف محطة الحياة المترامية ، أنتظر بشغف قدومها البهى بعد مرور عشر سنوات على مغادرتها حياتنا الفانية فى عام 2014 ، فعلى الرغم من عدم ظهورها حتى الأن ، الا ان مع أنتصاف ساعات النهار أصبح المقهى مكتظ مابين مفارق ومودع .. 
رجعت إلى الخلف قليلاً مستندة إلى الحائط الأخضر من خلفى وتذكرت وصف زوجها ورفيق رحلتها الشاعر الكبير « مريد البرغوثى « لها فى قصيدة تعد من أجمل ماقرأت عن الحب بين أسطورتين عاشوا معاً سبعة وأربعين عاماً من الأبداع والمقاومة لكل زيف تاريخى ، وفى نضال من أجل الحق وأسترجاع الأرض المسلوبة بتدوين حكايات المهمشين والبسطاء والنقل عنهم بالشعر والرواية والترجمة .
لخص فى هذه القصيدة  شاعرنا الكبير « مريد البرغوثى « قصته مع القاصة والروائية و الناقدة الأدبية وأستاذة الأدب الأنجليزى « رضوى عاشور « أو السيدة راء» ، التى بدأت على سلالم مبنى قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة ، هذه اللحظة الجياشة المليئة بالعواطف المتباينة، هو يجهر بالشعر لأصدقائه، وهى فى طريقها للمحاضرة متحمسة لمستقبلها، فتقف لتستمع وتعجب، ويتوقف قلبها وعقلها عند هذا الفتى الفلسطينى زميل الدراسة الذى لن تفارقه بعد الآن وحتى رحيلها . يقول « مريد « لرضوى « مع حفظ الألقاب لكل منهما :
أنتِ جميلة كوطن محرر
وأنا متعب كوطن محتل
أنتِ حزينة كمخذول يقاوم
وأنا مستنهض كحرب وشيكة
أنتِ مشتهاة كتوقف الغارة
وأنا مخلوع القلب كالباحث بين الأنقاض
أنتِ جسورة كطيار يتدرب
وأنا فخور كجدته
أنتِ ملهوفة كوالد المريض
وأنا هادىء كممرضة
أنتِ حنونة كالرذاذ
وأنا أحتاجك لأنمو
كلانا جامح كالانتقام
كلانا وديع كالعفو
أنت قوية كأعمدة المحكمة
وأنا دهش كمغبون
وكلما التقينا تحدثنا بلا توقف ، كمحامييْن عن العالم.
حانت اللحظة التى ينتظرها الجميع منذ الصباح الباكر ، فقد جاءت بخطوات بطيئة ولكنها ثابتة  السيدة «راء» مستندة على ذراع ولدها الشاعر الجميل « تميم مريد البرغوثى « ، وهو يدفع عنها الجمع الغفير مردداً مرثيته الشهيرة يوم رحيلها : 
فِى سَطْرِ، أَوْ أَرْبَعْ سُطُورْ
أسْمِكْ يَا أُمِّي
إِسْمِ رَضْوَى مُصْطَفَى مْحَمَّدْ عَاْشُورْ
عِشْنَا سَوَا ثَلاثِينْ سَنَةْ وْسَبْعَة،
أَبُوها وْأُمَّها عَاشُوا مَعَاهاْ أَقَلِّ مِنِّي،
وَاْنَا مَا عِشْتِشْ مَعْ بَنِى آدَمْ سِوَاها قَدَّها وَلاْ حَتَّىْ اْبُويَا.
تجلس خلف المنضدة العتيقة تحوطها هالة من النور الملائكئ ينبأ بمصيرها فى الدار الأخرة ، تقول بصوت حانى للمتحولقين حولها : “ كأن الأيام دهاليز مظلمة يقودك الواحد منها إلى الآخر فتنقاد لا تنتظر شيئا ، تمضى وحيدا وببطء ، لا فرح لا حزن لا سخط لا دهشة أو انتباه ثم فجأة وعلى غير توقع تبصر ضوءا ، ثم تتساءل هل كان حلما أو وهما ، وتمشى فى دهليزك من جديد ..”
ثم بعد صمت ابتسمت وكأنها تراجع حياتها فى دنيانا قائلة : “ أبدو هشة كورقة خريف أسلمت نفسها للهواء قبل أن تستقر على الأرض، كيف ناطحتُ إذن؟ ” ، وقالت ... ، وقالت ....
لا أدرى كم مر من الوقت وأنا مستمتعة بهذا الوصل الإنسانى، خاصة حينما رفع الحضور الكفوف فى نفس اللحظة داعين فى تضرع بالرحمة والمغفرة لزوجها الشاعر الكبير « مريد البرغوثى « الذى لم يتحمل فراقها أكثر من سبع سنين عجاف ولحق بها عام 2021 ، حينما شاهدوه يدخل المقهى ويجلس بجوارها ممسكاً بيدها وهى تحكى قصتهما معاً فى الحياة .

المصدر: بوابة الوفد

إقرأ أيضاً:

مراسلنا في دمشق: كل ما يُشاع عن اقتحام مرقد السيدة زينب عارٍ عن الصحة تماماً

بغداد اليوم -  


مقالات مشابهة

  • أصالة تستعد لطرح أغنية جديدة من كلمات الشاعر الراحل ناصر الجيل
  • التنوع والاختلاف في تجارب الأدباء بنقاشات الثقافة بالمنيا.. صور
  • مراسلنا في دمشق: كل ما يُشاع عن اقتحام مرقد السيدة زينب عارٍ عن الصحة تماماً
  • سوليفان يزور إسرائيل ومصر وقطر في “مسعى أخير” لوقف إطلاق النار بغزة
  • الشاعر الفيلي جليل صفر بيكي.. حنجرة طائر غريد
  • ترجمة أعمال الشاعر جوان مارغريت إلى العربية في صحراء وادي رم
  • التفاصيل الكاملة.. ماذا حدث قبل ليلة سقوط الأسد؟
  • مراهقة ألبانية تدير مقهى للنساء والأطفال فقط بألمانيا
  • قصور الثقافة تناقش مسيرة نجيب محفوظ بالدقهلية
  • “مُرهفٌ كالنسيم وشاهق كالجبل”: في استذكار عبد العزيز المقالح