الجزيرة:
2025-10-19@14:57:19 GMT

رسائل من خط النار (2) | التقاعد الحرام

تاريخ النشر: 17th, August 2023 GMT

رسائل من خط النار (2) | التقاعد الحرام

(1)

أما بعد؛

فقد بلغني أنك قدَّمت طلبًا للتقاعد، وأنك لا تطلب مكافأة ولا تكريمًا، وإنما تسأل فقط أن ندعك وشأنك.

يؤسفني إبلاغك أن طلبك مرفوض.

لا ينصرف المخلصون أبدًا ولا يتوقفون، إنما يواجهون -بشجاعة- ما أقدموا عليه، يعترفون بأخطائهم، ويغيرون أساليبهم وطرائقهم الساعية للتغيير

(2)

خطر لي أن أخبرك بأمر ربما تراه طريفًا.

أنا أستعيذ بالله من الشيطان، لكني أراقب هذا الشيطان جيدًا، أدرس خطواته، وسياساته.

يا أخي،

هذا المخلوق لديه قوة إرادة غير عادية؛ إنه يصر ويصر عليك، يأتيك من كل جانب، ويغريك بكل ما هو ممكن أو محتمل، ولا ينهزم إذا صددته، لا يتوقف أبدًا، بل يكرر المحاولة، وحتى إذا قاومت الانصياع إليه، يعود فيغريك بما هو أقل مما عرضه عليك ورفضته، إنه يحاول أن يأخذ منك أي شيء، أن يضلك في صغيرة إن لم يضلك في كبيرة، أن يحقق أي انتصار، ولو كان بسيطًا.

أتعرف..

كل الظالمين مثله.

لديهم تصميم على بلوغ الحرام الذي يقصدونه، لا تلين عزائمهم، يتعاونون فيما بينهم، خططهم بعيدة المدى، لا يتوقفون أبدًا، ولا تغريهم الانتصارات البسيطة، هم يسعون إلى فساد أكبر.

هل فكر المظلومون في هذا الأمر من قبل؟

لا أظن..

كل شكل من أشكال الرفض هو ثورة، وكل محاولة للوعي هي ثورة (غيتي) (3)

عندما أخبروني أنك كفرت بالثورة، وقررت الانسحاب من الشأن العام، والابتعاد عن كل ما له علاقة بالسياسة، وحجتك في ذلك أن الناس قد انصرفوا عن الأمر، اندهشت؛ فأنا أتذكر أنك حين بدأت كان الناس قلة، ورغم ذلك بدأت، فلماذا تتوقف الآن بدعوى الناس؟

ثم هب أن الناس -فعلًا- انصرفوا عن الثورة وعن السياسة، فمنذ متى وعدد الناس عندك دليل على صحة الفكرة؟

وحتى إذا انصرف الناس عن الثورة ردهم أنت.

وحتى إذا انصرف الناس عن السياسة ردهم أنت.

لا ينصرف المخلصون أبدًا ولا يتوقفون، إنما يواجهون -بشجاعة- ما أقدموا عليه، يعترفون بأخطائهم، ويغيرون أساليبهم وطرائقهم الساعية إلى التغيير.

نعم أخطأنا حين كنا نعتقد أن التغيير يمكن أن يكون بسرعة، هكذا في غمضة عين، أن يثور الناس لعدة أسابيع، يخرجون في الشوارع، يبيتون في الميادين فيسقط نظام دكتاتوري عتيق، هكذا بكل بساطة.

أخطأنا أننا كنا ننتظر من أوروبا الديمقراطية أن تقف معنا، وأن ما حدث في أوروبا الشرقية -عندما وافتها رياح التغيير، فأسقطت أنظمة عاتية، وبنت أنظمة جديدة بكل سلاسة وهدوء- سوف يتكرر عندنا، ونسينا أن أوروبا الديمقراطية هي الداعم الأول لكل دكتاتوريات المنطقة.

أخطأنا في أننا أولينا قيادات، تدعي المعارضة، ثقة لا تستحقها.

أخطأنا في أننا توقفنا حين سقط الرأس، دفناه، فإذا بألف رأس ينمو.

هل تريدني أن أقص عليك مزيدًا من الأخطاء التي وقع الثوار فيها؟

الفشل -يا صديقي- ليس أننا لم نحقق ما نريد، لكن الفشل الحقيقي ألا نستمر في المحاولة، أن نستسلم، أن نقول: "مفيش فايدة"، أن ندعي أن الأمر مستحيل.

بالمناسبة، هؤلاء الذين نريد تغييرهم، أذكياء جدًّا، إنهم لا يقولون لنا أبدًا: إن أفكارنا خاطئة، كيف ونحن نتحدث عن العدل والمساواة والحرية؟

على العكس يقولون لنا: إن أفكارنا رائعة، لكنها مستحيلة، ونحن -رويدًا رويدًا- نصدق أنها مستحيلة، ونصدق أنه، فعلا، "مفيش فايدة"، ونستشهد بأي حادثة عابرة لنؤكد أن الأمر انتهى.

بل ربما نتبرأ مما جرى، نلوم أنفسنا ونسألها: كيف فعلنا ذلك؟ كيف ارتكبنا هذا الجرم؟ فنخجل من ذكر التحرير، من يناير وخيمه، والعيش والملح مع آخرين لا ينتمون إلى ما ننتمي إليه، وقد اكتشفنا جميعًا أن خيمة صغيرة قادرة على جمعنا رغم اختلافاتنا، فما بالك بوطن؟

ليس من باب المجاملة، ولكن من باب الحقيقة، أنت أفضل مني في أمور كثيرة، غير أني أفضل منك في أمر آخر، هو أن حلمي في العشرينيات ما زال كما هو

(4)

اسمع..

أنا من العازفين عن السياسة إذا كان المقصود بها الدخول في معارك جانبية مع نظم بائدة، والتورط في قضايا جانبية، أو إصدار بيانات الشجب والإدانة، وتبادل السباب مع هذا وذاك، أنا في هذه الحالة -مثلك- عازف عن السياسة.

أما إذا كان المقصود بالسياسة هو الاهتمام بالشأن العام، والبحث عن مخارج، والتنسيق مع الآخرين، والتفكير في خطوط تماس بيننا كمختلفين فكريًّا يمكن أن تجمعنا، ودراسة تجربتنا وتجارب الآخرين، وأن نعمل على فضحهم أمام العالم، فأنا أدعوك أن تعود.

وإذا كانت الثورة محصورة في خروج الناس إلى الشارع، فأنا -مثلك- ضد الفكرة، لكن الثورة أكبر وأنضج من هتافات الحناجر.

كل فعل مقاوم هو ثورة.

كل شكل من أشكال الرفض هو ثورة.

كل محاولة للوعي هي ثورة.

كل جهد لتوحيد الصفوف هو ثورة.

كل اهتمام بما يجري في انتظار اللحظة المناسبة لقرار مناسب هو ثورة.

كل محاولة لإيجاد بدائل ووسائل جديدة للمقاومة هي عين الثورة.

(5)

يا صديقي الراغب في التقاعد..

يدرك الظالم أن القضاء عليك صعب، لكن يأسك أسهل، كل ما هو مطلوب منك أن تقول: "مفيش فايدة"، وبذلك يغلق أي باب في المستقبل للتغيير؛ لأن التغيير لا يحدث فجأة، لا يسقط علينا هكذا من السماء.

وأنت خير من يعرف أن الدكتاتور مثل الضرس، لا يمكن خلعه هكذا ببساطة، بل في حاجة إلى محاولات عدة، تهزه من هنا، وتهزه من هناك، تطرق عليه من هنا، وتكرر من هناك، تنجح في محاولة، وتفشل في أخرى.

يدرك الثائر أن الأمر في حاجة إلى الصبر.

وأن النصر في أحيان كثيرة قد لا يتحقق في حياته.

(6)

أتعرف..

ليس من باب المجاملة، ولكن من باب الحقيقة، أنت أفضل مني في أمور كثيرة، غير أني أفضل منك في أمر آخر، هو أن حلمي في العشرينيات ما زال كما هو، صحيح أن بعض مفاهيمي قد تغيرت، بعض وسائلي قد تغيرت، لكن حلمي ما زال هو كما كان، وما زالت قناعتي أن التاريخ لن يرحم المتقاعدين تمامًا كما أنه لن يرحم الطغاة.

صديقي العزيز،

"قد يقتلك نورك".

قلت لك ذلك مرة، ابتسمتَ وسألتَ: ماذا أقصد؟

وأجيبك أنا: إن الوعي والضمير هما النور، وإذا امتلكتهما، فإنك لن تتوقف أبدًا عن المعركة، وفي النهاية قد يؤدي ذلك إلى مقتلك، ولو فكرت في ذلك قليلاً لقلت: وما الضرر في ذلك؟ وهل يمكن أن يموت المرء لحظة واحدة قبل أن ينتهي عمره المقدر؟

قلت لك: إننا ميتون ميتون، فليقتلنا نورنا أفضل من أن تقتلنا خيانتنا وجهلنا وتنازلنا، بل إن الهلاك يقع عندما نصمت، فإذ ذاك نحن نخسر أنفسنا.

نعم..

حين نعلن تقاعدنا، إنما ندير ظهورنا لمن هم قيد السجون، ولمن رحل، وحينها نخسر أنفسنا.

والسلام ختام.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: عن السیاسة أفضل من من باب

إقرأ أيضاً:

خطيب المسجد الحرام: تعيش في خير لم تسأله وتنجو من شر لم تتقيه بـ4 أعمال

أوصى الشيخ الدكتور ‏صالح بن عبدالله بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام، المسلمين بتقوى الله والتأمل في عبد من عباد الله موفق، يعيش في خير لم يسأله، وينجو من شر لم يتقه.

خير لم يسأله

وأوضح " بن حميد" خلال خطبة الجمعة الأخيرة من شهر ربيع الآخر اليوم من المسجد الحرام بمكة المكرمة، أنه قد كُتب له ذلك - بعد توفيق الله - بسبب دعاء من عبد صالح لم يعرفه، وإغاثة ملهوف لم يذكره، وتفريج كرب لأخ لم يعلمه، يقترن بذلك خبيئة من عمل صالح لم يظهره.

واستشهد بما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، مشيرًا إلى قصة عظيمة عجيبة مباركة في كتاب الله من قصص أهل الإيمان والتوحيد في زمن الغربة.

وتابع:أولو عزمٍ من الرجال، فروا بدينهم من الفتن، فأنجاهم الله، وهيأ لهم أسباب الحفظ والعزة والكرامة، أووا إلى ربهم فأواهم، وكتب لهم الرفعة، وحسن العاقبة، ولسان الذكر في الدنيا والآخرة.

قصة عجيبة

وأضاف أنها قصة عجيبة تنتظم دروسًا وعبرًا تستدعي التوقف عندها وتأملها، إنها قصة أصحاب الكهف والرقيم، ولئن كانت قصة أصحاب الكهف والرقيم عجيبة فإن هناك ما هو أعجب منها، وهي آيات الله في الأفاق.

وأردف: وفي الأنفس خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والآيات في القفار والبحار، وتتسبب بعالم الغيب وما فيه من الأسرار، منوهًا بأن من خلال هذه السورة الكريمة بقصصها وأحداثها عامة، وقصة أصحاب الكهف والرقيم خاصة ما يتجلى من العلاقة الكبرى بين الإيمان والتوكل.

واستطرد: وبين الأخذ بالأسباب وبين الإيمان بالغيب، والأخذ بالظواهر والماديات، لافتًا أن من الدروس في هذه القصة المباركة ما تجلى فيه الفارق بين الإيمان الصحيح بالله فاطر الكون ومبدعه، والإيمان بالغيب والبعث والنشور.

وواصل: وبين الاعتماد على الماديات المجردة، والانصراف إلى اللذة العاجلة، والمنفعة المادية العابرة بعيدة عن حقائق الإيمان وأنوار النبوة وفقد التوازان بين العلم والعقل والأخلاق وضوابط الاستقامة.

التركيز على التوحيد

وأفاد بأن التركيز على التوحيد وإثباته وتثبيته وبيان ما يناقضه من الشرك، جلي في هذه القصة المباركة، فالثبات على الإيمان والاستقامة على الهدى منة من الله وتوفيق.

ودلل بقوله تعالى (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوا مِن دُونِهِ إِلَيْهَا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، فمن التزم توحيد الله وأخلص في عبادته ونَبَذ الشرك والبدع والمعاصي حفظه الله وعصمه وثبته.

وأكد أن من دروس هذه الفتية المباركة أنهم كانوا على قلب واحد في تعاون وتآلف، تلاشت فيه مظاهر الفردية وعوارض الخلاف والشقاق، جاءت الآيات تبين ذلك وتبرزه بأسلوب عجيب : ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ)، ﴿ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا ).

وأشار إلى أنهم لم يختلفوا ولم يتنازعوا قلوبٌ تصافت ونفوسٌ تسامت، فالغاية واضحة والمنهج مستقيم والجهود موجهة لابتغاء الحق، ومَنْ صاحب الأخيار نال من خيرهم ومن رافق الأشرار ناله من شرهم ومن رافق المتذمرين واللوامين تأثر بهم.

غمرته سعادتهم

ونبه إلى أن من عاش مع المتفائلين غمرته سعادتهم، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَةٌ، وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)، فصاروا جماعة واحدة ويدًا واحدة وإخوان صدق وتوافقوا على كلمة سواء.

ولفت إلى درس عجيب وتوجيه عظيم يتعلق بالاشتغال بما لا طائل تحته مما هو ليس من مهمات الدين، ولا من مصالح الدنيا، لقد قال هؤلاء الفتية الصالحون، حين تساءلوا عن مدة نومهم: (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ).

ونوه قائلًا: إن هذه القصة العظيمة تغرس في فؤاد المؤمن وبخاصة في أوقات الأزمات والمضايق أن العبد ضعيف بنفسه قوي بربه، وأن التوفيق هبة من الله ومنّه، وأن العبد في إيمانه وعمله الصالح له مقامان، مقام عمل وكسب ومقام هبة من الله وتوفيق، فمقام العمل والكسب ما يقوم به من أفعال وأحوال ففي قوله سبحانه (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ هذا مقام العمل والكسب، وقوله ﴿ وَزِدْنَهُمْ هُدَى) هذا حال الهبة والتوفيق، فمن آمن بالله وتوجه إليه هدى الله قلبه وأقبل عليه.

طباعة شارك خطيب المسجد الحرام إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد خطبة الجمعة من المسجد الحرام خير لم يسأله تعيش في خير لم تسأله

مقالات مشابهة

  • عجائب القمر.. فيلم علمي مدهش وممتع من الجزيرة الوثائقية
  • المالية النيابية تدعو وزارة المالية استقطاع التوقيفات التقاعدية من رواتب موظفي الإقليم
  • مراسل الجزيرة يوثق معاناة العائدين إلى منازلهم المدمرة في خان يونس
  • هل توجد مكافأة زواج في أنظمة التقاعد؟.. التأمينات الاجتماعية تجيب
  • الجزيرة يحصد «النقاط الثمينة» أمام دبا
  • عند الإفصاح عن مصدر الدخل بحساب المواطن.. هل يتم تسجيله كاملا أم بخصم التأمينات؟
  • منيمنة: هذا أعظم ما أنتجته ثورة 17 تشرين
  • كاميرا الجزيرة تتجول في أسواق مدينة غزة بعد اتفاق وقف الحرب
  • خطيب المسجد الحرام: تعيش في خير لم تسأله وتنجو من شر لم تتقيه بـ4 أعمال
  • ذكرى ثورة 17 تشرين الاول: أي مصير لنواب الثورة؟