الجزيرة:
2025-03-14@21:29:52 GMT

سوريا.. أكثر الاختبارات إيلامًا

تاريخ النشر: 5th, December 2024 GMT

سوريا.. أكثر الاختبارات إيلامًا

كانت واحدة من كبرى الصدمات التي تعرضت لها خلال مسيرتي الصحفية هي تلك التي عايشتها أثناء الحرب الأهلية في سوريا. ما شهدته هناك ترك أثرًا عميقًا في داخلي لسنوات طويلة، ولا يزال هذا الأثر يطفو على السطح من حين لآخر ليهزني بقوة. مع سيطرة المعارضة على حلب وخروج المدينة من قبضة نظام الأسد في هذه الأيام، يبدو أن تلك الصدمة عادت لتطاردني من جديد.

أوَّل لقاء مع الأسد

كانت زيارتي الأولى لحلب برفقة رئيس الوزراء آنذاك، رجب طيب أردوغان، حيث كنت مستشارًا إعلاميًا ضمن الوفد المرافق. وكان ذلك أول لقاء لي مع بشار الأسد. ظهر الأسد حينها برفقة زوجته، ورحّب بالوفد ترحيبًا لافتًا بأسلوب غربي ونبرة وديّة.

عندما تجوّلت في أسواق حلب، وفي الجامع الأموي، وقلعة حلب، شعرت بأن المدينة ليست مختلفة كثيرًا عن غازي عنتاب في تركيا. هاتان المدينتان عاشتا أربعمائة عام في ظل دولة واحدة، تتشاركان الثقافة والتاريخ.
حلب، التي تبعد 45 دقيقة فقط عن غازي عنتاب، تُعدّ أصل ثقافتنا الغذائية ومطبخنا التقليدي.

لكن الزمن تبدّل، والعلاقات تغيرت، والصداقة تحوّلت. ذلك الأسد الذي كان ودودًا أصبح لاحقًا عدوًا لتركيا.
وبعد سنوات، عندما عدت إلى سوريا كصحفي خلال الحرب الأهلية، وجدت نفسي أمام مشاهد وتجارب لا يمكن نسيانها أبدًا.

إعلان المعارك داخل الجامع الأموي

في عام 2013، دخلت سوريا مرة أخرى كصحفي. لكن هذه المرة، وجدت نفسي في بلد مزقته الحرب الأهلية، وحوّلته إلى أطلال، وأغرقته في الفوضى. كان الطريق إلى حلب مليئًا بنقاط التفتيش، وكل نقطة كانت تحت سيطرة فصيل مختلف. لم تكن هناك سلطة موحدة، وكان المرور من كل نقطة يعني الانصياع لقوانين وأوامر الفصيل المسيطر. معظم تلك النقاط كانت تحت سيطرة فصائل معارضة للنظام، لكنها لم تكن على وفاق مع بعضها البعض.

رأيت فتيانًا يبلغون بالكاد 19 أو 20 عامًا، يحملون الكلاشينكوف ويتصرفون وكأنهم سادة المناطق "المحررة". لم تمر فترة طويلة حتى أجبرتنا أصوات الرصاص على التوقف. اندلع اشتباك مسلح عند إحدى نقاط التفتيش بين فصيلين معارضين.

بعد انتهاء الاشتباك، واصلنا طريقنا نحو حلب التي كانت تشهد معارك طاحنة بين قوات النظام والمعارضين.
لم تكن حلب حينذاك هي نفسها المدينة التي رأيتها في السابق، فقد تحوّلت إلى أنقاض. أسواق حلب التاريخية التي اشتهرت عالميًا كانت قد دُمّرت. كانت الأسقف مثقوبة برصاص الطلقات، والجدران مليئة بآثار القصف والانفجارات.

لكن أكثر ما أثّر بي كان المشهد في نهاية السوق، داخل الجامع الأموي الكبير. كانت مئذنته الشهيرة قد انهارت تمامًا، وسقطت بشكل أفقي في ساحة المسجد. أصابت قذيفة قبته تاركة ثقبًا ضخمًا في أعلاها. بدا المسجد وكأنه انشطر إلى قسمين.

في الجهة المقابلة للقبلة، كان مقاتلو المعارضة قد أقاموا متاريسهم، بينما تمركز جنود النظام عند بوابة المسجد.
نعم، لم أخطئ في الوصف، كانوا يقاتلون بعضهم البعض داخل المسجد. كانت المتاريس مكوّنة من منصات المصاحف، والكتب، والسجاد، وحتى الحجارة التي سقطت من القبة. الصادم أكثر هو أن كلا الطرفين كان يصيح "الله أكبر" أثناء إطلاق النار.

كان هذا المشهد في الجامع الأموي بحلب أحد أكثر المشاهد التي رأيتها للحروب الطائفية عبر التاريخ إيلامًا.

إعلان استلام الصور المروعة في الدوحة

قضيت عدة أيام في حلب محاصرًا بين المساجد التي دُمرت بالقصف، والرصاص الذي يطلقه القناصة فوق رؤوسنا، وسط شوارع تحولت إلى ساحات للمعارك. بعد عودتي إلى تركيا، تلقيت اتصالًا غير متوقع. كان ضابط من الجيش السوري قد تمكن من الهروب من البلاد، حاملًا معه صورًا التقطها لآلاف الأشخاص الذين قُتلوا تحت التعذيب في سجون نظام الأسد. كانت الصور توثيقًا صادمًا لجرائم ضد الإنسانية.

كان الهدف هو أن تُستخدم هذه الصور كدليل أمام المحكمة الجنائية الدولية، لإثبات التهم ضد الأسد بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.

سافرت إلى الدوحة، حيث التقيت بفريق يضم خبراء قانونيين، وأطباء شرعيين، وتقنيين. كما حضر ممثلو وسائل إعلام دولية مثل "CNN International"، و"الغارديان"، إضافة إلى وكالة الأناضول و"TRT". بصفتي مديرًا عامًا لوكالة الأناضول، كان من المقرر أن أستلم هذه الصور رسميًا قبل نشرها عالميًا. عندما رأيت الصور لأول مرة، أُصبت بصدمة عميقة. كانت الصور تعرض جثثًا لأشخاص قتلوا بطرق وحشية: جوعًا، أو خنقًا بأسلاك البناء، أو تحت التعذيب.

كانت الأجساد تحمل أرقامًا مكتوبة على جباهها وصدورها. هذه الأرقام كانت تُستخدم لتوثيق القتلى، وإرسال تقارير إلى كبار المسؤولين في النظام. الضحايا كانوا من المعتقلين الذين اعتبرهم النظام معارضين.

عندما نشرنا الصور، أثارت ضجة عالمية كبيرة حتى إننا نظمنا معرضًا لها داخل الأمم المتحدة. ومع ذلك، ورغم الجهود القانونية الدولية، لم يُقدَّم الأسد للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. لكنني شخصيًا دفعت ثمن تلك الصور نفسيًا. بعد نشرها، لم أستطع النوم عشر ليالٍ ولم أتناول الطعام.

سوريا.. ساحة الامتحان المؤلمة

سوريا ليست مجرد أرض شهدت أفظع مشاهد الحرب الأهلية، بل هي مسرحٌ لمجازر وحشية، وميدانٌ لصراع طائفي ترك أثره العميق على ملايين البشر وعشرات الدول.

إعلان

في سوريا، بلغ الصراع بين الشيعة والسنة ذروته، وامتدت تداعياته لتشعل نقاشات حادة وانقسامات في معظم الدول الإسلامية. تجاوزت قسوة بشار الأسد ووحشيته الحدود المعهودة، وأصبح طغيانه نموذجًا لا يُقارن بطغيان أي دكتاتور آخر.

أتذكر اللحظات التي شهدت فيها سقوط حلب، حيث رأيت مئات الآلاف يُجبرون على ترك منازلهم وأرضهم. في ريف إدلب، شاهدت بأم عيني معاناة أولئك الذين أُخرجوا من بيوتهم قهرًا، ليعيشوا في خيام من القماش والأكياس البلاستيكية، غارقين في الوحل، ومحرومين من أبسط مقومات الحياة.

رغم هذه المعاناة، لا يزال كثير منهم يأمل بالعودة. حلم العودة إلى حلب واسترجاع منازلهم وأراضيهم، مازال يعيش في أعماقهم، منتظرين بفارغ الصبر أن تتحسن الأوضاع وتُتاح لهم الفرصة لذلك. عيونهم تغمرها الدموع، لكن قلوبهم يملؤها الأمل.

حان الوقت لحياة أفضل

في دوامة لا تنتهي من الصراعات، حيث أصبحت "الحرب الأبدية" بين المذاهب الإسلامية واقعًا مؤلمًا، يلوح الآن أمل لإنهاء هذا النزاع المقيت. يجب على المعارضة، التي عانت من التهجير والتعذيب والظلم، ألا تقع في خطأ تكرار تلك الجرائم ضد مؤيدي النظام أو الشيعة أو النصيريين. ذلك النوع من الحروب لا يجلب نصرًا حقيقيًا ولا غلبة لأي طرف. لا يوجد صراع أشد جهلًا وعبثية من الحرب المذهبية.

اليوم، أمام المعارضة والدول الداعمة لها فرصة ذهبية لبناء حياة جديدة في حلب، دون تكرار مآسي الماضي.
البوادر الأولية، سواء من خلال التصريحات أو الخطوات الأولية، تحمل إشارات إيجابية. نسأل الله أن يتمكن الشعب السوري هذه المرة من تحقيق السلام والاستقرار، لعلنا نحن أيضًا نتمكن من تجاوز صدماتنا ونبدأ صفحة جديدة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الحرب الأهلیة الجامع الأموی

إقرأ أيضاً:

“تأملات تحليلية” حول حالة سوريا ما بعد الأسد

 

فتَح السقوط المفاجئ والسريع لنظام بشار الأسد الباب أمام عشرات التحليلات لسيناريوهات المستقبل السوري، ومناقشة التحديات التي تواجهها هيئة تحرير الشام في إدارتها المرحلة الانتقالية. ووسط المادة التحليلية شديدة الثراء والمتدفقة عبر العديد من المنابر الإعلامية والبحثية المختلفة، يمكن الزَعم -على الأقل من المنظور الشخصي- أن الندوة التي عقدَتها في القاهرة مؤسسة كيميت بطرس غالي للسلام، التي يترأسها السيد ممدوح عباس، مساء يوم الأربعاء 22 يناير 2025، تضمّنت نقاشاً مختلفاً ومفيداً. وتعود فائدة الندوة لكونها تعامَلَت مع المفاتيح الأساسية اللازمة لفهم ما يحدث في سوريا، فهذا الفهم لا غنى عنه لأي عملية تتعلّق باستشراف معالِم المستقبل.

كما أن فائدة هذه الندوة تنبع بلا شك من غنى المنصة وتنوّع خلفيات المتحدثين، ما بين ذوي الخبرة المباشرة في التعامل مع الحالة السورية، وبين ذوي الخلفية الأكاديمية سواء من المحيطين بالشؤون العربية، أم من أبرز المتخصصين في الشأن الأمريكي. يضاف إلى ذلك أن التنوع في الآراء داخل قاعة الندوة هو جزء لا يتجزأ من تنوع الرؤى داخل الوطن العربي وخارجه حول حاضر سوريا ومستقبلها، وهذا التنوع مفيد بدوره؛ لأنه يسمح بالنظر للموضوع من أكثر من زاوية، ويساعد على بناء صورة أقرب ما تكون للصورة المتكاملة. وفي هذا الإطار يمكن بلورة أهم التساؤلات التي دار حولها النقاش.

هل جاء النظام ليبقى؟

هل جاء النظام القائم حالياً في سوريا ليبقى، أم أنه كان ضرورياً للتخلّص من حكم آل الأسد فلما سقط انتهت الحاجة إليه؟ كان هناك اتجاهان، اتجاه يقول ببقاء النظام؛ لأنه يحقق مصالح معظم القوى الدولية والإقليمية من قبيل: التخلّص من النفوذ الروسي والإيراني، ومهادنة إسرائيل ربما تمهيداً للتطبيع معها، وإخراج سوريا عسكرياً من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي وإخراج الجيش السوري من المعادلة السياسية لحكم الداخل. أما الاتجاه الآخر فكان يتحفّظ على الأخذ بسيناريو واحد لمستقبل سوريا في ظل النظام الحالي، فالبقاء محتمل لكنه محفوف بالمخاطر بالنظر إلى كمّ التناقضات بين مصالح القوى المنسوب إليها الحرص على بقاء النظام. فمن جهة، ترحّب إسرائيل بزوال حكم الأسد لكنها تخشى من الحكام الجدد وتؤدي دوراً في الضغط لاستمرار العقوبات الاقتصادية على نظامهم، ومن جهة أخرى تستفيد الدول العربية من كسر شوكة إيران وتقليص نفوذها الإقليمي، لكن خروج إيران تماماً من المشهد وانفراد تركيا وإسرائيل بالهيمنة على المنطقة ليس في صالح العرب.

هذا التضارب في المصالح بين الأطراف، ولدى كل طرف على حدة له عدة نتائج، ومنها على سبيل المثال، مفاقمة التوتر بين تركيا وإسرائيل بخصوص القضية الكردية في ظلّ وجود توجه إسرائيلي ثابت لدعم انفصال الأكراد. والوضع على هذا النحو يربك صانع القرار الأمريكي بخصوص مسألة الانسحاب أو عدم الانسحاب من سوريا، وفي داخل القاعة كان هناك من رأى أن الولايات المتحدة لن تنسحب من سوريا؛ لأن هناك ضغوطاً داخلية على إدارة ترامب للبقاء، وهناك في المقابل من رأى أن الولايات المتحدة ستخرج من سوريا؛ لأنها تراها غير مفيدة، أو لنقل ليست لها أولوية. هذا التعقيد الشديد في الوضع السوري جعلني أستعيد تشبيهاً عبقرياً للسفير محمد إدريس أورده في مقال بجريدة الشروق المصرية، شبّه فيه سوريا بالعربة المحمّلة بعناصر متناقضة لا يمكن مواصلة السير بها جميعاً والا انفجرَت العربة، فأي العناصر/المصالح إذن سيتم التخلص منها لتخفيف الحمولة، وبأي ترتيب وبأي مستوى من الأمان يمكن للعربة أن تتقدّم بعدها؟

الشرع.. براغماتي أم أيديولوجي؟

هل عندما نتناول شخصية أبو محمد الجولاني/أحمد الشرع، فإننا نكون إزاء شخصية براغماتية خلعَت رداء السلفية الجهادية، وباتت مستعدة للتغيّر وبدأَت في ذلك فعلاً، أم نحن على العكس من ذلك إزاء شخصية أيديولوجية وفيّة لقناعاتها الفكرية مع القيام بتغييرات تكتيكية لا استراتيجية لكسب الرأي العام العالمي؟ اتفق الحضور رغم اختلاف توجهاتهم على صعوبة إجابة السؤال؛ لأنه لا توجد سوابق لحركات تنتمي إلى السلفية الجهادية انتقلَت إلى حركة مدنية ونبذَت التطرف. لكن أصحاب الرأي المتفائل بنجاح التجربة استندوا إلى خبرتهم في التعامل مع الجولاني/الشرع على مدار عشر سنوات، وكيف أنه “تحدّى” تنظيمّي داعش والقاعدة، وأنهى نفوذ إيران وروسيا في سوريا، وها هو يقدّم الآن تطمينات لدول جواره بأنه لن يكون مصدراً لتهديد أمنهم.

أما أصحاب الرأي الحذر في التعامل مع الوضع الجديد في سوريا، فإنهم استشهدوا بتجربة سقوط الموصل على يد داعش في عام 2014، وتجربة دخول الحوثيين إلى صنعاء في العام نفسه. وأضافوا أنه إذا كانت دولة داعش المزعومة سقطَت في العراق نتيجة التدخل العسكري الدولي؛ ومن ثم لم تتوفّر فرصة لاختبار احتمالات تطورها في المستقبل، فإن دولة الحوثيين غير المعترف بها دولياً والمستمرة رغم التدخل العسكري من الخارج أيضاً لم تغيّر توجهاتها قيد أنملة، وقامت بأدلجة سياستها الداخلية وصعّدت ضد جوارها العربي وهددَت الملاحة الدولية. وحذّر هؤلاء من أثر الفراشة على باقي الدول العربية في حال لم يتأكّد التحوّل الفكري للجولاني/الشرع، واعتبروا أن الدولة الأقرب لاستقبال هذا الأثر هي على الأرجح ليبيا، بالنظر إلى حجم تعقيداتها الداخلية، وتناقض مصالح القوى الإقليمية والدولية بخصوصها، والأهم هو وجود محاولة سابقة لإقامة دولة داعشية في إقليم برقة.

ومن الأمور المهمة التي لفَتَ النقاش السابق النظر إليها حول ما هو التكتيكي، وما هو الاستراتيجي في التغيّر الفكري للجولاني/الشرع، ذلك الأمر المتعلّق بالدور الدولي في إعداد المسرح السوري للتطور الذي آل إليه في ديسمبر 2024. وذلك أن حديث كبيرة المستشارين بإحدى المنظمات الدولية المعروفة، عن تواصلها مع الجولاني/الشرع طيلة عقد كامل من الزمان، وخبرتها الجيّدة بصفاته الشخصية، وعلى رأسها ثقته الكبيرة في نفسه، إنما يفتحان المجال لسؤال كبير حول ما إذا كان نموذج الإسلام السياسي هو النموذج الذي راهنَت عليه وما تزال بعض القوى الدولية لمستقبل المنطقة، وتصوّرها إمكانية نقل هذا النموذج من مربع التطرف إلى مربع الاعتدال عن طريق الاشتغال على تجهيز بعض رموزه. وعندما طرح أحد الحاضرين سؤالاً وجيهاً حول التقائها الشرع بينما كانت جماعته مصنّفة إرهابية، ردّت بأن التقاءه لأغراض بحثية لا يخضع للعقوبات الدولية!

ما الذي يفرضه الأمر الواقع؟

أما وأننا قد صرنا في سوريا إزاء أمر واقع، فما هو الدور المطلوب أولاً من السوريين، وثانياً من الدول العربية، وثالثاً من الأمم المتحدة؟ نبدأ بالدور السوري حيث نجد أنه كانت هناك مطالبة للمجتمع المدني السوري في الخارج والداخل بأن يتحمّل مسؤوليته في إنجاح التجربة. ولفت البعض الانتباه إلى أن الجالية السورية في الولايات المتحدة استطاعت بالفعل أن تنظّم نفسها وتضغط من أجل رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وأن العديد من المنابر السورية تتوزّع على عدد من الدول العربية والغربية وحضورها ضروري في المشهد السياسي خصوصاً عند بدء الحوار الوطني، وهذا يتطلّب منها أن تبادر بمدّ جسور التواصل بين بعضها بعضاً. أما المجتمع المدني في الداخل، فعلى الرغم من أن فرص حركته محدودة مقارنةً بنظيره الخارجي؛ فإن هناك من رأى أن هذا المجتمع استطاع أن يفرض رأيه في مسائل مهمة، ومنها إجبار السلطة على التراجع عن تعديل المناهج التعليمية، وحَمل السلطة على تصويب أحد التصريحات الرسمية التي تشكك في أهلية المرأة لاعتلاء منصّة القضاء؛ ومن ثم فرغم التضييق الملحوظ في الداخل؛ فإنه ما زالت توجد مساحة متاحة أمام المجتمع المدني للتحرّك.

نأتي للدور العربي، وهنا طُرحت وجهتا نظر مختلفتان، أما وجهة النظر الأولى فإنها ترى ضرورة اللحاق بركب تطبيع العلاقات مع سلطة الأمر الواقع، وعدم ترك فراغ تملؤه دول الجوار كما سبق أن حدث مع العراق في عام 2003. وأما وجهة النظر الثانية فإنها تطالب بالاقتراب الحذر من هذه السلطة لحين اتضاح حقيقة مواقفها وترجمة وعودها النظرية إلى سياسات على أرض الواقع. ومن أبسط وأطرف التعليقات التي قيلت تعزيزاً لوجهة النظر الثانية، أن من المهم قبل الوقوف في طابور الجمعية (يقصد طابور تطبيع العلاقة مع سوريا) أن نعرف ماذا تبيع الجمعية بالضبط (يقصد ما إذا كانت تبيع أوهاماً أم تنفذ التزاماتها الشفهية).

وعندما نصل إلى دور الأمم المتحّدة، تم التركيز على أهمية هذا الدور مع أهمية الالتفات لعناصر ثلاثة أساسية، أحدها هو مراعاة حساسية سلطة الأمر الواقع في سوريا من دور الأمم المتحدة عموماً، ومن موقفها من هيئة تحرير الشام، التي خرج منها حكّام سوريا الجدد خصوصاً. والثاني هو صرف النظر عن فكرة المبعوثين الأمميين لسوريا، التي ثبت عدم جدواها، والثالث هو مساعدة الحكام الجدد على إدارة المرحلة الانتقالية من خلال التدريب والدعم اللوجستي بالنظر إلى محدودية خبرتهم بالعمل السياسي، على أساس أن إدارة مدينة إدلب تختلف اختلافاً جذرياً عن إدارة دولة بحجم وأهمية وتنوّع سوريا.

ما زالت التطورات في سوريا تحتاج إلى المزيد من التأمل والتحليل، فالحالة جديدة والسوابق منعدمة، ومن المهم الانتقال من حديث الحقبة الماضية عن سوريا المفيدة إلى مواصلة الحديث المفيد عن مستقبل سوريا في الحقبة الراهنة.

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


مقالات مشابهة

  • الحرب تفاقم أوضاع أكثر من 90 ألف نازح بولاية النيل الأبيض
  • سوريا التي وقعت في الكمين
  • سوريا.. قتلى من الأمن إثر اشتباكات مع فلول الأسد في ريف حماه
  • ماذا تريد إسرائيل من سوريا؟
  • كانت ستحدث فضيحة عالمية.. تسريب صور مثيرة لرونالدو مع جورجينا
  • وفاة طفل جراء انفجار لغم بريف درعا الشرقي
  • حكايات المندسين والفلول في سوريا
  • جيش الاحتلال : 22 طائرة شاركت بالهجوم على جنوب سوريا
  • سوريا.. ضبط 250 ألف حبة كبتاغون في ريف درعا الشمالي
  • “تأملات تحليلية” حول حالة سوريا ما بعد الأسد