سوريا.. أكثر الاختبارات إيلامًا
تاريخ النشر: 5th, December 2024 GMT
كانت واحدة من كبرى الصدمات التي تعرضت لها خلال مسيرتي الصحفية هي تلك التي عايشتها أثناء الحرب الأهلية في سوريا. ما شهدته هناك ترك أثرًا عميقًا في داخلي لسنوات طويلة، ولا يزال هذا الأثر يطفو على السطح من حين لآخر ليهزني بقوة. مع سيطرة المعارضة على حلب وخروج المدينة من قبضة نظام الأسد في هذه الأيام، يبدو أن تلك الصدمة عادت لتطاردني من جديد.
كانت زيارتي الأولى لحلب برفقة رئيس الوزراء آنذاك، رجب طيب أردوغان، حيث كنت مستشارًا إعلاميًا ضمن الوفد المرافق. وكان ذلك أول لقاء لي مع بشار الأسد. ظهر الأسد حينها برفقة زوجته، ورحّب بالوفد ترحيبًا لافتًا بأسلوب غربي ونبرة وديّة.
عندما تجوّلت في أسواق حلب، وفي الجامع الأموي، وقلعة حلب، شعرت بأن المدينة ليست مختلفة كثيرًا عن غازي عنتاب في تركيا. هاتان المدينتان عاشتا أربعمائة عام في ظل دولة واحدة، تتشاركان الثقافة والتاريخ.
حلب، التي تبعد 45 دقيقة فقط عن غازي عنتاب، تُعدّ أصل ثقافتنا الغذائية ومطبخنا التقليدي.
لكن الزمن تبدّل، والعلاقات تغيرت، والصداقة تحوّلت. ذلك الأسد الذي كان ودودًا أصبح لاحقًا عدوًا لتركيا.
وبعد سنوات، عندما عدت إلى سوريا كصحفي خلال الحرب الأهلية، وجدت نفسي أمام مشاهد وتجارب لا يمكن نسيانها أبدًا.
في عام 2013، دخلت سوريا مرة أخرى كصحفي. لكن هذه المرة، وجدت نفسي في بلد مزقته الحرب الأهلية، وحوّلته إلى أطلال، وأغرقته في الفوضى. كان الطريق إلى حلب مليئًا بنقاط التفتيش، وكل نقطة كانت تحت سيطرة فصيل مختلف. لم تكن هناك سلطة موحدة، وكان المرور من كل نقطة يعني الانصياع لقوانين وأوامر الفصيل المسيطر. معظم تلك النقاط كانت تحت سيطرة فصائل معارضة للنظام، لكنها لم تكن على وفاق مع بعضها البعض.
رأيت فتيانًا يبلغون بالكاد 19 أو 20 عامًا، يحملون الكلاشينكوف ويتصرفون وكأنهم سادة المناطق "المحررة". لم تمر فترة طويلة حتى أجبرتنا أصوات الرصاص على التوقف. اندلع اشتباك مسلح عند إحدى نقاط التفتيش بين فصيلين معارضين.
بعد انتهاء الاشتباك، واصلنا طريقنا نحو حلب التي كانت تشهد معارك طاحنة بين قوات النظام والمعارضين.
لم تكن حلب حينذاك هي نفسها المدينة التي رأيتها في السابق، فقد تحوّلت إلى أنقاض. أسواق حلب التاريخية التي اشتهرت عالميًا كانت قد دُمّرت. كانت الأسقف مثقوبة برصاص الطلقات، والجدران مليئة بآثار القصف والانفجارات.
لكن أكثر ما أثّر بي كان المشهد في نهاية السوق، داخل الجامع الأموي الكبير. كانت مئذنته الشهيرة قد انهارت تمامًا، وسقطت بشكل أفقي في ساحة المسجد. أصابت قذيفة قبته تاركة ثقبًا ضخمًا في أعلاها. بدا المسجد وكأنه انشطر إلى قسمين.
في الجهة المقابلة للقبلة، كان مقاتلو المعارضة قد أقاموا متاريسهم، بينما تمركز جنود النظام عند بوابة المسجد.
نعم، لم أخطئ في الوصف، كانوا يقاتلون بعضهم البعض داخل المسجد. كانت المتاريس مكوّنة من منصات المصاحف، والكتب، والسجاد، وحتى الحجارة التي سقطت من القبة. الصادم أكثر هو أن كلا الطرفين كان يصيح "الله أكبر" أثناء إطلاق النار.
كان هذا المشهد في الجامع الأموي بحلب أحد أكثر المشاهد التي رأيتها للحروب الطائفية عبر التاريخ إيلامًا.
إعلان استلام الصور المروعة في الدوحةقضيت عدة أيام في حلب محاصرًا بين المساجد التي دُمرت بالقصف، والرصاص الذي يطلقه القناصة فوق رؤوسنا، وسط شوارع تحولت إلى ساحات للمعارك. بعد عودتي إلى تركيا، تلقيت اتصالًا غير متوقع. كان ضابط من الجيش السوري قد تمكن من الهروب من البلاد، حاملًا معه صورًا التقطها لآلاف الأشخاص الذين قُتلوا تحت التعذيب في سجون نظام الأسد. كانت الصور توثيقًا صادمًا لجرائم ضد الإنسانية.
كان الهدف هو أن تُستخدم هذه الصور كدليل أمام المحكمة الجنائية الدولية، لإثبات التهم ضد الأسد بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.
سافرت إلى الدوحة، حيث التقيت بفريق يضم خبراء قانونيين، وأطباء شرعيين، وتقنيين. كما حضر ممثلو وسائل إعلام دولية مثل "CNN International"، و"الغارديان"، إضافة إلى وكالة الأناضول و"TRT". بصفتي مديرًا عامًا لوكالة الأناضول، كان من المقرر أن أستلم هذه الصور رسميًا قبل نشرها عالميًا. عندما رأيت الصور لأول مرة، أُصبت بصدمة عميقة. كانت الصور تعرض جثثًا لأشخاص قتلوا بطرق وحشية: جوعًا، أو خنقًا بأسلاك البناء، أو تحت التعذيب.
كانت الأجساد تحمل أرقامًا مكتوبة على جباهها وصدورها. هذه الأرقام كانت تُستخدم لتوثيق القتلى، وإرسال تقارير إلى كبار المسؤولين في النظام. الضحايا كانوا من المعتقلين الذين اعتبرهم النظام معارضين.
عندما نشرنا الصور، أثارت ضجة عالمية كبيرة حتى إننا نظمنا معرضًا لها داخل الأمم المتحدة. ومع ذلك، ورغم الجهود القانونية الدولية، لم يُقدَّم الأسد للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. لكنني شخصيًا دفعت ثمن تلك الصور نفسيًا. بعد نشرها، لم أستطع النوم عشر ليالٍ ولم أتناول الطعام.
سوريا.. ساحة الامتحان المؤلمةسوريا ليست مجرد أرض شهدت أفظع مشاهد الحرب الأهلية، بل هي مسرحٌ لمجازر وحشية، وميدانٌ لصراع طائفي ترك أثره العميق على ملايين البشر وعشرات الدول.
إعلانفي سوريا، بلغ الصراع بين الشيعة والسنة ذروته، وامتدت تداعياته لتشعل نقاشات حادة وانقسامات في معظم الدول الإسلامية. تجاوزت قسوة بشار الأسد ووحشيته الحدود المعهودة، وأصبح طغيانه نموذجًا لا يُقارن بطغيان أي دكتاتور آخر.
أتذكر اللحظات التي شهدت فيها سقوط حلب، حيث رأيت مئات الآلاف يُجبرون على ترك منازلهم وأرضهم. في ريف إدلب، شاهدت بأم عيني معاناة أولئك الذين أُخرجوا من بيوتهم قهرًا، ليعيشوا في خيام من القماش والأكياس البلاستيكية، غارقين في الوحل، ومحرومين من أبسط مقومات الحياة.
رغم هذه المعاناة، لا يزال كثير منهم يأمل بالعودة. حلم العودة إلى حلب واسترجاع منازلهم وأراضيهم، مازال يعيش في أعماقهم، منتظرين بفارغ الصبر أن تتحسن الأوضاع وتُتاح لهم الفرصة لذلك. عيونهم تغمرها الدموع، لكن قلوبهم يملؤها الأمل.
حان الوقت لحياة أفضلفي دوامة لا تنتهي من الصراعات، حيث أصبحت "الحرب الأبدية" بين المذاهب الإسلامية واقعًا مؤلمًا، يلوح الآن أمل لإنهاء هذا النزاع المقيت. يجب على المعارضة، التي عانت من التهجير والتعذيب والظلم، ألا تقع في خطأ تكرار تلك الجرائم ضد مؤيدي النظام أو الشيعة أو النصيريين. ذلك النوع من الحروب لا يجلب نصرًا حقيقيًا ولا غلبة لأي طرف. لا يوجد صراع أشد جهلًا وعبثية من الحرب المذهبية.
اليوم، أمام المعارضة والدول الداعمة لها فرصة ذهبية لبناء حياة جديدة في حلب، دون تكرار مآسي الماضي.
البوادر الأولية، سواء من خلال التصريحات أو الخطوات الأولية، تحمل إشارات إيجابية. نسأل الله أن يتمكن الشعب السوري هذه المرة من تحقيق السلام والاستقرار، لعلنا نحن أيضًا نتمكن من تجاوز صدماتنا ونبدأ صفحة جديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الحرب الأهلیة الجامع الأموی
إقرأ أيضاً:
فايننشال تايمز: سوريا بعد نهاية عائلة الأسد أمام طريقين محتملين
قالت صحيفة "فايننشال تايمز" في افتتاحيتها التي جاءت بعنوان "نهاية مرحب بها لعائلة حاكمة قاسية" إنه وبعد 13 عاما من كتابة الأطفال شعارات مناهضة للنظام السوري على جدران مدينة درعا في جنوبي سوريا والتي أشعلت شرارة الثورة السورية سقط بشار الأسد وعائلته.
وأضافت في الافتتاحية التي ترجمتها "عربي21"، أن مئات الآلاف من عائلات أولئك الذين قتلهم الأسد أو شوههم أو سجنهم أو اختفوا ستحتفل بنهاية عائلة حكمت بوحشية ونهبت أحد أهم بلدان العالم العربي لأكثر من خمسة عقود. كما يمثل الانهيار الاستثنائي للنظام لحظة فاصلة في الشرق الأوسط: فقد كانت سوريا الحليف الأكثر أهمية لكل من روسيا وإيران في المنطقة.
وأشارت إلى أن نهاية الأسد تؤكد التحول في ميزان القوى الإقليمي، حيث تقوض تأثيرها طهران وجماعاتها الوكيلة وضعف نفوذ روسيا.
وقالت الصحيفة إنه منذ 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023، اختلطت اليقينيات القديمة في مختلف أنحاء المنطقة وجرى خلط الأوراق السياسية. ولكن الشرق الأوسط الذي يخرج من حطام العام الماضي من الصراع والمذابح لا يزال غير مؤكد.
وأضافت أن الكثير سوف يعتمد على من يحكم سوريا بعد الأسد. والفائز الواضح الوحيد من الإطاحة بالأسد هو تركيا، التي كانت لفترة طويلة الداعم الرئيسي للمعارضة المسلحة في سوريا. فقد أعادت الدول العربية السنية في الخليج في الفترة الأخيرة الديكتاتور السوري الى الحظيرة العربية.
وبالنسبة لهذه الدول، كما بالنسبة لإسرائيل، فإن احتمال تشكيل حكومة بقيادة إسلامية في دمشق لن يكون موضع ترحيب. وترى الصحيفة أن الحرب الأهلية السورية المنسية استيقظت من جديد نتيجة لتضافر عوامل عدة: فلم يتمكن الأسد من التغلب على مجموعة من الفصائل المعارضة إلا بفضل دعم روسيا وحزب الله اللبناني. وكان سلاح الجو الروسي ومقاتلو حزب الله على الأرض هم الذين حولوا الحرب لصالحه.
ومع حرف انتباه موسكو بسبب غزو أوكرانيا وتدمير حزب الله في الأشهر الأخيرة بسبب الصراع مع إسرائيل، وجدت المعارضة اللحظة المناسبة للضرب، حسب الصحيفة.
وكان جيش النظام منهكا إلى الحد الذي جعل "هيئة تحرير الشام"، وهي الفصيل الأكثر تسليحا وجاهزية من بين الفصائل المتمردة، تسيطر على المدن التي تسيطر عليها الحكومة في غضون أيام قليلة، وتصل إلى العاصمة دمشق. وربما كانت هناك بعض الصفقات، وهي علامة على كيفية انهيار نظام الأسد.
وقالت الصحيفة إنه بالنسبة للعديد من السوريين، كانت هذه لحظة فرح. فقد فتحت المعارضة السجون، وأعادت توحيد الأسر مع أحبائها الذين فقدتهم منذ فترة طويلة في زنزانات التعذيب التابعة للأسد.
وأضافت أنه من بين أكثر من خمسة ملايين لاجئ سوري فروا من الحرب، يأمل الكثيرون الآن أن يتمكنوا من العودة إلى منازلهم التي يئسوا من رؤيتها مرة أخرى.
وعلقت الصحيفة أن ما سيحدث بعد يعتمد على "هيئة تحرير الشام". وحاولت الجماعة تصوير نفسها على أنها منظمة جهادية متغيرة، وقدم زعيمها أبو محمد الجولاني، الذي كان ذات يوم جزءا من تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة، نفسه بأنه رجل دولة.
ووعد بمعاملة الأقليات المسيحية والكردية في سوريا، وحتى الأقلية العلوية التي تنحدر منها عائلة الأسد، بكرامة. ولا يزال كثيرون يخشون أن يحرض الإسلاميون على أعمال انتقامية، حسب الصحيفة.
وفي الوقت الحالي، تحدثت "هيئة تحرير الشام" عن حماية مؤسسات الدولة، ما يشير إلى أنها تريد انتقالا منظما للسلطة. وترى الصحيفة أن سوريا تواجه طريقين محتملين: الأول هو إعادة إشعال الحرب الأهلية، والتي ستأخذ البلاد إلى طريق اليمن وليبيا، الفاشلة والمحطمة منذ فترة طويلة. والثاني هو الاستقرار، وفرصة للتعافي وعودة ملايين اللاجئين المنتشرين في جميع أنحاء العالم إلى ديارهم.
ومن أجل اغتنام فرصة سوريا الأكثر أملا، يجب على أولئك الذين يمكنهم التأثير على الجولاني التأكد من أنه يترك حكم البلاد لإدارة مدنية تعكس الطوائف الدينية العديدة في سوريا. وينبغي أن يسمح ذلك للحكومات العربية والغربية التي تصنف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية بالتعامل مع الحكومة.
وأشارت الصحيفة في ختام افتتاحيتها إلى أن العالم خذل سوريا مرارا وتكرارا، حتى عندما استخدم الأسد الأسلحة الكيميائية ضد شعبه. والآن لديه أيضا فرصة لمساعدة البلاد لكي تقف على قدميها.