#تأملات_قرآنية د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 39 من سورة النور: “وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ”.
تأتي هذه الآية الكريمة مستخدمة ضرب الأمثال كوسيلة لتقريب الفهم، ولتقابل بين حال الكافرين وحال المؤمنين المذكورة في الآية التي قبلها، للتنبيه لخطورة أمر الإعراض عن منهج الله:
1- الركون الى الآمال الخادعة من أخطر ما يتهدد المرء، وبما أن الدنيا حياة مؤقتة، مؤكد انتهاؤها في أية لحظة، يجب على العاقل التهيؤ وعدم الركون الى أن لديه وقت طويل لإصلاح حاله، لذا فعليه أن لا يضيع الفرصة التي أتيحت له، فحال أهل الدنيا مثل من أبلغوا أنهم سينقلون الى منطقة مجهولة ليس فيها طعام إلا ما يأخذونه معهم، وأن عليهم أن يبقوا على أهبة الإستعداد للسفر في أية لحظة، …ألا يستحق ذلك الأمر الحرص على جمع أقصى ما يمكنه جمعه من زاد!؟.
2- لهول ما سيلقاه الكافرون في الآخرة، ورحمة من الله بالناس من ملاقاة هذا المصير التعس، فقد كان أكثر ما تكرر ذكره في القرآن الكريم هو التنبيه لذلك، وبشتى الطرق والأساليب، كما أرسل رسله عبر العصور تنبيها للغافل وإرشادا للضال: “رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ” [النساء:165]، واختتاما لكل المرسلين أرسل الله رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام، وأنزل عليه القرآن ليبقى من بعده هاديا الى الصراط المستقيم، ولذلك خاطب أهل الكتاب الذين أنعم عليهم من قبل برسالاته منبها إياهم للعودة عن ضلالهم واتباع الدين الذي أنزله على خاتم رسله: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ..” [المائدة:19].
3- هكذا لم يبقَ للناس على الله من حجة “أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ” [الأعراف:172]، سواء كانوا من الذين لم يبعث الله لهم أنبياء، فيعتذروا بجهلهم، أو كانوا من أهل الكتاب الذين أشركوا إذ “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ..” [التوبة:31]، ونسوا حظّا مما ذكروا به، وخالفوا ما أوصاهم به أنبياؤهم باتباع سيد المرسلين عند ظهوره، محتجين بأنهم مؤمنون بالله ويتبعون ما أنزله عليهم من قبل، لكن الله يسقط حجتهم هذه إذ يجيبهم: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ” [البينة:5]، فما أُمروا به من قبل هو ذاته الذي أنزله على خاتم رسله، وهو الدين القيم الذي عليهم اتباعه.
فقد أنزل الله كتابه القرآن محفوظاً من أي عبث به، يتلى الى يوم الدين، وسخّر من عباده من يوصله لهم ويترجمه بلغتهم، ومن يدعوهم للإيمان ويفصّل لهم أحكام الدين.
4 – إن الذين كفروا هم الجاحدون لأنعم الله المنكرون لأفضاله، ومع أنهم يعرفونها في أنفسهم وفي كل دقائق حياتهم، إلا أنهم ينكرونها، إما جهلا كالملحد، أو تجاهلا كالمؤمن الفاسق أو المنافق، والدافع لذلك عند كلي الفريقين هي الأماني المضللة والأوهام الخاطئة .
من هنا جاء التشبيه البلاغي بصورة يعرفها العرب في أسفارهم دائما، وهي السراب الذي يراه المرء في البقعة الخلاء المستوية البعيدة، وبسبب ارتفاع درجة الحرارة السطحية في الصحراء، تنعكس الصورة للرائي البعيد وكأنها سطح بحيرة تتحرك أمواجها، فيسرع نحوها لكنه عندما يقترب يفاجأ بزوال تلك الصورة الموهومة.
الإيمان بالغيبيات لا يتحقق بالأدلة الحسية، وإلا لما سميت غييات، بل بالاستدلال المنطقي، بالمقابل لا يمكن أن يقدم أحد دليلا واحدا على عدم وجودها، فالملحد يعتمد على الشك فقط، لذلك فهو في أعماق نفسه خائف لكنه يعزيها قائلا: إن كان هنالك إله وأنزل الدين لصلاح البشر، فأنا صالح بنفسي ونافع لغيري، فسيدخلني الجنة قبل المتدينين!.
هؤلاء الكفار هم واهمون أن أعمالهم بلا إيمان ستنجيهم، وإلا فمن هم أهل النار!؟.
الناجون يوم القيامة حددهم صاحب الأمر، الذي لا يرد له أمر..هم المؤمنون بالله ورسله وبكتبه جميعا كأساس، وأما استحقاقهم لثوابه وجنته فينبني على مدى اتباعهم لدينه، وغلبة أعمالهم الصالحة على معاصيهم.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: هاشم غرايبه
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: الدين والحياة تكامل لا تنافر والإسلام يدعو للإتقان والجمال
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ان العَلاقة بين الدين والحياة هي علاقة تكامل وانسجام، وليست تضادًا أو تنافرًا، فالدين جاء لتستقر به أمور الحياة وتزدهر؛ قال تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }.
واضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، انه لذلك رأينا المسلمين الأوائل كانوا أشد الناس تمسكًا بدينهم ، وكانوا أصحاب حضارة ورقي وازدهار، مما يؤكد أنه كلما ازداد المسلم تمسكًا بدينه وتعاليمه ، كلما كان ذلك دافعًا له للعيش حياة كريمة عامرة بالخير والسعادة والصلاح.
واشار الى ان الدين يأمر المسلم أن يكون متقنًا في عمله فيزيد بذلك ربحه، ويطمئن خاطرُه، وتسعد حياته، ويتفرغ قلبُه للعبادة. كما يأمره أن يكون نظيفًا جميًلا في صورته وأخلاقه. فعن عبد الله بن مسعود، عن النبي ﷺ قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس».
أما عن النهي الوارد عن التعلق بالدنيا ، الذي يفهمه بعضهم خطأ، نحو حديث "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
فالمقصود بذلك هو ألَّا تكون الدنيا هي الغاية والمقصد، فتكون مدعاة أن يسرق الإنسان ويكذب لتحصيل منافعها. هذا هو المنهي عنه ، والذي يتمسك بظاهره من لا يفهمون النصوص فهمًا صحيحًا. وقد علَّمَنا مشايخنا أن تكون الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا.