المغولي الأخير.. حين خلعت بريطانيا آخر سلطان مسلم في الهند
تاريخ النشر: 5th, December 2024 GMT
في مثل هذه الأيام قبل 166 عامًا، أُسدل الستار على واحدة من أهم وأطول الدول الإسلامية في الهند؛ دولة أباطرة المغول المسلمين الذين حكموا شبه القارة الهندية أكثر من 3 قرون متواصلة شهدت فيها البلاد حالة من النهضة العلمية والحضارية والعُمرانية لا تزال حاضرة في مساجد الإسلام كالمسجد الجامع في دلهي، وتاج محل أحد عجائب الدنيا، ثم آلاف من الآثار والمخطوطات العلمية والدينية المغولية والأردية والفارسية والعربية التي كُتبت في تلك الحقب إلى يومنا هذا.
وتمثلت النهاية المأساوية تلك بخلع آخر الأباطرة المغول محمد بهادر شاه ظفر في لحظة قاسية إلى أبعد الحدود؛ إذ عامله البريطانيون مع أبنائه معاملة وحشية، تعرض فيها للنفي والعزل وقتل بعض الأبناء والأحفاد أمام عينيه، وفوق ذلك زوال حكم الإسلام من الهند.
فكيف بدأت الحكاية؟ وكيف انتهت هذه المأساة التاريخية التي لا تقل في أحداثها ووقائعها عما أخبرنا به التاريخ في الأندلس؟
شهد القرن التاسع عشر الميلادي صراعا محتدما بين القوى العالمية الكبرى التي تنافست بشراسة على تقاسم إرث القارات القديمة بثرواتها وشعوبها وثقافاتها المتنوعة، وكانت بريطانيا في طليعة هذه القوى قد رسخت وجودها في القارة الآسيوية بتأسيس شركة الهند الشرقية عام 1600 سعيًا إلى منافسة البرتغاليين والهولنديين على تجارة الشرق، مما دفعها إلى مدّ نفوذها بقوة نحو كنوز الهند والصين وجنوب آسيا.
لم يكن التحرك البريطاني نحو الشرق مجرد نشاط اقتصادي، بل جاء مدفوعا بخطة محكمة تفتقر إلى المبادئ والأخلاق، إذ اعتمدت على القوة والخداع لتأمين مصالحها؛ ذلك أن الشركة التي بدأت بتجارة بسيطة سرعان ما تحولت إلى قوة استعمارية شرسة، مكرسة نفوذها من خلال استغلال موارد الشعوب وخيراتها، تاركة أثرا عميقا في التاريخ الاقتصادي والسياسي للقارة.
ورغم العوائد الكبيرة، لم يكن مساهمو الشركة راضين بل كانوا يسعون في طمع إلى المزيد، وذلك ما يكشفه نيك روبينز في كتابه "الشركة التي غيرت العالم" إذ رصد أن الطريقة المفضلة لفرض سيطرة الشركة على السوق كانت من خلال التفاوض أولا، لكنها كانت مستعدة لاستخدام القوة والاحتيال متى لزم الأمر.
وهكذا كانت شركة الهند الشرقية تطور إستراتيجيات متعددة لزيادة نفوذها، فلم تقتصر على التجارة المشروعة بل توسعت إلى مجالات أخرى باستخدام أساليب قاسية وغير أخلاقية في بعض الأحيان، الأمر الذي جعلها أداة رئيسية في يد الإمبراطورية البريطانية للسيطرة على الهند وتعزيز سلطتها في المنطقة.
إعلانوفي القرن الثامن عشر تحولت شركة الهند الشرقية البريطانية إلى كيان عسكري لا يتردد في استخدام أي وسيلة لضمان مصالحها، حتى لو كانت على حساب دماء الهنود، فقد دخلت في معارك عنيفة ضد منافسيها مثل الهولنديين والفرنسيين والبرتغاليين، حتى أصبح دورها في السياسة الهندية أكثر تأثيرًا، حيث استخدمت قوتها العسكرية للتدخل في شؤون دولة مغول الهند.
وسرعان ما تغلغلت الشركة في السياسة الهندية بشكل أعمق، فقتلت الحكام الذين عارضوها ودعمت أولئك الذين ساندوها، مما ساعدها على توسيع نفوذها التجاري والعسكري في المنطقة، ومن أبرز هؤلاء الحكام الذين تعاونوا معها كما يذكر عبد المنعم النمر في كتابه "تاريخ الإسلام في الهند" كان مير جعفر وهو قائد بنغالي اعترف به الإنجليز حاكمًا على البنغال عام 1760، وكان ذلك بداية لهيمنة الشركة على مناطق واسعة من الهند.
وبحلول نهاية القرن الثامن عشر، كانت الهند قد أصبحت "درة التاج البريطاني"، ثم كان الاحتلال العسكري المرحلة الأخيرة في عملية طويلة من التوسع البريطاني، حيث تأكدت لندن من استحواذها الكامل على شبه القارة الهندية.
عندما تولى الإمبراطور الأخير محمد بهادر شاه ظفر الحكم في عام 1838 كان شيخًا في الستين من عمره لا يكاد يملك من أمر الحكم والسياسة شيئا سوى الرمزية والمحبة وسط الهنود، وقد عاش في القلعة الحمراء مقر الحكم المغولي في دلهي تحت أعين البريطانيين الذين كانوا يخططون لتحويلها إلى ثكنة عسكرية بعد وفاته.
كانت فترة حكمه بمنزلة التحدي في وجه الهيمنة البريطانية الكاملة على بلاده، ولم يكن من السهل على بهادر شاه أن يواجه هذه القوة العظمى التي سعت إلى تثبيت سلطتها عبر المراوغة التجارية، ثم الاحتكار، وأخيرًا بالقوة العسكرية الجبرية، ولهذا السبب كان حاكما ضعيفا في ظل ظروف كانت بريطانيا فيها الحاكم الفعلي للهند، وذلك ما جعل أي محاولة لتقليص سلطتها أمرا شبه مستحيل.
ورغم هذه القيود والمراقبة البريطانية الصارمة، تمسك بهادر شاه بالإسلام وقيمه، وتعامل في الوقت نفسه مع غير المسلمين من الهندوس والسيخ بحذر واعتدال، مما جعل حكمه يشتهر بالتسامح في زمن كانت فيه الصراعات العرقية والدينية تشهد تصاعدا، وفي ظل كراهية عميقة من الهنود للغطرسة البريطانية التي كانت تحتقرهم بكل أطيافهم وأديانهم وتفرض عليهم الضرائب والقوانين الجائرة.
ولهذا السبب وفي العاشر من مايو/أيار عام 1857، انطلقت شرارة الانتفاضة الهندية المعروفة بثورة الجنود ضد سيطرة شركة الهند الشرقية.
كانت هذه الثورة في حقيقة الأمر مفاجئة للبريطانيين، إذ بدأت داخل صفوف الجيش البريطاني نفسه، وتحديدا في معسكرات الجنود الهنود في بروت، وقد بدأت في التمرد بتحركات سرية في دلهي القديمة، ونشطت جماعات من الثوار تسعى إلى توحيد الصفوف بين المسلمين والهندوس لمواجهة الاحتلال البريطاني.
إعلانوكانت الشرارة التي أشعلت الثورة تتعلق بإهانة مباشرة لمعتقدات الجنود الهنود مسلميهم وهندوسييهم؛ إذ فرض البريطانيون استخدام خراطيش مملوءة بدهون الخنازير والبقر، وهو ما عدّه المسلمون إهانة لدينهم لأن الخنزير نجس، والهندوس كذلك لأن البقر مقدس لديهم؛ الأمر الذي دفعهم إلى التمرد على رؤسائهم البريطانيين، وأدى إلى تصاعد الأحداث بشكل غير متوقع.
وانتقلت الثورة بسرعة من ميرت إلى دلهي حيث أصبح بهادر شاه ظفر محورا رمزيا للمقاومة، رغم ضعفه السياسي، وسرعان ما احتشدت الجماهير حوله إذ برز كقائد روحي يوحد الأطياف المختلفة تحت راية التحرر، وكانت المقاومة في البداية عفوية، لكنها تطورت إلى حركة شعبية عارمة، فانضم المزارعون والتجار ورجال الدين إلى الجنود الثائرين في رفضهم وحنقهم على السيطرة الاستعمارية للإنجليز.
وفي 11 مايو/أيار 1857، وصلت الانتفاضة إلى العاصمة دلهي حيث اقتحم الجنود الهنود القلعة الحمراء، وهي رمز القوة الإمبراطورية المغولية وسعوا إلى استعادة الشرعية التاريخية للحكم المغولي عبر طلب مباركة ودعم الإمبراطور بهادر شاه ظفر لثورتهم، وعرضوا عليه استعادة كامل سلطته السياسية مقابل أن يتولى قيادة الانتفاضة ضد الإنجليز، مما جعله رمز الثورة وقلبها.
ورغم أن بهادر شاه ظفر كان يدرك مدى ضعف موقفه السياسي والعسكري، فإنه لم يرفض هذا العرض، مما أعطى الثورة دفعة معنوية كبيرة وجعلها حركة وطنية شاملة تحول فيها الإمبراطور إلى رمز يوحد المسلمين والهندوس.
وبمباركة بهادر شاه ظفر للثورة، ألقى هذا الإمبراطور المسن الذي قد ناف الثمانين بكل ثقله خلف ما يحدث محوّلا القلعة الحمراء إلى مركز لقيادة الثورة، وفي تلك الأثناء أوقف دفع المخصصات المالية لأسرته في محاولة لتركيز الموارد لدعم المقاومة، لكنه واجه في الوقت نفسه تحديات ضخمة نتيجة افتقار الثوار إلى أي خبرة عسكرية أو تخطيط إستراتيجي، ومع ذلك أبدى الجنود الهنود شجاعة كبرى في مواجهة القوة البريطانية المتقدمة عسكريا.
ورغم الروح القتالية العالية كانت المعركة في حقيقتها غير متكافئة، إذ واجهت الثورة قمعا دمويا استخدم فيه البريطانيون أساليبهم العسكرية البشعة، وكانوا يضعون الثوار على أفواه المدافع ويُطلقونها مفتّتة أجسادهم الضعيفة، فضلا عن حصارهم الخانق للعديد من المناطق مما جعل الناس تموت من الجوع والعطش، ولا شك أن كل ذلك أدى إلى مشهد الهزيمة.
في المقابل، اعتبر البريطانيون دعم الإمبراطور أو السلطان بهادر شاه للثورة خيانة عظمى، لأنهم رأوا فيه "حليفهم الرمزي" الذي انقلب عليهم، وعلى الفور تمكنوا من أسره وعائلته، وفي أثناء القبض عليهم ارتكب أحد الضباط البريطانيين جريمة بشعة بإطلاق النار على اثنين من أبناء بهادر شاه وحفيده، مما أدى إلى مقتلهم بدم بارد.
إعلاننُقل بهادر شاه مكبلا مع أفراد أسرته إلى السجن، وقد كانت ثورة عام 1857 آخر محاولة قام بها المغول لاستعادة سيطرتهم على الهند والخروج من قبضة الاستعمار البريطاني الذي كان لا يزال تحت غطاء "شركة الهند الشرقية".
بيد أن هذه الانتفاضة كانت في الوقت عينه نقطة النهاية للحكم الإسلامي الذي استمر في الهند 8 قرون، وقوّضت بشكل حاسم حكم المغول الذي دام أكثر من 3 قرون.
لم يكن أسر بهادر شاه مجرد هزيمة سياسية، بل كان مأساة إنسانية أظهرت بشاعة الاحتلال البريطاني، فبعد القبض عليه تم تقديم رؤوس ابنيه وحفيده إليه داخل أوان مغلقة مغطاة بدمائهم، وعندما فتح تلك الأواني ظانًّا أنها تحتوي على طعام وجد رؤوس أبنائه، فقال عبارته الشهيرة "إن أولاد التيموريين (المغول) البواسل يأتون هكذا إلى آبائهم محمّرة وجوههم"، وذلك تعبيرًا عن الفخر والبطولة رغم المأساة.
إبان ذلك، حاكم البريطانيون بهادر شاه محاكمة صورية وجّهوا فيها إليه تهمة الخيانة والتآمر مع ابنه ميرزا عليهم، بل اتهموهما بالمشاركة في قتل عدد من الجنود البريطانيين، وحُكم عليه بالنفي مع أسرته وحاشيته إلى يانغون عاصمة ميانمار، ولم يكتف البريطانيون بذلك فقد عزلوه عن أفراد عائلته وقضى سنواته الأربع الأخيرة وحيدا في منفاه.
في كتابه "المغولي الأخير"، يذكر الكاتب البريطاني وليام دالريمبل وصفا مهما عن حياة بهادر شاه وعائلته في يانغون فيقول "أُجبروا متفرقين على العيش في منزل متواضع مكون من 4 غرف تحت رقابة مشدّدة من الكابتن البريطاني نيلسون ديفيز الذي عيّن حارسين للمراقبة في النهار و3 حراس في الليل لرصد كل تحركاتهم وسكناتهم ومنعهم عن العالم الخارجي".
وفي ظل هذه الظروف المهينة، خصصت السلطات البريطانية لهؤلاء الأسرى من العائلة المغولية الحاكمة مبلغا يوميا ضئيلا كان لا يتجاوز 11 روبية لتغطية احتياجاتهم الغذائية، وذلك مع تفاخر ومنّة من سجّانهم نيلسون ديفيز الذي كان يُضيف روبية يوم الأحد وروبيتين أخريين مع بداية كل شهر.
إعلانوالحق أن حالتهم كانت أسوأ من مجرد العوز والحاجة المالية، فقد أشار ديفيز في بعض تقاريره إلى أن ملابسهم كانت في حالة سيئة لدرجة اضطرته إلى طلب دفعات جديدة لهم، وذلك في اعتراف ضمني بمدى تردّي أوضاعهم، ولا شك أن هذه التفاصيل التي ينقلها المؤرخون البريطانيون تكشف بوضوح عن مدى البؤس والشقاء الذي أصابهم.
ولهذا السبب عانى بهادر شاه ظفر في سنواته الأخيرة من وهن الشيخوخة وصراعات نفسية عميقة جراء المآسي التي مر بها، ووفقا لشهود العيان فقد عاش أيامه الأخيرة في حالة من اللامبالاة، محاولا التركيز على العبادة كمهرب وحيد من الواقع الأليم.
أما ابناه ميرزا وشاه عباس، فقد كانت حياتهما تعبيرا آخر عن هذا الواقع البائس؛ إذ لم يحصلا على أي تعليم يتناسب مع مكانتهما كأبناء لسلطان مغولي كبير، بل اقتصرت معرفتهما على القراءة والكتابة الأساسية، دون أن ينالا فرصة الاندماج في التعليم الحديث، وبهذا لم يخسروا إرثهم الإمبراطوري فقط كما يقول الكاتب وليام دالريمبل، بل أيضا كل فرصة لبناء مستقبل يتماشى مع مصالحهم ومعاشهم.
وفي النهاية لقي بهادر شاه ربه في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1862 عن عمر ناهز 87 عامًا، بعد أن فرّق الإنجليز بينه وبين أسرته وقتلوا العديد من أفرادها، ليواجه مصيره في عزلة قاتلة، فكانت وفاته الخاتمة الحزينة لحقبة الإمبراطورية المغولية الإسلامية التي حكمت الهند 8 قرون.
وقد دفن بهادر شاه ظفر في قبر متواضع بجوار معبد شويداغون الشهير في يانغون العاصمة السابقة لميانمار، ولم تحظ وفاته بأي اهتمام سواء في الهند أم بريطانيا، بل لم يصل خبر وفاته إلى الهند إلا بعد أسبوع كامل، وعقب وفاته أمرت الملكة فيكتوريا بنقل الحكم من شركة الهند الشرقية إلى التاج البريطاني مباشرة، مما جعل الهند مستعمرة بريطانية بشكل رسمي.
إعلانوفي عام 1991 اكتُشف قبر السلطان محمد شاه بهادر من جديد، وأعيد تسليط الضوء على إرثه وتاريخه الذي خلّدته كل من الهند وباكستان وبنغلاديش بأشكال مختلفة من خلال إطلاق اسمه في كل من دلهي وكراتشي على بعض الطرق الرئيسية، كما أُنشئت حديقة في داكا عاصمة بنغلاديش تحمل ذكراه.
لم يكن بهادر شاه ظفر سلطانا منغمسًا في السياسة فقط، بل شغف بالشعر وترك إرثا أدبيا غنيا باللغتين الأردية والفارسية، فكان شاعرا مرهفا وصوفيا ولِهًا، فالعديد من قصائده تحكي عن الألم والوحدة وعن الحب العذري والإلهي، وظلت نفسه تهفو إلى الأمل حتى اللحظات الأخيرة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات القلعة الحمراء من الهند فی الهند مما جعل ما جعل لم یکن
إقرأ أيضاً:
ميديا بارت: الجانب المظلم من لا مبالاة الدولة بقتل مسلم داخل مسجد
تتبع موقع ميديا بارت التسلسل الزمني لمأساة اغتيال الشاب المالي المسلم أبو بكر سيسيه أثناء صلاته في مسجد لا غراند كومب في فرنسا، التي قلل من شأنها في البداية، محاولا تفسير الجمود المؤسسي الذي يكافح السياسيون لتبريره.
وفي تقرير مطول بقلم سيسيل هوتفوي وديفيد بيروتين، يقول جبريل سيسيه، عم الضحية أبو بكر سيسيه، الثلاثاء الماضي في تعليق في الجمعية الوطنية: "نحن حزينون وغاضبون في الوقت نفسه".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صحف عالمية: إسرائيل تصنع كابوسا إنسانيا في غزة لكنها تتمزق داخلياlist 2 of 2إسرائيليون: نعيش انحطاطا غير مسبوق وعلينا ألّا نتعودهend of listوكانت ممثلة الحزب الأخضر سابرينا سيبايحي قد دعت عم الضحية وأفرادا من عائلته. وأكد الموقع أن رئيس الجمعية الوطنية رفض أثناء وجود أفراد من أسرة الضحية، السماح بالوقوف دقيقة صمت حدادا على فقيدهم الذي قتل بوحشية، قبل أن يغير رأيه أخيرا.
وأعرب جبريل عن غضبه خاصة من "التغطية الإعلامية وتأخر وصول الزعماء السياسيين"، كما عبرت مامس يافا -ممثلة تنسيق المسؤولين الفرنسيين المنتخبين من أصل مالي- عن أسفها لعدم رغبة أي مسؤول رسمي حتى الآن في لقاء العائلة، وقالت "كانت ترغب في أن يأتي إليها كبير ضباط الشرطة في فرنسا، لكنه لم يفعل".
وذكر ميديا بارت بأن الجريمة وقعت يوم الجمعة 25 أبريل/نيسان، عندما هاجم أوليفييه هـ، وهو فرنسي من أصل بوسني، أبوبكر سيسيه وقتله، بحوالي 50 طعنة في قاعة الصلاة بمسجد خديجة في لا غراند كومب بمنطقة غارد، وصوّر المشهد بواسطة كاميرات المراقبة الموجودة في المكان.
إعلانومضت 4 أيام قبل أن يزور ممثل الحكومة لأول مرة مسجد لا غراند كومب حيث قتل أبو بكر سيسيه (22 عاما) بوحشية، ولم يقم محافظ منطقة غار بزيارة المسجد برفقة رئيس بلدية لا غراند كومب إلا يوم الثلاثاء 29 أبريل/نيسان.
فشل وسائل الإعلامبعد ساعات قليلة من اكتشاف الجثة، تحدث المدعي العام في أليس، عبد الكريم غريني لوكالة الصحافة الفرنسية عن عمل "لا يزال دافعه غير محدد"، وقال "كان رجلان بمفردهما داخل المسجد يصليان وطعن أحدهما الآخر عشرات المرات وتركه يموت ولاذ بالفرار". وجاء عنوان الوكالة "مصل يتعرض للطعن حتى الموت على يد مصل آخر في مسجد في غارد"، وكأن الأمر شجار بين رجلين في مكان للعبادة.
والأدهى أن المستشار الإقليمي السابق لحزب أقصى اليمين التجمع الوطني كريستيان ليشيفالييه كتب أن "عبد الكريم غريني قتل مصليا آخر بسكين وسط مسجد"، مما أدى إلى الخلط بين اسم المدعي العام مع اسم المشتبه به المحتمل.
ولكن مواطنا مسلما من المنطقة يقول: "تعرفنا على هوية المهاجم. منذ البداية علم مسؤولو المسجد أنه ليس من المصلين، وأوضحوا ذلك صراحة".
وأعرب مروان، من سكان لا غراند كومب، عن غضبه الشديد من: "وسائل الإعلام التي روجت للأكاذيب"، كما ألقى باللوم على ممثل النيابة العامة في أليس الذي "كان ينبغي أن يفهم من خلال مشاهدة صور كاميرات المراقبة أن القاتل شخص لا علاقة له بالمسجد على الإطلاق".
وأشار ميديا بارت إلى أن وكالة الصحافة الفرنسية والمدعي العام اللذين التقت بهما، حاول كل منهما إلقاء المسؤولية على الآخر بشأن الخبر الكاذب عن قتل مصل لآخر، وتعللا بأن الأمر لم يكن واضحا في تلك اللحظة المبكرة، ولكن العرض الخاطئ للقضية حدد لهجة وسائل الإعلام وشجع نوعا من الجمود.
وقد ظهر الضحية أبوبكر سيسيه في مقطع فيديو صورته كاميرا المسجد وهو يعلم المشتبه به الحركات التي يجب القيام بها أثناء الصلاة، وبدا الرجل الآخر مثل الطالب الصغير الذي يتبع معلمه، ويومئ برأسه بالموافقة، وعلق مروان بأن جميع الدوائر الحكومية كانت على علم بعد ظهر يوم الجمعة، بأن القاتل ليس من المصلين، ولكن تصحيح المعلومات الخاطئة تم ببطء شديد.
إعلانورغم التصحيح وردت أخطاء حول عمر الضحية، وتضاعفت المعلومات غير الدقيقة، ولم تكشف صحيفة لو باريزيان عن التصريحات المعادية للإسلام التي أدلى بها المهاجم إلا صباح السبت، وقد اكتشفت أجهزة التحقيق الفيديو المنشور على منصة ديسكورد، الذي يظهر فيه القاتل وهو في المسجد بعد الاعتداء وهو يقول "أنا من فعلها"، وأضاف "سيقولون إنني قاتل متسلسل"، وأساء إلى الذات الإلهية بكلمات بذيئة.
ومساء السبت علق وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانان على منصة إكس بالقول: "إن الاغتيال الحقير الذي وقع في مسجد بمنطقة غارد يؤلم قلوب جميع المؤمنين، جميع المسلمين في فرنسا"، وبعده علق رئيس الوزراء فرانسوا بايرو مساء السبت أيضا قائلا: "نحن مع ذوي الضحية ومع المؤمنين المصدومين".
ورغم أن وزير الداخلية برونو ريتايو تحدث بعد ظهر الجمعة عن رجل "قتل بوحشية في مسجد غراند كومب"، فإنه لم يغير جدوله ولم يذهب إلى هناك، إلا في يوم الأحد بعد انتقادات كبيرة له.
وفي أعقاب وفاة طالبة في نانت في اليوم السابق، ذهب ريتايو على الفور إلى المدرسة مع وزيرة التعليم إليزابيث بورن، ولكنه مساء الجمعة، فضل أن يتولى دوره كمرشح لرئاسة حزب الجمهوريين، ولم يتصل بممثلي المسجد ولا بعائلة الضحية، ولم يتوجه إلى المنطقة إلا بعد يومين، واقتصر على منطقة غار في رحلته القصيرة.
وتعرض ريتايو لانتقادات شديدة، وقال زميله في حزب الخضر كزافييه بيرتراند: "إن وزير الداخلية هو أيضا وزير الشؤون الدينية، وكان علينا التحرك على الفور أمام هذا الهجوم الإرهابي المعادي للإسلام، أين كان الوزير المسؤول عن حماية جميع مواطنينا، بغض النظر عن ديانتهم؟".
وقارن ميديا بارت بين تحرك رئيس الوزراء وقتها غابرييل أتال ووزير الداخلية وقتها جيرالد دارمانان السريع، عندما استهدف كنيس لا غراند موت بمحاولة إحراق متعمد في أغسطس/آب 2024، وعدم حضور وزير الداخلية كريستوف كاستانير عام 2019، عندما أصيب المصلون في مسجد بايون بجروح خطيرة وأُضرمت النيران في باب مسجدهم، وقال حينها شاب أمام المسجد: "عندما يستهدف المسلمون لا يتحرك الكثير من الناس".
إعلانوتحدث الوزير للصحافة لمدة 4 دقائق، لكنه رفض الإجابة على أسئلة الصحفيين، وعلى عكس كل التوقعات عاد إلى باريس، مع أن أجهزة الأمن المحلية أوعزت له أن يذهب على الأقل إلى المسجد بعد المسيرة الصامتة، ولكنه رفض، كما اختار عمدة المدينة الشيوعي لورانس بالديت عدم الحضور أيضا، ولكنه أقر بخطئه في ذلك.
وبدل الذهاب إلى المسجد -حسب الصحيفة- طلبت المحافظة من رئيس مسجد لا غراند كومب سليم التوازي أن يحضر لديها، ولكنه رفض وقال إنه عليهم المشاركة في المسيرة الصامتة، وإن من يرغب في تقديم التعازي عليه الحضور.
ونفى الوزير ريتايو أي ردود فعل متباينة وأي ازدراء لأسرة أبو بكر سيسيه أو المجتمع المسلم، وقال إنه أخذ الأمر على محمل الجد، واستخدم "وسائل قوية للغاية" للعثور على المشتبه به الذي سلم نفسه للشرطة الإيطالية بعد ذلك، كما طلب منذ الجمعة تعزيز الإجراءات الأمنية حول أماكن العبادة في منطقة غار.
وقد نددت المحامية سارة بنفليكي بالهجوم وقالت "إن عدم إخطار هيئة مكافحة الإرهاب ليس أمرا طبيعيا"، كما وصف العديد من المسؤولين المنتخبين من اليسار هذا الهجوم بأنه "هجوم إرهابي".
ولكن مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب قال لميديا بارت "إن أي جريمة عنصرية أو جريمة ترتكب باسم التمييز على أساس الدين لا تندرج بالضرورة ضمن اختصاصه، وأوضح أن الأدلة المتاحة حتى الآن لا تدل على أن هذه الجريمة جزء من مشروع يهدف إلى الترهيب أو نشر الرعب".