الحرب في السودان: تقلص مصادر الإيرادات والعبء الإضافي على المواطن
تاريخ النشر: 5th, December 2024 GMT
بروفيسور: حسن بشير محمد نور
اضافت الحرب تحديات جسيمة علي الاقتصاد السوداني مما شكل اعباءا اضافية جديدة علي المواطن وقطاع الاعمال. بعد انفصال جنوب السودان في العام 2011 فقد السودان مصدرا اساسيا للايرادات ممثلا في الايرادات البترولية، التي دفعت المصادر الاخري للايرادات لتسمي (الايرادات غير الضريبية). ومن المعروف ان الايرادات البترولية كانت تشكل 50% من الموازنة العامة وحوالي 97% من مصادرالنقد الاجنبي.
تعقدت الامور بعد انقلاب 25 اكتوبر 2021 الذي اوقف مسار التحول الاقتصادي بعد دخول السودان في مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون ( HIBICs) ، بما تضمنه ذلك من اعفاء للديون ومنح واعانات وتدفق استثمارات اجنبية، خاصة في البنية التحتية وانتاج القيم المضافة، اضافة لتحويلات السودانيين في المهاجر. بعد حرب ابريل 2023 دخل الاقتصاد السوداني في مرحلة حرجة، حيث تعاني مصادر الإيرادات الحكومية من تقلص كبير، خاصة الإيرادات الضريبية، مما أدى إلى تفاقم الأعباء المالية على المواطنين وقطاع الأعمال. في هذا المقال، نستعرض أبرز أسباب تقلص الإيرادات، خاصة الضريبية، وتأثير ذلك على المواطن، مع محاولة اقتراح بدائل للتخفيف من هذه الأعباء، في حالة وجود حكومة يمكن ان تطلع بتلك المهام، مع ملاحظة ان نهج حكومة الامر الواقع ظل وفيا لمناهج البنك والصندوق الدوليين في الجوانب الخاصة بالسياسة الضريبية ورفع العبء الضريبي الاضافي في الاقتصاد، ان كان ذلك بقصد او بحكم العقلية المسيطرة.
اول ما يلفت الانتباه هو تقلص ايرادات الضرائب على أرباح الشركات وأرباح الأعمال، اذ شهدت الضرائب على أرباح الشركات وأرباح الأعمال انخفاضًا كبيرًا نتيجة لتراجع النشاط الاقتصادي في ظل الحرب. العديد من الشركات أغلقت أبوابها أو قلّصت عملياتها، مما أدى إلى تقلص القاعدة الضريبية للضرائب المباشرة. كما أن انعدام الاستقرار الأمني والاقتصادي دفع العديد من المستثمرين إلى الخروج من السوق السوداني. من الطبيعي ان تتراجع ضرائب الدخل الشخصي بسبب انخفاض مستوى النشاط الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة بشكل ملحوظ، فقد بات كثير من الأفراد غير قادرين على العمل في بيئة تفتقر إلى الاستقرار، كما تقلصت فرص التوظيف في القطاعاين العام والخاص.
اما الجانب الاهم فيكمن في تراجع انشطة مصادر الضريبة علي القيمة المضافة التي كانت تشكل أكثر من 70% من الإيرادات الضريبية، مستمدة أساسًا من قطاعات حيوية كالاتصالات، البترول، البنوك، التعدين، والمقاولات. ومع تضرر هذه القطاعات بشكل كبير نتيجة للحرب، حدثت فجوة كبيرة في الموازنة العامة.
من جانب اخر فان القطاع الصناعي تعرض لأضرار جسيمة نتيجة لتدمير البنية التحتية وانقطاع الإمدادات الأساسية كالوقود والكهرباء. أما القطاع التجاري، فقد تأثر بشدة بسبب انقطاع سلاسل التوريد، وتقلص القوة الشرائية للمستهلكين، وارتفاع تكاليف النقل والتشغيل.
نتيجة لما ذكرنا اعلاه لجأت السلطات إلى زيادة الرسوم الجمركية والتعريفات على التجارة الخارجية لتعويض نقص الإيرادات، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة استيراد السلع الأساسية، وهو ما انعكس مباشرة على أسعار السلع في الأسواق المحلية. كما تمت المغالاة في رفع رسوم الخدمات مثل ترخيص الأعمال والمركبات، أضاف ذلك عبئًا على أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة، اضافة لرسوم الأوراق الثبوتية مثل استخراج الوثائق الأساسية كجوازات السفر والبطاقات الشخصية. لحق ذلك برسوم الجامعات التي شهدت زيادات كبيرة في الرسوم الدراسية ورسوم الامتحانات واستخراج الشهادات، مما أرهق الأسر ذات الدخل المحدود، حتي ان كثير من الخريجين لم يستطيعوا استخراج شهاداتهم.
وصلت تلك الاثار لقطاع الصحة بزيادات كبيرة في تكلفة العلاج والدواء نتيجة لانخفاض الدعم الحكومي وتقلص تغطية التأمين الصحي بشكل يقارب الاختفاء التام، كما ارتفعت أسعار تذاكر السفر، وقد جعل كل ذلك الحصول على الخدمات الأساسية تحديًا كبيرًا.
كل تلك العوامل ساهمت في زيادة العبء الضريبي غير المباشر على المواطنين، حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية بشكل كبير، مع انخفاض الدخل وارتفاع التضخم، أصبحت تكلفة المعيشة غير محتملة بالنسبة للكثيرين، مما دفع العديد من الأسر إلى الاعتماد على آليات التأقلم مثل تقليل النفقات أو البحث عن سبل الهجرة.
في الوقت الراهن من الصعب ايجاد حلول تخفف من تلك الاعباء نسبة لضيق الخيارات اما السلطات الحالية خاصة مع الضغط الرهيب الذي تشكله ضرورات تمويل الحرب، الا انه من الناحية النظرية يمكن ايراد بعض الجوانب التي تتخذ في هذه الحالات لمعالجة التشوهات ىفي تظام الايرادات العامة خاصة الايرادات الضريبية. من تلك الاجراءات، تحسين إدارة الإيرادات ومكافحة الفساد لتعزيز الشفافية والرقابة لضمان كفاءة تقدير وتحصيل وإنفاق الإيرادات العامة.
الجانب الثاني هو توسيع المظلة الضريبية بادخال العديد من الانشطة في القاعدة الضريبية ومن خلال التركيز علي دعم القطاعات الإنتاجية، خاصة القطاع الزراعي وجذب اي استثمارات ممكنة لتوسيع مصادر الإيرادات الضريبية عبر تحسين عائدات الانتاج والقوة الشرائية.
من الصعب بالطبع الحديث عن دعم الخدمات الأساسية في الوضع الذي يمر به السودان، الا ان هذا من اهم الاجراءات الهادفة لتخفيف الاعباء علي المواطن والحد من تبعات الفقر، اذ من المعروف ان تقديم دعم مباشر للقطاعات الحيوية كالصحة والتعليم لتخفيف العبء على المواطنين، يعتبر من اهم الاجراءات الاجتماعية المصاحبة للجوانب الاقتصادية. من ضمن الاجراءات المهمة في هذا المجال إعادة هيكلة الرسوم ووضع رسوم عادلة ومناسبة حسب الدخل الحقيقي للمواطنين، مع التركيز على تحسين جودة الخدمات.
الاهم من كل ذلك هو تعزيز الإنتاج المحلي وتقديم حوافز للصناعات الصغيرة والمتوسطة لتحفيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات، واقامة مجمعات زراعية - صناعية لانتاج القيم المضافة مصحوبة بدعم القطاع الزراعي لضمان الأمن الغذائي واستقرار الأسعار.
من الضروري الاشارة الي اهمية السعي للحصول على الدعم الخارجي من خلال المنظمات الدولية والمساعدات الإنسانية لتغطية جزء من الفجوة التمويلية ومستقبلا اقامة الشراكات بين القطاع العام والقطاع الخاص الوطني والشراكات الخارجية بشكل وظيفي عبر حزم من سياسات الاستثمار.
اذا كان هناك اصدقاء حقيقيون لحكومة الامر الواقع، فيمكن الطلب منهم المساعدة في تحقيق مثل تلك الاجراءات لتخفيف اعباء المعيشة علي المواطن المكلوم، بدلا عن الاكتفاء بتوفير وقود ماكينة الخرب.
عموما ما ذكرناه يشبه تشخيص المرض ووصف الدواء الذي لا يتوفر بالمستشفيات او الصيدليات او ان المريض لا يستطيع شرائه، اذ ان حكومة الامر الواقع السودانية تعاني من أزمة مالية خانقة، إلا أن الحلول الاقتصادية القمعية عبر زيادة الضرائب والرسوم، غالبا ما تفاقم الأوضاع بدلاً من تحسينها. يتطلب الوضع الراهن تبني سياسات طواريء اقتصادية مبتكرة، تُخفف من الأعباء على المواطن وتحفزنوعا من (الاسترخاء الاقتصادي) وان كان هذا امرا صعب التحقيق، ويبقي الحل في ايقاف الحرب بشكل يلبي استدامة الاستقرار.
mnhassanb8@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: على المواطن العدید من
إقرأ أيضاً:
السودان: استمرار دوران «الحلقة الشريرة»
منذ فجر الاستقلال والحلقة الشريرة/الجهنمية، تواصل قذف حممها الحارقة والمدمرة في السودان. وحرب السودان الراهنة، هي أسوأ هذه الحمم، حتى الآن، وأشدها تدميرا، لا على الصعيد المادي فحسب، بل أيضا على الصعيد الروحي والنفسي. وما لم يتم تفكيك هذه الحلقة، فإن نزاعات وحروب السودان لن تتوقف، وحتى إن توقفت الحرب الدائرة اليوم، إثر هذه الوساطة أو تلك المساعي، فلن تكون الأخيرة، ولن تتوقف حمم الحلقة الشريرة، مما ينسف استقرار البلاد ومواصلة احتجازها في براثن التخلف عاجزة عن بناء دولتها الوطنية.
وحرب السودان الراهنة انفجرت والسودان أصلا يعاني من متلازمة الاستقطاب الحاد والانقسامات العميقة والحروب الكلامية، لا على مستوى النخب السياسية والعسكرية فحسب، وإنما على كل مستويات المجتمع السوداني مسببة جروحا عميقة من الصعب أن تندمل سريعا. ومع إقرارنا التام بأن هذه المتلازمة هي نتاج تلك الحلقة الشريرة وما أحدثته من تشوهات كبيرة ظلت تتكاثر وتتوالد باستمرار في بنية الكيان السوداني منذ فجر استقلاله، بسبب الفشل في إدارة التنوع والتعدد الثقافي والعرقي والسياسي وطغيان الهويات الإثنية والجهوية والأيديولوجية على الهوية الوطنية الجامعة، إلا أننا لا يمكن أن نتجاهل دور الحرب الراهنة وتطاول أمدها وتجلياتها الخطيرة في مضاعفة القوة التدميرية لهذه المتلازمة واشتداد بأسها، وفي اتساع رقعة الخطاب التحريضي المعادي لثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، والذي يبشر بحلقة جديدة في سلسلة حلقات الدائرة الشريرة، ويلوح بمعاودة استخدام العنف في حسم الخلاف وكأداة للسيطرة والترهيب، وما صاحب ذلك من تأجيج لمشاعر العداء بين مكونات البلاد والحض على الكراهية والعنصرية والتمييز العرقي والإقصاء السياسي، وما تلعبه التدخلات الخارجية في تأجيج الانقسامات والصراعات الداخلية في البلاد ليتم استغلالها لتحقيق مصالح أصحاب هذه التدخلات الخارجية على حساب مصالح الشعب السوداني.
لكن، يبدو أن بيننا من لم يستوعب دروس التاريخ الحديث لبلادنا، فغابت عنه هذه الحقائق ولم يعد يرى، أو يرى ويتجاهل، فشل مشروع بناء الدولة السودانية على أساس أيديولوجي، أيا كانت هذه الأيديولوجية، أو على أساس تصور حزبي ضيق، أيا كان هذا الحزب. هولاء لا يدرون، أو يدرون ويتجاهلون، أن تماسك وحدة السودان واستقراره ونموه وتطوره وبناء دولة حديثة في كيانه، يشترط مشروعا وطنيا جامعا يأخذ بعين الاعتبار كل أطياف الشعب السوداني، ويؤكد على حقوق الجميع فى المشاركة الفعالة فى إعادة بناء هذه الدولة على أساس الإدارة الديمقراطية والرشيدة للتنوع والتعدد الإثني والديني والثقافي في البلاد وتقنينه، وعلى أساس النظام الديمقراطي التعددي المدني، والتنمية المتوازنة بين كل أطراف البلاد، وذلك في ظل نظام للحكم يحقق هذه الأهداف. هذا هو المدخل الوحيد لتحقيق حلم تفكيك الحلقة الشريرة، وأما الغائبون والمغيبون عن استيعاب هذه الحقائق، فتاهوا وضلوا سبيلهم إليه. وفي زمرة هؤلاء يدخل دعاة تكوين حكومة «السلام» في مناطق سيطرة ميليشيا الدعم السريع تحت دعاوى سحب الشرعية من حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، ودعاة من يختصرون العملية السياسية في تعديل أو استبدال الوثيقة الدستورية وتكوين حكومة في مناطق سيطرة القوات المسلحة السودانية، حتى وإن امتدت هذه السيطرة لتصل القصر الجمهوري، وحتى وإن أقررنا بشرعية ما تقوم به هذه القوات.
صحيح أن الاقتتال الدائر اليوم في البلاد يمكن أن يتوقف بفعل هذه الوساطة أو تلك، ولكن الحرب لن تنتهي ولن تكون الأخيرة إلا بإدراكنا وتلمسنا للمدخل الوحيد لتفكيك الحلقة الشريرة على النحو الذي أشرنا إليه أعلاه، وهذا بدوره يشترط الشروع في عملية سياسية جديدة تبدأ بتشكيل آلية قومية تضم قيادات كل القوى السياسية والنقابية والحركات المسلحة ولجان المقاومة والقوى الشبابية والقيادات النسائية والمجتمع المدني والشخصيات الوطنية، بهدف التوافق حول تفاصيل فترة انتقالية تأسيسية، واختيار قيادتها على أساس النزاهة والكفاءة والقدرة السياسية والتنفيذية، بعيدا عن أي ترضيات أو محاصصات سياسية أو جهوية، وبعيدا عن القيادات السياسية والعسكرية التي تسببت في اشتعال الحرب واستمراريتها وتأجيج نيرانها. واستيعابا لدروس تاريخ السودان الحديث كما ناقشنا أعلاه، بما في ذلك الاستفادة من أخطاء فترات الانتقال السابقة، لابد أن تستند الفترة الانتقالية التأسيسية على مجموعة من المرتكزات، دونها ستتكرر ذات الأخطاء ويتكرر ذات الفشل، وفي مقدمتها أن تشرع الحكومة الانتقالية فور تكوينها في تنظيم مؤتمر مائدة مستديرة للتوافق حول تفاصيل البرنامج الانتقالي لما بعد الحرب، بما في ذلك تكوين مجلس تشريعي انتقالي يتولى مهام التشريع والرقابة والمحاسبة، وتكون عضويته من ذات الآلية القومية المشار إليها، أو توسيعها بإضافة أعضاء آخرين وفق ذات شروط اختيار قيادة الفترة الانتقالية، مع مراعاة تمثيل المرأة والشباب تمثيلا حقيقيا، وليس شكليا أو صوريا. أما بقية المرتكزات، فعناوينها الرئيسية تشمل: إصلاح المنظومة العدلية والقانونية وتحقيق العدالة في كل الجرائم المرتكبة بحق الوطن والمواطن بما في ذلك جريمة إشعال الحرب. استعادة الدولة المخطوفة بواسطة نظام الإنقاذ والدولة العميقة لاحقا، بهدف تحقيق قومية ولا حزبية كل أجهزة الدولة، المدنية والعسكرية، وذلك عبر مراجعة قوانينها وهياكلها والتغييرات التي أُدخلت على تركيبة مجالسها وأجهزتها المتخصصة، ومراجعة التوظيف وحالات الفصل التعسفي وللصالح العام، وكل التظلمات التي حدثت خلال عهد الإنقاذ وقبل الحرب وأثناءها. وضع استراتيجية واضحة تجاه عملية السلام الشامل وتحقيق الصلح المجتمعي والأهلي. حل كل الميليشيات المسلحة في البلد ونزع سلاحها ودمجها في القوات النظامية أو تسريحها وتوفير سبل الحياة الكريمة لأفرادها، وحصر حمل السلاح في القوات النظامية فقط. تقصي الحقائق حول جرائم الفساد ونهب المال العام وسوء استخدام السلطة، وتقديم المتورطين للعدالة، واسترداد المال العام والخاص ورد الاعتبار والتعويض. التوافق حول الثوابت الدستورية عبر المؤتمر الدستوري. البرنامج الاقتصادي الإسعافي وبرنامج إعادة إعمار ما دمرته الحرب.
نقلا عن القدس العربي