لماذا يتقاتل البشر؟ سوسيولوجيا الحرب والعنف وصعود الوحشية المنظمة
تاريخ النشر: 5th, December 2024 GMT
كلما اشتدّ غبار المعارك في بقعة من هذه الأرض التي لم تهدأ فيها الحروب تثور أسئلة كثيرةٌ في مقدمتها "لماذا يتقاتل البشر؟"، وما يزال هذا السؤال المؤرق يطرق الأذهان ويدور في النفوس.
الباحث الأيرلندي، من أصل كرواتي، سينيشا مالشيفتيش، ألف كتابًا للإجابة عن هذا السؤال المؤرق ووضع له عنوانًا فرعيًا: "الديناميات الاجتماعية للعنف الجسدي المباشر" والكتاب ترجمته إلى العربيّة عومرية سلطاني، وصدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، سنة 2024م، ولعومرية السلطاني ترجمة لكتابين آخرين للمؤلف نفسه، هما: "سوسيولوجيا الحرب والعنف"، و"صعود الوحشية المُنظمة.
يقوم الكتاب، الذي استمر تأليفه أكثر من عقد من الزمن، على التحليل النظري لكثير من المواد بطريقة بحثية تجريبية، هذه المواد جمعها المؤلف خلال عمل ميداني امتد أكثر من 10 سنوات، وتضمنت مقابلات مع مقاتلين سابقين من أيرلندا الشمالية، وكرواتيا، والبوسنة والهرسك، وصربيا، وغيرهم.
المؤلف سينيشا مالشيفتيش عاصر وعاين الانهيار القاسي والكبير الذي شهدته يوغسلافيا خلال تسعينيات القرن الـ20 الماضي (مواقع التواصل)في هذا الكتاب يقدم مالشيفيتش إجابة سوسيولوجية جديدة عن السؤال القديم الجديد، "لِمَ يتقاتل البشر؟" لكنه يتجنب التركيز خلال إجاباته على دوافع الأفراد، ويركز على الأهمية المحورية للسياقات الاجتماعية والتاريخية التي تمكن من القتال وذلك أنّ المؤلف يرى أن القتال ليس صفة لصيقة بالفرد، بل هو عنده ظاهرة اجتماعية تصوغها علاقاته مع غيره من الأفراد، وجاءت المقابلات مع المقاتلين من بلدان ومناطق مختلفة من العالم ليكشف عن أنّ قابلية القتال هي ظاهرةٌ سياقية يشكّلها منطقٌ أيديولوجي وتنظيميٌّ محدَّد.
يبتكر المؤلف مفهوم "المقاتلة الاجتماعية" ويجترحه في سعيه للإجابة عن السؤال الثقيل الذي عنون به كتابه، ومن خلال هذا المفهوم يحاول المؤلف إجابة السؤال معتمدًا على إيجاد تفسير متّسق للقتال المباشر، وذلك من خلال إخضاع البحث لمجموعة متنوعة من العمليات القتالية والحربيّة المختلفة، واستكشاف الآليات العملية التي تعمل في إطار مفهوم "المقاتلة الاجتماعية" الذي ابتكره المؤلف، ممّا يساعد على التفاعل مع التأثيرات البنيوية ومعالم التغير المكاني والزماني، وسياقات المرونة للقتال الجسدي، وكل ذلك يؤدي إلى دراسة الديناميات الاجتماعية المسببة للعنف الجسدي للبشر.
يعتمد المؤلف في كتابه على استعراض مختلف السياقات الاجتماعية والتاريخية للقتال، باعتباره ظاهرة اجتماعية تصوغها علاقات الإنسان مع غيره من الأفراد، ويستند إلى العديد من الأدبيات الحديثة من تخصصات أكاديمية متنوعة، إضافة إلى مقابلات أجراها مع مقاتلين سابقين، وذلك بغية الكشف عن قابلية القتال، وتلمس الظاهرة في السياق الذي يشكّلها منطق أيديولوجي وتنظيمي معين، وإيجاد الإجابات التي تقدم فهمًا إضافيًا لكثير من ظواهر الحرب والعنف والصراعات الإثنية والقومية، ومما أسهم في قدرة المؤلف على ذلك أنّه عاصر وعاين الانهيار القاسي والكبير الذي شهدته يوغسلافيا خلال تسعينيات القرن الـ20 الماضي.
إعلانهنا، ومن خلال معايشة الكاتب لهذه الحقبة العنيفة فإنه يحاول تجلية الأدوار التي تلعبها البيولوجيا والسيكولوجيا والاقتصاد والأيديولوجيا والقسر في معايشة الفرد تجربة القتال، وأنها استجابة علائقية ناتجة عن تلاقي بنى وفاعلين وأحداث مختلفة، مستندًا في ذلك إلى أن العلاقات الإنسانية لا تنشأ وتتفاعل بوساطة خصائص بيولوجية أو سيكولوجية أو خصائص أخرى ثابتة ومستقرّة، بل إنّها تنشأ وتتولد من التفاعلات المتحركة بين منظمات اجتماعية محددة، وأطر أيديولوجية وعمليات تفاعل جزئية متصاعدة، مما يؤكد أن القتل والقتال لا يعبّران عن ممارسات موحّدة وثابتة ومستقرة ومتجاوزة للتاريخ وعابرة للثقافات، كما أنّها لا تقوم على أنماط ثابتة ولا تعتمد على أطر معروفة مستقرة، بل هي ظاهرة متنوعة ومتغيّرة ومتحركة ومتبدلة وسياقية.
الأبحاث الحديثة تشير لأن العنف المنظّم تطوّر في مرحلة لاحقة من التاريخ الإنساني (أسوشيتد برس)وبناء على ذلك يصل الكاتب إلى ضرورة ووجوب النظر في الظروف والبيئات والسياقات الاجتماعية التي تدفع البشر إلى الاقتتال أو تؤدي بهم إلى قتل أشخاص آخرين في مواقف الصراع، وضرورة تحليل الدور المنوط بالبيولوجيا، وتحليل الدوافع الاقتصادية والوقوف على الالتزامات الأيديولوجية والكشف عن الضغط القسري وتجلية الروابط العاطفية الكامنة في التضامن الجزئي، إضافة إلى وجوب دراسة السياقات البنيوية التي يحدث خلالها القتال، وتفصيل الكيفية والظروف التي يتجنب من خلالها الأفراد الانخراط في العنف الجسدي المباشر، وتقديم تحليل سوسيولوجي لمنطقة القتال.
عادةً، يتعامل الدارسون والباحثون مع عمليات العنف بين الأفراد بوصفها ظاهرة عابرة للحضارات والثقافات، ومتجاوزة لتاريخ الشعوب، ويعتمد الكثير منهم على فكرة أن الحرب وغيرها من أشكال العنف ما تزال موجودة ومستمرة ولم تتوقف، وهي موجودة في جميع النظم السياسية والاجتماعية، غير أنّ الأبحاث الحديثة تثبتُ أن العنف المنظّم تطوّر في مرحلة لاحقة من التاريخ الإنساني، وأن كثيرًا من الأنظمة الاجتماعية تفادت العنف في مختلف أشكاله.
إعلانبناء على ذلك يعتمد المؤلف في تحليل الحروب وجولات المقاتلة الجماعية على توضيح وتحليل الأسباب التي تجعل بعض الأفراد والمجموعات الصغيرة والمنظمات الاجتماعية أقل ميلًا للقتال أو أكثر فعالية في مقاومة العنف مقارنة بسواها، مما يستدعي التركيز على السياقات البنيوية التي تعيق تطوير الآليات الأيديولوجية والتنظيمية التي تعزز المقاتلة الاجتماعية، باعتبار أن ظاهرة عدم القتال، لا تحدث بشكل تلقائي، مثلها مثل القتال، بل إنّ ظاهرة عدم القتال هي نتاج التفاعل الجزئي والعمل التنظيمي والأيديولوجي، وذلك أنّ عدم القتال ينطوي على حالات عديدة منها التهرّب من التجنيد الإجباري وممارسة الاستنكاف الرافض لها وللعنف، والهروب من التنظيمات المسلحة، وتجنب إطلاق النار على العدو في خضم المعارك، إضافة إلى القيام بأشكال مختلفة من المقاومة غير العنفيّة، وغير ذلك من الحالات والمواقف.
يناقش الكاتب في حديثه عن العنف الإطار التفسيري النظري القائم على أنه وسيلة عقلانية لتحقيق منافع اقتصادية أو سياسية أو رمزية، وقد وظفت كثير من الدول والشركات الخاصة والمنظمات الأخرى العنف لتحقيق هذه المنافع، كما ركزت النظريات النفعية على الأسباب الاقتصادية للقتل والأشكال الأخرى من جرائم العنف، وعلى الدوافع الفردية أيضًا.
غير أنّ الكاتب يرى أن هذه النظريات شديدة الاتساع وشديدة التجريد، بحيث لا يمكنها تفسير الديناميات الاجتماعية للعنف الجسدي المباشر، كونها نظريات تخص السلوك الإجرامي بشكل عام، وليست نظريات عن الفعل العنيف في حدّ ذاته، فسواء ظهر العنف في صورة قتل أو عمليات اغتصاب جماعية أو حروب أهلية أو انتفاضات وثورات، فإن النظريات الاقتصادية تعطي الأولوية للأسباب الاقتصادية، التي تشمل الجشع والمصالح الشخصية للأفراد، وتشمل كذلك المظالم الاجتماعية التي تسببها الأنظمة السياسية والاجتماعية.
إعلانوبعد مناقشة التفسير الاقتصادي للحروب يبين الكاتب سعي عدد من علماء النفس إلى تفسير سلوكيات العنف والقتل، بأنها سلوكيات طبيعية كون البشر مخلوقات فيها جينات أنانية تتطلب استنساخها أو تكرارها، وبناء على ذلك فإنهم يحاولون الحصول على الموارد التي تساعدهم على البقاء والقتال من أجلها، ويلجؤون إلى ذلك بمجرد أن يشكِّل الآخرون تهديدًا لبقائهم.
كما يتناول المؤلف بالنقاش والتحليل ما يتردد من الحديث عن دوافع بيولوجية لتفسير الحروب هذه التفسيرات التي تعتمد على أنّ الرجال مهيؤون بيولوجيًا من أجل خوض الحروب والصراعات، غير أنّ هذه التفسيرات تنقضها الدراسات الحديثة التي تثبت أن قدرة الرجال والنساء على القتال متساوية، وبالتالي لا تحدّد القوة البدنية والعضلية، وحجم الجسم، ميل الفرد نحو القتال، كما لا تلعب الاختلافات الهرمونية بين الرجال والنساء دورًا كبيرًا في القتال، إضافة إلى أن مستويات هرمون التستوستيرون أو الإستروجين لا تحدّد القدرة القتالية، بل إن أكثر الهرمونات صلة بالقتال مثل الأدرينالين أو كورتيزول ليست جندرية الطابع، بل تتميز بطابعها العام.
وعند نقاش دافع الأيديولوجيا، يؤكد المؤلف أنها تؤدي دورًا مهمًا في التعبئة للعنف، وفي تبرير السلوكيات العنفية لأصحابها، فالقوة الأيديولوجية لها دور كبير في التعبئة الشعبية للقتال، وفي تشريع الأفعال العنفيّة والقتاليّة، وذلك على الرغم من أن المبادئ الأيديولوجية لا تولد نتائج عنفية بوصفها كذلك، لكن أقلية صغيرة من الناس تستخدم العنف لتحقيق أهدافها وغاياتها الأيديولوجية.
كل هذا يبين لنا محاولات المؤلف في كتابه الذي بلغ 496 صفحة تفنيد المقولات الشائعة عن العنف والقتال ودوافعه، تلك المقولات التي تصور المقاتلة الجماعية أمرا سهلا وأنه الأصل البشري الذي لا يمكن الفكاك منه، مبينا مجانبة هذه المقولات للصواب، مؤكدًا أنّ العنف ليس له جوهر بيولوجي أو سيكولوجي، بل هو ظاهرة تنشأ وتتأكّد من خلال تفاعل وتنوّع تاريخي وثقافي وتنظيمي، حيث تظهر تجارب القتال المتنوعة أن الفعل العنيف يشبه أي شكل آخر من أشكال العنف الاجتماعي، وليس له علاقة بأي نزعة طبيعية لدى البشر.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات فكر إضافة إلى على ذلک ة للعنف من خلال
إقرأ أيضاً:
مركز أبحاث أمريكي: ما التحديات التي ستواجه ترامب في اليمن وما الذي ينبغي فعله إزاء الحوثيين؟ (ترجمة خاصة)
سلط "المركز العربي واشنطن دي سي" الضوء على التحديات الجيوسياسية والعسكرية التي ستواجه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اليمن، في ظل تصعيد جماعة الحوثي في البحر الأحمر واختلاف وتباين أجندات السعودية والإمارات في البلاد التي تشهد صراعا مذ 10 سنوات.
وقال المركز في تحليل للكاتبة والباحثة اليمنية غير المقيمة، أفراح ناصر، وترجم أبرز مضمونه إلى العربية "الموقع بوست" إن "التصعيد العسكري بين الولايات المتحدة وجماعة الحوثيين المدعومة من إيران في اليمن له آثار كبيرة على مستقبل اليمن. ومع استمرار الحوثيين في تعزيز سيطرتهم على العاصمة صنعاء، فإن مشاركة واشنطن ستلعب دورًا حاسمًا في المسار السياسي والعسكري للبلاد".
وأضاف "بالنسبة لإدارة ترامب القادمة، فإن التحديات التي يفرضها اليمن تلوح في الأفق، وتقدم مجموعة معقدة من المخاطر الجيوسياسية ذات الآثار المباشرة على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. لكن المسار إلى الأمام يجب أن يكون واضحًا: لا ينبغي للبيت الأبيض في عهد ترامب أن يتمسك بنهج بايدن الفاشل تجاه اليمن.
وترى الباحثة ناصر أن مفتاح النجاح هو التعاون. ويتعين على الولايات المتحدة أن تعمل جنباً إلى جنب مع الشركاء الدوليين والإقليميين لتطوير إطار موحد للسلام ــ إطار شامل ومستجيب لاحتياجات جميع الفصائل اليمنية.
وقالت "هذا يعني ضمان ألا تكون الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً مجرد واجهة، بل سلطة فعّالة وقادرة على تولي القيادة".
ودعت الولايات المتحدة أيضاً إلى أن تضغط على الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية، وخاصة السعودية والإمارات، لتوحيد جهودها في اليمن. مشيرة إلى أن التنافس بينهما لفترة طويلة كان عقبة رئيسية أمام أي وحدة ذات مغزى في اليمن.
وأردفت ناصر "فقط من خلال وضع خلافاتهم جانباً وتنسيق جهودهم يمكنهم المساعدة في استقرار البلاد. وبفضل النفوذ الدبلوماسي الأميركي، يمكن لهذه الجهات الفاعلة أن تشكل إطاراً تعاونياً يتصدى للتحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجه اليمن".
التحدي الحوثي
وقالت "مع تصعيد الحوثيين أصبح البحر الأحمر - شريان الحياة الحيوي للتجارة الدولية - ساحة معركة خطيرة، وهدد بتوسيع حرب إسرائيل على غزة. ولم تكن تحركات الحوثيين مجرد بيان سياسي موجه إلى الولايات المتحدة: بل إنها تحدت مصالحها الاستراتيجية.
وأردفت "مع تعرض استقرار الطرق البحرية للخطر، تحول الوضع في اليمن فجأة إلى أزمة عالمية بعيدة المدى. وبات مستقبل اليمن ومستقبل التجارة الدولية مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بأفعال الحوثيين والاستجابة الدولية".
وذكرت أن الولايات المتحدة نفذت العديد من الهجمات الأخرى منذ ذلك الحين. ولكن على الرغم من الجهود الهائلة، كانت النتائج بعيدة كل البعد عن الحسم. فقد استمر الحوثيون العنيدون في كونهم مصدر قلق للولايات المتحدة وحلفائها.
وأوضحت أن السياسات الأميركية في الواقع فشلت في كبح جماح قوة الحوثيين وأنشطتهم في البحر الأحمر وفي الداخل. وبدلاً من ذلك، ساهمت الجهود الأميركية في استمرار الصراع في اليمن وتفاقم معاناة المدنيين في البلاد.
وترى ناصر أن إدارة ترامب الثانية تحتاج إلى استراتيجية لمعالجة القضايا الأعمق المطروحة وتوفير أساس مستقر للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط. ولكن من المرجح أن تواجه الإدارة الجديدة تحديا في الموازنة بين الحاجة إلى تأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن ومعالجة الأزمة الإنسانية وعدم الاستقرار السياسي في اليمن.
وأشارت إلى أن هذا التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة في اليمن منذ عام 2011، قد تعقد بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر. ولكن إعطاء الأولوية للحلول العسكرية يخاطر بتفاقم الأزمة الإنسانية وتعميق عدم الاستقرار الإقليمي. وهذا يتطلب استراتيجية دبلوماسية لمعالجة قوة الحوثيين مع تجنب المزيد من زعزعة الاستقرار.
انتقادات للسياسة الأميركية
وطبقا للباحثة ناصر فإن عسكرة الولايات المتحدة للبحر الأحمر لم تفشل في الحد من قدرات الحوثيين فحسب، بل شجعتهم عن غير قصد، الأمر الذي يكشف تقدما مذهلا في القدرات العسكرية للحوثيين.
"مع تزايد التزام الجيش الأمريكي ضد الحوثيين في اليمن، أصبح من الواضح أن التركيز الأساسي كان على حماية المصالح الأمنية لإسرائيل. ولكن مع مرور الأشهر، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن هذا النهج العسكري جاء بتكلفة. تم إهمال القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور في اليمن لصالح الأهداف العسكرية قصيرة الأجل" وفق التحليل.
وزادت "وبدلاً من تخفيف المعاناة أو جلب الفصائل المتحاربة إلى طاولة المفاوضات، أدى الوجود العسكري الأمريكي إلى تغذية حلقة من العنف. يبدو أن الضربات الجوية والتدخلات العسكرية، على الرغم من أنها تهدف إلى حماية المصالح الاستراتيجية، تتجاهل المبادئ الإنسانية التي كانت الولايات المتحدة تدافع عنها سابقًا. في النهاية، لم تقدم الاستراتيجية أي مسار واضح للسلام".
التحديات ستواجه استراتيجية واشنطن باليمن
تقول ناصر "كان الحوثيون قوة متنامية في اليمن لسنوات، ولكن في عام 2024، وصلت قدراتهم العسكرية إلى آفاق جديدة. ولم يعد الحوثيون معزولين، بل شكلوا تحالفات جديدة قوية. وتبرز اتصالاتهم المتعمقة مع روسيا بشكل خاص: فقد بدأت موسكو في تقديم الاستخبارات العسكرية وبيانات الأقمار الصناعية للحوثيين، كما شملت المناقشات أيضًا عمليات نقل الأسلحة الروسية المحتملة، بما في ذلك الصواريخ المضادة للسفن.
وزادت "لكن الحوثيين لم يتوقفوا عند موسكو. فقد امتدت تحالفاتهم إلى الجماعات المسلحة العراقية مثل المقاومة الإسلامية في العراق وحتى وصلت إلى جماعات مثل الشباب في الصومال. ولم تكن هذه الروابط تتعلق بالأسلحة فحسب: بل كانت تتعلق بالمصالح المشتركة والجهود المنسقة لتحدي القوى الإقليمية".
الاتجاهات السياسية للإدارة القادمة لترامب
تقول "نظرًا للقيود المفروضة على العمل العسكري الأمريكي - بسبب افتقار الجمهور الأمريكي إلى الرغبة في المزيد من الصراعات، والحالة الضعيفة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، وإمكانية قيام حملة عسكرية بتعزيز الحوثيين عن غير قصد - يجب على إدارة ترامب التركيز على الدبلوماسية والتفاوض والحلول السياسية باعتبارها الوسيلة الوحيدة القابلة للتطبيق لحل أزمة البحر الأحمر واستقرار اليمن".
لمعالجة التحديات بشكل فعال، قالت ناصر "يجب على الولايات المتحدة أن تتبنى استراتيجية تتجاوز الإجراءات العسكرية الضيقة ضد البنية التحتية للحوثيين. يكمن العمل الحقيقي في معالجة الأسباب الأوسع التي تغذي العنف. ستكون الخطوة الأولى الحاسمة في غزة، حيث أن وقف إطلاق النار هناك من شأنه أن يقلل من الإجراءات التي تؤجج التوترات".
ودعت واشنطن إلى أن تتبنى استراتيجية تتجاوز الإجراءات العسكرية الضيقة ضد البنية التحتية للحوثيين، وقالت ثم، يجب على الولايات المتحدة أن تتبنى نهجًا جديدًا في اليمن لمعالجة جذور قوة الحوثيين. مشيرة إلى أن إيران وروسيا والشباب والميليشيات العراقية كانوا يلعبون دورًا في تعزيز التمرد الحوثي.
وقالت إن إدارة ترامب لابد وأن تمارس ضغوطاً دبلوماسية واقتصادية على هذه الجهات الخارجية لوقف دعمها العسكري والمالي للحوثيين. ولكن هذا لن يكون كافياً. بل لابد وأن تدرك الولايات المتحدة مدى إلحاح قطع خطوط إمداد الحوثيين بالأسلحة التي تعتمد على التهريب. ولابد وأن تركز على طرق التهريب الرئيسية في البحر الأحمر وخليج عدن، حيث تتسرب الأسلحة من خلال الشقوق. ولابد وأن تكثف عمليات الحظر البحرية والبرية، مما يجعل من الصعب على الحوثيين الاستمرار في تلقي الموارد العسكرية".
دروس مستفادة من الماضي
إن معالجة الانقسامات الداخلية في اليمن أمر بالغ الأهمية. ويتعين على الولايات المتحدة -وفق الباحثة- أن تركز على نهج متكامل يوازن بين التدابير المناهضة للحوثيين والجهود الرامية إلى مساعدة اليمن على إعادة بناء حكمه والمصالحة بين الفصائل المتنافسة.
وبنظر الباحث فإن هذا ضروري لتجنب تفاقم تفتت البلاد. وإلا فإن اليمن تخاطر بأن تصبح ساحة معركة بالوكالة بشكل دائم، محاصرة بين قوى خارجية، بلا أمل في الحل الداخلي. وقالت "يتعين على الولايات المتحدة أن تدعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في اليمن، والذي بدوره يمكن أن يضمن الأساس لتعافي اليمن مع تعزيز الأمن الإقليمي".
بالنسبة لإدارة ترامب القادمة، ترى أن الدروس المستفادة من الماضي واضحة. لا ينبغي للولايات المتحدة أن تعتمد بعد الآن على استراتيجيات مجزأة تعالج أعراض الأزمة اليمنية فقط. ولإحداث تحول حقيقي في مسار الصراع في اليمن، يتعين على الولايات المتحدة أن تعالج القوى الأعمق وراء الصراع.
كما حثت أمريكا على العمل جنباً إلى جنب مع الشركاء الدوليين والإقليميين لتطوير إطار موحد للسلام ــ إطار شامل ومستجيب لاحتياجات جميع الفصائل اليمنية. وهذا يعني ضمان ألا تكون الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً مجرد واجهة، بل سلطة فعّالة وقادرة على تولي القيادة.
وبشأن تباين واختلاف أجندات السعودية والإمارات في اليمن قالت الباحثة ناصر "يتعين على الولايات المتحدة أيضاً أن تضغط على الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية، وخاصة السعودية والإمارات، لتوحيد جهودها في اليمن.
وأكدت أن التنافس بين الرياض وأبو ظبي لفترة طويلة كان عقبة رئيسية أمام أي وحدة ذات مغزى في اليمن. وقالت "فقط من خلال وضع خلافاتهم جانباً وتنسيق جهودهم يمكنهم المساعدة في استقرار البلاد. وبفضل النفوذ الدبلوماسي الأميركي، يمكن لهذه الجهات الفاعلة أن تشكل إطاراً تعاونياً يتصدى للتحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجه اليمن".