منذ سنوات وتمر سوريا بواحدة من أعنف فصول تاريخها، حيث تحولت من بلد مزدهر يتمتع بتنوع حضارى وثقافى إلى حطام وطن وساحة حرب دامية تتقاذفها الأطماع السياسية، والتدخلات الخارجية، والجماعات المتطرفة التى رفعت راية الإسلام زورًا وبهتانًا، إنها مأساة أمة يتم تدميرها ببطء تحت ستار شعارات مزيفة، والغرب يريد أن يفرض واقعا عنصريا على الأزمة ألا وهى الفصائل الإسلامية هى من دمرت سوريا، بينما الإسلام الحقيقى يبرأ تمامًا مما يُرتكب باسمه.
لم تكن الأزمة السورية وليدة اللحظة، بل جاءت نتيجة تضافر عوامل داخلية وخارجية، من مطالب شعبية بالإصلاح فى بدايات الأحداث، إلى دخول قوى دولية وإقليمية جعلت سوريا ميدانًا للصراعات الجيوسياسية، وأصبحت مدن سوريا أشبه بلعبة شطرنج بين القوى الكبرى، حيث تخوض كل دولة حربًا بالوكالة لتحقيق مصالحها على حساب الشعب السورى.
مع دخول الجماعات الإرهابية مثل «داعش» و«النصرة» إلى الساحة السورية، تغيرت ملامح الأزمة بشكل جذرى، حيث قامت جماعات ارهابية مزيفة نسبت للإسلام زورًا وبهتانًا، بارتكاب أبشع الجرائم من ذبح وقتل وتشريد، وفرض تفسير مشوه للإسلام الذى يدعو للرحمة والعدل، الإسلام بريء من أفعالهم التى شوهت صورته عالميًا، واستخدموا الإرهاب كسلاح مدمر لتشويه الإسلام.
لعبت فيه بعض الدول دورًا خفيًا ومعلنًا فى تمويل وتسليح هذه الجماعات، مستخدمة الإرهاب كوسيلة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، مما أدى إلى مزيد من الإنهيار والخراب، تحملت فيه الشعب السورى العبء الأكبر من هذه الكارثة، الملايين شُردوا داخل البلاد وخارجها، ومئات الآلاف فقدوا أرواحهم ومدن بأكملها دُمرت، وباتت حياة الكثيرين معلقة بين مخيمات اللجوء والأمل الضئيل بالعودة إلى وطن لم يعد كما كان.
حاولت الجماعات المتطرفة تصوير جرائمها على أنها جزء من الدين الإسلامي، بينما الحقيقة أن الإسلام لا يجيز القتل ولا التدمير، ولا يبرر الاعتداء على الأبرياء، بل إن تعاليمه تدعو إلى التعايش السلمي، وحفظ النفس والمال، وتحقيق العدالة، فى الوقت الذى يفترض أن هناك مجتمعا دوليا عليه أن يتصدى ويقف إلى جانب الشعب السورى لإعادة بناء وطنه، رأينا تقاعسًا واضحًا وتدخلات زادت من تعقيد الوضع، فكثير من الدول استخدمت الأزمة السورية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، بدلًا من العمل على إنهاء الصراع ومساعدة الشعب السورى.
فالواقع يؤكد أن هناك قوى دولية وإقليمية لعبت أدوارًا معقدة ومثيرة للجدل فى تعقيد المشهد السورى، هذه الدول الكبرى استخدموا عددا من الدول المحيطة بسوريا فى تنفيذ مخططهم التدميرى، حيث كان لكل منها أهدافها ومصالحها التى ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر فى تفكيك سوريا وإطالة أمد الصراع.
على رأس تلك الدول الولايات المتحدة الأمريكية التى لعبت دورًا محوريًا فى الأزمة السورية عبر سياسات متناقضة وتحالفات متعددة، فقد دعمت واشنطن فصائل المعارضة السورية بالسلاح والتمويل تحت ذريعة «إسقاط النظام»، ما أدى إلى تصاعد العنف وتوسيع رقعة الحرب، ورغم إعلانها محاربة الإرهاب ولكنها كانت تعزز الفوضى بكافة أشكالها، ورغم إعلانها الحرب على «داعش»، أثارت التحركات الأمريكية شكوكًا حول نواياها الحقيقية، حيث استغلت الفوضى لتعزيز نفوذها فى مناطق غنية بالنفط مثل شمال شرق سوريا، كما حافظت على وجود عسكرى غير شرعى فى سوريا تحت ذريعة «محاربة الإرهاب»، بينما الهدف الحقيقى كان السيطرة على الموارد الطبيعية ومنع استقرار المنطقة.
عدد من دول أوروبا التى لم تكن بعيدة عن كدر الصراع الدموى، والتى رفعت شعار «الفرضية بين التدخل والتقاعس»، فقد اتخذت عدداً من دول أوروبا موقفًا مزدوجًا تجاه الأزمة السورية، حيث كانت شريكًا فى السياسات الأمريكية وفى الوقت ذاته تدعى السعى للحلول السلمية، وشاركت هذه الدول، مثل بريطانيا وفرنسا، فى تسليح جماعات معارضة، بعضها متطرف، ما ساهم فى تعقيد الأزمة واشتعالها، فبرغم خطورة التدخل العسكري، لم تقم الدول الأوروبية بدورها الإنسانى المناسب، بل اكتفت بإغلاق حدودها أمام اللاجئين السوريين، وتحويل أزمتهم إلى ورقة ضغط سياسية.
الكيان الصهيونى المغتصب والذى هو رأس الحربة فى هذه الأزمة من بدايتها، وتتدخل إسرائيل لتحقيق الأجندة الاستراتيجية، فكان للكيان الصهيونى المغتصب دور مختلف، كان له التأثير الأعظم عن باقى القوى، حيث سعت لتحقيق مكاسب استراتيجية على حساب وحدة واستقرار سوريا، فقد وجد الكيان الصهيونى فى الحرب السورية فرصة لإضعاف سوريا كقوة إقليمية تهددها، فقد شن الكيان الصهيونى مئات الغارات الجوية على مواقع داخل سوريا تحت ذريعة استهداف «النفوذ الإيرانى»، ما أدى إلى تفاقم الدمار وزعزعة الاستقرار، واستغلت إسرائيل الحرب لتعزيز سيطرتها على الجولان المحتل، بل وحصلت على اعتراف أمريكى بسيادتها عليه، فى خطوة مخالفة للقانون الدولى.
وكان لهذه الدول الدموية على رأسها أمريكا واسرائيل أهداف من تدمير سوريا، منها تقسيمها إلى كيانات ضعيفة ومتناحرة لتقليل نفوذها الإقليمى، والسيطرة على مواردها، فأمريكا ودول غربية هدفها السيطرة على موارد سوريا النفطية والمائية، بينما تسعى إسرائيل لتأمين مصالحها الأمنية والجيوسياسية.
فالتكلفة الإنسانية والاقتصادية التى تسببت فيها تدخل هذه القوى، باهظة للغاية، كتدمير البنية التحتية السورية، مقتل مئات الآلاف من المدنيين، تشريد الملايين داخليًا وخارجيًا، نهب الموارد الطبيعية التى كانت ستسهم فى إعادة إعمار البلاد.
النتيجة المؤلمة والحتمية أصبحت سوريا حطام وطن، وساحة صراع عالمى، تحولت فيه إلى ساحة تصفية حسابات بين القوى الكبرى، والنتيجة شعب مشرد يعانى، وتدمير تاريخها وثقافتها، فتدمير سوريا لم يكن نتيجة الحرب الداخلية فقط، بل بسبب التدخلات الخارجية التى لم تكن تهدف إلى إنهاء الأزمة، بل استغلالها لتحقيق أجندات خاصة.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: رادار الأزمة السوریة
إقرأ أيضاً:
دور المؤسسات فى حماية الدول
ليست صدفة انفجار الأوضاع فى سوريا لحظة اعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، بل إن البعض ذهب إلى أن تحذير رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو للرئيس بشار الأسد بعدم اللعب بالنار، كانت إشارة إطلاق شرارة حققت فيه هيئة تحرير الشام وبعض الفصائل المسلحة مكاسب على الأرض كبيرة، فى ظل انسحاب جيش النظام السورى بشكل يثير الدهشة والتساؤلات والمخاوف على مستقبل سوريا ووحدة أراضيها، بعد أن باتت سوريا مسرحًا دوليًّا لصراع القوى الاقليمية والدولية، وهدفًا ومغنمًا لدول كثيرة، وباتت أكبر بؤرة للصراعات العرقية والطائفية، ويأتى مكمن الخطورة فى توقيت انفجار الأوضاع الآن فى ظل انشغال روسيا التى تعد أكبر الداعمين للنظام السورى، بحربها مع أوكرانيا التى تشكل الأولوية القصوى لروسيا فى مواجهة حلف النيتو والغرب بشكل عام على المستوى العسكرى والسياسى والاستراتيجى، والحال نفسه ينطبق على إيران وحزب الله الذى حبت كثير من عناصره من سوريا فى مواجهته وحربه مع إسرائيل وإذا أضفنا التواجد والمصالح الأمريكية والتركية سوف نعى حجم الخطورة على سوريا.
المؤسف فى أحداث سوريا هو عدم وجود دور عربى موحد وفاعل فى كل ما يحدث على الأراضى السورية، مع أن الجميع يعى أن سقوط سوريا وتقسيمها يشكل خطورة على كل الدول المحيطة وعلى الأمن القومى العربى، ولا يخفى على أحد الآن أن التنظيمات الإرهابية التى تشكلت عقب الربيع العربى تحت مسمى داعش وغيرها تم بتوجيهات أمريكية وهذا باعتراف حمد بن جاسم آل ثان رئيس وزراء قطر الأسبق فى سلسلة حلقات فضائية سابقة أكد فيها أن تدريب وتسليح هذه الميليشيات كان على يد القوات الأمريكية ومن خلال تمويل خليجى، وهو ما جاء أيضًا فى مذكرات هيلارى كلينتون وزير الخارجية الأسبق عندما كشفت أن الربيع العربى كان يهدف تحقيق مشروع - برنارد لويس - أو ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، الذى يهدف إلى تقسيم الدول العربية الكبرى إلى عدة دويلات صغيرة على أساس طائفى وعرقى، بحيث تصبح إسرائيل هى الدولة الأقوى والمستقرة فى المنطقة.. ومع أن كل خيوط المؤامرات على الدول العربية والشرق الأوسط قد تكشفت رسميًا سواء بالأحداث أو الوثائق، إلا أن السياسة الجمعية العربية ما زالت فى تشتت، ولم تعى دورس الحقائق الحية الموجودة فى العراق وفلسطين ولبنان واليمن وليبيا والسودان وانفجارها الآن بشكل يهدد وحدة سوريا.
الحقيقة أن ما شهدته المنطقة فى السنوات القليلة الماضية وتشهده سوريا الآن، يؤكد ويرسخ رؤية مصر فى كل خطواتها منذ 2011 وحتى الآن.. ويستدعى التحذيرات المتكررة للرئيس عبدالفتاح السيسى حول أهمية الحفاظ على مؤسسات الدولة باعتبارها الركيزة الأساسية فى الحفاظ على الدولة الوطنية وتماسكها وقوتها فى مواجهة كل التحديدات والمؤامرات سواء كانت خارجية أو داخلية، وإذا كانت مصر قد دفعت ضريبة باهظة من اقتصادها واستقرارها جراء الربيع العربى وفترة حكم الجماعة الإرهابية وقفزها على السلطة، إلا أن أهم المكاسب التى حققتها مصر من هذه التجربة، كان فى طغيان الشعور الوطنى ووعى وحرص المصريين على أهمية وضرورة الحفاظ على مؤسساتهم الوطنية وعلى رأسها القوات المسلحة والمخابرات والشرطة وغيرها من مؤسسات الدولة باعتبارها الضامن الحقيقى لعدم سقوط الدولة، وهو الأمر الذى دفع المصريين للالتفاف حول مؤسساتهم فى ملحمة وطنية كانت ذروتها فى الثلاثين من يونيو التى أدهشت العالم، وأسقطت كل السيناريوهات المعدة لمصر والسعودية وعدد من الدول العربية المستهدفة، فى دلالة بالغة على أن الدولة الوطنية تحيا وتستقر وتنمو بوحدة وتماسك شعبها وقوة مؤسساتها فى مواجهة أعتى التحديات.
حفظ الله مصر