تقرير: خالد فضل

التأم جمع عدد من الفرقاء السياسيين السودانيين لإدارة حوار غير رسمي حول مستقبل البلاد التي مزقتها الحرب الداخلية الدامية والمستمرة لما يقارب العامين مخلفةً أسوأ كارثة إنسانية على وجه الأرض الآن بسبب تنازع حول السلطة والنفوذ بين طرفي المؤسسة العسكرية السودانية الجيش والدعم السريع بقيادة الجنرالين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان المعروف بحميدتي، وقد أحدثت الحرب استقطاباً سياسياً وانقسامات حادة طالت الأبنية المجتمعية السودانية وكشفت بشكل واضح حجم الهوة العميقة في علاقات الاجتماع البشري بين تلك المكونات.

استغرقت الاجتماعات الفترة بين 25- 28 نوفمبر الماضي، واحتضنتها ضاحية نيون بمدينة مونترو السويسرية بتسهيل من مؤسسة بروميديشن الفرنسية، ومن أبرز المجتمعين أعضاء في تحالفين متناقضين يضمان مجموعات حزبية وحركات مسلحة وشخصيات مهنية واجتماعية مؤثرة توزعت مواقفهم بين تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدّم) وتحالف الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية، إضافة إلى تحالف التراضي الوطني الذي يتزعمه مبارك الفاضل المهدي، وممثل لحركة جيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد النور، وممثل لحزب المؤتمر الشعبي/ قيادة د. علي الحاج وشخصيات سياسية سودانية مستقلة مثل د. الشفيع خضر ونور الدين ساتي.

صدرت عن الاجتماع وثيقة إعلان مبادئ عرفت بعملية نيون، ومن أبرز ما اشتملت عليه: الدعوة لوقف العدائيات والإلتزام بمبادئ إعلان جدّة، وتيسير الوصول الإنساني للمتضررين، وحث الدول الداعمة للطرفين بالسلاح لوقف الإمدادات العسكرية.

كما تضمنت الدعوة لإطلاق مشروع وطني متوافق عليه ومخاطبة جذور الأزمة السودانية، وتأسيس جيش وطني مهني موحد والحفاظ على وحدة البلاد وبدء عملية سياسية في أقرب وقت بالتزامن مع المسارات الإنسانية والأمنية والعسكرية والسياسية.

كما نص الإعلان على تفكيك بنية نظام 30 يونيو 1989م، والتركيز على مبدأ العدالة والعدالة الانتقالية وتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية وإدراج قضايا المرأة ودورها في فض النزاع وبناء عملية السلام. وفتح الإعلان الباب لإجراء حوار سوداني شامل لجميع الأطياف الوطنية.

خطوة إيجابية

(التغيير) استطلعت آراء بعض الإعلاميين السودانيين وأستاذ جامعي عمل خبيراً سابقاً في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالسودان فجاءت إفاداتهم مضيئة لبعض الجوانب من وجهات نظر متفاوتة.

يقول د. عبد اللطيف طه الأستاذ بجامعة الخرطوم، إنّ ما تمّ من حوار يعتبر خطوة إيجابية نحو تحقيق السلام في السودان ويعكس رغبة الأطراف المشاركة في استكشاف طرق حلول سلمية للنزاع المستمر في البلاد، ويمكن أن يشكل نواة اختراق جاد حال الإلتزام به وتنفيذه بمصداقية وحسن نيّة، وخطوة مهمة نحو إيقاف الحرب ومعالجة آثارها واستعادة مسار التحول الديمقراطي.

مشيراً إلى بعض الجوانب التي يمكن أن تسهم في تعزيز نجاحه مثل حصوله على دعم المجتمع الدولي من خلال تقديم الدعم الفني والمالي والسياسي، ومشاركة المجتمع المدني في عملية السلام بما يمكّن من تمثيل أوسع لمختلف فئات المجتمع السوداني وهذا يعزز من شرعيته، كذلك معالجة القضايا الجذرية لأسباب النزاعات مثل التوزيع العادل للسلطة والثروة وتحقيق العدالة الانتقالية.

حالة تشكك

الصحفي والمحلل السياسي السوداني عبد الحميد عوض، يبدي تشككاً في تشكيل الإعلان لإختراق ناحية إيقاف الحرب، لأنّ طرفي الحرب الاثنين هما من يمكن أن يحدثا الإختراق المطلوب في حال إتفاقهما على ذلك، للأسف القوى المدنية لا حول لها ولا قوة على صعيد وقف الحرب، ولكن يمكن النظر إلى اتفاقها على مبادئ الحل السياسي اختراقاً إذا حدث ذلك بعد اتفاق الجيش والدعم السريع على وقف إطلاق النار الدائم والترتيبات الأمنية ونقل السلطة كاملة للمدنيين، وقتها يمكن النظر إلى حراك تلك القوى المدنية وأهميته في المرحلة الثالثة من مراحل حل الأزمة السودانية.

ونبّه عوض إلى أنّ واحداً من التحليلات الخاطئة للمشكلة السودانية ربطها بضرورة التوافق بين القوى السياسية المدنية فالمعضلة أساساً تكمن في تعدد القوات المسلحة لأنّ حل تبايناتها يتم دائماً بلغة السلاح بينما الخلافات بين القوى المدنية يعتبر أمراً محموداً بل جزء من العافية لأنها خلافات سلمية حسمها يتم بالأدوات المدنية السلمية كالإنتخابات، ونشوء أي حزب بطبيعة الحال؛ يعني حالة خلافية صحيّة سواء في الأفكار أو المواقف أو الأدوات السلمية للتعبير.

قفزة في الظلام

في قراءة من زاوية مغايرة، يرى كمال كرار الصحفي وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، أنّ ما ورد في الإعلان عن إيجاد مشروع وطني يضم كافة القوى يعتبر قفزة في الظلام لأنّه لم ينظر في الأسباب الحقيقية للحرب، وقد ضمّ الاجتماع قوى كانت وما زالت مستفيدة منها ومستقطبة من أطرافها، فمن يروم الحرب لا يسعى للسلام ولا يمكنه تحقيقه هذا من ناحية، من ناحية أخرى فإنّ نوعية هذه الاجتماعات التي تتم برعاية بعض المنظمات العالمية تهدف في النهاية إلى إيجاد معادلة تحافظ على مصالح الدول الغربية ووكلائها في المنطقة، وبالتالي إعادة إنتاج الأزمة العامة في بلادنا دون حل القضايا الجوهرية. أمّا المشروع الوطني الذي ينادي به المجتمعون كان وما يزال هو مشروع الثورة الذي دشنته ثورة ديسمبر المجيدة، وتآمر عليه من اجتمعوا في سويسرا إمّا بالالتفاف عليه والتنكر له كما في حالة (تقدُم) أو بتدبير الانقلاب ضده كما في حالة الكتلة الديمقراطية، مشيراً إلى أنّ ما يحاك الآن هو محاولة لإعادة فلول المؤتمر الوطني للمشهد السياسي ووأد الثورة وهو الأمر المستحيل- حسب تأكيده.

حوافز للاختراق

خالد سعد الصحفي والمحلل السياسي السوداني، طرح رؤية بقراءة وصفها بالمستقلّة ولا تعبر عن موقف شخصي أو سياسي. وفيها استبعد توافقاً سياسياً شاملاً في الوقت الراهن؛ لأنّ التحيزات السياسية الجزئية ما تزال هي المسيطرة على مشهد الفرقاء، وأجندة الإقصاء هي المهيمنة على مواقف القوى السياسية بما فيها تلك المتحالفة سرّاً أو جهراً مع الأطراف العسكرية المتحاربة.

ويمضي خالد في تحليل السياق بأنّ مناورات القادة العسكريين تسهم أيضاً في هذا المأزق، فضلاً عن تلويحهم بأنّ أجندة اليوم التالي للحرب سيحددها العسكر وحدهم وهناك قوى إقليمية ودولية مؤثرة تدعم هذا الإتجاه بمنطق أنّ المتحاربين وحدهم هم القادرون على إيقاف الحرب أو حسمها في الميدان مما يؤهلهم لتسيّد المشهد القادم. كما أدى انخراط حزب المؤتمر الوطني المحظور في المشهد السياسي بصورة شبه علنية وبنفس قادته إلى زيادة تعقيد جهود لم الشمل وتوسيع فجوة الثقة بين السياسيين والعسكريين وبشكل خاص بين الجيش الذي تتهمه قوى الثورة بالإنحياز إلى النظام المعزول، وبالتالي من غير المتوقع أن تتنازل هذه القوى ليصبح حزب النظام السابق جزءاً من هندسة وضع ما بعد الحرب رغم تنازلها باستيعاب تيارات وأحزاب كانت ضمن النظام المعزول، وبعض الإسلاميين الذين كانوا الرافد الرئيس لحزب البشير. ومن تعقيدات المشهد كذلك أنّ هناك قوى سياسية مؤثرة وتحظى بغالبية تأييد وسط مكونات إجتماعية كبيرة صارت الآن جزءاً من الاستقطاب الإجتماعي الذي أوصلته الحرب إلى ذروته، وهذا الانقسام السياسي بطابع إجتماعي مما يعقد  سيناريو التسوية الشاملة.

ورغم ما يبدو من مشهد قاتم بيد أنّ سعد يمضي للقول: إنّ ما أصاب البلاد والمواطنين جراء الحرب، ومخاوف تقسيم البلاد، واستطالة أمد الحرب دون حسم؛ يظل من الحوافز المستمرة لاحتمال حدوث اختراق لصالح تسوية وطنية، خاصةً إذا انطلقت مبادرة لم الشمل الوطني من قيادة الجيش وبرؤية غير منحازة لطرف.

الوسومإعلان نيون الجيش الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية السودان تحالف التراضي الوطني تنسيقية تقدم خالد سعد خالد فضل سويسرا عبد الفتاح البرهان قوات الدعم السريع مبارك الفاضل محمد حمدان دقلو (حميدتي)

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الجيش الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية السودان تنسيقية تقدم خالد سعد خالد فضل سويسرا عبد الفتاح البرهان قوات الدعم السريع مبارك الفاضل محمد حمدان دقلو حميدتي

إقرأ أيضاً:

هل نشهد نهاية عنف وعدمية الغرب؟

تفاعلات عصر التنظيمات

شهد عصر التنظيمات العثمانية "جدلًا" تاريخيًا وتفاعلًا شاملًا ومطردًا لعملية التحديث وامتداداتها وسيرورتها وتداعياتها عبر أكثر من قرنين شهدا أشكالًا من الصيرورة والتحولات التاريخية.

تزامنت حركة التحديث و"الأوربة" في الدولة العثمانية مع نظيرتها في مصر وإيران تقريبًا، وتشابهت بعض أوجهها وسياقاتها. لكن أكثر التجارب التحديثية اكتمالًا وتطرفًا هي الحالة التركية. وحتى تجربة مصطفى كمال باشا في التحديث والعلمنة والأوربة لم تذهب بعيدًا، بل هي امتداد منطقي لمشروع التحديث العثماني، كما رآه وتعهده السلطان محمود الثاني، وابنه السلطان عبد المجيد، ورجال التنظيمات.

استطاع مصطفى كمال باشا والجيوش العثمانية بقيادته هزيمة الإنزال البحري البريطاني في جناق قلعة (غاليبولي)، وتكبدت بريطانيا هزيمة لا نظير لها في تاريخ الإمبراطورية البريطانية، وتم تحرير الأناضول من احتلال القوى الأوروبية، وإسقاط معاهدة سيفر التي قضت بتقسيم الأناضول بين الطليان والفرنسيين واليونان والأرمن، وتدويل الممرات المائية (مضيق البوسفور وبحر الدردنيل).

تلقت العسكرية التركية أكبر جزء من عملية التحديث العثمانية للدفاع عن وجود الإمبراطورية، ومن عملية التحديث ما بعد العثمانية لحاجات دخول تركيا الأحلاف الغربية. وكرّس ذلك دور المؤسسة العسكرية في مسيرة الجمهورية التركية حتى يومنا هذا. كذلك، استقرت مكانة الدولة وجيشها عميقًا في الوجدان التركي، ومن الدعاء المأثور لدى الأتراك: اللهم احفظ لنا الدين والدولة!

إعلان فواعل حركة التحديث

منذ بدء عصر التنظيمات، ومن خلال ملاحظة مساراته وتفاعلاته، تعددت الفواعل "البنيوية" في عملية التحديث والاستجابة للتحدي الغربي الحديث:

دائرة القيادة وصنع القرار الواقعة تحت ضغط تداعيات المسألة الشرقية، وتغول الإمبريالية الأوروبية و"راهنية" التفوق الغربي عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا وضرورة صياغة الاستجابة لهذه التحديات الحرجة. قوى وأوساط تقليدية تعرضت لصدمات عملية التحديث أو تضررت منها وعارضت مساعي التغيير؛ بسبب المصالح أو الجهالة أو تداعياتها الصعبة. دعاة أيديولوجية الأوربة والتماهي الكامل مع النموذج الأوروبي والثقافة الغربية، بمختلف مظاهرها العلمانية والليبرالية والقومية والدستورية. الشرائح والنخب المرتبطة مباشرة بالغرب: طابور خامس وأقليات حاقدة مرتبطة بالاستخبارات الأجنبية، أصحاب المصالح ووكلاء شركات أوروبية، وملتحقون بالسوق الرأسمالية. دعاة التحديث والأسلمة: مفكرون ومثقفون وعلماء دعوا لاستيعاب التحدي الغربي الحديث ونقد الفكر الغربي، وتقديم استجابة قائمة على التجديد الديني والفكري والثقافي.

تلقي هذه المعالجة "الفكرية" الضوء على نخب المفكرين من دعاة "الأوربة" والتماهي مع الغرب وكذلك دعاة التحديث والأسلمة.

ارتبط التوجه نحو أوروبا، إلى حد كبير، بالتقدم العلمي والصناعي، وما استُحدِث من دساتير ونظم سياسية وحياة برلمانية وفصل بين السلطات ومساحة حريات وازدهار الصحافة، لكن مظاهر وتضمينات الحداثة لا تقتصر على الصناعة والسياسة، بل تشمل الفلسفة والفكر والرؤية الكونية والثقافة والآداب والفنون والتعليم، والاجتماع (تحرير المرأة والنهوض بالطبقات الاجتماعية المهمشة)، وغير ذلك مما لفت أنظار المطلعين على الخبرة الأوروبية.

دعاة الأوربة والتماهي

بعيدًا عن استقصاء جميع المفكرين في هذا الاتجاه، نجد اللبناني شبلي شميِّل (1850-1917) من أوائل دعاة الأوربة والاستجابة الكاملة للثقافة الغربية. وكان شميّل قد سافر إلى فرنسا منتصف سبعينيات القرن 19، وترسخت لديه فكرة أو "نزوة" النشوء والارتقاء لداروين أو نظرية التطور، ونقل إلى العربية شرح الطبيب والفيلسوف الألماني لودفيغ بُخنر (1824-1899) لها.

إعلان

فكان شميّل أول من نقل هذه النظرية إلى اللغة العربية قبل ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع". كتب شميّل رسالة بعنوان "شكوى وأمل"، إلى السلطان عبدالحميد الثاني، وقال فيها إن الدولة العثمانية تفتقد العلم والعدل والحرية، وذهب إلى أن "الحكمَ الديني" و"الحكم الاستبدادي" كلاهما فاسدان؛ لأنهما غير طبيعيين وغير صحيحين؛ فالأول يلجأ إلى السلطة لمنع نمو العقل البشري نموًا سليمًا، والثاني لا يعترف بحقوق الأفراد، وكلاهما يؤديان لجمود العقل ويعوقان التقدم.

كان شميل من قيادات حزب "اللامركزية" العثماني الذي ضمّ أيضًا السيد محمد رشيد رضا، وعبدالحميد الزهراوي، ورفيق العظم، وحافظ السعيد، وعلي النشاشيبي، وغيرهم من قادة الحركة الإصلاحية العربية.

اعتبر شميّل العلوم الحديثة الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية المتفوقة، ودعا لاقتباسها والأخذ عنها دون تردد. لكن ما دور نظرية التطور البيولوجي لداروين في تحقيق العلم والعدل والحرية والتقدم؟ إن لم تكن "صرعة" أو فتنة للانحطاط بالإنسان إلى درك الحيوانات بعد التكريم والاستخلاف الإلهي!

في مصر، استهل أحمد لطفي السيد (1872-1963) مشروعه التغريبي بالدعوة إلى قومية مصرية، ملتحقة بحضارات البحر الأبيض المتوسط، كأساس لانتماء المصريين، كما دعا لاستخدام العامية بدل الفصحى، وتأثر بالمدرسة الليبرالية الفرنسية "المنكسرة" أواخر القرن التاسع عشر، بعد انكسار فرنسا أمام ألمانيا في حرب 1870.

وربما هذا ما يفسر انهزامية لطفي السيد إزاء الاحتلال الإنجليزي لمصر ودعوته للانكفاء على الذات. ومع ذلك لُقّب لاحقًا بأستاذ الجيل (جيل المثقفين الليبراليين)، واعتُبِر أبًا لليبرالية المصرية.

أما سلامة موسى (1887-1958) فكان من رواد الاشتراكية بمصر، ونهل أيضًا من الثقافة الغربية، ودعا لاستخدام العامية بدل الفصحى، بل ذهب (وكذلك عبدالعزيز باشا فهمي) إلى الدعوة لكتابة العربية بالحروف اللاتينية؛ باعتبار ذلك وثبة للمستقبل، ورغم تبريره ذلك بأمّيّة أغلب المصريين، فإن تلك الدعوة مثلت آنذاك صدعًا في جدار الحضارة العربية الإسلامية ووعي الأمة، وبدا أكثر تأثرًا بالغرب وسخطًا على المجتمع.

إعلان

وكان سلامة موسى قد سافر إلى فرنسا ثلاث سنوات تعرف خلالها على أفكار فولتير (1694-1778)، وكارل ماركس (1818-1883)، ثم ارتحل بعد ذلك إلى إنجلترا، وظل بها أربع سنوات، انضم فيها لجمعية الاشتراكية الفابية، والتقى أحد أهم مفكريها جورج برنارد شو (1856-1950) الذي أشاد بمنهج وقدرة رسول الإسلام، ﷺ، على حل مشكلات البشرية.

تبنى سلامة موسى نظرية داروين في النشوء والارتقاء (!) وطرح أفكارًا متماهية تمامًا مع أوروبا ومتصادمة بشدة مع المجتمع، حتى قال: "فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا… ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها"، وقلل من شأن الدين باعتباره خاضعًا للتطور، فهو عنده مصدر بشري وليس مصدرًا إلهيًا. وصاغ ذلك بقوله: "ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوى عقله، وأن يأخذ الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدل أن يخضع له".

شارك طه حسين (1889-1973) في مرحلة انبهاره بالغرب، وقبل أوبته، في صياغة أطروحات التغريب، كما ذكر في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": "إن الطريق واضحة بيِّنة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء، وهي واحدة فليس فيها تعدُّد، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أَندادًا، ولنكون شركاء لهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب".

بدأ هذا الانبهار والتماهي التام لدى دراسته في فرنسا (1914-1918)، وهناك فُتن بمنهج ديكارت في "الشك"، والتقى عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم (1858-1917) الذي أشرف على أطروحته: "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية".

دعاة التحديث والأسلمة

كان الصدر الأعظم والبيروقراطي العثماني المخضرم، خير الدين باشا التونسي (1820-1890)، من رواد الإصلاح والتحديث في القرن 19، واتسمت أعماله بالتركيز على إصلاح الدولة والإدارة والحكم. ولا يُذكر عصر التنظيمات دون الإشارة إلى أفكاره وأعماله وإصلاحاته، وقد سجّل كثيرًا من أفكاره الإصلاحية في كتابه "أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك". تقوم حركة الإصلاح عند خير الدين باشا على مبدأين:

إعلان

الأول، ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية.

الثاني، ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على الحرية والعدل، فإنهما أصيلان في الشريعة.

دعا خير الدين باشا للإصلاح الشامل على أساس العدل في حكم الرعية، ورفع مظاهر الظلم والعسف بحكم يقوم على الشورى، وتعدد مؤسسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما أوتي من قدرة وكفاءة وحسن سياسة بتصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرعية؛ لأن في الاستبداد والانفراد مدعاة للتفريط في الحقوق.

واشترط أن تعي الأمة مسؤولياتها، وتُحْسِن ممارسة حريتها، وتراقب سير أمور الحكم، وتطالب بحقوقها. من أبرز مآثره صياغة دستور 1861، ومن أهم بنوده:

الالتزام بمقتضيات وثيقة عهد الأمان الصادرة عام 1857. الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. إنشاء "المجلس الأكبر" المكون من 60 عضوًا معيّنين لمدة 5 سنوات. ومن صلاحياته وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الأداءات ومراقبة الوزراء ودرس مشروع الميزانية. إنشاء شبكة من المحاكم تباشر القضاء.

كما أنشأ المدرسة الصادقية عام 1875 لتباشر تجديد النهج التقليدي الذي تمثّله جامعة الزيتونة، فدُرّست اللغات والعلوم الرياضية والطبيعية بالمدرسة الصادقية.

بدوره، يمثّل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) نموذجًا بارزًا للمفكرين المسلمين في زمن التحديث المبكر، خاصة بعد انتهاء مرحلة انبهاره مبكرًا بالحضارة الفرنسية، وقام بدور بنّاء في نهضة التعليم بمصر الحديثة.

وكان شيخ الجامع الأزهر الشيخ حسن العطار (1766-1853) قد رأى أن يرسله مع بعثة فرنسا إمامًا وواعظًا لطلاب البعثة في 1826. وقد سجل انطباعاته المبكرة حول الحضارة الغربية في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". قضى الطهطاوي هناك خمس سنوات، ثم عاد لمصر وافتتح مدرسة للترجمة صارت لاحقًا "مدرسة الألسن".

إعلان

وأنشأ أقسامًا للعلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية، وأصدر قرارًا بتدريس المعارف والعلوم بالعربية، فاستطاع الجمع بين الأصالة والتحديث، كما أصدر الجريدة الرسمية "الوقائع المصرية" بالعربية بدل التركية.

ازدهرت الحركة العلمية على يد الطهطاوي، خاصة الترجمة من اللغات الأخرى، وقام بتعريب القانون المدني الفرنسي كاملًا، لكن جهوده النهضوية لم تمنع الحكام من اضطهاده مرتين، ونُفي في إحداهما إلى طوكر بالسودان، وظل رغم ذلك دؤوبًا في أعمال الترجمة والإنتاج الفكري.

وقد قام بنفس المسعى الشيخ حسين الجسر، أستاذ السيد محمد رشيد رضا، عندما مزج دراسة العلوم الشرعية بالعلوم الرياضية والمعارف الطبيعية في المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس لبنان، مما يسترعي التساؤل عن أسباب إجهاض هذه الجهود وعدم تعميمها!

هل كان المطلوب الاقتباس من الحضارة الغربية ومحاكاتها فحسب دون الاتصال بالبعد الثقافي للأمة؟!

أراد الطهطاوي أن يقدم صيغة سابقة لخلفه، ممن ينسب إليهم الدعوة إلى تحرير المرأة المصرية، فصاغ عقد زواجه ملتزمًا فيه أن تكون زوجه طالقًا منه إذا تزوج عليها، ووعدها أنها إذا دامت معه على المحبة المعهودة لا يتزوج بغيرها أصلًا ولا يتمتع بالجواري أبدًا.

في مصر امتدت آثار الطهطاوي لكثير من المفكرين اللاحقين كالأفغاني والكواكبي اللذين ناديا بإصلاحات دستورية وسياسية، وكذلك الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، ومنه إلى تلميذه حسن البنا. وكان محمد عبده قد وضع برنامجًا للحزب الوطني القديم خلال فترة الحركة العرابية:

"هذا الحزب يخضع للجناب الخديوي العالي، وهو مصمم على تأييد سلطته ما دامت أحكامه جارية على قانون العدل والشريعة حسب ما وعد به المصريين في سبتمبر /أيلول 1881، وقد قرن هذا الخضوع بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل، والإلحاح على الحضرة الخديوية، إذ يطلبون منها الاستقامة وحسن السلوك في جميع الأمور، وهم يساعدونه قلبًا وقالبًا، كما أنهم يحذرونه من الإصغاء إلى الذين يحسّنون إليه الاستبداد والإجحاف بحقوق الأمة ونكث المواعيد التي وعد بإنجازها".

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • في 6 ايام.. كم بلغ عدد الموقوفين لدى القوى الامنية؟
  • أمريكا.. إعلان حالات طوارئ لمواجهة حدث غير مسبوق منذ عقد
  • محلل سياسي: هيئة تحرير الشام تبحث عن رؤية سياسية للحوار الوطني السوري
  • خيارات الراهن السياسي للسودان: بين “ذئب التمكين” و”حملة السلاح”
  • هل ثمة أمل يلوح في العام الجديد؟
  • هل من حق الحكومة السورية الحالية إعلان حالة الحرب؟.. خبير سياسي يوضح
  • هل نشهد نهاية عنف وعدمية الغرب؟
  • عادل الباز: الحل السياسي أولاً!
  • هل سيضحون بالدعم السريع؟
  • العرابي: السودانيون يثقون في مساعي مصر لوقف الحرب ومساعدتهم بالحل السياسي