وسّع عقلك.. رسالة تُكتب بعد التقاعد
تاريخ النشر: 4th, December 2024 GMT
سلطان بن محمد القاسمي
حين تنتهي أيام العمل وتُطوى صفحات الوظيفة، يقف الإنسان أمام مرآة الزمن يتأمل رحلته الطويلة. وعند هذه النقطة، تُطرح الأسئلة الكبرى: ما الذي بقي من تلك الأيام التي قضيناها في العمل؟ وبين هذه التساؤلات، تتجه الأنظار نحو ما يُعدُّ ذا قيمة حقيقية. في النهاية، ما يبقى بعد التقاعد ليس الأرقام ولا الألقاب، بل الأثر الذي تركته في قلوب الناس.
ومن هذا المنطلق، الحياة المهنية ليست مجرد وسيلة لكسب العيش؛ بل هي منصة لصنع الفارق، وفرصة ذهبية لبناء إرث يدوم بعد أن تغلق أبواب المكتب خلفك للمرة الأخيرة.
من البداية، علينا أن ندرك أن الوظيفة ليست مجرد ساعات عمل وأهداف تحقق؛ بل هي مسرح نعبر فيه عن قيمنا وإنسانيتنا. وعلى هذا الأساس، كيف نتعامل مع الآخرين، وكيف نتخذ قراراتنا، وكيف نواجه التحديات اليومية؛ هذه هي الأسئلة التي تحدد ما سيبقى منا بعد التقاعد. وبالتالي، الموظف الذي اختار أن يكون رمزًا للتعاون والإيجابية، أو ذلك الذي كان يسعى دومًا لدعم زملائه في الأوقات الصعبة، هو من يترك أثرًا أعمق من أي إنجاز مهني يمكن تسجيله.
ومما لا شك فيه، أن القيم التي نعبر عنها خلال رحلتنا المهنية هي ما تجعلها ذات معنى حقيقي. فالله سبحانه وتعالى يقول: "وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء: 128). هذا التوجيه الإلهي يُذكرنا بأنَّ الإحسان والتقوى هما ما يرفعان قيمة أي عمل نقوم به، وأنَّ كل فعل نبيل يبقى أثره حاضرًا في القلوب حتى بعد غيابنا.
وفي كل يوم عمل، هناك فرص لا تُحصى لتترك بصمة إيجابية. ربما كانت في كلمة طيبة قلتها لزميل جديد يحتاج إلى دعم، أو في موقف حكيم اتخذته وسط خلاف مهني، أو في ابتسامة بسيطة قدمتها لشخص مر بيوم سيئ. وقد تبدو هذه الأفعال صغيرة، لكنها هي التي تصنع الفرق. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أنفعهم للناس" (رواه الطبراني). إن هذه الحكمة تلخص فلسفة العمل والحياة؛ فالعطاء الذي نقدمه للآخرين هو ما يجعل لحياتنا معنى يتجاوز حدود الزمن.
وفي خضم الحديث عن الأثر الذي يتركه الإنسان بعد التقاعد، لا يمكنني إلا أن أستذكر أحد الأشخاص الذين كان لهم تأثير كبير في حياتي المهنية، أستاذي ومديري الذي كان بحق نموذجًا يُحتذى به. لم يكن مجرد قائد في العمل، بل كان قدوة بمعنى الكلمة. علمني، من خلال أفعاله لا كلماته فقط، كيف أتحلى بروح المسؤولية وأتعامل مع كل مهمة تسند إليَّ بإخلاص وتفانٍ. كان يملك تلك القدرة النادرة على أن يجعل كل من حوله يشعرون بأهميتهم، يوجهنا بحكمة وهدوء، ويحرص على تطويرنا دون أن يشعرنا يومًا بالتقصير.
ومن الدروس التي لا تزال راسخة في ذهني هي كيف علمني صياغة المذكرات والخطابات الرسمية. كان يحرص على أن أتعلم هذا الفن بدقة، حتى أصبحت بفضل الله ثم بفضل توجيهاته، متمكنًا في هذا المجال. لم يكن يكتفي بإعطاء التعليمات، بل كان يجلس معي، يشرح، ويوجه بصبر وأناة. كنت أتعلم منه كل يوم درسًا جديدًا في المهنية، في الصبر، وفي الحرص على الجودة. وبعد تقاعده، لا أستطيع إلا أن أشعر بالامتنان لما غرسه فيَّ من قيم ومعارف. حقًا، من لا يشكر الناس لا يشكر الله، وفضله سيظل حاضرًا في حياتي ما حييت.
هذا المثال الواقعي يُظهر بوضوح كيف يمكن لإنسان أن يترك أثرًا لا يُنسى في حياة الآخرين. الأثر الذي يتجاوز حدود الزمن والمكان، ليصبح جزءًا من شخصياتنا وسلوكنا. وهنا يكمن جوهر العمل المهني الحقيقي؛ في أن تكون مصدر إلهام ودعم لمن حولك، في أن تترك في قلوبهم درسًا يدوم وأثرًا يزدهر مع مرور الأيام.
وعندما نقيس حياتنا المهنية بهذا المعيار، نجد أن الإنجازات المادية أو الألقاب الوظيفية ليست هي المحك الحقيقي. المحك هو تلك القيم التي نقلناها، والأثر الذي تركناه في النفوس. فحين يغلق باب المكتب للمرة الأخيرة، سيبقى الأثر الذي تركناه هو الحديث الذي يرويه زملاؤنا، تلك القصص التي يرددها من عمل معنا، والامتنان الذي يظل محفورًا في قلوبهم.
كما إن العمل ليس مجرد وسيلة لتحقيق الذات أو كسب المال؛ بل عبادة إذا أُنجز بإخلاص وصدق. يقول الله تعالى: "وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ" (البقرة: 110). إن كل عمل صالح تقوم به، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، يُكتب في ميزان حسناتك ويصبح جزءًا من إرثك الروحي، وكذلك الأثر الذي تتركه لا يتعلق فقط بعلاقتك بالناس، بل أيضًا بعلاقتك بالله سبحانه وتعالى.
والتقاعد ليس نهاية المطاف؛ بل بداية جديدة لمرحلة مليئة بالفرص لصنع الأثر. وعلى الرغم من أن البعض قد يرى هذه المرحلة وقتًا للتوقف، إلا أنها تفتح أبوابًا جديدة لإعادة التفكير في كيفية استثمار وقتك وطاقتك لخدمة المجتمع أو تعزيز علاقتك بأفراد عائلتك. إضافة إلى ذلك، تخيل والدًا متقاعدًا يستثمر وقته في توجيه أبنائه ودعمهم، أو شخصًا يخصص جزءًا من وقته للعمل التطوعي. وهذه الأفعال، مهما بدت بسيطة، تخلق أثراً لا يُنسى في حياة الآخرين وتمنح حياتك معنى أعمق.
ومن المهم أن نتذكر أن الأثر الذي نتركه لا يتطلب منا الكمال أو المثالية، بل يتطلب منا الصدق والاستمرارية. فكل يوم هو فرصة جديدة لترك بصمة، وكل لحظة يمكن أن تصبح بداية لأثر يمتد بعد رحيلنا. يقول الله تعالى: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ" (الزلزلة: 7). هذا التذكير القرآني يعلّمنا أن الأعمال الصغيرة، عندما تُنفذ بإخلاص، لها قيمة كبيرة وأثر دائم.
وفي الختام، يتجلى مسارك المهني كشاهد صادق على من كنت، ليس بما قلته؛ بل بما فعلته. وعندما يحين وقت التقاعد، يصبح الأثر الذي تركته هو الحديث الذي يتناقله زملاؤك وأصدقاؤك. هذا الأثر ليس مجرد ذكريات عابرة؛ بل إرث حيّ يستمر في القلوب والعقول. لذا، اجعل لكل يوم في عملك معنى، وازرع الخير حيثما كنت، ودع أفعالك تعكس القيم التي تؤمن بها.
وحين يُغلق باب المكتب للمرة الأخيرة، دع روحك مليئة بالرضا، لأنك لم تكن مجرد موظف عابر بل كنت إنسانًا ترك أثرًا لا يُمحى. واجعل من مسيرتك رسالة تروي حكايتك، ومن قيمك دليلًا يُلهم الآخرين حتى بعد رحيلك؛ لأن القيم الحقيقية لا تزول، والأثر الذي تُحدثه لا ينطفئ، بل يظل متقدًا في القلوب التي لمستها، وفي النفوس التي ألهمتها، وفي الذكريات التي تُروى عنك بكل حب وامتنان.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
السوجرة قرية من وحي الخيال
قررنا أن نقضي يومنا بطريقة مختلفة، فاخترنا أن يكون الإفطار في مكان لا يشبه غيره، "قرية السوجرة"، تجربة تشعرك وكأنك على وشك الدخول إلى فصل من كتاب قديم، تحمله أوراقه عبق التاريخ، وتروي سطوره حكايات من زمن بعيد، وصلنا إلى القرية التي تقع بين جبلين، تمامًا كأنها مخبأة بعناية في حضن الطبيعة، وكأن الجبال تحرسها من عبث الزمن، السكون كان سيد المكان، لا صوت سوى همسات الريح التي تمر بخفة بين البيوت الحجرية، وكأنها تهمس لنا بقصص من عاشوا هنا قبل عشرات السنين، قرية السوجرة ليست كبقية القرى؛ فهي تعود بأصولها إلى أكثر من 500 عام، عاش فيها جدّان شقيقان، وأسّسا معًا نواة لحياة بسيطة جمعت حولها ست عائلات فقط، ورغم قلة عدد السكان، إلا أن الترابط والانسجام كانا واضحين في كل ركن، في كل حجر من جدران البيوت، وفي كل شجرة زُرعت بيدٍ محبة، ما أثار دهشتنا أن الحكومة لم تُجبر الأهالي على إخلاء القرية كما يحدث في بعض المناطق النائية، بل احترمت ارتباطهم بالمكان، وجلبت إليهم الخدمات الأساسية، حتى في الحالات الطارئة، لم يكن مستحيلًا الوصول إليهم، فكانت طائرات "الهليكوبتر" تُرسل عند الحاجة، وكأن السماء نفسها كانت مفتوحة لهم عند الضرورة.
تخيّل أن تعيش في قرية منعزلة عن العالم، وتضطر أن تمشي لأيام فقط لتصل إلى السوق الأقرب! هذا ما كان يفعله أهل السوجرة، كانوا يحملون معهم ما زرعته أيديهم من ثمار، ويتوجهون إلى سوق نزوى، في رحلة تستغرق ثلاثة أيام كاملة، يومًا ونصف اليوم ذهابًا، ويومًا ونصف اليوم عودة، يبيعون ثمارهم هناك، ويشترون ما يحتاجونه من طعام وبهارات وأساسيات حياتهم البسيطة، تخيّل كل تلك المسافة، كل ذاك الجهد، فقط لتأمين لقمة العيش، لكنه كان جزءًا من نمط حياة لا يعرف التذمر، بل تحكمه القناعة والرضا، أوقاتهم كانت تسير على إيقاع الطبيعة والعبادة، يصحون مع أذان الفجر، ويبدؤون يومهم مع شروق الشمس، ويخلدون إلى النوم بعد صلاة العشاء، حين يغمر الظلام القرية ويعود السكون ليحتضنها من جديد، لا ضوضاء، لا أضواء اصطناعية، فقط سكون يعلّق الزمن بين الجبلين.
البيوت هناك تُشبه القصص، صغيرة، حجرية، لكنها تحوي دفئًا لا يمكن أن تراه، بل تشعر به، ربما لأن كل جدار فيها شهد ضحكة، وكل زاوية فيها تحمل ذكرى، وكل ممر بين بيوتها ضم خطوات لأجيال مضت، السوجرة ليست مجرد قرية، بل فصل محفوظ من كتاب الهوية العُمانية، هي نموذج لحياة اتسمت بالبساطة، لكنها مشبعة بالقيمة، حياة لا تعرف الإسراف، ولا تلهث خلف التكنولوجيا، بل تسير على إيقاع الشمس والظل، الماء والتربة، الدعاء والكد، وأثناء جلوسنا هناك، وتناول الإفطار وسط هذا الهدوء الساحر، أحسسنا أننا لسنا مجرد زائرين، بل ضيوف على قصة أزلية، قصة لا تزال تُروى رغم أن معظم شخوصها قد غادروها وانتقلوا إلى مساحة مجاورة.
كان أكثر ما لفت انتباهنا في قرية السوجرة هو الانسجام العجيب بين الإنسان والمكان، كل شيء هناك يشعرك وكأن الطبيعة والناس اتفقوا على نوع من التعايش السلمي، لا اعتداء فيه ولا صخب، الأشجار تنمو بهدوء، والمياه تنساب في مجاريها القديمة، والبيوت لا تحاول أن تتجاوز حدود الأرض، بل تتماهى معها، بلون الحجر نفسه وروحه، بينما كنا نتجول في أزقة القرية، مررنا بآثار الدروب الترابية، ربما لأطفال عاشوا هنا قبل عشرات السنين، وربما لحمار يحمل على ظهره الحطب، أو لامرأة كانت عائدة من الحقول، كل شيء له ذاكرة، وله حكاية، حتى الجدران المتصدعة لم تكن مجرد حجارة متهالكة، بل صفحات صامتة من تاريخ عائلات عاشت، وفرحت، وبكت هنا.
سمعنا من أصحاب المكان الذين بقوا في المنطقة والذين كانوا يشرفون على النزل، أن الحياة في السوجرة لم تكن سهلة، لكنها كانت كريمة، كانوا يزرعون ما يأكلون، ويقتسمون ما يجنونه، فلا جوع يستفرد ببيت، ولا حاجة تُترك دون سند، القوة لم تكن في كثرة المال أو البنيان، بل في الترابط، في شعور كل فرد بأن القرية بأكملها تقف خلفه إن احتاج، حدثنا أحد المشرفين القائمين على النزل عن الشتاء هناك، حيث يلبس الضباب القرية بأكملها رداءً من الغموض، ويغلق الجبلان على قريتهما الصغيرة كما لو كانا يحميانها من العالم الخارجي، وفي الصيف، تتزين الحقول بالخضرة.
ما يجعل السوجرة مميزة ليس فقط قدمها أو مكانها، بل استمرارها، قرى كثيرة هُجرت، وبيوت كثيرة تُركت، لكن السوجرة لا تزال تحتفظ ببعض من نبضها، لا تزال تنبض بالقصة، وبالذكرى، وبالأمل، حيث قام أحفاد أولئك الأجداد بإعادة الحياة لها من جديد عبر ترميم المنازل القديمة وتحويلها إلى نُزل تراثية عن طريق شركاتهم العائلية التي تبنّت هذا الدور، لكونهم أحرص الناس على تراثهم، رحلتنا هذه لم تكن مجرد نزهة، بل كانت دعوة للتأمل، وتذكيرًا بأن البساطة ليست نقصًا، بل جمال من نوع مختلف، وفي زمن تتسارع فيه الحياة، وتتشابك فيه الشاشات والتطبيقات، هناك مكان ما بين جبلين، لا يزال يحتفظ بإيقاع الزمن الجميل، وغادرنا السوجرة، لكن بقيت أرواحنا هناك، تسرح بين جدرانها العتيقة، وتتنفس من سكونها الطاهر، وكأن القرية اختارت أن تُقيم فينا، لا أن نُقيم فيها، والذي لا شك فيه أنها الزيارة الأولى، ولكنها حتمًا ليست الأخيرة.