“دارفور المستوطنة الأخيرة،ريثما يتم الجلاء، للدكتور الوليد آدم مادبو- ومن ترى يريد استعمار دارفور ومن ترى يريد دارفور؟ 1 من 2
تاريخ النشر: 4th, December 2024 GMT
عرض ونقاش: الوليد محمد الأمين
"دارفور المستوطنة الأخيرة، ريثما يتم الجلاء" هو أحد الكتب المنشورة للدكتور الوليد آدم مادبو، والذي يرِد التعريف به في عدد من المواقع التي ينشر فيها على أنه خبير التحديث والتطوير المؤسسي، ومستشار التنمية العالمية، وفي بعضها خبير الحكمانية والمستشار في التنمية العالمية، وكذلك بالمختص في التنمية الدولية كما يشير الكاتب إلى نفسه في الكتاب.
الكتاب الذي نحن بصدده والمذكور عاليه، صدر في العام 2018 عن شركة تراضي للنشر والصناعات الثقافية بالخرطوم فيما يقرب من 450 صفحة، وهو في واقع الأمر مجموعة من المقالات التي نشرها الدكتور الوليد مادبو منجّمة وعلى فترات في الصحافة السودانية وبعض المواقع الالكترونية، في الفترة من 2005 إلى 2016 (1).
احتوى الكتاب على ستة من الفصول ثم الخلاصة فالملحقات. وكتب تقديم الكتاب الكاتب الصحفي صلاح شعيب، بينما قام المؤلف نفسه بكتابة المقدمة تحت عنوان:" من أجل بقاء الأمة". أما الفصول الستة للكتاب فقد كانت عناوينها كالتالي: الفصل الأول: الشعور القومي الجريح، الفصل الثاني: تجيير الإرادة الدارفورية، الفصل الثالث: ثنائية زرقة وعرب، الفصل الرابع: استهداف الكيان العربي، الفصل الخامس: ميلودية رزيقات ومعاليا، أما الفصل السادس والأخير فقد كان بعنوان: رثاء الرجال الزينين. وقُسِمَّت الفصول هي نفسها بالداخل إلى فصول أصغر أو أبواب، أشير إلى عناوينها في الفهرس أيضا، فمثلا احتوى الفصل الأول على ثلاث فصول فرعية، منها على سبيل المثال: "لكم سودانكم ولي سوداني (رواية القاتل الخائف)"، واحتوى الفصل الثاني على سبعة أبواب والثالث على خمسة، وهكذا.
الكتاب في مجمله هو رؤية الدكتور مادبو للأزمة السودانية ومسبباتها، التي يرى الدكتور مادبو بوضوح تام أن المتسبب الرئيس في كل مشاكل السودان وما انتهى إليه، هم فئة الشماليين المتحكمة في مفاصل الدولة منذ استقلالها. ولئن كان عنوان الكتاب نفسه مثيرا للتساؤل، فالمؤلف لا يشير في الكتاب بوضوح لطبيعة هؤلاء المستوطنين في دارفور الذين أحالوها إلى مستوطنة، مع ما تشير إليه هذه الكلمة من مدلولات وحمولات. أما العنوان الفرعي للكتاب: "ريثما يتم الجلاء"، فكذلك لا يشير الكاتب إلى ما يعنيه بالجلاء، ومن هم أولئك المفترض أن يجلوا، أو بوضوح أكثر: أن يتم إجلاؤهم أو إجبارهم على الجلاء. غير أن القارئ للكتاب ستساعده القراءة بين السطور، وأحيانا في السطور ذاتها، بل إنه لن يحتاج لبذل مجهود كبير، للوصول إلى أن المعنيين بالمستوطنين هم الشماليون أو الجلابة، الذين يشير إليهم الدكتور مادبو مرة بالعصابة النيلية ومرة بالنخب المركزية الوسط نيلية، واصفا إياهم مرة بالسفلة ومرة بالأجلاف وغير ذلك من الأوصاف، وأن الجلاء المعني هو جلاء هؤلاء الجلابة المستغلين لخيرات المستوطنة (دارفور)، منذ استقلال البلاد، بل ربما من قبل ذلك بنحو نصف القرن يوم أن ألحق الاستعمار الإنجليزي دارفور المستقلة قبلها لقرون، بالسودان.
وعوداً إلى عنوان الكتاب ومصطلح المستوطنة، نجد الأستاذ غسان علي عثمان في استضافته للدكتور مادبو في برنامجه " الورّاق" (1)، قد سأله بوضوح عما يعنيه بالمستوطنة. فرّد الدكتور بكلام كثير بعضه غير ذي صلة بالموضوع بطريقة مباشرة. ولكن ما يمكن الخروج به بعد ملاحقة الأستاذ غسان للدكتور، أن المستوطنين في رأي الدكتور الوليد وبنص إفادته هم " النخب المهيمنة (التي) كشفت عن مآربها ومقاصدها، فهي كانت تود الاستمرار في استغلال موارد الهامش شرقا كان أم غربا، ولكنها نتيجة لسوء تصرفاتها وانشغالها بمعركة الجنوب ومحاولة حسمه عسكريا، فضحت هويتها وفقدت إمكانية السيطرة على الهامش". لم أستطع في الحقيقة رغم اجتهادي أن أفهم أو أفسر هذا الكلام. وبالطبع فالنخب المهيمنة التي أشار إليها الدكتور هم مجموعة معينة ورد الحديث عنا بإسهاب وبكثافة عبر فصول الكتاب. أما بالأخيرة في وصف المستوطنة، فيوضح الدكتور في ذات اللقاء أنه يعني: " أخيرة لأن النخب المركزية فقدت امكانيتها في السيطرة المادية والمعنوية"، على المستوطنة التي سعى المستوطنون فيها إلى: " أن تستبقي إثنية أو قبلية معينة في إطار جغرافي معين تستغل الموارد المادية بتاعتهم مستخدما السيطرة التاريخية المعنوية بتاعة النخب المركزية والسيطرة المادية"، فهذه النخب المركزية بحسبه "أرادت ان تستبقي دارفور في هذه الخانة لتستغل مواردها"! وما بين الأقواس كله من حديث الدكتور الوليد. واللقاء المذكور مبذول على موقع اليوتيوب في الشبكة العنكبوتية.
وعودا إلى الكتاب بمجمله، نجد السيد صلاح شعيب قدّم للكتاب تقديماً ضافياً في ست صفحات عنونه ب "مقالات للتنوير، ومواقف للتثوير". وفيها يصف السيد شعيب قلم الوليد بالتميز، و"باختياره المنازلة الفكرية وسيلة للإصلاح المجتمعي"، حيث أن "التوطين لقداسة المفاهيم المتكلسة، والأشخاص الفاشلين، ضارب بلا هوادة في الشغل الفكري والثقافي للنخب المركزية" بحسب تعبير السيد شعيب، والتي، أي هذه النخب المركزية، وبتعبيره أيضا: " تتواطأ ضد تفكيك الواقع المزري برؤى ومنهجيات جديدة". والحال كذلك، يرى شعيب في موضع آخر من التقديم أن كاتب الكتاب، الدكتور الوليد: "يستهدف العنصرية المركزية للدولة وكيفية تمزيقها لدارفور ومكوناتها"، هذه الدولة المركزية التي يرى شعيب – متفقا مع الوليد، أنها: " ضربت إسفين الوئام في الإقليم منذ نشوء الدولة الوطنية". وعطفا على ذلك يرى كاتب التقديم أن " الوليد بقلمه المختلف مع إرث التركية الاستعمارية (هكذا)، جابه صنوفا من الابتزاز والأذى الشخصي، والتهميش لدوره الثقافي". ربما كان ذلك الاعتقاد هو السبب الذي جعل السيد شعيب يقرر أن "مثل الوليد مدخر لزمان آت بخطابه المعاكس للطائفية ...فلابد أن نجمه سيسطع حين تأتي مرحلة الديمقراطية الفيدرالية التي يملك لها تصورا متكاملا". لم أستطع في الحقيقة الوقوف على مظاهر هذا الابتزاز والأذى الشخصي والتهميش الثقافي الذي جابهه الدكتور الوليد بحسب الأستاذ صلاح شعيب، فكاتب الكتاب من الذين تستضيفهم القنوات السودانية المفترض أنها تتبع بالضرورة للنخب المركزية ولدولتهم الغاصبة، وهو من الذين تفتح لهم الصحف كذلك صفحاتها، بينما في ذات الوقت يحرم ذلك على مفكرين من مناوئي السلطات ممن هم في الصف المتهم بالهيمنة وتهميش الآخر. ولم أستطع كذلك الوقوف على اختلاف الكاتب مع إرث التركية الاستعمارية، بل وما طبيعة هذا الإرث؟ فإن كان هذا الإرث هو ما سارت عليه الدولة الوطنية فيما بعد، فالوليد هو سليل هذه الدولة ووالده كان وزيرا للدفاع في بعض حقبها. على كل حال جاء التقديم الذي كتبه الأستاذ صلاح شعيب متفقا بالكلية مع الفكرة المركزية للمقالات في الكتاب، بل إن شعيب يرى أن تراث الماضي الذي تمثله – بالضرورة- سلطة النخب المركزية- "لا يقل بشاعة عن تراث النازية"! وأكتفي هنا بعلامة التعجب دون الخوض في تفنيد ذلك، إذ الغرض الأساسي من هذه الكتابة هو عرض ونقاش الكتاب وأفكار كاتبه فيه، لا كاتب المقدمة له. إنما بالطبع لا يمكننا التغاضي عن بديهية فكرة اتفاق الكاتب مع من كتب المقدمة لكتابه هنا.
وصَف شعيب كتابة الوليد ب "ذات الطابع الموشى بالنفس الصوفي الليبرالي، وبالحياكة الفنية والمعاني الجزلة والمفاهيم العقلانية المنضودة بحجج دامغة"، وبمضاء الفكرة وسحر البيان. أما المؤلف نفسه فقد ضمه شعيب "للمفكرين والفلاسفة والمصلحين الاجتماعيين والثقافيين والمبدعين والأنبياء على مر التاريخ، الذين لا يثورون المعاني فحسب، وإنما كذلك اللغة أو أداة التواصل"، بحسب تعبيره، ولا تعليق لديّ هنا، فتقييم مثل هذا الخطاب متروك للقارئ.
في الحقيقة لا تخلو لغة المؤلف من الجزالة، ولكن هناك عدد من الأخطاء الإملائية التي يمكن رصدها وبعض التكرار الطفيف، ولكن ذلك غالبا نتاج الهفوة لا الجهل. ولكن أفكار الكاتب المبثوثة في الكتاب، هي أفكار جديرة بالنقاش وتكشف جانبا مهما من طريقة تفكير ونظرة المثقفين والمفكرين من النخب غير المركزية، أو من نخب ما صار يعرف بهوامش السودان الجغرافية، أو قل النخب من المكونات العرقية خارج السودان التاريخي، نظرتها لما تعارفوا عليه بالمركز ولسكانه، والتعامل معهم ككتلة واحدة حمّلوها وزر تخلف مناطقهم، متجاوزين في ذلك الأسباب التاريخية والموضوعية، بل وهو مهم كذلك، متجاوزين مسؤوليتهم ومن يمثلونهم في بعض هذا التخلف، نافين أي دور لهم أو لمجتمعاتهم في ذلك.
يرى المؤلف أن من يسميها بالنخب المركزية هي السبب الرئيس فيما حاق بدارفور من تخلف وما لحق بها من حروب. ففي الفصل الأول من الكتاب يشير الكاتب بوضوح إلى أن هذه النخب قد تسيّدت المشهد السياسي "دونما وجود أدنى مقومات مادية، بشرية أو حتى فكرية، إنما فرية الاستحقاق التاريخي. وذلك منذ قيام دولة سنار". بالطبع من الصعب تجريد مجموعة من الناس من كل الصفات المذكورة أعلاه، ولكن عوضا عن نقاش ذلك فقد كان سيكون من المنصف للكاتب النظر في الأسباب الموضوعية التي صعدت بتلك النخب، من انتشار التعليم في مناطقها ومن تركيز مشاريع التنمية -على محدوديتها- هناك من قبل الانجليز. على كل حال ربما كان من غير المنصف إطلاق مثل هذه الأوصاف على مجموعة سكانية أو شعوب بمجملها، اختلفنا معهم في سياسات من اعتبرناهم يمثلونهم أو اتفقنا. كذلك فإن مصطلح "الاستحقاق التاريخي" الذي تبناه الكاتب يتجاوز مسألة أن هذا الاستحقاق إن وُجد، فمن المنطقي أن خلفه أسباب موضوعية كان الأجدر به مناقشتها وتفنيدها لتوكيد بطلانه، أي الاستحقاق. قريب من ذلك تتبني خطابات المظلومية في دارفور وغيرها من بعض مناطق السودان الإنجليزي مصطلح الامتياز التاريخي، نافية عنه هنا صفة الاستحقاق، إنما دون تفنيد أيضا لأسباب هذا الامتياز وكيف صار تاريخيا في بلد حديث التكوين بخريطته الحالية، بل وحتى هذا التكوين صنعه الاستعمار. والحال كذلك، يصبح من العجيب أن يرى البعض في المساس بالخريطة التي صنعها الاستعمار لمصالحه جريمة كبرى ومؤامرة لا شك فيها، بينما لا يعتبر الحفاظ على خريطة الاستعمار ذاته باسم الوحدة مؤامرة وجريمة!
يشير الكاتب في غير موضع من الكتاب إلى ما يسميها بالإبادة العرقية في دارفور، ويحمل مسئولية هذه الإبادة للنخب المركزية والشماليين على وجه العموم. وذلك منطق غريب في الحقيقة. فإذا تجاوزنا مسألة أن الإبادة العرقية نفسها لم تثبت في حرب الدولة المركزية ممثلة في الجيش السوداني ضد الحركات حاملة السلاح ضده في دارفور، فإن المتهم الرئيس بهذه الإبادة هي القبائل العربية في دارفور المتحالفة مع الجيش السوداني وقتها، والتي ينتمي إليها كاتب الكتاب، وبالتالي فليسوا هم الجلابة أو الشماليون على وجه العموم. ومسألة الإبادة نفسها بالطبع لم تكن سياسة منهجية للجيش السوداني في تلك الحرب، بل تبنت هذه الرواية جماعات الضغط في الولايات المتحدة الأمريكية مثل تحالف أنقذوا دارفور وغيره، في الحملة الكبيرة التي راجت وقتها وكان لناشطي دارفور وسياسييها دور كبير في ذلك، ولكن الأمم المتحدة أو أيا من المنظمات الدولية لم تثبت هذه المسألة. ولكن ذلك بالطبع لا ينفي أن المجموعات العربية المتحالفة مع الجيش السوداني وقتها استغلت الوضع لتنفيذ أجندتها الخاصة ومحاولة، بل والشروع في، الإبادة العرقية والتهجير للقبائل الإفريقية في دارفور، أو من يتم الإشارة إليهم في بعض المصادر بالزُرقة. للصراع بين العرب والزرقة في دارفور تاريخ طويل، ولكن كاتب الكتاب يرُّد جذور هذا الصراع لتدخل النخب المركزية الشمالية وتأجيجها للحرب هناك. فنجده يقول: "قد كان دأب الإنقاذ تثوير مكونات الهوية لتصبح تناقضات وتفعيلها حسب ما تقتضي الحاجة. ربما نظرت يوما إلى مجتمع السودان، دارفور خاصة، فوجدته متجانسا، فلم تجد بدا من الاستقواء بالأقلية ضد الأكثرية، بالرحل ضد المزارعين، بالزرقة ضد العرب، إلى آخره من التضاد - منها ما هو وهمي ومنها ما هو واقعي-، فأحالته إلى ذرات وقد كان هيئات...". من العسير بالطبع الدفاع عن سياسات فترة الإنقاذ في السودان، ولكن من المهم كذلك الإشارة إلى أن فترة الإنقاذ التي يصفها الكثير من السودانيين بأنها أسوأ فترات الحكم في السودان، هذه الإنقاذ التي يتبرأ منها من شاركوا فيها اليوم بعد سقوطها، كان بعض أسباب رسوخها في أول أيامها بذل هؤلاء الدارفوريين أنفسهم في جهاز أمنها سيء السمعة بالذات أول عهدها. لا يعني ذلك بالطبع إدانة فصيل من الشعب دون غيره وتحميله وزر الإنقاذ، فالإنقاذ في نهاية الأمر هي بعض التعبير عن الشخصية السودانية. ولكن الدكتور الوليد يميز بوضوح في مقالاته بين جماعتين، وفي كثير من الأحوال بين شعبين: شعب دارفور المضطهد والمظلوم مسلوب الموارد ومقموع الإرادة، وشعب الشمال الظالم. ولكن عوداً إلى الاقتباس أعلاه من حديثه، فأنه لمن الغريب وصف مجتمع دارفور بالذات بالمجتمع المتجانس الذي خرّبته الإنقاذ كما في وصف الدكتور، فالحقيقة التي لا مراء فيها أن مجتمعات دارفور ظلت ولآماد طويلة في حال تناحر واقتتال من قبل ضم الانجليز الإقليم للسودان النهري كما في تعبير الدكتور محمود ممداني في كتابه المهم "دارفور: منقذون وناجون" (2). ورغم ذلك التجانس الذي يقول به المؤلف، نجده في موضع آخر من الكتاب يقول بأن " الحرب بين القبائل العربية تكاد تفوق من ناحية إحصائية عدد المنازعات بينها وبين القبائل الأخرى، كلما ماتت جذوتها وجدت من يزكيها خشية أن يتكرر نموذج المهدية فيؤول الحكم إلى الأقلية (الأكثرية المستضعفة)".! وما بين الأقواس هو من عند المؤلف بالطبع.
وعن النخب المركزية مرة أخرى، يقول الكاتب إنها، "والأيديولوجية منها خاصة"، قد تسيدت المشهد "منذ قيام دولة سنار المحتفى بها". أما سنار ذاتها عنده فهي " الفترة التي تكرست فيها كل الخصائص السالبة في الشخصية السودانية (العنصرية، الانتهازية التواكلية، إلى آخره)، والتي ما زالت تعيق إمكانية النهضة القومية". وفي موضع آخر يصف الوليد هذه النخب "بالنخب السودانية المتوهمة أيلولة الحق الإلهي إلى طوائفها وأعراقها وجهاتها". ويشير الكاتب إلى معرفته بنفسية النخب المركزية، بل بنواياها، فهم " يريدون أن يقتلعوا دارفور من مرتكزاتها الوجدانية والتاريخية"، وإن عنّ لك التساؤل عن سبب ذلك، فالكاتب لديه التفسير، فذلك بحسبه: لأنها، أي هذه النخب "أحست باننا سنستعيد وحدة هذا الشعب ولو بعد ألف عام، فهم -أي هؤلاء السفلة..."، (ووصف السفلة من كاتب الكتاب)، "يريدون ضمن ما يريدون اقتلاع شعب دارفور من الفضاء الصوفي المغاربي وإلحاقه بالفضاء السلفي السني والفضاء المشرقي المفعم بروح الاستبداد، وجعل شعب دارفور شعبا ملحقا ليس له قرار! "
في الحقيقة لا يسعني إلا التعجب من الثقة التي يتحدث بها المؤلف عن معرفته بنوايا النخب المذكورة، بل وأكثر من ذلك ثقته في تمسك الشماليين بدارفور وبحرصهم على استتباعها لدولتهم، فدارفور كما هو معلوم ضمها الانجليز للسودان في القرن الماضي، تنفيذا لأجندة استعمارية تخصهم ووفق رؤيتهم لصراع القوى العظمى وقتها. أما الشماليون أنفسهم، ففي الحقيقة ورغم أنه ليست هناك دراسات أو إحصائيات في هذا الشأن، فيمكن القول إن الغالبية العظمى منهم لا تعرف الكثير عن دارفور، بل ولا تأبه كثيرا لمسألة بقائها ضمن السودان النهري كما يسميه الدكتور محمود ممداني في كتابه القيم الذي أشرنا إليه أعلاه. بعض أسباب ذلك أن اتجاه الشماليين الطبيعي هو نحو القرن الإفريقي متمثلا في أثيوبيا وأريتريا، وإلى حد أقل الصومال، وإلى الشمال الإفريقي، متمثلا في مصر بالذات، وكذلك شرقا ما بعد بحر القلزم، أقله لأسباب دينية معروفة تجاه الأراضي المقدسة. والتداخل الثقافي والوجدان المشترك للسودانيين النهريين هو أقرب لهذه الثقافات بما لا يقارن مع قربه أو تداخله مع ثقافات غرب افريقيا التي تنتمي إليها دارفور. وقريبا من هذا الرأي ربما، يقول الكاتب في معرض حديثه عما يسميها "المركزية التي تولدت عنها الهرمية العرقية وبالتالي العنصرية"، إن "تشاد ارتبطت بالزنوج في مخيلة الخاصة والعامة في وقت كانت فيه النخب المركزية (وبالتحديد نخب مؤتمر الخريجين) جاهدة لنيل اعتراف من العرب (عرب الخليج)، ولذا فقد أدرنا ظهرنا للجارة تشاد ولم ننتبه إلى أهميتها الجيواستراتيجية إلا بعد أن توالت علينا الصفعات الموجعات". انتهى الاقتباس. بدا لي أن مسألة الهرمية العرقية هذه لطالما اُستُغِلّت في السودان باعتبارها صنوا للعنصرية. ليس ذلك تبريرا لما سماها الكاتب بالهرمية العرقية، ولكن الهرمية العرقية بهذا المفهوم هي ممارسة وسلوك بشري لم تفلح القوانين في القضاء عليه وإن نجحت في أماكن كثيرة في لجمه بالقوانين، ذلك بالطبع دون إغفال جهود الأديان في كبح مظاهر التعالي العرقي البشري. ومن يُتهمون بالعنصرية ضد الزرقة في السودان من الشماليين مثلا، هم أنفسهم ضحايا العنصرية في خارجه من العرب الآخرين كما يتبدى عند كل منعطف، ولكن ذلك لم يولد إحساسا بالمظلومية والبكائية الدائمة لدى مستعربي السودان من قبائل الوسط والشمال والشرق تجاه العرب على وجه العموم، وذلك بمعرفة كل من الطرفين هنا لموضعه والحدود الفاصلة بينهما عرقيا، بل وباعتزاز عرب السودان ومستعربيه بأنفسهم وإرثهم الحضاري، لا يضرهم من ضل طالما اهتدوا لأنفسهم. رغم ذلك لا يخفى في كثير من الحالات غبطة الكثير من مستعربي السودان واحتفائهم بمديح العرب لأمانتهم وبعض أغنياتهم وكذا، ولذلك أسباب عديدة، منها أن الهوامش دائما في توق للتشبه بالمركز، والسودان بالطبع من هوامش العروبة إن نظرنا إليه في هذا الإطار. ولكن الشماليون في الإطار العام يعرفون موضعهم من العروبة دون ابتذال وخطاب مظلومية، وهذه المسألة، أي انتباه السودانيين الشماليين لهويتهم الخاصة، تعاظمت في العقود الأخيرة. ما وددت قوله هنا أنه وإن كانت هناك هرمية عرقية في السودان، فالواجب هو حفظ حقوق المتضررين بالقانون كما هو حاصل في كل العالم، لا بخطاب المظلومية. ومن الغريب في قول الكاتب المقتبس أعلاه أن نخب مؤتمر الخريجين سعت جاهدة لنيل اعتراف عرب الخليج، فالخليج وقتها لم يكن بوضعه الجيواستراتيجي الحالي، ولا كان مصطلح الخليج معروفا وقتها، ففي ذلك الوقت كانت هناك مصطلحات الجزيرة العربية والمملكة الهاشمية والدولة السعودية وغيرها، ولكن الخليج لم يكن معروفا بوصفه العربي الحالي بذات الدرجة وقتها، ولا بأهميته الحالية. ربما كان أكثر معقولية لو سلمنا بهذا المنطق جدلا، القول بأنهم سعوا لنيل الاعتراف المصري ووحدة وادي النيل، مع أن ذلك رغم جدليته لا يعكس الحقيقة كلها. وعلى كل حال فالكاتب يرى إجمالا أن "خيانة الأعراب معروفة عبر التاريخ والخير كل الخير في فك الارتباط منهم وإلى الأبد". ويضرب مثالا لذلك دعمهم تمرد جنوب السودان، ودفعهم الأموال لشركة شيفرون كي لا تستخرج بترول السودان. إن مسألة دعم دول عربية بعينها للتمرد في جنوب السودان لا ترجع بالضرورة لكونها دولا عربية، بل هي جزء من تقاطعات السياسة في المنطقة وتجاذب المحاور. أما مسألة شركة شيفرون الأمريكية وتوقفها عن العمل في استخراج البترول في السودان بتحريض من الدول العربية النفطية، فقد راجت في فترة من الفترات ووجدت سوقها في السودان كجزء من نظرية المؤامرة على السودان وأسباب قعوده وتخلفه، ولكني لم أجد لها مرجعا أو مصدرا موثوقا، ولكن بما أن الكاتب أوردها هنا كحقيقة مسلّم بها، فربما كانت لديه مراجعه أو مصادره التي لم يذكرها. وامتدادا لذات المعنى يستنكر الكاتب على الرئيس الأسبق جعفر نميري أن يرتدي العباءة في لقائه الشيخ زايد ثم هو يتوشح العاج عند انتقاله لجنوب السودان دون أن يحس بتعارض في سلوكه. بصورة شخصية لم يبد لي أن هناك إحساسا بالتناقض كان ينبغي أن ينتاب النميري، فهو هنا كما قال عبد الحي (3): تائه عاد يغني بلسان ويصلي بلسان، في توصيف حصيف للشخصية السودانية الوسط نيلية أو قل السودان القديم، ولكنها بالطبع شخصية السودان الذي تمثله سنار التي يرفضها الكاتب.
وعن النخب المركزية مرة أخرى يقول الكاتب إنها ظلت "تسخر موارد غرب السودان منذ الاستقلال وما قبله لصالح الطبقة الطفيلية التي ظلت تستفيد من الثمرة في الفول السوداني، حب البطيخ، الصمغ العربي، المواشي ... الخ، دون أن تفكر في تخصيص نسبة من العائدات لتطوير البحث العلمي أو زيادة الوعي الإنتاجي أو انشاء بنية تحتية". في الحقيقة لا يخلو هذا القول من الوجاهة في مسألة عدم تخصيص نسبة من العائدات لتطوير البحث العلمي، ولكن ذلك بالطبع ينطبق على كل السودان وليس على غربه الذي خصه الكاتب بالذكر، وذلك بالطبع بعض عوار الحكومات السودانية منذ الاستقلال، ولكن هذه الحكومات هي في النهاية تمثل الجلابة وتعبر عنهم في رأي الكاتب.
ومن الأمثلة التي يستدل بها الكاتب هنا على استهداف النخبة المركزية لدارفور، ما سماه باعتماد الجبهة الإسلامية "الفوضى الخلّاقة" كوسيلة لضرب الولاءات التقليدية، واستتباع الريف من خلال التمكين لنخب طفيلية"، - وغالب الظن أنه يعني بالولاءات التقليدية الإدارات الأهلية التي ينحدر هو من بعضها - ومن ذلك أنها – أي الإنقاذ -: "فتحت أبواب التصدير للزيوت بكافة أنواعها من ماليزيا وغيرها، فكسدت البضاعة وافتقر المواطن، بل عدم أي حيلة لتغطية فاتورة العلاج والتعليم مما اضطره لحمل السلاح". ورغم اتهام الكاتب للجبهة الإسلامية باستهداف دارفور وتقصدها هنا، فإنه في موضع آخر من الكتاب يناقض نفسه بالقول بأن النظام الحاكم فعل ذلك كي يطبق " موجهات منظمة التجارة العالمية بحذافيرها، إذ طلبت فتح استيراد الزيوت، فكان أن ضربت محصول الفول السوداني وحرمت منتجيه من النقد الأجنبي". فالمسألة إذن تتعلق بارتهان النظام أو قل بتنفيذه لموجهات منظمة التجارة الدولية، ولكن الكاتب لم ير في ذلك غير رغبة النخب المركزية في استتباع الريف، حتى لو كان ذلك باستيراد الزيوت! ثم انظر لتعليله لأسباب حمل السلاح: سمحت الدولة باستيراد الزيوت فافتقر المواطن واضطر لحمل السلاح. يا له من تبرير فطير للتمرد على الدولة! ولكنه ورغم إقراره في موضع آخر بأن " هناك ظروفا موضوعية لهذه النزاعات، أهمها غياب الإطار الدستوري ... الخ) “، فإنه يصر على أن النخب المركزية "تعمد في استخدامها لعبارة حروب عبثية للإيهام ببدائية شعوب الهامش". ليس الفول السوداني وحده هو ما استخدمته الدولة العنصرية في إفقار مواطن دارفور، ولن يعدم الكاتب الأمثلة، ومن ذلك قوله: "إن الحكومة السودانية تتخذ موقفا استراتيجيا ضد التنمية في دارفور، وليس أدل على ذلك من اتخاذها الحرب ذريعة لتعطيل طريق الغرب والاتجاه لتكملة شريان الشمال في ذات الوقت الذي نشبت فيه الحرب".
وعطفا على ما يعتبره الظروف الموضوعية لهذه الحروب، فهو يستغرب من عجز العقل الشمالي عن فهم وتفسير الحروب الدارفورية، فنجده مثلا يستنكر على الأستاذ حسين خوجلي تساؤله: "انتو المشكلة شنو؟"، ويقول عن هذا التساؤل أو المقولة بأنه "حاول فيها اظهار التعاطف". في الحقيقة يعجز العقل الشمالي المسالم بطبعه (حسين خوجلي مثالا هنا)، من تقبُّل أن تنشأ الحروب لأسباب خارج تصوراته للحروب وللحياة عموما. وهذا الاختلاف المفاهيمي في تقديري هو الأكثر خطرا وتأثيرا على علاقة الشمال النيلي أو السودان القديم بدارفور، وليس مسألة النخب المركزية وغير ذلك من الأوصاف. فطريقة تفكير النخب المركزية وانحيازاتها، بل وعدم كفاءتها حتى، لهي مؤثرة على السودان بأكمله وليس دارفور وحدها، وإن لم ير الدكتور مادبو ذلك. أما الاختلافات الثقافية العميقة فهي الأكثر تأثيرا، وهي السبب الرئيس في توسع الهوة بين السودان القديم ودارفور. من أمثلة ذلك التباين في أخلاقيات الحروب ما ذكره الكاتب نفسه من بعض الجرائم في حرب دارفور المتهم بها القبائل العربية، حيث ذكر بالنص إن "بقر بطن امرأة وهي حبلى في شهرها الثامن، إخراج طفلها، رفعه في الهواء وتلقيه بالحربة حتى تناظر الأم مصيره قبل أن تسلم الروح إلى بارئها، أمر يشق على المرء تصوره" ولكن انظر إلى شرح ذلك وتبريره لديه "إلا إذا قرأ في سجل الجريمة ما فعلته الإنقاذ في الزرقة بدارفور" (!!!)، ولكن الأهم هو ربما ما سيأتي بعد ذلك:" وبأيدي وأعوان قدموا من خارج البلاد! لأن أهل دارفور لم يعهد فيهم هذه الفعلة وقد تعايشوا لقرون". تحفل تقارير المنظمات الأممية بمثل هذه الممارسات المروعة والأكثر فظاعة منها، ولكن الدكتور الوليد يردها ببساطة إلى أعوان قدموا من خارج البلاد. وإذا أخذنا بهذه الحجة، فهؤلاء القادمون من خارج البلاد قد قدموا من تشاد على وجه الخصوص ومن القبائل العربية في السهل الافريقي على وجه العموم، وهي كلها أو غالبها قبائل تشكل امتدادا للقبائل العربية في دارفور أو ذات صلة بها، غير أن الممارسات الفظيعة والموثقة لسكان دارفور أنفسهم لا تقل عن ذلك. ويمكننا بالطبع إسقاط ما حدث ولا يزال يحدث في حرب 15 أبريل الأخيرة لمزيد من التأكيد، فحوادث مثل الاستهداف العرقي للمساليت في الجنينة، وحرقهم بل ودفنهم أحياء، والممارسات التي لا يتصورها العقل السليم في الجزيرة بوسط السودان، هي مما وثقته كاميرات الفاعلين أنفسهم قبل المتضررين ووكالات الأنباء والمنظمات المعنية. وغير الجنينة ففي الخرطوم نفسها والجزيرة وقراها المنتشرة كان الخطاب العنصري والعرقي بائنا بوضوح لدى مقاتلي الدعم السريع المنتمين للقبائل العربية في دارفور، بل إن هذا الخطاب صدر حتى عن إداراتهم الأهلية والمتعلمين منهم. رغم ذلك نجد المؤلف ينفي عن سكان غرب السودان بالمجمل تهمة العنصرية بقوله:" درأ "الغرابة" تهمة العنصرية عن أنفسهم وذلك بتفنيدهم مثل هذه الحجج عمليا وعلميا. من هو العنصري: الأقلية التي سعت لضرب التماسك الوجداني للشعب السوداني أم الأكثرية التي تطالب بحقوقها الشرعية ومستحقاتها الدستورية؟". (!).
يصف الكاتب القوات النظامية السودانية بالمقننة قبليا ومناطقيا. ويوضح ذلك أكثر بأنها قبليا تتكون من شوايقة وبديرية ودناقلة ونوبيين، ومناطقيا بأنها من الجزيرة والشمالية. وفي خلاصة عجيبة ومفارقة للواقع بالكلية يقول عنهم "رغم البغض والكره التاريخي الذي يحملونه لبعض"، ووجه تعجبي هنا أن هذا القول بالكراهية والبغض بين المجموعات الشمالية لا دلالة عليه ولا حتى مؤشرات. وفي هذه المسألة يقول الدكتور محمود ممداني مستدلا بما ورد عن السير لي ستاك الحاكم العام للسودان في العام 1923 من أنه "يكاد لا يوجد مجتمع محلي في شمال السودان حيث انحل التنظيم القبلي القديم، إلى حد عدم وجود أساس لإعادة إنشاء السلطة القبلية والعدالة القبلية" (2). وممداني بالذات يفرّق بوضوح شديد بين سودانين اثنين في إطار كتابه المهم الذي أشرنا إليه: السودان الشمالي الذي يسميه بالسودان النهري، والسودان الآخر الذي تمثله هنا دارفور. ففيما خص الشمال النهري يرى ممداني أنه "نتاج تاريخ من التطور الداخلي المنساب"، وهو تاريخ أطول – يقول ممداني – "من تاريخ الحضارتين العظيمتين في المنطقة، مصر والعراق، وهو لم يُحتَلّ من قوة أجنبية حتى غزته القوات العثمانية والبريطانية المتمركزة في مصر، ومن وقتها أطلق على البلد اسم السودان بصورة رسمية" (2).
ورغم وصف الدكتور الوليد لعلاقات الشماليين ببعضهم بالبغض والكره، فإنه يعود ويصفهم بالانسجام العرقي، وذلك في معرض قوله بأن دارفور متجانسة ولكن حكامها في عهد الإنقاذ هم أناس تنقصهم الخبرة الإدارية والحكمة السياسية، و"الأخطر" بحسبه أنهم – أي هؤلاء الحكام الشماليين- "قدموا من أقاليم فيها نوع (!) من الانسجام العرقي فلم يفطنوا أن التلاعب بالديار (أي الحواكير) يترتب عليه تشنج في أمر الهوية". فهو هنا يقر بالتجانس بين الشماليين رغم أنه يصفه بنوع من الانسجام العرقي! وعلى ذكر الحواكير هنا، فقد كان من المثير للدهشة بالنسبة لي، بل والتعجب، ألا يرى فيها الدكتور بأسا في دارفور ويستنكر أيلولة الأراضي للسكان الأصليين في الجزيرة والنيل الأبيض، فهو يرى بأن: "الأقدمية التي حازتها النخب المركزية في خدمة المستعمر قد بررت العنصرية التي ما برحوا يمارسونها حتى أحالوا انسان دارفور إلى مواطن من الدرجة الثانية، ليس أدل من وضعية الكنابي في الجزيرة والنيل الأبيض". مواطن دارفور الذي يتكلم عنه ويطالب بأحقيته في أراضي الجزيرة، لا يرى الدكتور سليل الإدارة الأهلية بأسا في استمرار سياسة الحواكير في موطنه الأصلي. إن التعامل مع قضية الأراضي في السودان مسألة لا تخلو من التعقيد، وهي لحد كبير مرتبطة بنظرة المواطن للدولة وتطوره المديني وبتعقيدات أخرى، ولكن عرضها بالبساطة المخلة التي ترد الأمر إلى محض العنصرية لهو من التبسيط بمكان.
وعوداً إلى مسألة الهوية، يرى الكاتب إن "حرب الجنوب لم تضع السودان على محك الهوية مثلما تفعل دارفور، لأن حرب الجنوب سُوِّق لها تارة على أنها حرب بين سيد وعبد، وتارة بين مسلم ووثني، أما دارفور فقد كشفت عورة المثقف إذ تكفلت بحمل المرآة التي يجب أن يرى فيها الأخير انفصام شخصيته واضمحلال هويته إذا ما هو استمر في تلكم المماحكة وذلكم التكلف". أي محك ذلك الذي وضع فيه السودان يا ترى؟ وقبل ذلك ما المعني بالسودان هنا؟ أهو السودان الدولة أم هي النخب المركزية العنصرية في نظر الكاتب؟ غالب الظن أنها النخب العنصرية، فإن كان الأمر كذلك فإن هذه النخب عاطلة الفكر والخالية من الامتيازات المؤهِلة لمناصبها في رأي الكاتب، كما تقدم، هذه النخب ليس من المتوقع منها الإحساس بهذا المحك. وتبريره بأن حرب الجنوب سُوِّق لها تارة بأنها بين سيد وعبد غير صحيح بالمرة، فالجيش السوداني ظل على طول تاريخه المؤسسة الأكثر تمثيلا لتنوع السودانيين، وفي خضم حرب الجنوب كان عدد مقدر من الجنوبيين أنفسهم في الجيش السوداني. وبوصفه لهذه الحرب بانها بين سيد وعبد فهو يشير هنا إلى العنصرية المستترة التي كانت ممارسة من قبل عدد مقدر من الشماليين على وجه العموم تجاه الجنوبيين، وتستصحب كذلك روايات استرقاق الجنوبيين، ولكن هذه العنصرية كان لقبائل التماس العربية في دارفور النصيب الأكبر فيها، فدون أن يعني ذلك التبرير لها، فإن عنصرية الشماليين لم ترق إلى درجة قتل الجنوبيين أو حرقهم أحياء وغير ذلك من الممارسات المبنية على العنصرية وتحقير حياة الآخر مما هو رائج في علاقة عرب التماس مع الجنوبيين، وما مجزرة الضعين إلا مثال من الحالات التي تم توثيقها. لقد كانت حرب الجنوب حرب تحرير قادها الجنوبيون للانفكاك من ربقة الدولة السودانية التي لم تلب طموحاتهم في احترام التنوع وعاملتهم دوما بالريبة والتوجس، بل وبالعنصرية ومحاولة فرض الثقافة والقيم، ولكنها لم تكن عنصرية العبد والسيد، بل عنصرية العرق المتوهم لتفوقه مسنودا بظروف موضوعية قادت لذلك، ولعل في التحاق عدد مقدر من الشماليين بالحركة الشعبية لتحرير السودان إشارة إلى سعي الشماليين، لا سيما المثقفين منهم، للخروج من هذه الدائرة. وثمة ملاحظة جديرة بالانتباه هنا، فبرغم قول الكاتب بأن حرب دارفور وضعت المثقف الشمالي في محك الهوية، فنحن لم نر اصطفافا شماليا مع حركات دارفور المحاربة للدولة باختلاف توجهاتها، كان ذلك الاصطفاف من قبل المثقفين أم من قبل الناس العاديين، عكس ما كان حاصلا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق التي ضمت أسماء شمالية من الوزن الثقيل ومن الناس العاديين. أما قوله بأن حرب دارفور كشفت عورة المثقف، وهو يعني المثقف الشمالي بالطبع، فليس له ما يسنده. فهذا المثقف على كل حال كان متسقا في موقفه من الحروب على وجه العموم، رغم ما اشتغل عليه خطاب الحركات الدارفورية من خطاب المظلومية والتهميش. هذا التهميش الذي يقول عنه الدكتور في اعتراف نادر ولكنه منقوص، قاصدا النخب: " لم تنشئ التهميش ولكنها عمدت على تكثيفه". ولكن الدكتور لا يخبرنا عمن أنشأ هذا التهميش وأسبابه في ذلك، أو الظروف الموضوعية، إن وجدت، التي قادت من أنشأ التهميش للقيام بذلك، ثم وربما هو الأهم، لم يخبرنا الدكتور عن الكيانات المحلية التي استفادت من هذا التهميش وراكمت ثرواتها المادية والمعنوية جراء ذلك، فالإدارة الأهلية التي هي بعض مظاهر بدوية الدولة، في تضاد مع مدنيتها، هي بعض المستفيدين من سطوة التهميش في تلك المجتمعات. وعلى الرغم من قوله في مرة يتيمة عن الإدارة الأهلية إن ارجاعها لا يعني أنه كفيل بملء الفراغ، فهو مقتنع بأن "انفراط العقد الاجتماعي هو نتيجة لحل الإدارة الأهلية". ولكن بدلا عن ذلك يكرر الدكتور الوليد رأيه القاطع في سوء طوية الشماليين المسيطرين على مركز الدولة، فهذا المركز عنده هو " مركز متخندق انعدم فيه الحس الوطني والأخلاقي، وأصبح يفضل أن يبقى السودان على حاله وإن استشعر الكل خطورة التشظي، حتى لا يخرج عن الطوع". لا ينفك الدكتور الوليد يؤكد على عنصرية الدولة السودانية بمختلف تمظهراتها، فعلى الرغم من إقراره بأن مشكلة دارفور سابقة لحكم الإنقاذ، فهو يصر على أنها فاقمتها: "الإنقاذ لم تخلق مشكلة دارفور، ولكنها إذ تعاملت معها بمنطق أمني فقد فاقمت من حجمها وعقّدت أمكانية حلها". ولكنه بعد ذلك يشير إلى أن مشكلة دارفور لم تنجح في شيء " قدر نجاحها في فضحها للدولة السودانية، والتي هي بالإضافة إلى اشكالاتها البنيوية، فهي دولة عنصرية في العمق، وروحها نتنة في الأصل". ويكرر الكاتب ذلك مرة أخرى في موضع آخر بقوله إن " الدولة السودانية عنصرية، وهي في كل الأحوال منحازة ضد الزرقة". من الواضح أن كل الطرق تؤدي إلى عنصرية دولة النخب المركزية، ولا عزاء لأبناء النخب مدعي الاستنارة ودعاة الوطن الواحد والوجدان المشترك، ولا عزاء لأبناء النخب والشماليين عموما الذين أسقطوا نظام آبائهم من النخب وهتفوا بوجه النظام: يا عنصري ومغرور/ كل البلد دارفور، وغير ذلك من الشعارات التي اتضحت مفارقتها للواقع بعد حرب 15 أبريل. فهذه النخب المتسيطرة مركزيا بتعبيره، تدرك بأن القوة بينها وبين الهامش غير متكافئة كما يقول، لذا فهي تسعى لإفقار الرحل الذين يتكون منهم حرس الحدود وإيهامهم بالعوز (كتبت العوذ بالذال). ويقول في موضع آخر: " لقد استنفدت نخب المركز كل الحيل ولم يبق لها غير العنصرية وسيلة لاستمداد الشرعية"، وفي موضع آخر: "إنني استخدم مصطلح نخب لأن المؤامرة لا تختصر على السياسيين إنما أيضا على المفكرين الذين يقاومون بشدة ولوج مثقف الريف أو المثقف الريفي ... إلى وسط الدائرة ". وهذه النقطة الأخيرة في غاية الأهمية، فالدكتور الوليد لا يرى فرقا بين نخب المركز على وجه العموم، سياسيين كانوا هؤلاء النخب أم مفكرين، يساريين كانوا أم يمينيين، ففي الحقيقة فهم كلهم جلابة سفلة لديه، فأي عنصرية أكثر من ذلك من شخص يصف الآخرين بالعنصرية؟ وفي وضوح بالغ وبلا مواربة يقول الدكتور في سؤال تقريري: " هل يختلف اليساري الليبرالي أو العلماني من الإنقاذي أو السلفي الإسلامي في شأن العداء للهامش والغرب خاصة؟". إن ذلك في رأيه ينطبق حتى على الأحزاب السياسية التي يقول عنها متسائلا: " هل توجد أحزاب ذات صبغة قومية أم مجرد عصابات أمدرمانية؟" ويضرب مثلا لذلك بحزب المؤتمر الوطني الذي يتساءل في شأنه: "كيف يكون مؤتمرا وهو يتألف من ثلاث قبائل؟". ربما لذلك وانطلاقا من هذه الرؤية توصل الدكتور الوليد إلى قناعته بأنه: " لا خير في طلب الانصاف من (أجلاف) نالوا ما نالوا لكون اسلافهم كانوا وكلاء الأتراك في تجارة الرق"، ثم يتبع ذلك بالقول:" ونحن من نحن ... الذين لم يتخلف أسلافنا عن خوض أي معركة وطنية ولم يعتذروا عن المخاض بظمأ أو مخمصة أو نصب يصيبهم في سبيل الله". والقوسين في كلمة أجلاف هي مني ولكن الوصف والكلمة نفسها هي من عند الكاتب بالطبع. أما ما يصفها المؤلف بالمعارك الوطنية فالحديث عنها يطول، خاصة وأنه من الواضح أن تعريف الوطن والوطنية يختلف لدى المؤلف عما هو لدينا. وكأمثلة على عنصرية الشماليين يضرب الكاتب مثالا بالروائي عبد العزيز بركة ساكن، الذي يقول عنه: " مثلا إن فوز الروائي عبد العزيز بركة ساكن بجائزة الطيب صالح للآداب بروائيته (الجنقو مسامير الأرض) لم يؤهله للاستضافة عند أي من المنتديات الأدبية في الخرطوم"، وفي مثال آخر يستعين به الكاتب نجده يقول: " بل إن الدكتور عبد الله علي إبراهيم رئيس اتحاد الكتاب اليوم، يكاد يقول "جنت على نفسها براقش" في وصفه لمحنة دارفور" ثم يقول " من حق عبد الله علي إبراهيم أن يعتقد فيما يشاء، لكن من حق اتحاد الكتاب أن يسند برئاسته إلى "أزرق" لا يخشى من زحف الزرقة". من الصعب بالطبع الرد على مثل هذه الأقوال التي لا يسندها منطق ولا واقع، ولكني في الحقيقة تعجبت لاستخدام الدكتور الوليد، وهو من هو، للغة حوارات وسائط التواصل المبثوثة بلا تدقيق ولا تحقيق، بل وبلا منطق. أما قصة وكلاء الأتراك في تجارة الرق، فمن الجيد أن الحقائق حول فرية إلصاقها بقبائل معينة في السودان دون غيرها في تعمية لحقيقة التجار الحقيقيين، من الجيد أنها في طريقها للزول باجتهاد العديد من المؤرخين السودانيين.
وعلى الرغم من انتماء الكاتب لما يعرف بالمكون العربي أو القبائل العربية في دارفور، ولديه علم لا يخفى بعلاقات مكونه مع المكونات الافريقية الأصيلة في دارفور، ويفرق جيدا في حديثه ورؤيته بين المكونين، فإننا نجده يمجد العمل العسكري من قبل القبائل الافريقية في دارفور ويصفه بالعمل الثوري والبطولي، طالما كان هذا الفعل العسكري موجها نحو الشماليين. فنجده يصف هجوم حركة العدل والمساواة على مطار الفاشر في العام 2003 ب "الضربات العسكرية الجسورة والماهرة التي أدت إلى اجتياح مطار الفاشر". أما عن الكتاب الأسود، والذي يشيع على نطاق واسع أن حركة العدل والمساواة هي من تقف خلفه، فيقول الكاتب:" لقد شهدت الثورة الدارفورية بداية التأسيس الأيديولوجي المادي في صيغة "الكتاب الأسود"، كما عرفت بالمقابل نشوء طبقة اجتماعية جديدة قتالية ترتب على صعودها ظهور اتجاهات فكرية ثورية تدعو إلى التغير والثورة". لا يسعني في الحقيقة التعرف، ولم يشرح لنا الكاتب ذلك، على ما سماها بالاتجاهات الفكرية الثورية التي تدعو إلى التغيير والثورة، فهل هي غيرها خطابات المظلومية والابتزاز بالتهميش الممارسة من قبل هذا الهجوم ومن بعده؟ ولا يعني قولي هذا تسفيه ما هو ماثل في دارفور من ضعف التنمية، مثلها مثل هو حاصل في الشمالية التي لن يذكرها الكاتب، ولا يعني كذلك إغفال الدراسات والكتابات عن هذا الأمر من قبل متعلمي دارفور، ولكنها في النهاية في غالبها إن لم يكن كلها، لا تخرج عن خطاب المظلومية ورمي اللوم على الشماليين كما يفعل الكتاب الذي نتناوله هنا.
1- ذكر هذه المعلومة المؤلف نفسه في لقائه مع الأستاذ غسان علي عثمان في برنامج الوراق بقناة سودانية 24.
https://www.youtube.com/watch?v=5p8U6fAEgsI
2- دارفور: منقذون وناجون. السياسة والحرب على الإرهاب. محمود ممداني. الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010.
3- محمد عبد الحي، العودة إلى سنار. العودة الى سنار: قصيدة من خمسة أناشيد، الناشر: دار جامعة الخرطوم للنشر.
wmelamin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العربیة فی دارفور القبائل العربیة الجیش السودانی الدکتور الولید یقول الکاتب کاتب الکتاب حرب الجنوب فی الحقیقة فی السودان ذلک بالطبع على کل حال دارفور من من الکتاب هذه النخب عنصریة فی فی الکتاب ولکن ذلک مرة أخرى قدموا من ربما کان یقول عنه فقد کان مثل هذه لا یعنی من قبل ما کان فی ذلک فی بعض إلى أن قد کان على أن دون أن من ذلک
إقرأ أيضاً:
الخروج من فقه “إدخار القوة”؟!
عين على الحرب
الجميل الفاضل
الخروج من فقه “إدخار القوة”؟!
أستطيع أن أفهم لماذا يقاتل الإسلاميون كل هذا القتال الشرس للاستمرار في السلطة، مهما كان تأثير هذه الحرب وهذا القتال، الذي يجري بضراوة وبلا هوادة، على وجود وبقاء الدولة في السودان.
وبدا على الأرض كأن الحركة الإسلامية قد تجاوزت عمليا وبالفعل، فتوي على عثمان محمد طه، التي أشارت في بدايات هذه الحرب إلي ضرورة أن يلتزم “الإخوان المسلمين” فقه “إدخار القوة”، حفاظا على كوادر التنظيم ربما لمرحلة أخرى من النزال.
ولعل اعترافات الدكتور أمين حسن عمر على شاشة قناة “الجزيرة مباشر” الاسبوع الماضي، التي قال فيها: أن الكتائب التي تقاتل في هذه الحرب، ليست كتيبة “البراء بن مالك” وحدها، وانما هنالك كتائب “البرق الخاطف” و”الفرقان” وغيرها، وأن هناك عشرات الإسلاميين يحاربون، وهم يمثلون السواد الأعظم من المقاتلين، مقرا بفقدان الحركة لألفين من عناصرها سقطوا أثناء القتال في هذه الحرب.
وكشف أمين عن موقف حركته الذي يرى أن هذه الحرب عدوان، وأن العدوان لا يمكن الرد عليه بالتسويات، بل ينبغي أن يرد ويوقف عند حده فقط.
ولعل قول امين حسن عمر يؤكد صدق ما اورده الشيخ عبدالحي يوسف في الندوة التي قال فيها: “ساق الله هذه الحرب من أجل أن يُعيد للحركة الإسلامية ألقها وقوتها، ولا أكتمكم أن عشرات الألوف من الشباب المسلم دربوا على السلاح، من الذين لم يحضروا تجربة الجهاد الأولي (الحرب في جنوب السودان)، الآن يقوم بالأشراف على هذه العملية الجهادية التي تسمي (المقاومة الشعبية)، وهو اسم الدلع كما يُقال، لأن مفردة الجهاد أصبحت منبوذة، يدربهم في المعسكرات من كانوا شبابا في فترة التسعينيات، ومعنا هنا من شارك في العمليات الجهادية وأصيب في يده واجريت له جراحة هنا قبل أيام، والانتصارات التي حصلت لا يرجع الفضل فيها للجيش أبداً، وإنما يرجع الفضل فيها بعد الله إلى المقاومة الشعبية”.
علي أية حال فقد أتاح التاريخ للإخوان المسلمين في السودان سانحة نادرة، قلّ أن جاد بمثلها لأية جماعة أو حزب اخر.
هي فرصة امتدت لأكثر من ثلاثين عاما، أحال الإخوان في غضونها وطناً كاملا، إلى مختبر كبير لتجريب فكرتهم دون أن ينازعهم في ذلك احد.
فقد صار السودان برمته خلال تلك العقود الثلاث، الي ما يشبه المجال الحيوي لممارسة النظرية الإخوانية في الحكم.
حيث اعترت الأخوان بعد نجاحهم السهل في الاستيلاء على السلطة سنة (89)، حالة تضخم للذات ظلت تقودهم دائما إلى طموح غير مشروع، وإلى نوع من الخيلاء الفكرية، التي جعلتهم يتظنون عن يقين باطل بأنه المالكون الحصريون للحقيقة.
وقد وصف الراحل د. منصور خالد هذا النمط من تضخم الذات الذي وقع، بأنه قد تفيّلت معه حتى القواقع اللافقارية.
شارحاً: أن تفيّل اللافقاريات تضاعف عندما أصبح الانتماء العقدي للحزب أو الجماعة جواز مرور لكل موقع مهني عال، سواء كان ذلك في الإدارات الحكومية، أو الجامعات، أو المؤسسات المالية والاقتصادية.
مشيرا إلي أن الظاهرة بلغت حدها الأقصى بحلول نظام الإنقاذ، تحت راية التمكين.
راية التمكين التي ضربت بجذورها في باطن الأرض بعيداً، لتنبت دولة شوكية عميقة لها تجليات، من بينها صورة ما تجري عليه هذه الحرب الآن.
الوسومالاخوان المسلمين حرب السودان كتيبة البراء