دكتور هشام عثمان

الحزازات السياسية في السودان ليست مجرد صراعات وقتية بين النخب، بل هي انعكاس عميق لواقع اقتصادي، اجتماعي، وسياسي شابته التفاوتات الهيكلية التي تكرست منذ فترة الاستعمار وحتى اليوم. عبر تحليل الاقتصاد السياسي، يمكن فهم جذور هذا التباين، وتأثيراته الممتدة على صناعة "البروليتاريا الرثة" في الأطراف، وكذلك الأبعاد النفسية والاجتماعية التي غذّت هذه الحزازات وأعاقت بناء مشروع وطني جامع.



---

الجذور التاريخية للحزازات السياسية والتنموية

1. الإرث الاستعماري والتفاوت الاقتصادي

الاقتصاد الموجه نحو الخارج:
ركز الاستعمار البريطاني على تطوير الاقتصاد بما يخدم مصالحه دون مراعاة للتوازن الجهوي داخل السودان. مناطق مثل الوسط والشمال، حيث تطورت مشاريع زراعية مثل الجزيرة، حظيت بتنمية نسبية، بينما أهملت الأطراف كدارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة.

التفاوت الإقليمي: أسس هذا التفاوت قاعدة للصراعات اللاحقة، حيث شعرت الأطراف بأنها تُستغل من أجل إثراء المركز.

2. فشل الدولة الوطنية بعد الاستقلال

الاعتماد على نموذج اقتصادي ريعي:
عانت الدولة الوطنية من غياب رؤية تنموية شاملة واستمرت في الاعتماد على تصدير المواد الخام مثل القطن والنفط، دون تطوير الصناعات التحويلية.

هيمنة المركز على الموارد: حافظت النخب الحاكمة في الخرطوم على سيطرتها على الموارد، مع تهميش الأطراف وإقصائها من عملية صنع القرار.

3. إدامة التهميش الهيكلي

تفاوت التنمية والخدمات:
تمركزت الخدمات والبنية التحتية في الخرطوم والمناطق المجاورة، بينما افتقرت الأطراف إلى أبسط الخدمات من صحة وتعليم وطرق.

استغلال الأطراف كمصادر للموارد: حوّلت الدولة الأطراف إلى مجرد خزانات للموارد الطبيعية دون أي استثمار في سكانها أو تطوير بنيتها الاقتصادية.

---

التهميش الاقتصادي والسياسي وتأثيره على الأطراف

1. ضعف البنية التحتية والتنمية الاقتصادية

إقصاء الأطراف من التنمية:
أدى ضعف الاستثمار في البنية التحتية إلى عزل الأطراف اقتصاديًا عن المركز، مما زاد من كلفة الإنتاج الزراعي والرعوي في المناطق المهمشة.

إضعاف الاقتصاد المحلي: بسبب نقص الدعم الحكومي، اعتمدت الأطراف على الزراعة التقليدية والرعي، مما أدى إلى فقر مزمن وأزمات معيشية مستمرة.

2. غياب التصنيع المحلي

الاعتماد على تصدير المواد الخام:
لم تُترجم ثروات السودان الطبيعية إلى صناعات تحويلية محلية توفر فرص عمل لسكان الأطراف.

نتيجة ذلك: بقيت الأطراف مجرد مصدر للمواد الخام دون أن تستفيد من عائدات هذه الموارد.

3. التأثيرات الاجتماعية والنفسية للتهميش

الإقصاء النفسي والمكاني:
ساهم هذا التهميش في خلق شعور لدى سكان الأطراف بأنهم خارج إطار الدولة، مما عمّق حالة الاغتراب والانفصال الاجتماعي.

إنتاج الغبن الاجتماعي: ترسخ شعور الأطراف بأنها مُضطهدة ومستبعدة من الاستفادة من مواردها.

---

البروليتاريا الرثة: الواقع الجديد في الأطراف

1. نشوء البروليتاريا الرثة

الهجرة إلى المدن الكبرى:
دفع الفقر وانعدام التنمية سكان الأطراف للنزوح نحو المدن، حيث يعيشون في أحياء عشوائية تعاني من تدهور الخدمات وفرص العمل.

تشكل هوامش حضرية بائسة: أصبحت هذه الهوامش مصدراً للتوترات الاجتماعية والسياسية، حيث يتم استغلال سكانها في النزاعات والصراعات السياسية.

2. الدور السياسي للبروليتاريا الرثة

وقود الصراعات السياسية:
غالبًا ما تُستخدم هذه الفئة كأداة من قبل النخب السياسية لتعزيز نفوذها، مع غياب أي وعي طبقي موحد لهذه الفئة يمكن أن يغير واقعها.

---

الدور السياسي للحزازات وتأثيرها على فشل المشروع الوطني

1. غياب الرؤية الوطنية الموحدة

هيمنة المركزية السياسية:
أفرزت الحزازات السياسية نظامًا مركزياً مفرطًا في الهيمنة، ما منع الأطراف من المشاركة الفاعلة في صنع القرار الوطني.

افتقار المشروع الوطني إلى الشمولية: ظلت الخطط التنموية والسياسية تُصاغ بمعزل عن احتياجات الأطراف، مما عزز الانقسام الداخلي.

2. استغلال النخب للحزازات الاجتماعية

إذكاء الصراعات القبلية والإثنية:
استخدمت النخب السياسية الولاءات القبلية والإثنية كأدوات لإحكام السيطرة السياسية، مما أدى إلى تأجيج الحزازات السياسية والاجتماعية.

إدامة الانقسامات: أسهمت هذه السياسة في إعاقة أي جهود لبناء دولة قائمة على العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية.

---

نحو حلول للخروج من الأزمة

1. إعادة صياغة الاقتصاد الوطني

تحقيق التنمية الشاملة:
يجب التركيز على تطوير الأطراف من خلال بناء البنية التحتية، وتشجيع التصنيع المحلي، وتعزيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية.

إدماج الأطراف في الاقتصاد: توجيه الاستثمارات نحو المشاريع التنموية التي تحقق العدالة في توزيع الثروة.

2. بناء عقد اجتماعي جديد

إقرار الحقوق المتساوية:
صياغة دستور جديد يعترف بتنوع السودان العرقي والثقافي، ويضمن المشاركة العادلة للأطراف في السلطة والثروة.

تعزيز الحكم اللامركزي: تمكين المناطق من إدارة شؤونها المحلية بما يحقق التنمية المستدامة.

3. إصلاح المؤسسات السياسية

تمثيل الأطراف في صنع القرار:
يجب ضمان تمثيل الأطراف في المؤسسات التشريعية والتنفيذية لتعزيز المشاركة الوطنية.

4. معالجة الأبعاد النفسية والاجتماعية

إعادة بناء الثقة الوطنية:
عبر مشاريع تنموية وإصلاحات سياسية تستهدف تعزيز الشعور بالانتماء الوطني لجميع السودانيين.

---

الحزازات السياسية في السودان هي انعكاس لواقع اقتصادي واجتماعي معقد تغذيه سياسات التهميش والفشل التنموي. يتطلب تجاوز هذه الحزازات تبني رؤية شاملة تركز على إعادة توزيع الموارد، بناء بنية تحتية متوازنة، وتعزيز العدالة الاجتماعية. فقط من خلال هذا النهج يمكن للسودان أن يؤسس لمشروع وطني جامع يتجاوز الصراعات السياسية والاجتماعية التي عطلت تطوره لعقود.

hishamosman315@gmail.com

دكتور هشام عثمان

   

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

تغيير المناهج فى سوريا وتداعياته.. بين أحمد الشرع والهوية الوطنية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

فى خطوة مثيرة للجدل، قررت وزارة التربية والتعليم فى الحكومة السورية المؤقتة تعديل المناهج الدراسية السورية بشكل شامل. هذه القرارات شملت تغييرات جوهرية فى اللغة والمفاهيم الدينية والتاريخية، مما أثار ردود فعل متنوعة فى الأوساط السياسية والمدنية السورية.
أبرز هذه التعديلات كان تغيير مصطلح "الاحتلال العثماني" إلى "الحكم العثماني"، وحذف مادة التربية الوطنية بالكامل، بالإضافة إلى استبدال العديد من العبارات التى تحمل طابعًا دينيًا أو تاريخيًا بعبارات تتماشى مع أيديولوجيا معينة.
بينما يعتبر البعض أن هذه القرارات تُمثل خطوة نحو تعزيز الهوية الإسلامية، يراها آخرون خطوة مقلقة نحو فرض أيديولوجيا ضيقة قد تؤدى إلى تهميش التنوع المجتمعي.
تحليل القرارات
١- التعديلات اللغوية والاعتبارات الدينية:
تعتبر هذه التعديلات خطوة باتجاه تحويل المناهج التعليمية إلى أداة للدعاية الأيديولوجية التى تسعى لفرض رؤية دينية ضيقة. استخدام عبارات مثل "دفاعًا عن الله" بدلاً من "دفاعًا عن وطنه" يطرح تساؤلات حول دور الدولة فى تشكيل الهوية الوطنية وكيفية توازنها مع التنوع الدينى والعرقى فى سوريا.
فى دولة تضم مزيجًا من الأديان والطوائف، من غير المنطقى أن تكون المناهج التعليمية محكومة بشكل حصرى برؤية دينية معينة، إذ يُحتمل أن يشعر غير المسلمين أو الذين لا يتبعون هذه الرؤية الدينية بالاستبعاد. هذا التوجه قد يعزز الاستقطاب داخل المجتمع السورى بدلاً من تعزيز التفاهم والانسجام بين مكوناته المختلفة.
ثانيًا: عندما يتم تغيير المفاهيم الدينية الكلاسيكية مثل "الصراط المستقيم" إلى "طريق الإسلام"، يصبح واضحًا أن هذه التعديلات ليست مجرد تنقيح لغوي، بل هى محاولة لتوجيه تفكير الأجيال القادمة نحو إطار دينى محدد، وهو أمر قد يقلل من التعددية الفكرية ويحد من حرية التفكير والتعبير.
سوريا تاريخيًا كانت تمثل نموذجًا للتعايش بين مختلف الأديان والطوائف، ومن المؤسف أن تهميش هذا التنوع فى المناهج قد يؤدى إلى تغييب مفاهيم المواطنة المشتركة التى كانت تجمع السوريين على مدار عقود. بدلاً من تعليم الأطفال احترام واحتضان التنوع، قد يتم زرع بذور التفرقة والتمييز.
أخيرًا، من الناحية التربوية، يجب أن تُعنى المناهج بالتربية على القيم الإنسانية والكونية التى تضمن حماية حقوق الإنسان والحريات العامة. فى الوقت الذى لا يمكن فيه إنكار أهمية الدين فى حياة العديد من السوريين، فإن من غير المناسب فرض رؤى دينية معينة على الأطفال والشباب فى بيئة تعليمية يجب أن تكون حيادية وتعليمية بالدرجة الأولى.
ينبغى للمدارس أن تكون مكانًا للانفتاح والتعلم، وليس ساحة لصراع الأيديولوجيات. التغييرات المقترحة قد تسهم فى نشر رؤية أحادية لا تلائم المستقبل الذى يتطلع إليه السوريون، وهو مستقبل يعم فيه التسامح والتعددية السياسية والدينية.
٢- حذف مادة التربية الوطنية وإلغاء بعض المفاهيم العلمية والتاريخية:
إلغاء مادة التربية الوطنية يعكس غيابًا واضحًا للمقاربة الشاملة لبناء هوية وطنية جامعة فى مرحلة حاسمة من تاريخ سوريا. فى وقت تتصاعد فيه الحاجة إلى تعزيز الانتماء الوطنى فى أوساط الشباب السوري، فإن حذف هذه المادة يعنى إغلاق باب التوعية بالقيم الوطنية التى كان يمكن أن تلعب دورًا مهمًا فى تعزيز التضامن الوطنى وتحفيز المشاركة الفاعلة فى إعادة بناء البلاد.
التربية الوطنية، التى كانت تسعى إلى تعريف الأجيال الجديدة بتاريخ سوريا وعراقتها، كان لها دور فى تعزيز مفاهيم المواطنة والتعايش السلمى بين مكونات المجتمع السورى المتعددة. غياب هذه المادة يعنى تقليص فرص الشباب فى التفاعل مع القيم الأساسية التى تحتاج إليها سوريا لتجاوز مرحلة الانقسام وتعزيز الوحدة الوطنية.
من جانب آخر، يتزامن حذف مفاهيم علمية هامة مثل نظرية التطور والتكوين الجينى مع تراجع فى التقدم العلمى الذى كان يسعى العديد من الأكاديميين السوريين إلى تحقيقه.
إن التراجع عن تدريس هذه المفاهيم العلمية قد يعيق تطور المجتمع السورى فى مواجهة تحديات العصر الحديث. فى عالمنا المعاصر، لا يمكن تجاهل أهمية العلوم الحديثة فى تشكيل رؤى جديدة نحو المستقبل، خاصة فى مجالات التكنولوجيا والطب والبيئة.
اختزال المناهج العلمية إلى مفاهيم دينية أو أيديولوجية قد يؤثر سلبًا على قدرة الطلاب على التفكير النقدى والبحث العلمي، ويحد من إسهامهم فى مجالات الابتكار والتقدم.
أما بالنسبة لإلغاء بعض الشخصيات التاريخية، مثل زنوبيا ودولة بنت الأزور، فهو يعد مسعىً لتقليص التنوع التاريخى والثقافى الذى شكل الهوية السورية عبر العصور. إن محو هذه الشخصيات من التاريخ المدرسى السورى يتجاهل أهمية هذه الشخصيات فى بناء الذاكرة التاريخية السورية، ويقلل من أهمية الفترات الزمنية التى شهدت تنوعًا حضاريًا وازدهارًا ثقافيًا.
من المؤسف أن يتم تغييب هذه الشخصيات التاريخية التى كانت تمثل جزءًا من التعددية الثقافية والتاريخية لسوريا. الاستغناء عن هذه الشخصيات دون بدائل فكرية قد يؤدى إلى تشويه التاريخ السورى وتحويله إلى سردية أحادية تغيب عنها الأبعاد المتعددة والمركبة التى تميز الواقع السوري.
٣- إلغاء الصور التاريخية والشخصيات الوطنية:
إزالة صور شخصيات مثل حافظ الأسد وبشار الأسد من المناهج والكتب المدرسية، رغم ما قد يراه البعض خطوة نحو التحرر من إرث نظام الأسد، إلا أنها قد تكون محكومة بمنطق انتقائى يهدف إلى محو جزء كبير من الذاكرة التاريخية السورية.
صحيح أن النظام الأسدى كان قد فرض صور هؤلاء الشخصيات كرموز وطنية، ولكن هذا لا يعنى أن إلغاء تلك الرموز بشكل كامل سيؤدى بالضرورة إلى بناء هوية وطنية جديدة.
بدلًا من هذا الإلغاء، كان من الأفضل أن يتم التعامل مع هذه الشخصيات كجزء من التاريخ السوري، وتفسير دورهم ضمن سياقهم التاريخى والسياسي. إزالة هذه الرموز دون تقديم بدائل قد يشجع على تشويه تاريخ طويل ومعقد، ويُفقد الأجيال الجديدة القدرة على فهم تطور سوريا من خلال عيون متعددة.
فى الوقت ذاته؛ يشير هذا التوجه إلى محاولة لتوحيد الرواية الوطنية بشكل أحادي، وهو ما قد يتسبب فى إقصاء العديد من الشخصيات الوطنية التى كانت لها مساهمات فى بناء سوريا على مر العصور.
إذا كان الهدف هو بناء هوية سورية جديدة، يجب أن يتضمن هذا العمل استعادة ذاكرة تاريخية تتسع لتشمل كافة الشخصيات التى ساهمت فى تشكيل هذا البلد، سواء من العهد القديم مثل زنوبيا أو من العصور الحديثة. حصر التاريخ فى رواية واحدة أو فى شخصيات محددة قد يؤدى إلى فقدان التنوع الثقافى والتاريخى الذى جعل من سوريا بلدًا فريدًا فى الشرق الأوسط.
أخيرًا، تكمن المشكلة الأكبر فى غياب استراتيجية شاملة لتقديم بدائل حقيقية للشخصيات التاريخية التى يمكن أن تمثل هوية وطنية سورية جديدة. إن إلغاء صور الشخصيات القديمة دون استبدالها بشخصيات أخرى تمثل تاريخ سوريا المشترك قد يعزز الإحساس بالفقدان الجماعى للماضي.
فى ظل هذه الحالة، يجد المواطن السورى نفسه أمام فراغ فكرى ووجدانى يصعب ملؤه، مما قد يترك الشباب السورى فى حالة من الضياع فى محاولاتهم لتحديد هويتهم الوطنية.
بناء هوية وطنية جديدة يتطلب تقديم نماذج شخصية قادرة على تجسيد القيم المشتركة والتنوع الثقافى الذى يميز سوريا، وهو ما يعجز النظام الحالى عن تقديمه حتى الآن.
٤- المخاطر المستقبلية:
إن التوجه نحو فرض أيديولوجيا دينية فى المناهج الدراسية يهدد بشكل كبير الوحدة الوطنية فى سوريا. إن سوريا تاريخيًا كانت تمثل نموذجًا للتنوع الدينى والعرقي، وكان هذا التنوع يمثل جزءًا من قوتها، حيث تشارك جميع الطوائف والمكونات المجتمعية فى بناء البلد.
ومع هذه التعديلات التى تركز على طابع دينى محدد، يصبح من المحتمل أن يعمق الفجوات بين هذه الطوائف، مما يهدد التعايش السلمى الذى كان قائمًا إلى حد ما رغم الصعوبات السياسية.
إذا استمر فرض أيديولوجيا دينية معينة على المناهج التعليمية، فإن ذلك سيسهم فى إحداث انقسامات أعمق بين مختلف مكونات المجتمع السوري، ما يزيد من صعوبة بناء سوريا الجديدة المتجددة التى يتطلع إليها الجميع.
أحد المخاطر الكبرى التى قد تنجم عن هذه التعديلات هو تعزيز فكرة "الآخر" داخل المجتمع السوري. فى بيئة تتسم بتنوع دينى وطائفى مثل سوريا، قد يؤدى التأكيد على خطاب دينى ضيق إلى إحداث حالة من الإقصاء الاجتماعي.
إذا كان التعليم فى المدارس يتوجه إلى ترسيخ فكر أيديولوجى دينى معيّن، فإن هذا قد يؤدى إلى تنمية مشاعر العداء أو الاستبعاد بين الفئات المختلفة فى المجتمع السوري.
فبدلاً من تعليم الأطفال قيم الاحترام والتسامح والعيش المشترك، فإن هذه المناهج قد تعزز مفاهيم التفوق الطائفى أو الديني، مما يهدد الاستقرار الاجتماعى على المدى البعيد.
علاوة على ذلك، فإن فرض هذه الأيديولوجيا فى التعليم قد يضعف قدرة الأجيال الجديدة على التفاعل مع العالم المعاصر. فى عالم سريع التغير، حيث تزداد العولمة والانفتاح على ثقافات وأيديولوجيات متعددة، قد يجد الشباب السورى نفسه محاصرًا فى رؤية ضيقة لا تتماشى مع تحديات العصر.
فى ظل بيئة تعليمية تسعى لفرض قيم محددة، قد يصبح من الصعب تطوير مهارات التفكير النقدى والابتكار، وهى المهارات التى تحتاج إليها سوريا لبناء مستقبلها.
هذه الأيديولوجيا الضيقة قد تحد من قدرة الأجيال الجديدة على المشاركة الفعالة فى العالم المعاصر، مما يزيد من العزلة والتخلف عن الركب الحضاري، ويعرض البلاد لمزيد من التحديات المستقبلية.
المجتمع المدنى والمقاومة الشعبية
إن المجتمع المدنى السورى يشهد فى الوقت الحالى تطورًا ملحوظًا فى قدرته على التأثير فى مختلف القضايا التى تخص مستقبل البلاد. فقد أصبح السوريون أكثر وعيًا بأهمية الحفاظ على مكتسبات التعددية والحرية التى كانوا يطمحون إليها بعد سنوات طويلة من القمع.
مع هذه التعديلات، بدأ يظهر جليًا أن هناك مقاومة شعبية منظمة ضد أى محاولات لفرض الأيديولوجيات التى قد تعمق الانقسامات داخل المجتمع. المدنيون السوريون، الذين خاضوا معارك طويلة ضد النظام الاستبدادي، يدركون جيدًا أن مواجهة هذه التحديات تحتاج إلى مواصلة العمل الجماعى والدفاع عن الحريات الأساسية.
من المتوقع أن تتجسد هذه المقاومة فى أشكال متعددة، بدءًا من الاحتجاجات السلمية وصولًا إلى تنظيم حملات إعلامية عبر منصات التواصل الاجتماعى لنشر الوعى حول خطورة هذه التعديلات.
إضافة إلى ذلك، يشهد المجتمع المدنى السورى اليوم حالة من التضامن بين مختلف الأطياف السياسية والدينية التى كانت فى الماضى قد تفرقت لأسباب سياسية أو اجتماعية.
هذا التضامن يتجسد فى محاولات التنسيق بين النشطاء والسياسيين والمثقفين الذين يسعون إلى بناء جبهة موحدة ضد محاولات الهيمنة الأيديولوجية على المناهج التعليمية.
قد تتبنى هذه الجبهة مطالبة بإلغاء التعديلات المفروضة وبتوفير بيئة تعليمية شاملة تسمح بتعليم الأطفال القيم الإنسانية الجامعة التى ترعى التعددية. وهذا سيتطلب جهودًا واسعة لتنظيم ورش عمل ومؤتمرات للتعريف بالمخاطر التى قد تنجم عن هذه التعديلات وكيفية التصدى لها.
ومع تزايد الوعى بهذه القضايا، من المحتمل أن يمتد تأثير المجتمع المدنى السورى ليشمل الداخل والخارج، حيث يعمل على بناء تحالفات مع منظمات دولية وإقليمية تدافع عن حقوق الإنسان وحرية التعليم.
قد تساهم هذه الحركات فى الضغط على الجهات التى تمارس سلطة الأمر الواقع للعدول عن هذه التعديلات أو على الأقل إدخال تعديلات عليها بما يتوافق مع المبادئ العالمية لحقوق الإنسان.
كما أن حركة المقاومة الشعبية يمكن أن تفتح الباب أمام حلول سياسية وسلمية تجمع السوريين فى مواجهة هذه التحديات، وتقوى القدرة على بناء سوريا المستقبل التى تعتمد على قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن محاولات فرض أيديولوجيات ضيقة.
الخاتمة
إن التعديلات التى أقدمت عليها وزارة التربية والتعليم فى الحكومة السورية المؤقتة تمثل خطوة قد تكون مؤلمة على المدى الطويل، إذ تهدد بتدمير الهوية الوطنية السورية المتنوعة.
فى سياقها، تصبح هذه القرارات جزءًا من صراع أكبر بين القوى السياسية والدينية التى تسعى لفرض أيديولوجياتها الخاصة على المجتمع، بينما يسعى المجتمع المدنى إلى الحفاظ على التنوع والعدالة فى ظل مناخ سياسى متقلب.
هذه التعديلات لا تعكس فقط رغبة فى تغيير المناهج، بل تسلط الضوء على الصراع بين القوى التى تحاول فرض هوية أحادية، وبين أولئك الذين يرون فى التنوع عنصرًا أساسيًا لبناء سوريا جديدة.
إن غياب التوافق على المبادئ الأساسية للمواطنة السورية من شأنه أن يزيد من تعقيد الأوضاع ويجعل من الصعب بناء هوية وطنية شاملة.
إن المأزق السورى فى الوقت الراهن يقتضى حلًا سياسيًا شاملًا بعيدًا عن أى نوع من الإيديولوجيات الضيقة التى قد تفجر الصراع الداخلى من جديد. لا بد من وجود مناخ سياسى يسمح بتعزيز المصالحة بين جميع مكونات المجتمع السوري، ويعترف بوجود التعدد الثقافى والدينى كقيمة جوهرية لا يمكن التنازل عنها.
هذا الحل يجب أن يعتمد على الحوار والتفاهم بين مختلف الأطراف السياسية والدينية، ويشمل عملية إصلاح شاملة تشمل التعليم، وتضمن حقوق الجميع بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الطائفية.
فى النهاية، المستقبل السورى يعتمد بشكل أساسى على القدرة على تجاوز هذه التحديات وصياغة مشروع وطنى قادر على استيعاب كل السوريين، وتقديم حلول عادلة تضمن حقوق الأفراد وتقبلهم المختلف.
إن مقاومة المجتمع المدنى السورى لهذه التعديلات واهتمامه بالتنوع يشير إلى أن الأمل فى بناء سوريا ديمقراطية وعادلة ما زال قائمًا. ومع استمرار هذه الجهود، فإن سورية قد تجد الطريق نحو الخلاص من التمزق والانقسام، لتصبح نموذجًا للتعايش والتعددية فى منطقة الشرق الأوسط.

مقالات مشابهة

  • تغيير المناهج فى سوريا وتداعياته.. بين أحمد الشرع والهوية الوطنية
  • مركز البحر الأحمر للدراسات السياسية يناقش ذاكرة الإعلام الوطني
  • وزارة الشؤون الخارجية تبحث السبل المثلى لإشراك الجالية الوطنية في مسار التنمية
  • بـ30 مليار جنيه.. إشادة برلمانية بمبادرة دعم الصناعة الوطنية.. نواب: قفزة لصالح الاقتصاد الوطني.. وتعزز تنافسية المنتجات المصرية في الأسواق العالمية
  • برلماني: مبادرة دعم الصناعة الوطنية قادرة على إحداث قفزة لصالح الاقتصاد الوطني
  • عضو التحالف الوطني: نعمل على تحقيق التنمية المستدامة عبر مبادرات رائدة
  • التحالف الوطني للعمل الأهلي يعزز التنمية في المحافظات.. تعرف على التفاصيل (فيديو)
  • ضياء رشوان: حزب الجبهة الوطنية ينافس تدريجيا في الحياة السياسية
  • وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي تصدر تقريرًا حول تطورات الشراكات مع بنوك التنمية متعددة الأطراف
  • 4.2 مليار دولار تمويلات مُيسرة من المؤسسات الدولية وبنوك التنمية متعددة الأطراف للقطاع الخاص في مصر