السودان يعيش مرحلة تاريخية حرجة، تمثلها صراعات سياسية واجتماعية معقدة وأزمات اقتصادية متفاقمة، مما يخلق مناخًا ملائمًا لإعادة صياغة الخطاب السياسي. يظهر هذا التحدي بوضوح في الصراع بين رؤى الشباب السوداني الطامح للتغيير والتيارات السلفية المحافظة المتمسكة بالنموذج التقليدي للهوية الدينية والاجتماعية.
هذا المقال يحلل بعمق ملامح الخطاب السياسي الجديد الذي بدأ يتشكل، والصراع بين القوى الشبابية والتيارات السلفية، مع محاولة استشراف مستقبل هذا الخطاب في ظل التحديات الراهنة.


الخطاب السياسي للشباب السوداني: رؤى متجددة وتطلعات حداثية
رفض القيود التقليدية
يقود الشباب السوداني حراكًا فكريًا واجتماعيًا يتجاوز الأطر التقليدية التي حكمت السياسة السودانية لعقود. تطلعاتهم لا تقف عند حدود الأيديولوجيات الموروثة أو الانقسامات القبلية والدينية، بل تنطلق نحو بناء دولة مدنية شاملة تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
يرى الشباب أن الأنظمة التقليدية كانت سببًا في تعقيد الأزمات السودانية، سواء بسبب الاعتماد على الخطابات الشعبوية أو التوجهات الشمولية التي أخفقت في تحقيق الاستقرار والتنمية.
التركيز على القضايا العملية
تبتعد خطابات الشباب عن الشعارات الكبيرة وتقترب من مشكلات الناس اليومية مثل البطالة، الفساد، نقص الخدمات، وانعدام العدالة الاجتماعية. يدركون أن التحول الحقيقي يبدأ من معالجة هذه القضايا، مع رفض الخطابات الإقصائية التي عمقت الانقسامات في الماضي.
استخدام التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي-
ساهمت التكنولوجيا الحديثة في تشكيل وعي الشباب وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصة مركزية لنشر آرائهم، تنظيم الحركات الاحتجاجية، وإيصال رسائلهم. هذه المنصات، برغم قيودها، أضفت طابعًا ديمقراطيًا على الخطاب الشبابي، حيث وفرت لكل فرد مساحة للتعبير والمشاركة.
رفض الشمولية
يتميز خطاب الشباب برفض أي شكل من أشكال الحكم الشمولي، سواء كان تحت مظلة أيديولوجية دينية أو سياسية. يسعون إلى نظام يحترم التعددية، ويمنح الجميع حقوقًا متساوية دون تمييز على أساس الدين، العرق، أو النوع.
التيارات السلفية: قوة محافظة في مواجهة التغيير
التمسك بالهوية الإسلامية
تعتبر التيارات السلفية نفسها المدافع الرئيسي عن الهوية الإسلامية في السودان. ترى هذه التيارات أن الشباب المتأثرين بالعولمة والثقافة الغربية يمثلون تهديدًا لهذه الهوية، وهو ما يدفعها إلى تبني خطاب يحذر من "التغريب" ويدعو للتمسك بالشريعة الإسلامية كمرجعية لكل مناحي الحياة.
خطاب تقليدي في مواجهة الحداثة
تتبنى التيارات السلفية خطابًا يمزج بين الدعوة الدينية والنقد الاجتماعي، ويركز على القيم الأخلاقية والتقاليد السودانية الأصيلة. هذا الخطاب يحظى بدعم كبير في المناطق الريفية والأحياء الشعبية، حيث تمثل البنية الاجتماعية المحافظة بيئة ملائمة لنفوذ هذه التيارات.
استخدام المؤسسات الدينية والتعليمية
تمتلك التيارات السلفية أدوات مؤثرة مثل المساجد، المدارس القرآنية، والقنوات الإعلامية التقليدية، التي تُستخدم لنشر أفكارها وتعزيز حضورها الاجتماعي. ورغم أن تأثيرها قد يكون أقل في المدن الكبرى، إلا أنها تبقى قوة سياسية واجتماعية لا يُستهان بها.
التقاطع والصدام بين الشباب والسلفيين
قضية الهوية الوطنية
يشكل مفهوم الهوية الوطنية محور الصراع بين الطرفين. الشباب يدافعون عن مفهوم المواطنة المتساوية، بينما تربط التيارات السلفية الهوية بالدين الإسلامي، ما يؤدي إلى خلاف جذري حول طبيعة الدولة السودانية.
الحريات الفردية
يؤمن الشباب بحرية التعبير، الاعتقاد، والاختيار الشخصي كحقوق أساسية لأي نظام ديمقراطي. في المقابل، ترى التيارات السلفية في هذه الحريات خطرًا على النسيج الاجتماعي وتروج لفكرة أن الحرية يجب أن تكون ضمن ضوابط الشريعة.
قضايا المرأة
الشباب يدعمون المساواة بين الجنسين وحقوق المرأة في كافة المجالات، بينما تتبنى التيارات السلفية مواقف تقليدية تقيّد دور المرأة في المجتمع، معتبرة أن هذه القيود تعزز "حماية الأسرة" و"تماسك المجتمع".
نظام الحكم
يدعو الشباب إلى دولة مدنية تفصل بين الدين والسياسة، بينما ترى التيارات السلفية أن الشريعة يجب أن تكون مصدر التشريع الأساسي. هذا الصراع يمثل نقطة محورية في تحديد شكل النظام السياسي السوداني القادم.
التحديات أمام الخطاب السياسي السوداني الجديد
الانقسامات المجتمعية
ما زالت القبلية، الإثنية، والدينية تهيمن على الحياة الاجتماعية والسياسية في السودان، مما يحد من انتشار خطاب الشباب الذي يركز على الدولة المدنية.
غياب القيادة الموحدة
رغم الحماس الكبير، يعاني الشباب من غياب قيادة موحدة أو رؤية سياسية متكاملة قادرة على تحويل طموحاتهم إلى واقع ملموس.
السيطرة السلفية في الأرياف
تبقى المناطق الريفية معقلًا للتيارات السلفية التي تتمتع بنفوذ واسع بفضل المؤسسات الدينية والاجتماعية.
التدخلات الخارجية
تتأثر التيارات السياسية السودانية بالصراعات الإقليمية والدولية، حيث تدعم بعض القوى الإقليمية الاتجاهات المحافظة، بينما تشجع أخرى على تبني الحداثة والديمقراطية.
استشراف المستقبل: ملامح الخطاب السياسي السوداني القادم
التعايش بين الرؤى
من المرجح أن يبرز خطاب سياسي جديد يجمع بين عناصر من رؤية الشباب والتيارات السلفية، بهدف تحقيق استقرار اجتماعي وسياسي.
اندماج الأفكار
يمكن أن تتطور تيارات وسطية تتبنى قيمًا إسلامية معتدلة مع انفتاح على مبادئ الدولة المدنية، مما يُخفف من حدة الصراع.
دور التكنولوجيا والإعلام
ستظل التكنولوجيا أداة رئيسية للشباب للتأثير على النقاش العام، بينما قد تستثمر التيارات السلفية بشكل أكبر في الإعلام الحديث لمواكبة هذا التوجه.
التحول نحو المؤسسات
سيشهد الخطاب السياسي السوداني انتقالًا نحو التركيز على إصلاح المؤسسات بدلًا من الشخصيات أو الأيديولوجيات.
إن السودان يقف أمام مفترق طرق تاريخي يتطلب شجاعة سياسية وفكرية لتجاوز الصراعات والانقسامات.
الشباب والتيارات السلفية يمثلان وجهين لتحدي بناء مستقبل البلاد. الأول يعكس الطموح نحو الحداثة، والثاني يجسد التمسك بالجذور.
السؤال الأبرز هو- هل سيتمكن الطرفان من التفاعل الإيجابي وإيجاد حلول وسط تحفظ للسودان استقراره وتنوعه؟
المستقبل يعتمد على قدرة السودانيين على صياغة خطاب سياسي نقدي يعكس روح العصر مع احترام الخصوصية الثقافية والدينية.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: السیاسی السودانی الخطاب السیاسی السودانی ا خطاب ا

إقرأ أيضاً:

 الجيش السوداني يتهم الإمارات بأداء "دور محوري" في الحرب

 

 

الخرطوم - اتهم المتحدث باسم الحكومة السودانية المتحالفة مع الجيش دولة الإمارات باداء "دور محوري" في الحرب المستمرة في السودان منذ عامين من خلال دعم قوات الدعم السريع، وذلك عشية استماع محكمة العدل الدولية لشكوى من السودان ضد دولة الإمارات.

وقال وزير الإعلام والمتحدث باسم الحكومة السودانية خالد الأعيسر الأربعاء 9ابريل2025، إن "دولة الإمارات العربية المتحدة لعبت دورا محوريا في تأجيج نيران الصراع في السودان وارتكبت أخطاء لا علاقة لها بالإنسانية وجرائم تتصل بالملاحقات الدولية".

وتنظر محكمة العدل الدولية في لاهاي الخميس في الدعوى المقدمة من السودان ضد الإمارات والتي يتهمها فيها بـ "التواطؤ في إبادة جماعية" بسبب دعمها المفترض لقوات الدعم السريع السودانية.

وتعتبر الحكومة السودانية أن أبوظبي "متواطئة في إبادة جماعية ضد المساليت (إحدى قبائل السودان في إقليم دارفور غرب البلاد) من خلال إصدار توجيهات وتوفير الدعم المالي والسياسي والعسكري المكثف لميليشيات الدعم السريع المتمردة".

وأكد الأعيسر في مؤتمر صحافي مع وزير الداخلية السوداني وممثلين لوزارتي العدل والخارجية أن "حكومة السودان عندما تتحدث عن تورط دولة الإمارات (فهي) تمتلك من الأدلة ما يكفي لكي تتقدم بهذه الشكوى العادلة".

وأوضح ممثل وزارة العدل السودانية الفاتح بشير أن بلاده طلبت من محكمة العدل الدولية اتخاذ إجراءات "عاجلة لإلزام دولة الإمارات العربية المتحدة بإيقاف الدعم المستمر الذي تقدمه لميليشيا الدقلو" في إشارة إلى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو.

واندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في نيسان/أبريل 2023، ما تسبب في مقتل عشرات الآلاف من السودانيين ونزوح أكثر من 12 مليوناً. ويُتهم طرفا الحرب بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين، وتواجه الدعم السريع تحديداً اتهامات تتعلق بالعنف الجنسي الممنهج والإبادة الجماعية لا سيما في إقليم دارفور غرب البلاد والواقع معظمه تحت سيطرة الدعم السريع.

وأشار وزير الداخلية السوداني خليل باشا سايرين في المؤتمر الصحافي الأربعاء إلى "عدم التزام الأطراف الدولية والإقليمية بقرار مجلس الأمن بمنع توريد الأسلحة إلى دارفور" والذي اعتمده المجلس عام 2004.

ووصف ممثل وزارة الخارجية السودانية شكوى بلاده أمام محكمة العدل الدولية بأنها "عادلة" وقال إن السودان "لم يجد سبيلاً لكف أذى الإمارات سوى بطرق هذه الأبواب".

واتهمت وزارة العدل السودانية قوات الدعم السريع بتدمير الجامعات والمدارس والمرافق الصحية ما أدى إلى "توقف كافة أنشطة الدولة وتأثر الحياة العامة والتهجير القسري وكل ذلك جراء مساندة دولة الإمارات لميليشيا الدعم السريع".

وكان مسؤول إماراتي وصف شكوى السودان أمام محكمة العدل الدولية بأنها "حيلة دعائية خبيثة".

وقال المسؤول في بيان تلقته وكالة فرانس برس إنّ هذه الشكوى "ليست أكثر من حيلة دعائية خبيثة تهدف إلى تحويل الانتباه عن التواطؤ الراسخ للقوات المسلحة السودانية في الفظائع الواسعة النطاق التي لا تزال تدمر السودان وشعبه".

وأضاف أنّ "الادعاءات التي قدّمها ممثل القوات المسلحة السودانية أمام محكمة العدل الدولية تفتقر إلى أي أساس قانوني أو واقعي، وتمثل محاولة أخرى لصرف الانتباه عن هذه الحرب الكارثية".

وتابع البيان "احتراما لمحكمة العدل الدولية... ستسعى الإمارات العربية المتحدة إلى ردّ هذا الطلب الذي لا أساس له على الفور".

ودعا السودان محكمة العدل، وهي أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة تفصل في النزاعات بين الدول، إلى إصدار "تدابير موقتة" لإرغام دولة الإمارات على دفع تعويضات.

وقالت الخرطوم في شكواها إنّ "على دولة الإمارات إصلاح الضرر الكامل الناجم عن أفعالها غير المشروعة دوليا، وخصوصا دفع تعويضات لضحايا الحرب".

وقرارات محكمة العدل ملزمة قانونا، لكنّ الهيئة لا تملك وسائل لفرض تنفيذها.

مقالات مشابهة

  •  الجيش السوداني يتهم الإمارات بأداء "دور محوري" في الحرب
  • ليت بعض القادة والساسة.. ينتبهون لما يقولون
  • الإمارات صوت الحكمة دعماً للشعب السوداني
  • تهافت السلفية الأمنية في مصر والخليج
  • هل أجرى المجلس العسكري السوداني لقاءً سريًا في تل أبيب؟
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: بروميدييشن والغموض السياسي؟
  • في ظل زيارة نتنياهو لواشنطن.. ما دلالة القمة الثلاثية على مستقبل المشهد السياسي؟
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: تكنيك منى أبو زيد وخطاب الكراهية
  • شاء ربك الحكيم أن يجعل السودان كله جيشاً
  • الإمارات: الشعب السوداني يستحق مستقبلاً يرتكز على السلام