العقل البشري لا يستطيع أن يتخيل كل هذا الموت: مشاهد من أحد آخر مستشفيات غزة
تاريخ النشر: 4th, December 2024 GMT
نشرت "نيويورك تايمز" مقالا للدكتور حسام أبو صفية، طبيب الأطفال ومدير مستشفى كمال عدوان في شمال قطاع غزة، تضمن يوميات أرسلها الدكتور للصحيفة، وتوثيقا لجرائم الاحتلال الإسرائيلي المستمرة ضد المستشفى المحاصر منذ بدء حرب الإبادة الحالية.
وجاء في المقال أن مستشفى كمال عدوان في شمال غزة هو أحد المراكز القليلة المتبقية للخدمات الطبية في المنطقة، ومنذ بدء حرب إسرائيل في غزة، كان أيضا موقعا للصراع نفسه، إذ اتهم جيش الاحتلال الإسرائيلي حركة حماس باستخدامه كقاعدة، وهو ما نفاه مسؤولو غزة.
وتعرض المستشفى للمداهمة مرارا وتكرارا منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتضررت أجزاء من المنشأة ودُمرت من الهجمات المباشرة والقصف الذي حدث في مكان قريب، في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر، احتجز جيش الاحتلال معظم أعضاء الطاقم أو طردهم، بقي عدد قليل من الأطباء والممرضات، وهم يعتنون أحيانا بأكثر من 100 مريض.
وأحد هؤلاء الأطباء هو المدير الحالي للمستشفى، حسام أبو صفية، وهو طبيب أطفال والطبيب الرئيسي في غزة لمنظمة "ميد غلوبال" الإنسانية، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كتب مقال رأي كضيف في الصحيفة يصف فيه الوضع المزري الذي كان يشهده مع تزايد عدد الضحايا خلال الشهر الأول من الهجوم الإسرائيلي.
ومنذ ذلك الحين، أصبح الوضع في المستشفى أسوأ بكثير، اضطر أبو صفية، الذي ليس بجراح، إلى إجراء عمليات جراحية للمرضى بسبب نقص الجراحين المدربين، كان عليه أن يقرر من يحصل على العلاج ومن لا يحصل عليه، نظرا للموارد المتضائلة المتاحة.
وكان عليه أن يدير الأمور في موقف متوتر مع القوات الإسرائيلية المحيطة، وأن يفعل كل هذا وهو حزين على ابنه، الذي استشهد في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام ودُفن في أراضي المستشفى، بينما ذكرت "ميد غلوبال" أن الدكتور أبو صفية أصيب بشظايا نتيجة لغارة جوية إسرائيلية واحتاج إلى عملية جراحية.
لمدة أسبوع في شهري تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر، أرسل الدكتور أبو صفية رسائل صوتية ومرئية إلى قسم الرأي في صحيفة نيويورك تايمز يصف فيها الوضع اليومي في المستشفى والصعوبات التي يواجهها هو وطاقمه المتبقي. وفيما يلي مقتطفات محررة من هذه الرسائل.
30 تشرين الأول/ أكتوبر
قال أبو صفية "أمس، ولأول مرة في حياتي، دخلت غرفة العمليات لإجراء عملية جراحية على بطن طفل يبلغ من العمر 4 سنوات دمر القصف منزله، كان ينزف كثيرا من بطنه، لكنني تمكنت بطريقة ما من إجراء العملية والحمد لله أنني تمكنت من إنقاذ حياة ذلك الطفل".
وأضاف "نعمل خارج مجالات تخصصنا لأننا لم نعد نملك فريقا جراحيا مؤهلا، لقد طالبنا العالم بالحماية لأكثر من 50 يوما ولكن للأسف لم يكن هناك أي استجابة، أنا حائر من هذا العالم الذي يدعي الإيمان بالإنسانية والديمقراطية ولكنه لا يستجيب. حتى منظمة الصحة العالمية ليس لديها أي حماية هنا".
وذكر "لا يستطيع العقل البشري أن يتخيل كل الموت وأجزاء الجسم والدم التي تحيط بنا على مدار الساعة. ولكن يبقى من مسؤوليتنا أن نواصل تقديم الخدمات الإنسانية".
31 تشرين الأول/ أكتوبر
أكد أبو صفية أن "الوضع كارثي للغاية، والمستشفى تعرض للقصف، وتسبب هذا الهجوم في أضرار بالطابق الثالث ومخزن للسلع والإمدادات الطبية، كما دمر خزانات المياه وأسطوانات الأكسجين المخصصة لوحدة غسيل الكلى، وتضرر قسم الهندسة والصيانة، مما أدى إلى شلل خدماتنا الصحية.. أصيب أربعة من أفراد الطاقم الطبي أثناء محاولتهم إطفاء الحريق دون حماية وبدون مواد كافية لإطفاء النيران، للأسف، أصيبوا بحروق بدرجات متفاوتة".
وأضاف "لا يزال لدي حوالي 85 مريضا، منهم 19 طفلا، بما في ذلك طفلان حديثا الولادة، نحن الآن في مرحلة نحاول فيها ببساطة إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح. نشاهد الجرحى يموتون واحدا تلو الآخر بسبب نقص الطاقم الطبي المدرب بشكل كافٍ".
1 تشرين الثاني/ نوفمبر
قال أبو صفية "نمر بأيام صعبة للغاية الآن. فما زال الحصار شاملا على كامل شمال قطاع غزة. وبالكاد يُسمح بدخول أي إمدادات طبية أو فرق إغاثة طبية. وما زال العشرات من المرضى ينتظرون العمليات الجراحية، بما في ذلك جراحة العظام وجراحة عامة للبالغين والأطفال وجراحة ترميم الحروق".
وأشار إلى عدم القدرة على "إعطاء الأولوية للحالات الواردة التي قد تتطلب عناية طبية فورية على الحالات الأخرى التي تصل على مدار الساعة بسبب الاعتداءات والقصف الإسرائيلي في المنطقة.. ومعظم الجرحى الذين يصلون إلى هنا يأتون سيرا على الأقدام، والبعض منهم بحلول الوقت الذي يصلون فيه يكونون قد نزفوا كل دمهم تقريبا وهم في حالة خطيرة للغاية".
وأوضح "مرة أخرى، نطالب العالم أجمع والمجتمع الدولي بتوفير الحماية الحقيقية لهذا النظام الصحي. ولابد من وجود ممر إنساني آمن مناسب للنظام الصحي ويسمح بدخول فرق الإغاثة الطبية والضروريات الطبية".
3 تشرين الثاني/ نوفمبر
كشف أبو صفية أنه "طوال الليل، كانت هناك عمليات قصف متواصلة للمباني المحيطة بالمستشفى.. لقد خلفت الانفجارات أضرارا كبيرة، حتى أن المستشفى نفسه تأثر بالقصف. فقد تحطمت معظم الأبواب، وتحطمت العديد من النوافذ. وقد أثار ذلك شعورا بالرعب والخوف بين المرضى".
وبين أنه "لم نستقبل أي طاقم طبي، وبعد متابعة هذا الأمر علمنا أنه لم يسمح للطاقم الطبي المتخصص بالدخول إلى شمال غزة، لدينا حاليا 120 مريضا، واليوم تسلمنا ستة صناديق من المستلزمات الطبية التي لم نطلبها، والطعام الذي تسلمناه للتو هو سبعة صناديق من الأطعمة المعلبة التي تكفي المستشفى ليوم واحد".
View this post on Instagram A post shared by حسام أبو صفية (@dr.hussam73)
وتعليقا على هذا المقطع، قال أبو صفية: "هذا هو المشهد داخل مستشفى كمال عدوان، حيث يركض المرضى والأطفال وسط قصف المستشفى وخزانات المياه. هل يمكننا أن نتخيل رؤية هذا المشهد في مستشفى بوسطن للأطفال أو مستشفى غريت أورموند ستريت في لندن أو مستشفى الأطفال الوطني في واشنطن؟".
4 تشرين الثاني/ نوفمبر
وذكر أنه "اليوم التاسع والعشرون من الحصار على شمال قطاع غزة. لقد تعرض المستشفى للهجوم أمس في نفس الوقت الذي كانت فيه منظمة الصحة العالمية هنا لإجلاء بعض المرضى الذين لم يكن بوسعهم المغادرة لولا ذلك. لقد لجأ الناس إلى الاختباء حيثما أمكنهم. ولم نتلق حتى الآن أي تفسير لما حدث أو لماذا حدث. وقد أسفر هذا الهجوم المؤسف عن إصابة عدد من المرضى، بما في ذلك النساء".
وقال "قبل قليل كنا في غرفة العمليات. كانت هناك فتاة تبلغ من العمر 13 عاما مصابة أصلا بشظايا في البطن. وخلال هذا الهجوم الأخير، أصيبت مرة أخرى - إصابة خطيرة جدا في المعدة. لقد خضعت للتو لعملية جراحية وإن شاء الله ستستقر حالتها في الساعات القادمة".
وأضاف "لا يزال الناس يتوافدون إلى غرفة الطوارئ. أولئك الذين يستطيعون الوصول إلى هنا قد يتلقون الرعاية الطبية، ولكن أولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى هنا يجدون مصيرهم في مكان آخر. لا يزال هناك أشخاص مدفونون تحت الأنقاض. لا توجد أدوات لإزالة الأنقاض من أجل العثور على من هم تحتها. يجد المرء صعوبة في وصف ما نعيشه، لأكون صادقا".
6 تشرين الثاني/ نوفمبر
أكد الطبيب أبو صفية "لا نزال محاصرين داخل المستشفى. تعرض المستشفى للقصف لمدة ثلاثة أيام متتالية. كانت الهجمات مخيفة. تم تدمير غرف التخزين والصيدلية، ومن المؤسف أن هذا الهجوم كان شرسا وأسفر عن إصابة العديد من الأشخاص، بما في ذلك الأطفال الذين كانوا تحت التخدير لأنهم كانوا يخضعون لعملية جراحية في ذلك الوقت. كما أصيب عدد من العاملين في المجال الطبي الذين كانوا يقدمون الرعاية في غرفة الطوارئ".
ووصف الحالة النفسية بأنهم يشعرون "وكأن بقية العالم يعيش في عالم مختلف عن العالم الذي نعيش فيه.. نحن نعاني وندفع ثمن الإبادة الجماعية التي تحدث لشعبنا هنا في شمال قطاع غزة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية سياسة عربية غزة فلسطين غزة مستشفي كمال عدوان حسام ابو صفية المزيد في سياسة سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة شمال قطاع غزة تشرین الثانی تشرین الأول هذا الهجوم بما فی ذلک أبو صفیة
إقرأ أيضاً:
من يقتل الحقيقة لا يستطيع أن يكتب التاريخ
لا يمكن أن تغادر صورة الصحفي الفلسطيني أحمد منصور، مراسل وكالة «فلسطين اليوم» وهو يحترق صباح اليوم، بعد أن استهدفت إسرائيل الخيمة التي كان يستخدمها وبقية الإعلاميين في غزة مكانا لتغطية الحرب، مخيلة أي صحفي حر يؤمن بمهنة الصحافة ودورها في نقل الحقيقة.. ورغم أن أحمد منصور نجا من الموت، ولو إلى حين، إلا أن صورته وهو يحترق ستبقى إحدى أهم أيقونات هذه الحرب الظالمة التي تستهدف فيها إسرائيل وأد الحقيقة في محاولة لاستبقاء سرديتها ونشرها أمام العالم. لكن هذا الطموح الإسرائيلي، المبني على الإيمان المطلق بالسردية الذاتية، يبدو أنه يتلاشى تماما بعد أكثر من 18 شهرا على بدء مجازر الاحتلال في قطاع غزة والذي راح ضحيته أكثر من 50 ألف فلسطيني بينهم عشرات الآلاف من الأطفال والنساء ولكل منهم قصته وحلمه وطموحه ومساره في هذا العالم.. فما زال صوت الحقيقة، ولو عبر ثقوب صغيرة جدا، يتسرب إلى العالم ويملك قوة تهشيم السردية الإسرائيلية، وصناعة الدهشة، وتحريك الضمائر الحرة في كل أنحاء العالم.
قتل في نفس الخيمة التي كان يحترق فيها أحمد منصور الصحفي حلمي الفقعاوي ليرتفع عدد ضحايا الحقيقة في هذه الحرب إلى 210 صحفيين وهو عدد ضخم جدا في حرب واحدة لم تكمل بعد العامين. ولكل صحفي من هؤلاء حكايته التي لا نعرفها وهو منشغل بنقل حكايات الآخرين من ضحايا الحرب، وله حلمه الذي ينتظر لحظة أن تضع الحرب أوزارها ليذهب نحو تحقيقه.. وكل جرائم هؤلاء أنهم اختاروا أن يكونوا شهودا على الحقيقة، لا صامتين على الجريمة.
لم تكن الرواية يوما كما يدعي الإسرائيليون، لكن الأمر كان، منذ الصحفي الأول الذي سقط ضحية للحقيقة، ممنهجا في سبيل احتكار الاحتلال للرواية، ليكتب الحرب وحده دون صور تُوثق أو أقلام تسائل ما يحدث أمام سطوة التاريخ التي لن ترحم في يوم من الأيام.. ويريد أن يحرق الحقيقة كما حرق أجساد الصحفيين، وأن يُطفئ العدسات كما يُُطفئ الحياة في عيون الأطفال.. تماما كما يستهدف المسعفين، ويدمر المستشفيات، ويقصف المدارس والجامعات.. إنه يستهدف، وفي كل مرة، شهود الجريمة أنفسهم.
وهذا ليس صداما لمن يفهم الاحتلال الإسرائيلي فهو ينطلق دائما من مبدأ نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، وعقدة الاستثناء التاريخي من القوانين والأخلاقيات والمبادئ، وفصل جرائمه ضد الفلسطينيين والعرب عموما عن التقييم الأخلاقي والقانوني؛ لذلك لا غرابة أن يعمد الاحتلال الصهيوني على اغتيال الحقيقة وإطفاء الأضواء في زمن الظلام؛ فالصحفي في نظره مقاوم، والحقيقة باتت خطرا.
رغم ذلك ورغم كل المحاولات الإسرائيلية لإسكات الحقيقة عبر اغتيال أبطالها وحرقهم بالنار تبقى «الحقيقة» آخر جدار للصمود، ويبقى الصحفيون في غزة هم حراس هذا الجدار، يكتبون بالدم ويصورون بالألم وصراخهم صدى لآلاف الضحايا الذين قضوا دون أن نسمع لهم صوتا أو أنينا. ولن تستطيع إسرائيل أن تصدّر سردياتها للعالم، ومن يقتل الحقيقة لا يحق له أن يكتب التاريخ.