ينعقد في نهاية الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الجاري مؤتمر فلسفي ضخم بمدينة الرياض، بعنوان «الفلسفة وجودة الحياة»، وهو حدث يدعو للدهشة والإعجاب في الوقت ذاته: أما الدهشة فمبعثها أن الفلسفة أصبحت حاضرة في السعودية بعد أن كان اسم الفلسفة حتى عهد ليس ببعيد غير قابل للتداول حتى على المستوى الأكاديمي، فأصبحنا نجد «جمعية فلسفية» يرأسها الدكتور المعروف عبدالله المطيري، وتصدر عنها مجلة فلسفية بعنوان «مقابسات»، كما نجد برنامجا تلفزيونيًّا متخصصًا في الثقافة الفلسفية بعنوان «الفيلسوف» يقدمه الأستاذ المتميز شايع الوقيان.
الحقيقة أن مفهوم «جودة الحياة» ليس جديدًا على الفلسفة الراهنة وكأنه اكتشاف جاء من العدم، بل إنه كان متأصلًا في فلسفة القدماء قبل أن تتحول الفلسفة إلى تخصصات علمية: ففي الحضارات القديمة كانت الفلسفة تعني الحكمة، وإن كانت هذه الحكمة ممتزجة بالأسرار الدينية (كما في حضارة مصر القديمة)، وبالكتب المقدسة (كما نجد ذلك في «كتب الأوبانيشاد» لدى الهندوس القدماء)، وبالشعر والحكمة الصينية القديمة (كما نجد ذلك في أعمال الشاعر الفيلسوف لا-وتسي). ويأتي بعد ذلك كبار فلاسفة اليونان- الذين أخذوا الكثير عن حكمة الشرق القديم- ليؤكدوا على الفلسفة باعتبارها «محبة الحكمة» والحياة السوية، وإن كان من خلال التأمل العقلاني الخالص. وها هو ذا أرسطو نفسه يتحدث عن جودة الحياة تحت اسم «الحياة الطيبة» good life. وحتى عندما ننتقل إلى العصر الهلنستي نجد أن كبار فلاسفة هذا العصر من الرواقيين والأبيقوريين مهتمين في المقام الأول بالبحث في أسلوب العيش الذي يكفل السعادة في الحياة.
هذه المهمة الرئيسة للفلسفة قد توارت تدريجيًّا بعد ذلك لدى فلاسفة العصر الحديث (باستثناء قلة من الفلاسفة من أمثال شوبنهاور)؛ إذ انشغلت الفلسفة في المقام الأول بنظرية المعرفة، إلى أن فطن بعض كبار الفلاسفة إلى أهمية البحث في الحياة وأسلوب العيش؛ ولذلك فإن هوسرل الذي انشغل طيلة حياته بمسائل منهجية دقيقة، قد انشغل في أواخر حياته بمفهوم «عالم الحياة أو العالم المعيش» Lebens Welt، وإن كان العمر لم يمهله لإكمال مشروعه. ولكن مشروع هوسرل المتأخر لفت انتباه الفلاسفة إلى أهمية البحث في الحياة بوصفها موضوعًا رئيسًا للتفلسف. ولكن الفلسفة في عصرنا الراهن استأنفت البحث في الحياة لا باعتبارها موضوعًا أنطولوجيًّا فحسب، وإنما باعتبارها موضوعًا عمليًّا أيضًا، أعني الحياة على مستوى العيش وما يكفل جودة هذا العيش.
غير أنه من الضروري أن نلاحظ أن مفهوم جودة الحياة لا يشتمل فحسب على الجانب الفيزيقي الذي يتعلق برفاهة العيش (كالمأكل والمشرب والمسكن)، وإنما يشمل أيضًا الرضا النفسي والاجتماعي، وهو يشمل كذلك الجوانب المتعلقة بمنظومة القيم الروحية والثقافية والجمالية التي تأتي في أعلى سلم متطلبات جودة الحياة (وهذا هو الجانب الذي يقع في بؤرة اهتمام البحث الفلسفي). ونظرًا لاتساع هذا المفهوم، فقد أصبح متداولًا في الدراسات الفلسفية والاجتماعية والنفسية.
فطنت الفلسفة الراهنة إذن إلى أهمية عودة الفلسفة إلى ينابيعها الأولى، باعتبارها تأسيسا للوعي الذي يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش على المستوى العقلي والروحي والجمالي. وعلى سبيل المثال: لو نظرنا الاتجاهات الفنية والجمالي في مجال الفلسفة الراهنة، لوجدنا أنها تحاول إعادة الاعتبار لقيمة الفن من خلال الربط بين القيم الفنية والجمالية وبين السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه الناس، بحيث يجد الناس أن أشكال الجمال في الأعمال الفنية تعبِّر عن حياتهم وتخدم أساليب معيشتهم وتزين جدران منازلهم، من خلال أبنية معمارية تلبي احتياجاتهم المجتمعية والخدمية بحيث تتناسق فنيًّا وجماليًّا مع أساليب عيشهم وتراثهم، سواء كانت تتمثل في أبنية سكنية أو مدارس أو دُور عبادة. ولا غرابة في أن هذا قد أصبح من المعايير التي تعتمدها الجوائز الكبرى في فن المعمار؛ لأن هذه المعايير لا تجور أبدًا على المعيار الجمالي الذي ينبغي أن يكون هو المعيار الأول في الحكم على قيمة أي عمل فني، ولكن هذا المعيار نفسه سوف يفقد قيمته، ما لم يَكُن مضمون التعبير الجمالي مرتبطًا أيضًا بحياة الناس وأساليب عيشهم وبهُويَّتهم.
قصارى القول إن الفلسفة الراهنة قد فطنت إلى أزمة الوعي الإنساني الحقيقية التي تمثلت في فصل الوعي الإنساني (أو الروح الإنساني) عن عالمه المعيش، وهو ما نبهنا إليه وحذرنا منه الفيلسوف العظيم إدموند هوسرل في كتابه الشهير «أزمة العلوم الأوروبية».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: جودة الحیاة فی الحیاة البحث فی موضوع ا من خلال
إقرأ أيضاً:
تساؤلات فلسفية حول اللغة
تشغل اللغة اهتمام الفلاسفة منذ عصر القدماء، ولكن اهتمام الفلسفة باللغة قد تنامى بشكل ملحوظ حتى أصبح مهيمنًا حتى قبل منتصف القرن العشرين، وقد بلغ ذلك التنامي ذروته في الفكر المعاصر منذ ذلك الحين وحتى الآن، وهو ما يُعرف باسم «المنعرج اللغوي» في مسار تطور الفلسفة. وبذلك يمكن القول إن الاهتمام باللغة هو سمة الفكر المعاصر منذ قرابة قرن من الزمان، وربما يرجع هذا إلى اهتمام الفلسفة المعاصرة بالحياة والوجود في صلتهما باللغة؛ وإنما أيضًا إلى الاهتمام بالنصوص المنقولة إلينا عبر الكتابة، والتي تنقل إلينا «الآخر» (حتى من خلال الكلام أو الحديث الشفاهي)، سواء أكانت نصوصًا أدبية أو تاريخية أو دينية أو قانونية. ولا شك في أن التأويل يكون ضرورة ملحَّة حينما يكون النص مكتوبًا بلغة تنتمي إلى عصر قديم، وتتحدث لغته عن عالم آخر غير عالمنا المعيش.
والواقع أن معظم الفلاسفة المعاصرين قد اهتموا بدراسة وتحليل اللغة؛ ولهذا نشأت مناهج وتيارات عديدة في تناول اللغة، منها على سبيل المثال: التيار التأويلي الظاهراتي الذي أرسى هيدجر دعائمه وطوَّره فلاسفة التأويل التالين من أمثال جادامر وبول ريكور وغيرهم؛ وتيار الوضعية المنطقية الذي توارى في عصرنا؛ وتيار تحليل اللغة وعلى رأسه فتجنشتاين، الذي لا يزال ممتدًا حتى الآن. ولهذا يقول الغذامي: «بعد أن كانت الفلسفة أم العلوم، صارت اللغة أم العلوم وأصبحت الفلسفة فرعا من فروع تلك الشجرة». ولكن هذا القول ينطوي على نوع من المبالغة التي تهدف إلى التأكيد على تعاظم دور اللغة كموضوع للدرس الفلسفي والدراسات الأخرى في العلوم الإنسانية. ولكننا لا يمكن أن نتجاهل أن دور الفلسفة يظل هو الدور الأكثر شمولًا واتساعًا من أي موضوع أو مجال مهما تعاظمت أهميته وبلغ اتساعه، وهو أنها تهتم بدراسة معاني الظواهر في سائر تجلياتها. تعظيم شأن اللغة لا يعني أنها تمثل الموضوع الوحيد للتفلسف الراهن. وإذا كانت اللغة موضوعًا أساسيًّا للتفلسف في عالمنا الراهن، فما هي التساؤلات الأساسية حول اللغة التي يمكن أن نطرحها على أنفسنا هنا:
يعَد السؤال عن ماهية اللغة وعلاقتها بهوية البشر سؤالًا مركزيًّا. ولد فطنت دراسات عديدة إلى ما هنالك من صلة وثيقة بين اللغة والهوية، بل بين اللغة والدين، حتى إنهم ذهبوا إلى أن اللغة تكاد تكون مرادفة للهوية في كثير من الحالات، باعتبارها المكون الأساسي في الحفاظ على الهوية الثقافية. هوية اللغة تكمن في قدرتها الباطنية على الإفصاح عن حقيقة عالم ما كما يفهمه ويحسه شعب أو أمة ما؛ ومن ثم فإن هناك صلة وثيقة بين ماهية أو هوية اللغة من ناحية وهوية الشعب الذي يتحدثها، حينما ينطقها مفصحًا عن أسلوبه الخاص في التفكير والفهم والشعور.
ولكن من المهم أن نلاحظ أن اللغة لا تفصح عن هويتها؛ وبالتالي لا تفصح عن هوية شعب ما، في أي شكل من الأشكال المتداولة والمألوفة لاستخدامها: كما هو الحال -على سبيل المثال- في استخدامنا للغة العامية بهدف توصيل أغراضنا ومقاصدنا العابرة المباشرة، وفي لغة العلم التي تسعى هي الأخرى إلى توصيل معرفة ما، وإن كان في شكل أكثر دقة وموضوعية. اللغة في مثل هذه الاستخدامات لا تكون لغة بحق، أعني لا تتحقق فيها ماهية اللغة؛ فالوجود لا يسكنها، وإنما هي تتجه دائمًا إلى الخارج ولا تجلبه إلى داخلها: اللغة هنا مجرد وسيلة أو أداة للتعبير عن المعنى الذي يوجد خارجها ولا يسكنها، لا يسكن حروفها وصوتياتها، بل وموسيقاها أحيانًا.
ومن القضايا المركزية أيضًا التساؤل عن صلة اللغة بالوجود، وهي قضية يبرهن عليها تيار واسع في الفلسفة، مثلما تبرهن عليها خيرات الحياة اليومية المباشرة؛ اللغة تنشئ الوجود ذاته؛ ومن ثم تنشئ وجودنا الخاص في هذا العالم، أي باختصار تنشئ الهوية ذاتها: نحن نقول عن شخص ما بالعامية المصرية: إنه «عمل اسمًا»، لنقصد أنه صنع وجودًا له في هذا العالم، أي أصبح موجودًا (فمَن لا اسم له، لا وجود له، أو يصبح وجوده أشبه بالعدم). ولهذا أيضًا يُقَال في العامية المصرية إن فلانا «له شَنّة ورَنّة»، أي له اسم مذكور، وهو تعبير مأخوذ عن كلمة مصرية قديمة هي «شن» التي كانت تعني «الاسم».
وهناك قضية مركزية أخرى تتعلق بفهم الصلة بين اللغة والفكر: فنحن نفكر من خلال اللغة، ببساطة لأننا نفهم من خلال اللغة (والترجمة مثال جيد على ذلك)، والطفل نفسه يتعلم الأشياء ويتعامل معها من خلال اللغة، أي من خلال اكتساب مهارات اللغة. وحتى الوسائط الفنية في الفنون الأخرى (كالموسيقى والفنون التشكيلية) هي لغة بالمعنى الواسع للغة. ومن هنا أيضًا يمكن نفهم قول هيدجر: «إن كل فن يكون شعرًا بمعنى ما»، أي يعبر على نحو يقترب من أسلوب الشعر في استخدام اللغة، بحيث يكون المعنى موحى به ومضمرًا في اللغة ذاتها (أو الوسيط الفني). ومن الفكر ما يقترب من التعبير الشعري والجمالي، وأقصد هنا بوجه أخص «الفكر الفلسفي»؛ ولذلك فإننا ينبغي أن نستبعد ذلك التصوُّر السائد عن الفلسفة بأنها لغة تتعامل مع المفاهيم والتصورات المجردة، بل إنها لغة قد تلجأ إلى استدعاء إمكانيات اللغة في التصوير والتخييل الفني والجمالي، وهذا ما نجده على سبيل المثال لدى فلاسفة كبار من المحدثين والمعاصرين من أمثال: مونتاني وشوبنهاور ونيتشه وهيدجر وسارتر وجاستون باشلار، وهو ما نجده أيضًا لدى فلاسفة كبار من القدماء، ومنهم: هيراقليطس وأفلاطون.
هذه التساؤلات الأساسية حول اللغة غائبة عن معظم تيارات فلسفة اللغة الأنجلو ساكسونية في إنجلترا وأمريكا، ولكنها حاضرة بقوة في الفلسفة القارية في أوروبا.