منذ مدة ليست بالقصيرة، ومصطلح "ثورة المفاصل" يتردد على منصات التواصل الاجتماعي. وقد سُئلتُ في الفترة الأخيرة، غيرة مرة، عن رأيي في ثورة المفاصل، ولأهمية الموضوع (من وجهة نظري) آثرت أن يكون الرد مقالا؛ كي يكون أوفي، وأرجو أن يكون كذلك.
"ثورة المفاصل"، أطلقها ودعا إليها المهندس خالد السرتي، المصري المقيم في أمريكا، وهو رجل ستيني، صاحب هِمَّة وجَلَد، لم يتوقف (خلال العقد المنصرم) عن توعية الشعب المصري بحقيقة ما يُفعل به وبمصر، على يد سلطة الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع الجنرال ياسر جلال، على أول رئيس منتخب في تاريخ مصر، الشهيد محمد مرسي (طيّب الله ثراه).
ما وجه الشّبه بين السرتي والمقاول محمد علي؟
في الحقيقة، وللإنصاف، لا وجه للمقارنة بين الرجلين، إذ لا تصح المقارنة بين الرجلين من أي وجه!
فالسرتي ابن 25 يناير (2011)، أما محمد علي فهو ابن النظام العاق، المنشق الذي بنى سمعته ورسم صورته من خلال الكشف عن بعض أوجه فساد النظام، من موقع شريك النظام، والمقاول المنفذ لبعض المشاريع التي تم تكليفه بها، من قِبَل إدارة المشروعات الهندسية التابعة للقوات المسلحة.
إن قطاعا معتبرا من الشعب المصري استجاب لدعوة الخروج يوم 25 يناير؛ بهدف الضغط على مبارك، لتحسين الأحوال المعيشية، رافعين شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، وليس للإطاحة به
السرتي صاحب منطق، يقوم بدور توعوي كبير، بالحوار الجاد أحيانا، الساخر أحيانا أخرى. أما المقاول محمد علي، فلا أظنه يعرف معنى كلمة "الوعي" على وجهها الصحيح ابتداء؛ فيوم أن تكلم عن شكل السلطة التي يتصورها، قال كلاما مثيرا للسخرية، أبان عن جهله بأبجديات السياسة، ونُظم الحُكم، ولا غرابة في ذلك، فالرجل يعتبر الفتح الإسلامي لمصر احتلالا، ولا يعرف الفرق بين "الهوية" و"الهاوية"!
وجهة نظر السرتي في "حدث" 25 يناير
يرى السرتي أن المصريين لم يقوموا بثورة في 25 كانون الثاني/ يناير ٢٠١١، وإنما "اتعمل بهم ثورة" حسب تعبيره، لصالح الجيش الذي قرر الانقلاب على مبارك، أو على وجه الدقة، طُلِب منه الانقلاب على مبارك؛ لمعارضته التنازل عن جزء من سيناء في إطار صفقة القرن، وقد بات ذلك من الحقائق المؤكدة!
من جانبي، أتفق تماما مع السرتي، في تصوره هذا عن حدث 25 يناير.
وللتوضيح (للجيل الجديد).. فإن قطاعا معتبرا من الشعب المصري استجاب لدعوة الخروج يوم 25 يناير؛ بهدف الضغط على مبارك، لتحسين الأحوال المعيشية، رافعين شعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، وليس للإطاحة به.
وكان هذا الخروج غير المسبوق هو ما يطمح إليه أو يطمع به الجيش؛ لإجبار مبارك على التنازل عن السلطة للجيش وليس للشعب! حسب البيان المقتضب الذي ألقاه اللواء عمر سليمان (نائب الرئيس وقتئذ) ولم تتجاوز مدته دقيقة ونصف الدقيقة.
ثورة المفاصل
يبدو أن السرتي قد استفاد، بدرجة كبيرة، من الخطايا والكوارث والعثرات التي حالت دون إسقاط الانقلاب حتى اليوم، رغم هشاشة نظام الانقلاب، وسخط عموم الشعب عليه!
فهو لم يحدد يوما للخروج، على غرار ما حدث مرارا، خلال السنوات السابقة، بل يرى "عبثية" التجمع في الميادين، التي ثبت (بالتجربة) أنها في لحظة معينة تكون بمثابة "مصائد" للمتظاهرين، من جانب قوات الأمن، ومن ثم الدخول في نوبة جديدة من الإحباط واليأس، وفقدان الأمل في التغيير.
السرتي يعني بالمفاصل: "البِنَى الأولية للنظام" التي يتمثل فيها وجود السلطة، بدءا من القرية. إذ يعتقد بأن تعدد بؤر الخروج، على مساحة جغرافية كبيرة في مختلف أنحاء البلاد، وسيطرة أبناء كل بقعة على بنى النظام الأولية فيها، سيشل قدرة أمن النظام، بل والجيش، على تفريق هذه الجموع في بقع كثيرة، في وقت واحد.. ففي مصر نحو خمسة آلاف قرية، عدا عواصم المحافظات، والمدن التي تضم كل منها (إداريا) مجموعة من القرى، وتسمى "مراكز".. فمن أين لنظام الانقلاب العدد الكافي لإجهاض هذا الخروج الواسع؟
أمر آخر، ألا وهو صعوبة تعامل ممثلي سلطة الانقلاب في القرى (خفر، عُمَد، نقاط شرطة) مع أهل القرية، فممثلو السلطة هؤلاء هم أبناء المتظاهرين.
وحسب اعتقاد السرتي، فإن أبناء كل بقعة قادرون على إفراز قيادة لهم تقوم بالتواصل مع قيادات البقع الأخرى؛ للتنسيق، وإفراز قيادة "للثورة".
وللوصول إلى لحظة "الخروج الكبير"، لا بد من ممارسة ما يسميه السرتي "قياس الجاهزية"، وهي فعاليات يشارك فيها المؤمنون بفكرة "ثورة المفاصل"، على نحو "آمن" لا يعرض أحدا للخطر؛ بمعنى: إذا كانت الفعالية "إطفاء النور" مثلا، فإن ذلك ممكن، ولا يتطلب الخروج إلى الشارع، ويمكن قياسه بنسبة البيوت والشقق المظلمة، إلى البيوت والشقق المضيئة، فإذا غلب الظلام على الإضاءة، كان ذلك مؤشرا إيجابيا يمهد للخروج الكبير.
الفكرة بين النظرية والتطبيق
السرتي مهندس، وعلم الهندسة يتربع على قمة هرم المنطق، وعند مناقشة فكرة السرتي تجدها "منطقية" جدا من الناحية النظرية. أما "عمليا"، وهو الأهم، فالأمر ليس من السهولة بمكان، وتبدو الفكرة "فانتازيا" بينها وبين الواقع بعد المشرق عن المغرب..
وهنا، أؤكد وألفت الانتباه إلى أن التفكير في إسقاط نظام مستبد أرعن، لا يتورع عن استخدام القوة المميتة ضد معارضيه العُزَّل من شعبه، أو طرد محتل همجي غاشم، متفوق عددا وعُدة على نفر من المقاومين الذين لا يملكون إلا أسلحة بسيطة، هو تفكير "فانتازي" بامتياز.. إلا أن إصرار "الحالمين" أو "المجانين" إن شئت، تجسَّد مِرارا في الواقع وتحقق!
التغيير ممكن، وإن بدا حلما أو "فانتازيا". أما المآلات، فلا يمكن التحكم بها، وهذا هو التحدي الحقيقي والكبير الذي قد ينجح فيه دعاة التغيير أو يفشلون
من أشهر الأمثلة، سقوط الملكية العتيدة في فرنسا، وسقوط الإمبراطورية العظمى في روسيا، وسقوط "ملك الملوك" في إيران الشاه.. وكلها أعقبها جريان أنهار من الدماء، وهذا ما يجب التحوّط منه.. فالدماء (في ديننا) معصومة إلا بحقها.
إذن، فالتغيير ممكن، وإن بدا حلما أو "فانتازيا". أما المآلات، فلا يمكن التحكم بها، وهذا هو التحدي الحقيقي والكبير الذي قد ينجح فيه دعاة التغيير أو يفشلون.. لكن إسقاط الظالمين فريضة شرعية، وضرورة إنسانية ومنطقية أيضا، والسعي إلى تحقيقها برهان على تمسك الإنسان بكرامته التي منحها الله إياه، ولا يحق لحاكم متجبر في الأرض، مشوّه الفطرة، محارب لربه، أن يسلبها منه بأي ذريعة.
فعلى دعاة التغيير (وقد باتوا كُثرا) في بلاد العرب، وعلى الجماهير التي صنعت التغيير (إذا وقع) أن يدركوا أنهم المسؤولون أولا وأخيرا عن هذه المآلات، حسنة كانت أو سيئة.. فبقدر نُضجهم وتجردهم، بقدر ما سيكون المستقبل مشرقا.. وبقدر أنانيتهم ورعونتهم سيكون المستقبل مظلما، وربما أشد سوادا من الماضي الذي عاشوه تحت حكم النظام الذي خرجوا عليه وأسقطوه.
x.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المصري 25 يناير التغيير مصر الثورة 25 يناير تغيير مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة على مبارک
إقرأ أيضاً:
الخروج من فقه “إدخار القوة”؟!
عين على الحرب
الجميل الفاضل
الخروج من فقه “إدخار القوة”؟!
أستطيع أن أفهم لماذا يقاتل الإسلاميون كل هذا القتال الشرس للاستمرار في السلطة، مهما كان تأثير هذه الحرب وهذا القتال، الذي يجري بضراوة وبلا هوادة، على وجود وبقاء الدولة في السودان.
وبدا على الأرض كأن الحركة الإسلامية قد تجاوزت عمليا وبالفعل، فتوي على عثمان محمد طه، التي أشارت في بدايات هذه الحرب إلي ضرورة أن يلتزم “الإخوان المسلمين” فقه “إدخار القوة”، حفاظا على كوادر التنظيم ربما لمرحلة أخرى من النزال.
ولعل اعترافات الدكتور أمين حسن عمر على شاشة قناة “الجزيرة مباشر” الاسبوع الماضي، التي قال فيها: أن الكتائب التي تقاتل في هذه الحرب، ليست كتيبة “البراء بن مالك” وحدها، وانما هنالك كتائب “البرق الخاطف” و”الفرقان” وغيرها، وأن هناك عشرات الإسلاميين يحاربون، وهم يمثلون السواد الأعظم من المقاتلين، مقرا بفقدان الحركة لألفين من عناصرها سقطوا أثناء القتال في هذه الحرب.
وكشف أمين عن موقف حركته الذي يرى أن هذه الحرب عدوان، وأن العدوان لا يمكن الرد عليه بالتسويات، بل ينبغي أن يرد ويوقف عند حده فقط.
ولعل قول امين حسن عمر يؤكد صدق ما اورده الشيخ عبدالحي يوسف في الندوة التي قال فيها: “ساق الله هذه الحرب من أجل أن يُعيد للحركة الإسلامية ألقها وقوتها، ولا أكتمكم أن عشرات الألوف من الشباب المسلم دربوا على السلاح، من الذين لم يحضروا تجربة الجهاد الأولي (الحرب في جنوب السودان)، الآن يقوم بالأشراف على هذه العملية الجهادية التي تسمي (المقاومة الشعبية)، وهو اسم الدلع كما يُقال، لأن مفردة الجهاد أصبحت منبوذة، يدربهم في المعسكرات من كانوا شبابا في فترة التسعينيات، ومعنا هنا من شارك في العمليات الجهادية وأصيب في يده واجريت له جراحة هنا قبل أيام، والانتصارات التي حصلت لا يرجع الفضل فيها للجيش أبداً، وإنما يرجع الفضل فيها بعد الله إلى المقاومة الشعبية”.
علي أية حال فقد أتاح التاريخ للإخوان المسلمين في السودان سانحة نادرة، قلّ أن جاد بمثلها لأية جماعة أو حزب اخر.
هي فرصة امتدت لأكثر من ثلاثين عاما، أحال الإخوان في غضونها وطناً كاملا، إلى مختبر كبير لتجريب فكرتهم دون أن ينازعهم في ذلك احد.
فقد صار السودان برمته خلال تلك العقود الثلاث، الي ما يشبه المجال الحيوي لممارسة النظرية الإخوانية في الحكم.
حيث اعترت الأخوان بعد نجاحهم السهل في الاستيلاء على السلطة سنة (89)، حالة تضخم للذات ظلت تقودهم دائما إلى طموح غير مشروع، وإلى نوع من الخيلاء الفكرية، التي جعلتهم يتظنون عن يقين باطل بأنه المالكون الحصريون للحقيقة.
وقد وصف الراحل د. منصور خالد هذا النمط من تضخم الذات الذي وقع، بأنه قد تفيّلت معه حتى القواقع اللافقارية.
شارحاً: أن تفيّل اللافقاريات تضاعف عندما أصبح الانتماء العقدي للحزب أو الجماعة جواز مرور لكل موقع مهني عال، سواء كان ذلك في الإدارات الحكومية، أو الجامعات، أو المؤسسات المالية والاقتصادية.
مشيرا إلي أن الظاهرة بلغت حدها الأقصى بحلول نظام الإنقاذ، تحت راية التمكين.
راية التمكين التي ضربت بجذورها في باطن الأرض بعيداً، لتنبت دولة شوكية عميقة لها تجليات، من بينها صورة ما تجري عليه هذه الحرب الآن.
الوسومالاخوان المسلمين حرب السودان كتيبة البراء