ولاية الفقيه.. جذور نظرية تحولت إلى أداة للهيمنة وبسط النفوذ
تاريخ النشر: 3rd, December 2024 GMT
يعيش العالم منذ أكثر من عام على وقع حرب مستعرة بين إيران وإسرائيل إما بشكل مباشر أو عبر أذرع طهران الإقليمية في سوريا ولبنان والعراق واليمن.
وكانت فكرة ولاية الفقيه حاضرة في صلب الصراع باعتبارها النظرية التي استطاعت من خلالها إيران حشد قطاع عريض من المجتمعات والحركات الشيعية خلفها، والزج بها في حروب وصراعات إقليمية لا تنتهي، فقرار السلم والحرب، بيد الولي الفقيه، كما تؤكد النظرية، ولا اعتراض على أوامر الفقيه الذي يستمد سلطته مباشرة من الله، والمفوض من الإمام الغائب، لتدبير شؤون الخلق في زمن الغيبة الكبرى.
حول الخميني فكرة ولاية الفقيه من نظرية مغمورة في هامش المدونة الشيعية، إلى نظام سياسي مكتمل الأركان، إذ عمل على استكمال صياغتها النظرية، وترميم أبعادها العقدية والسياسية، لتتحول على يديه إلى واحدة من أنصع تجليات الشمولية الدينية، والحكم التيوقراطي المطلق.
وتنتهي جذور الأزمة التي أفرزت ولاية الفقيه إلى الخلاف الشهير الذي أعقب وفاة النبي محمد، وتمحور حول من له الحق في رئاسة الدولة الإسلامية الناشئة من بعده. علي ابن أبي طالب لم يحضر السجال الذي نشب في سقيفة بني ساعدة، ولم يشهد انتقال السلطة إلى أبي بكر، ولم يعترف بالخليفة الجديد إلا بعد مرور 6 أشهر على تنصيبه. موقف علي ابن طالب فسره أنصار وشيعته بأن عليا وصى له النبي بالخلافة، وأنها حق حصري له ولأولاده من بعده، حسب ما ذكر في كتاب الملل والنحل للشهرستاني.
ويعتقد الشيعة أن الله عين 12 إماما معصوما، يبدأون بعلي ابن أبي طالب، وينتهون بمحمد بن الحسن العسكري الذي ولد حسب الروايات الشيعية سنة 255 هجرية.
لكن المأزق الذي وجد فيه الفكر الإمامي نفسه حصل عشية وفاة الإمام الحادي عشر الحسن بن علي بن محمد العسكري في سامراء سنة 260 هجرية، إذ توفي دون أن يخلف ولدا تنتقل الإمامة إليه، فاختلف الشيعة في مصير الإمامة، وانقسمت فرقهم إلى أربع عشرة فرقة، واحدة منها فقط تقول بأن الحسن العسكري خلف ولدا اسمه محمد، وقد أخفاه خوفا من أن تنال منه يد السلطة الباطشة، ومن هذه اللحظة تأسست فكرة الإمام الغائب لدى الشيعة، وهو نفسه المهدي الذي سيخرج آخر الزمان ليملأ الدنيا عدلا وقسطا، وتأسست معها أيضا فكرة " الإنتظار" أي انتظار ظهور محمد بن الحسن العسكري المهدي، الذي توارى عن الأنظار قبل 1000 سنة.
جذور عقديةانتظر الشيعة قرونا دون أن يظهر أثر للإمام الغائب، وأصرت عدد من الفرق الشيعية على الانتظار لأن "كل راية تظهر قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله"، أي أن كل من يدعي الإمامة في زمن الغيبة وقبل ظهور الإمام المهدي الغائب فلا يختلف عن الحكام الذين غصبوا أهل البيت حقهم في الإمامة. وهذا ما يفسر الجمود السياسي للشيعة قرونا من الزمن، إلى أن جاءت نظرية ولاية الفقيه لتحرر الفقه السياسي الشيعي من قرون الانتظار السلبي هذه، وتعيده إلى معترك الفعل السياسي من جديد، وفق ما ذكر في كتاب "ذكر في كتاب الإمام المهدي.. حقيقة تاريخية أم فرضية فلسلفية"، لأحمد الكاتب.
البذرة الأولى لنظرية ولاية الفقيه وضعها الفقيه الشيعي الإمامي أبو الحسن علي الكركي، المتوفى سنة 940 هجرية والمنحدر من جبل عامل بلبنان، وقد وجد الفرصة مواتية لنشر أفكاره ومواقفه العقدية عن الولاية والإمامة لما استدعاه طهماسب بن الشاه إسماعيل الصفوي الذي تبنى المذهب الإمامي بشكل رسمي، ليتقاسم السلطة معه باعتباره فقيها إماميا مجتهدا، وأصدر قرارا ملزما بوجوب طاعة كل ما يصدر عنه من أوامر، وفق ما ورد في كتاب "عرش الفقيه: الارهاصات التاريخية والمباني الفقهية لولاية الفقيه" لأحمد كاظم الأكوش.
ومن تلك اللحظة بدأ الكركي في تطبيق مبدأ النيابة العامة عن الإمام المنتظر، وشرع في الصياغة النظرية لولاية الفقيه، وكتب عددا من النصوص التي يدافع فيها عن موقعه كمفوض من الإمام الغائب ونائب عنه، وأن الولي الفقيه يستمد شرعيته من الله، "لأنه نائب من قبل أئمة الهدى، في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل؛ فيجب التحاكم إليه، والانقياد إلى حكمه" حسب تعبيره.
إذن، فقد بدأت "ولاية الفقيه" بفكرة تقاسم السلطة بين الحاكم والفقيه، وكان الكركي أول من مارس بعضا من الصلاحيات التي كانت في السابق من خصائص الأئمة المعصومين وحدهم، وبدأ معه الفكر السياسي الشيعي في الانعتاق من فكرة الانتظار في زمن الغيبة، طبقا لما ذكر في كتاب "المباني الفقهية والبعد التاريخي لولاية الفقيه عند المحقق الكركي"، لعبير شمص.
الخطوة الكبيرة التالية في سياق البناء النظري لفكرة ولاية الفقيه سيخطوها الفقيه والأصولي الإمامي أحمد النراقي المتوفى سنة 1244 هجرية، إذ سيخصص أعمالا كاملة للحديث عن ولاية الفقيه تحت الاسم نفسه، وسيكون أول فقيه شيعي يبحث جوانب الولاية ويحشد ما يعتبره أدلة عقلية ونقلية على وجوب تصدي الفقيه لشؤون السلطة والحكم نيابة عن الإمام الغائب، فالنراقي طور نظرية ولاية الفقيه من إجازة الملوك وتقاسم السلطة معهم كما هو الحال مع الكركي، إلى اضطلاع الفقيه بنفسه بشؤون الحكم، وممارسة صلاحيات الإمام الغائب، وتوسع في شرح أفكاره عن الإمام والولاية في كتابه الأهم "عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام".
الخميني.. الولاية المطلقةستتطور نظرية ولاية الفقيه مع الخميني (توفي سنة 1989)، وستتبلور في صيغتها النهائية، وتأخذ شكل نظام سياسي مغلق، تؤول السلطة المطلقة فيه إلى الفقيه، وتجتمع الصلاحيات كلها في يده، إذ نص دستور الجمهورية الإيرانية في مادته الخامسة أنه "في زمن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير".
مع الخميني ستتأصل النزعة الشمولية للولي الفقيه، وسيأخذ الاستبداد الفردي صبغة لاهوتية، إذ رفع الخميني الولي الفقيه إلى مرتبة الإمام المعصوم، وسيقرر أن سلطته المطلقة مستمدة من الله. يقول الباحث الإيراني رضا حق بناه أن الخميني يرى "أن الولاية المطلقة للفقيه تُعد قلب وروح النظام الإيراني وأن خصوصية نظرية الإمام الخميني تكمن في اعتقاده بسعة صلاحيات الفقيه ومحاكاتها لصلاحيات حكومة النبي والأئمة".
في ديسمبر 1988، حسم الخميني الجدل في إيران حول حدود صلاحيات الولي الفقيه، وأكد في رسالته إلى علي خامنئي الذي كان رئيس الجمهورية آنذاك، أن صلاحيات الولي الفقيه لا تحدها حدود، وسماها "الولاية المطلقة الإلهية". ورأى الباحث العراقي في الفكر الشيعي، أحمد الكاتب، في الرسالة "تطورا كبيرا باتجاه الشمولية والإطلاق، وقفزة كبيرة في توسيع الولاية، وهي تتحدث عن صلاحيات مشابهة لصلاحيات الرسول، والأئمة المعصومين".
ولاية الفقيه وتصدير الثورةمثلما كانت ولاية الفقيه أداة للهيمنة داخل إيران، فقد أصبحت أيضا أداة للتوسع الخارجي والتوغل داخل الدول والمجتمعات الشيعية الأخرى. وكانت عاملا أساسيا في تكريس الانقسام السياسي، وتأجيج الحروب الأهلية في كثير من المناطق لا سيما في لبنان وسوريا والعراق واليمن وعدد آخر من الدول التي توجد بها مجتمعات شيعية، لأن هذه المجتمعات وجدت نفسها موزعة الولاء بين أوطانها وبين الولي الفقيه، فتسبب لها ذلك بأزمات في الانتماء والهوية.
وشكلت ولاية الفقيه إطارا أيديولوجيا للتوسع خارج حدود إيران، وتأسيس كيانات تدين بالولاء لطهران، على حساب أمن الدول واستقرار المجتمعات، وقد نجحت إيران إلى حد بعيد في زرع فكرة الولي الفقيه داخل التيارات الشيعية التي عارضت الفكرة تاريخيا، كما هو الحال مع الحوثيين في اليمن الذين ينتمون إلى الفرقة الزيدية التي لا تقول بالنص والوصية والعصمة في مسائل الإمامة، وكما هو الحال مع عدد من الجماعات الشيعية العراقية.
في ذروة المعارك التي خاضها الجيش العراقي بالتعاون مع الحشد الشعبي ضد تنظيم داعش، أصر عدد من قادة الحشد الشعبي على تأكيد تبعية الحشد للولي الفقيه، وكانوا يأتمرون بتوجيهات قاسم سليماني أكثر من قادة الجيش العراقي الذين يديرون المعارك في الخطوط الأمامية.
وذكرت في هذا الإطار جريدة "شرق" الإيرانية أن 41 فصيلا من الحشد الشعبي تمتثل لأوامر قاسم سليماني والولي الفقيه في إيران، وتزيد أعدادهم على 100 ألف عنصر، يتلقون رواتب عالية بالمقارنة مع عناصر من الجيش العراقي.
المفارقة أن الحشد الشعبي تأسس بموجب فتوى مرجعية النجف ممثلة بعلي السيستاني، وأغلب المنضمين للحشد هم من المقلدين لمرجعيات النجف المستجيبين لفتوى "الجهاد الكفائي" الصادرة في يونيو 2014، لكن أغلب قادة الحشد هم ممن يتبعون مرجعيات قم الإيرانية، ولا يخفون ولائهم للولي الفقيه، الأمر الذي أدى إلى خروج 4 فصائل من هيئة الحشد الشعبي وتؤسس تجمعا بديلا سمته " حشد العتبات المقدسة"، حرصا منها على وضع حدود واضحة بينها وبين الفصائل المرتبطة عضويا مع الولي الفقيه.
وأكدت في بيان لها أنها "مرتبطة بشكل رسمي بالقائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء. وعدم قبول حشد العتبات المقدسة بتصرفات بعض الفصائل "الولائية" داخل الهيئة، وخاصة تلك التي تعلن ولاءها التام لمرجعية ولاية الفقيه الإيرانية".
حزب الله اللبناني ما فتئ يؤكد في تصريحات قادته ووثائقه التأسيسية أنه تابع للولي الفقيه، وكان سلاحه ومؤسساته الموازية أكبر معضلات لبنان، وقد زج بالبلد في صراعات إقليمية منذ سنوات نزولا عند رغبات وأوامر الولي الفقيه.
ويقول نعيم قاسم الأمين العام لحزب الله، في كتابه " حزب الله.. المنهج والتجربة"، أن "الولي الفقيه هو الذي يملك صلاحية قرار السلم والحرب". وأكد أن صلاحياته غير محدودة، وهو الذي يشرف على رسم السياسات وتحديد القواعد، وأن الحزب مكلف فقط بالتفاصيل الصغيرة للعمل السياسي والثقافي ومباشرة النشاطات الميدانية. بل ذهب نعيم قاسم بعيدا عندما قرر فرض وصاية الولي الفقيه حتى على الشيعة الذين يقلدون مرجعيات مختلفة، فقال: " الارتباط بالولاية تكليف والتزام يشمل جميع المكلفين حتى عندما يعودون إلى مرجع آخر في التقليد، لأن الآمرية في المسيرة الإسلامية العامة للولي الفقيه المتصدي".
حسن نصر الله في كثير من المناسبات عبر عن فخره بصفته "فرد في حزب ولاية الفقيه"، واختصر في وقت مبكر مشروع حزب الله بقوله: "مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع دولة إسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني".
في خضم الحرب الحالية بين إسرائيل وإيران والفصائل التابعة للولي الفقيه في سوريا ولبنان والعراق تتجلى استراتيجية إيران في تحويل هذه البلدان إلى خطوط دفاع متقدمة عن جمهورية الولي الفقيه، وتزج بمليشياتها في حرب يدفع فاتورتها آلاف المدنيين والمنشآت الحيوية والبنى التحتية والمربعات السكنية.
وفي خضم هذه الحرب فقط أدركت الشعوب والحواضن الشعبية لاسيما في لبنان الكلفة الباهظة لولاية الفقيه، وقد تكون بداية التأسيس لوعي جديد يدرك الأبعاد التدميرية لهذه النظرية، وتتجند معها المرجعيات الشيعية لكشف تهافتها والتحذير من خطورتها.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الإمام الغائب الولی الفقیه الحشد الشعبی حزب الله فی زمن
إقرأ أيضاً:
حكم تكرار العمرة في السفر الواحد ونفس اليوم .. اعرف رأي الشرع
قال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، إن العمرة شعيرة عظيمة، ترفع بها الدرجات، وتُكَّفرُ السيئات، وتعم الخيرات؛ قال سيدنا رسول الله: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ». [متفق عليه]
وأضاف مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، أن الإحرام بالحج له ميقات مكاني، وزماني محدد، لا تصح أداء مناسك الشعيرة إلا فيه، وليس للعمرة ميقات بزمان محدد.
وأشار إلى أن العمرة من العبادات غير المؤقتة، ولا المتعينة بيوم معين؛ فيجوز في حقها التكرار والتوالي في أي وقت كصيام وصلاة النافلة؛ قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "ولا بأس أن يعتمر في السنة مرارًا" [المغني لابن قدامة (3/ 220)]، وقال الإمام ابن حجر رحمه الله: "وفي حديث العمرة إلى العمرة دلالة على استحباب الاستكثار من الاعتمار، خلافًا لقول من قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة..". [فتح الباري لابن حجر (3/ 598)]
وأكد أنه يجوز لمن سافر لأداء العمرة تكرارها في السَّفرة الواحدة، كما يجوز له موالاة تكرارها في اليوم الواحد على الراجح من أقوال الفقهاء؛ لعموم قول سيدنا رسول الله: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا، تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ، خَبَثَ الْحَدِيدِ» [أخرجه ابن ماجه].
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: "وجمهور العلماء على إباحة العمرة في كل السنة لأنها ليس لها عند الجميع وقت معلوم ولا وقت ممنوع لأن تقام فيه .. والجمهور على جواز الاستكثار منها في اليوم والليلة لأنه عمل بر وخير فلا يجب الامتناع منه إلا بدليل ولا دليل أمنع منه بل الدليل يدل عليه بقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] [الاستذكار (4/ 112)].
وذكر أن من أراد تكرار العمرة في السفر الواحد خرَج إلى أدنى الحِل، خارج الحرم؛ مثل "التنعيم" أو "عرفات" أو "الجعرانة"، وأحرَم بعمرة جديدة؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "وأما ميقات المكي للعمرة فأدنى الحل؛ لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي أمرها في العمرة أن تخرج إلى التنعيم وتُحرِم بالعمرةِ منه، والتنعيم في طرف الحل، والله أعلم". [شرح النووي على مسلم (8/ 85)]