هذه خيارات أنقرة في ظل التحولات الميدانية بسوريا
تاريخ النشر: 3rd, December 2024 GMT
أنقرة- بينما تشهد سوريا تحولات ميدانية كبيرة، تجد تركيا نفسها أمام اختبار جديد يعيد رسم معادلات الصراع الإقليمي. فمع التقدم السريع لفصائل المعارضة المدعومة منها شمال البلاد، تتزايد التساؤلات حول دور أنقرة في تحريك الملف السوري، خصوصا في حلب وحماة.
وكثف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مشاوراته الدولية، متلقيا سلسلة من الاتصالات مع نظرائه حول العالم لتقييم الوضع المتأزم وبحث الخطوات اللازمة لاحتوائه.
كما استقبل نظيره الإيراني عباس عراقجي في أنقرة وأكدا أهمية التعاون الإقليمي، مع الاعتراف بوجود خلافات تحتاج إلى حلول مشتركة. وشدد فيدان على ضرورة التوصل إلى تسوية بين الحكومة السورية والمعارضة، بينما أكد عراقجي أهمية الحفاظ على مكتسبات مسار أستانا واستقرار المنطقة.
الموقف الداخليمن جانبه، قال الرئيس رجب طيب أردوغان إن بلاده ستتخذ كافة التدابير لحماية أمنها القومي، مؤكدا متابعة التصعيد العسكري شمال سوريا "لحظة بلحظة". وأضاف أن أنقرة مستعدة للتحرك لإخماد "الحريق المشتعل في منطقتنا"، مع التأكيد على موقفها الراسخ بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية والتوصل إلى حل سياسي ينهي حالة عدم الاستقرار الممتدة منذ 13 عاما.
إعلانرغم الخلافات السياسية الداخلية، فإن مواقف المعارضة التركية تجاه الأحداث الجارية في سوريا لا تختلف كثيرا عن الموقف الرسمي. ووصف أحمد داود أوغلو رئيس حزب المستقبل المعارض شروط الرئيس السوري بشار الأسد لقبول التطبيع مع أنقرة -والتي تضمنت انسحاب القوات التركية من سوريا- بأنها "موقف متعجرف".
وقال داود أوغلو "الأسد يدفع الآن ثمن الردود المتعجرفة التي قدمها على دعوات الرئيس أردوغان للتطبيع. لو اختار التفاهم مع تركيا، لكان بإمكانه الحفاظ على نفوذه في دمشق بشكل أكبر".
من جانبه، أعرب رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو عن حزنه العميق تجاه التصعيد الأخير قائلا "لقد اندلعت الصراعات مجددا في سوريا ونحن نتابع هذه التطورات بحزن شديد".
أما حزب السعادة فأعلن معارضته أي عمليات عسكرية تركية تستهدف "النظام السوري" أو الجماعات الإيرانية في المنطقة، محذرا من أن مثل هذه الخطوات تخدم "المصالح الصهيونية والإمبريالية العالمية".
ووصف رئيس الحزب الجديد محمود أريكان -في منشور على منصة إكس- التطورات الأخيرة في الشمال السوري بأنها "أكبر تهديد أمني في تاريخ الجمهورية التركية"، معربا عن قلقه من تصعيد قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وخلق موجة نزوح جديدة للمدنيين.
دعم محسوب
وفق الباحث في الشأن التركي علي أسمر، كانت أنقرة على مدار سنوات لاعبا رئيسيا في دعم المعارضة السورية عبر التدريب العسكري واللوجستي حيث افتتحت أكاديمية عسكرية شمال سوريا قبل عدة أشهر، لافتا إلى أنها لم تتدخل بشكل مباشر في الهجوم الأخير على حلب واختارت إدارة الوضع من مسافة بعيدة دون عرقلته، بينما تدعم بشكل واضح الجيش الوطني السوري في العمليات الجارية في تل رفعت والمرتقبة في منبج.
وأكد أسمر -للجزيرة نت- أن تركيا تتخذ خطوات إستراتيجية لمنع تزايد نفوذ حزب العمال الكردستاني في ظل حالة الفوضى الحالية، ملوحا باستعدادها لاتخاذ الإجراءات اللازمة إذا تفاقم الوضع.
إعلانوبرأيه، يمثل التصعيد الأخير انعكاسا غير مباشر للتطورات الإقليمية التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مشيرا إلى وجود توافق دولي متزايد على تقليص النفوذ الإيراني في سوريا. وقال إن تركيا تسعى إلى استغلال هذا المناخ الدولي لصالحها بعد سنوات من مواجهة ظروف دولية غير مواتية.
وأكد الباحث أسمر أن تقدم المعارضة السورية يمثل ورقة ضغط يمكن لأنقرة استخدامها في المفاوضات الدولية المقبلة، كما أن توسيع مناطقها يخدم مصلحة تركيا حيث يساهم في زيادة مساحة المنطقة الآمنة، مما يساعد في تخفيف أعباء أزمة اللاجئين داخلها.
ووفقا له، لم يعد المسار السياسي الحالي، بما فيه مسار أستانا، صالحا للوضع الراهن في المنطقة، داعيا إلى إطلاق آخر جديد ينصف تركيا بشكل أكبر. كما توقع إمكانية إحياء مسار جنيف والقرار الأممي 2254، لا سيما مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وبخصوص العلاقات الإقليمية والدولية، رأى الباحث أن روسيا لن تفرط بعلاقاتها مع تركيا نظرا لدورها كحلقة وصل رئيسية بينها والغرب خاصة في ملفات حساسة مثل تصدير الحبوب والصراع مع أوكرانيا. وبالنسبة لإيران، وصف القرار الدولي بإنهاء نفوذها في سوريا بـ"المحسوم"، مؤكدا أن تركيا لن تكون قادرة على مساعدة طهران في مواجهة هذا الضغط الدولي.
من جانبه، قال المحلل السياسي طه عودة أوغلو إن أنقرة تجد نفسها اليوم في وضع أفضل بكثير مقارنة بالسنوات الماضية، مستشهدا بالتفاهمات التي أبرمتها مع موسكو والولايات المتحدة، خاصة اتفاق مارس/آذار 2020 بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، والتفاهمات الميدانية في 2019.
وباعتقاده، أضافت سيطرة المعارضة السورية مؤخرا على مناطق واسعة شمال سوريا أوراق قوة جديدة لتركيا مما يسهل عليها تحقيق أهدافها، مثل السيطرة على مناطق الوجود الكردي مثل تل رفعت ومناطق أخرى.
إعلانوأوضح -للجزيرة نت- أن هذه المكاسب ساعدت تركيا في تخفيف الضغوط الدولية والمحلية، خاصة من القاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية التي كانت متحفظة بشأن خوض صراعات جديدة في ظل الأزمات الاقتصادية الراهنة. وأكد أن تركيا تسعى لاستغلال هذه التطورات لتحقيق أهداف سياسية ودبلوماسية خاصة في الملف الكردي الذي مثل معضلة كبيرة لها خلال السنوات الماضية.
وتابع "هناك توجه تركي لإبعاد الوحدات الكردية وملء الفراغ الناجم عن ذلك بسيطرة أنقرة، بالتزامن مع رغبة واضحة في تقويض النفوذ الإيراني، خاصة أن تركيا كانت تشعر بانزعاج متزايد من تحركات طهران في الساحتين العراقية والسورية في الأعوام الماضية".
وحول تصريحات فيدان التي دعت إلى تفاهمات بين الأسد والمعارضة، أوضح عودة أوغلو أن مسار التطبيع الذي تبنته تركيا مع النظام السوري في العامين الأخيرين ركز على قضايا اللاجئين ومكافحة الإرهاب، لكنه تطرق أيضا إلى تنفيذ القرارات الدولية، مثل القرار 2254 الذي يؤكد على الالتزام بوحدة سوريا وسيادتها واستقلالها وسلامتها الإقليمية.
أما عن التباينات بين تركيا وإيران، فلفت إلى أن المؤتمر الصحفي الأخير بين وزيري خارجية البلدين كشف عن اختلافات كبيرة في وجهات النظر، خصوصا حول هجوم حلب.
وأكد المحلل أن "طهران تواصل دعمها للنظام السوري وتصف المعارضة بالإرهابية"، مما يعقد مسار الحل السلمي ويهدد بتحويل الأوضاع إلى سيناريوهات أكثر خطورة خلال الأيام المقبلة، محذرا من أن أي تصعيد غير محسوب قد لا يخدم الشعب السوري أو الأطراف الفاعلة في المنطقة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات شمال سوریا فی سوریا أن ترکیا
إقرأ أيضاً:
المعارضة التونسية بين رهان السياسي ووجدان القاضي
المعارضة التونسية بين رهان السياسي و"وجدان" القاضي
عادل بن عبد الله
بصرف النظر عن التوصيف الدستوري لإجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 25 يوليو 2021 -هل هي انقلاب أم قراءة ما فوق دستورية- فإن تلك الإجراءات قد أعادت هندسة المشهد العام بصورة تجاوزت المستوى السياسي الصرف. ولأسباب يمكن ردها إلى ضعف المعارضة وهشاشة مخرجات الانتقال الديمقراطي من جهة، وإلى الدعم النشط من القوى الإقليمية المتوجسة من نجاح التجربة التونسية من جهة ثانية، استطاع الرئيس -بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة وأذرعها المختلفة- أن يجمّع كل السلطات بين يديه، خاصة بعد القرار 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، وهو ما أعطى للمراسيم والقرارات الرئاسية سلطة لا تقبل الطعن أمام أية جهة قضائية، كما خوّل ذلك المرسوم للرئيس "حصريا" سلطة إصدار القوانين لتنظيم المحاكم وكذلك مراجعة إجراءات التقاضي.
بدخول الدستور التونسي الجديد حيز التنفيذ إثر الاستفتاء الشعبي العام سنة 2022، أصبحت "السلطة" القضائية مجرد "وظيفة" مثلها في ذلك كمثل السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولم يكن تغير التسمية مجرد مسألة لغوية، بل كان تعبيرا عن رهان سياسي مداره شرعية "التأسيس الثوري الجديد". فالرئيس لا يعتبر "تصحيح المسار" تأسيسا لسلطة جديدة، بل هو إعادة لها إلى صاحبها الأصلي، أي الشعب. وهذا الشعب -حسب أنصار تصحيح المسار- هو الذي فوّض "الخبير الدستوري" قيس سعيد ليمارس السلطة باسمه مرتين: مرة أولى سنة 2019 عند انتخابه رئيسا من خارج النخب السياسية التقليدية ومن خارج الأحزاب، ومرة ثانية عند تأييده لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021.
ومهما كان موقفنا من الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 ومن مدى التزامها بالمعايير الدولية للانتخابات النزيهة، فإن فوز الرئيس قيس سعيد قد جاء ليُشرعن سردية التفويض الشعبي وليدفع بـ"حرب التحرير الوطني" إلى مرحلة اللا عودة، خاصة من جهة علاقة المنظومة الحاكمة بأغلب الفاعلين الاجتماعيين المعارضين، أي بأولئك الذين جاء "تصحيح المسار" لإنهاء الحاجة إليهم وإلى أجسامهم الوسيطة وديمقراطيتهم التمثيلية.
في ظل سردية "حرب التحرير الوطني"، لا يكون توحّد الجبهة الداخلية ضد "الخونة" و"المتآمرين" و"الفاسدين" خيارا، بل هو واجب وطني لا يمكن لأي "وظيفة" من الوظائف الثلاث ألا تنخرط فيه دون أن تكون عرضة هي الأخرى لتهمة الخيانة/ العمالة. وهو ما وضع الوظيفة القضائية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاشتغال بمنطق "الوظيفة" التابعة للوظيفة التنفيذية، لا بمنطق السلطة المستقلة، وهو ما يعني أن يتخلى القاضي عن وجدانه ثقةً في وجدان السياسي والأمني حتى إن لم يكن ذلك الوجدان مسنودا بأدلة وبراهين، وإما أن يحافظ على استقلال "وجدانه" فيصبح عندها محل استهداف مباشر من السلطة التنفيذية كما وقع لعشرات القضاة المعزولين أو المعاقبين بنقلات تعسفية وغيرها. فتبرئة من وقر في وجدان السياسي و/أو الأمني أنهم مذنبون يجب "تطهير" البلاد منهم، تعني أنّ القاضي "شريك لهم" كما صرّح بذلك الرئيس نفسه.
للرد على بيان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الداعي إلى "وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير"، لم يجد النظام التونسي ممثلا في وزارة الخارجية تعبيرا أفضل من "بالغ الاستغراب". فالمفوض الأممي فولكر تورك يبني انتقاداته للنظام التونسي على "مغالطات"، ذلك أن الرواية الرسمية للنظام ما زالت متمسكة باستقلال القضاء وبتوفير الضمانات القضائية للمتهمين، كما أن النظام ينكر الطبيعة السياسية للقضايا ويعتبرها مجرد "قضايا حق عام" لا علاقة لها بأنشطة أصحابها الحزبية والسياسية والإعلامية ولا بممارستهم حرية الرأي والتعبير. وإذا قرأنا هذا الموقف الرسمي في سياق المحاكمات السياسية الحالية التي قد تصل بعض العقوبات فيها إلى الإعدام، سيكون من الواضح أن لا نية للسلطة للتراجع عن المقاربة الأمنية-القضائية لحل القضايا السياسية.
بمعنى من المعاني، يبدو أن النظام قد اختار المضيّ في المحاكمات الحالية ردا على دعوات الحوار الوطني وإظهارا لقدرته على فرض خياراته السلطوية الأحادية. فما لا يفهمه العديد من السياسيين والمحللين هو أن الحوار والتشاركية والاعتراف بتعدد الشرعيات والرمزيات والإقرار بدور الأجسام الوسيطة.. كل ذلك يعني نهاية "تصحيح المسار" وفقدانه لعلة وجوده أمام منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها في الخارج. ولذلك يواصل النظام سياسة الهروب إلى الأمام ويرفض الاعتراف بأي حاجة لتعديل خياراته الكبرى سواء في السياسة (الديمقراطية المباشرة) أو في الاقتصاد (الشركات الأهلية).
إن إدارة ملف المعارضة السياسية بمقاربة أمنية-قضائية مسنودة بإعلام مدجّن ليس خيارا جديدا في الساحة التونسية، بل هو إعادة إنتاج لخيارات سابقة منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية. ولا شك في أن التعامد الوظيفي بين "تصحيح المسار" وبين الرأسمال البشري/الفكري للمنظومة القديمة يجعل من التفكير في بدائل للمقاربة الأمنية أمرا مستبعدا.
عندما كان القضاء "سلطة" فإنه كان نظريا محكوما بجملة من القواعد مثل أن القاضي لا يحكم بعلمه، وأن الإدانة أو التبرئة يكونان بما "استقر في وجدان المحكمة". ولكن انتقال القضاء من سلطة إلى وظيفة في ظل سردية "التأسيس الثوري الجديد" وسردية "حرب التحرير" تجعل القاضي محمولا على الحكم بعلم السلطة وما يستقر في وجدان السياسي والأمني بصرف النظر عما يستقر في وجدانه بعد الاطلاع على ملف الإحالة. فالقاضي -مثل جميع موظفي الدولة- هو الآن في خدمة "مشروع سياسي"، وإلا في معارضته إذا ما خالف انتظارات المنظومة الحاكمة منه.
ولا شك في أن لكل احتمال من الاحتمالين كلفة أخلاقية وقانونية يتحملها القضاء وسائر المواطنين سواء في الوضع الراهن أو في المستقبل. وإذا كان وجدان القضاء قبل "تصحيح المسار" غير مطابق للقلب السليم -أي خاضعا لاعتبارات وتدخلات من خارج الملفات ذاتها- فإنه على الأقل كان قادرا على ضمان نوع من الاستقلالية بحكم تعدد مراكز السلطة والسلطة المضادة. ولكنّ تمركز السلطة وغياب السلطات المضادة في ظل "تصحيح المسار" يجعلان من ذلك الوجدان القضائي مسيجا بوجدان السياسي والأمني، وخاضعا للسلطة التنفيذية التي تجعل الوجدان الصافي للمحكمة خيارا لا يستطيع إلا القليل من القضاة تحمل كلفته.
x.com/adel_arabi21