فهم طبيعة حرب السودان مدخل لإيقافها
تاريخ النشر: 3rd, December 2024 GMT
أشرنا في مقالنا السابق إلى أن أي منبر، دولي أو إقليمي أو سوداني، يسعى لوقف حرب السودان، يجب أن يستند إلى إعلان مبادئ يشكل المدخل الأساس والأرضية الضرورية لعملية التفاوض حول وقف الحرب وإنهائها، شريطة أن توافق عليه كل الأطراف المتحاربة، وأن تجمع عليه القوى المدنية والسياسية السودانية، وهي أصلا المناط بها ابتدار مسودته.
أما الجهة المناط بها صياغة هذه الرؤية والتوافق على محتواها، فهي أيضا القوى المدنية والسياسية السودانية. وجوهر هذه الرؤية، حسب وجهة نظرنا، هو مجموع الإجابات على ما أسميناه بالأسئلة الصعبة المتعلقة بحرب السودان، والتي طرحناها في مقالنا السابق، وابتداء من قال اليوم سنناقش الخيارات والإجابات الممكنة على هذه الأسئلة.
الإدراك والفهم الصحيحان لجوهر وطبيعة هذه الحرب يمثلان معا المدخل الرئيسي لكيفية وقفها وإنهائها. وهو جوهر نتاج تفاعل مجموعة من العوامل المجتمعة والمتداخلة، فيها الآني المستحدث وفيها القديم المتجدد الذي تمتد جذوره عميقا، وفيها البعد الداخلي المحلي والبعد الإقليمي والدولي. لذلك، أي عامل من العوامل التالية سيكون صحيحا في تفسير جوهر وطبيعة هذه الحرب وأسبابها، ولكنه لن يكون العامل الوحيد وسيظل تفسيرا جزئيا:
عامل الصراع الداخلي حول السلطة بين مراكز القوى في الجيش والدعم السريع مقرونا أو مستقويا بمحاولات النظام القديم لاستعادة السيطرة على السلطة التي اقتلعتها ثورة الشعب، بعد أن تجهز على الثورة وتودعها متحف التاريخ.
الخلاف بين قيادتي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع حول الترتيبات العسكرية ومواقيت دمج القوات الثانية في الأولى، زاد من توتر العلاقة بين الطرفين
الخلاف بين قيادتي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع حول الترتيبات العسكرية ومواقيت دمج القوات الثانية في الأولى، زاد من توتر العلاقة بين الطرفين، لكن لا يمكن اختزال سبب اندلاع القتال فيه. فالمشتركات بين القيادتين كثيرة منها الرحم الواحد، والتاريخ المشترك في دارفور وفي حرب اليمن وفي 11 و13 أبريل/نيسان 2019 وفي مذبحة فض الاعتصام وفي الإنقلاب على الفترة الانتقالية، كما كانا يتشاركان ذات العلاقة الخاصة مع حلفاء خارجيين في الجزيرة العربية وفي شرق البحر الأبيض المتوسط.
هذه المشتركات، وغيرها كثر، كان من الممكن أن تعالج الخلاف حول الترتيبات العسكرية بكل بسهولة، خاصة أن مسألة دمج القوات أصلا ليست بذلك التعقيد العصي على الحل.
نكرر قولنا بأن الحرب هي شكل تجل للأزمة الوطنية العامة التي ظلت ممسكة بتلابيب الوطن منذ فجر استقلاله، والتي طبعت بميسمها كل أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية في البلاد. وهي أزمة تعود جذورها إلى فشل النخب السودانية في إنجاز المهام التأسيسية لبناء دولة ما بعد الاستقلال الوطنية، فظلت هذه المهام مؤجلة ومتراكمة، ثم تفاقمت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال، والتي لم تركز إلا على كيفية بقائها واستمرارها في السلطة. وظلت هذه الأزمة تتجلى وتعبر عن نفسها في حالة الاضطراب وعدم الاستقرار في البلد، وفي تعاقب الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية، وفي النزاعات العرقية والحروب الأهلية وانفصال جنوب السودان، ثم جاءت هذه الحرب الأخيرة كشكل تجل آخر لها ولكن وفق خصائص جديدة عنوانها تهجير السكان وتدمير البنى التحتية وتفتيت وحدة البلاد وتقسيمها.
عومل إقليمية ودولية ترتبط بالصراع الدولي حول الأمن الغذائي والأراضي الزراعية والسيطرة على الموانئ والممرات المائية، كما ترتبط بموقع السودان الجيوسياسي والذي جعله في مرمى نزاعات البلدان المجاورة، وصراعات القرن الأفريقي ومنطقة الساحل، وكذلك في مرمى تداعيات الصراع العربي الإسرائيلي وسعي إسرائيل للتمدد إفريقيا. كما أن الموقع الجيوسياسي، يقحم السودان في التنافس الحاد بين أمريكا والغرب من جانب وروسيا والصين من الجانب الآخر حول منابع البترول في الجزيرة العربية، وحول منطقة البحيرات في أفريقيا، وحول المعادن والمنابع الجديدة للطاقة وطرق نقلها، وحول السيطرة على السوق العالمي وممرات التجارة الدولية. ومعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع الصين كمهدد استراتيجي لمصالحها، وتسعى لعرقلة المشروع الصيني الضخم المعروف بمشروع الحزام وطريق الحرير، والذي يمر بالسودان وأجزاء من القارة الأفريقية.
ومن زاوية أخرى فإن حرب السودان ليست ببعيدة عن المواجهة الحادة ضد تيارات الإسلام السياسي في المنطقة. وإذا ربطنا كل ذلك بتطاول أمد الحرب وانتشارها، خاصة في مناطق الزراعة والموارد والإنتاج، وبتقاصر الجهود الإقليمية والدولية عن تنفيذ الآليات الممكنة لمنع هذا التطاول والانتشار، ولو فقط بمنع تدفق الأسلحة المتواصل وبكثافة إلى داخل البلاد، يجوز لنا القول، وكررنا ذلك كثيرا، بأنها أيضا حرب بالوكالة، وضد السيادة السودانية، كما تسعى داوئر بعينها لاستغلال هشاشة الدولة لضربها وتقسيمها. آخذين هذه العوامل في الاعتبار، فإن الرؤية المشار إليها لوقف الحرب، يجب أن تتناول المصالح الإقليمية والدولية في السودان، وارتباطات هذه المصالح بالصراع في البلاد، ووضع حلول عملية لمعالجتها، وكيف يمكن للقوى المدنية والسياسية السودانية التعامل مع الشركاء الدوليين الداعمين لوقف الحرب دون تفريط في السيادة الوطنية، وذلك وفق رؤية موحدة ومتوافق عليها تشكل سدا أمام سعي التدخلات الخارجية المحموم للاستفادة من الحرب في تنفيذ مخططاتها الإستراتيجية، وفي نهب موارد البلاد.
نقلا عن القدس العربي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: حرب السودان
إقرأ أيضاً:
السودان.. نظام رعاية صحية يئن تحت الحرب
مع استمرار الحرب في السودان، يعيش القطاع الصحي أزمة غير مسبوقة، مع نقص الأدوية والعاملين الصحيين، والاستهداف للمؤسسات الصحية من قبل قوات الدعم السريع.
ومنذ منتصف أبريل/نيسان 2023، يخوض الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة الانتقالي قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حربا خلفت أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 14 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدر بحث لجامعات أميركية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.
واندلعت حرب السودان قبل انتهاء عملية سياسية بناء على "الاتفاق الإطاري" الذي وقعه في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 المكون العسكري في السلطة الانتقالية آنذاك وقوى مدنية أبرزها "الحرية والتغيير-المجلس المركزي"، وفشلت فيها الأطراف بحل مسألة دمج الدعم السريع داخل المؤسسة العسكرية.
استهداف الدعم السريع للقطاع الصحيتشير عدة تقارير إلى استهداف قوات الدعم السريع للمنشآت الصحية في السودان. على سبيل المثال في ديسمبر/كانون الأول 2024 قالت منظمة أطباء بلا حدود، إن قوات الدعم السريع استهدفت مستشفى بشائر جنوبي العاصمة السودانية الخرطوم، بإطلاق جنودها الرصاص داخل المستشفى.
إعلانوأوضحت المنظمة الدولية، في بيان: "أطلق المهاجمون النار داخل قسم الطوارئ، وهددوا الطاقم الطبي بشكل مباشر، وعطلوا الرعاية المنقذة للحياة بشكل خطير".
وأضافت: "ندين بشدة التوغل العنيف لقوات الدعم السريع في غرفة الطوارئ بمستشفى بشائر التعليمي في جنوب الخرطوم" الأربعاء.
ودعت المنظمة قوات الدعم السريع إلى احترام حياد المرافق الطبية وسلامة العاملين في مجال الرعاية الصحية.
وفي البيان، قال رئيس بعثة أطباء بلا حدود في السودان صامويل ديفيد ثيودور: "دخل العديد من جنود قوات الدعم السريع غرف الطوارئ وبدأ بعضهم في إطلاق النار على العاملين الطبيين، وهددوا المرضى وموظفي أطباء بلا حدود ووزارة الصحة".
وفي أغسطس/آب 2024 قالت وكالة الأنباء السودانية إن قوات الدعم السريع قصفت مستشفى الدايات في أم درمان والمناطق المجاورة له. وأوضحت الوكالة أن عددا كبيرا من القذائف سقطت في المنطقة وألحقت دمارا واسعا بالمباني.
وأشارت إلى أن لجنة الطوارئ الصحية لولاية الخرطوم دانت القصف واعتبرته دليلا آخر على استهداف قوات الدعم المرافق الصحية وتعطيل جهود تقديم الخدمات العلاجية للمواطنين.
وقال محمد إبراهيم رئيس اللجنة الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة بولاية الخرطوم إن قوات الدعم قامت -في وقت سابق- بنهب واسع لأجهزة ومعدات مستشفى الدايات الذي يعد أكبر مستشفى تخصصي بالبلاد.
فظائعوقبل أيام، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أدلة مدعومة بمقاطع فيديو، جمعها فريق التحقيقات المرئية التابع لها، توثق فظائع قالت إن قوات الدعم السريع ارتكبتها في السودان خلال عام ونيف منذ اندلاع الحرب بينها وبين الجيش السوداني في 15 أبريل/نيسان 2023.
وتكشف الأدلة المرئية التي جمعتها الصحيفة الأميركية وحللتها على مدى أشهر، هويات قادة قوات الدعم السريع الذين كان جنودهم يرتكبون "فظائع" تحت أنظارهم في جميع أنحاء السودان.
إعلانوقالت إن هذا التحقيق الاستقصائي الموثق بلقطات مصورة، أتاح لها تحديد 10 من قادة قوات الدعم السريع أثناء إشرافهم على جرائم حرب محتملة وتحديد مواقع العديد من مسارح عملياتهم الأخرى، منوهة إلى أن قائدهم الأعلى الفريق محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، هو الذي قد يتحمل المسؤولية الكاملة.
انعدام الأمنوتقول منظمة الصحة العالمية إن انعدام الأمن يجعل تقديم الرعاية الصحية أكثر صعوبة. فأكثر من ثلثي المستشفيات الرئيسية في المناطق المتضررة أصبحت خارج الخدمة، والمستشفيات التي لا تزال تعمل معرضة لخطر الإغلاق بسبب نقص الموظفين الطبيين والإمدادات والمياه النظيفة والكهرباء. كما أن الهجمات المتكررة على مرافق الرعاية الصحية تمنع المرضى والعاملين الصحيين من الوصول إلى المستشفيات والحصول على العلاج، حيث يتم استهداف المرافق الصحية والمستودعات الطبية ونقل الإمدادات والعاملين الصحيين. كما تعطل نظام مراقبة الأمراض، مما يشكل تحديا خطيرا للكشف عن تفشي الأمراض المعدية وتأكيدها..
وتضيف المنظمة -في منشور على موقعها تم تحديثه آخر مرة في 16 ديسمبر/كانون الأول 2024- أن ملايين الأشخاص قد نزحوا منذ بداية الصراع، داخل السودان ولكن أيضا في البلدان المجاورة، حيث فر الناس بحثا عن الأمان، في تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان.
وتعمل منظمة الصحة العالمية، بالتعاون مع شركائها في مجال الصحة، بشكل مكثف على تنسيق الاستجابة الصحية، وتعزيز الرعاية.
من جهتها، تقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن الهجمات المتكررة على المرافق الصحية والعاملين فيها لها عواقب وخيمة في ظل تفاقم أزمة الغذاء. وتعتبر مراكز الرعاية الصحية بالغة الأهمية للوقاية من سوء التغذية واكتشافه وعلاجه. كما أن قدرتها على العمل أمر حيوي بالنسبة للفئات الأكثر ضعفا، بما في ذلك الأمهات الحوامل والمرضعات والأطفال دون سن الخامسة.
إعلانوتقول أميلي شباط، التي تشرف على البرامج الصحية للجنة الدولية للصليب الأحمر في السودان: "إن الوضع في العيادات الصحية لا يمكن وصفه بالكلمات. فالمصابون يفتقرون إلى الأدوية والغذاء والمياه، وكبار السن والنساء والأطفال محرومون من العلاجات الأساسية مثل غسيل الكلى أو أدوية مرض السكري. والوضع يتدهور".
ووردت العديد من التقارير عن نهب وتخريب المرافق الصحية، والتهديدات والعنف الجسدي ضد الموظفين والمرضى، وحرمان المدنيين من خدمات الرعاية الصحية.
نظام صحي يعيش أزمة
نشرت المجلة الطبية البريطانية "بي إم جيه" (BMJ) تقريرا تحت عنوان "السودان.. من حرب منسية إلى نظام رعاية صحية مهجور" (Sudan: from a forgotten war to an abandoned healthcare system) في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
وقال الباحثون أمل الأمين، سارة عبد الله، عبدة العبادي، المغيرة عبد الله، عبدة حكيم، نعيمة وقيع الله، جون باستورأنسا، إن السودان يواجه أسوأ أزمة إنسانية ناجمة عن الصراع في العالم، مع أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم.
وأدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية في السودان، مما أدى إلى إغلاقات وانقطاعات في الخدمات الطبية، وخاصة في المناطق المتضررة من الحرب.
وتدفع الحرب البلاد إلى أزمة صحية ناشئة، مع الانتقال من عبء مزدوج إلى رباعي من الأمراض، بما في ذلك الأمراض المعدية وغير المعدية والإصابات الجسدية والصدمات.
وقال الباحثون إنه اعتبارا من فبراير/شباط 2024، يوجد في السودان 6.8 ملايين نازح داخلي، ينحدرون من 12 ولاية من أصل 18 ولاية في البلاد، ويعيش 19% منهم في مستوطنات غير رسمية، مما يجعلها أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم، متجاوزة أزمة سوريا.
بالإضافة إلى ذلك، نزح 1.5 مليون شخص خارج البلاد، ويحتاج 24.8 مليون شخص، أي ما يقرب من نصف سكان البلاد، إلى مساعدات إنسانية وحماية. علاوة على ذلك، يواجه السودان جوعا حادا، حيث يعاني 18 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بما في ذلك 4 ملايين طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية.
التأثير على نظام الرعاية الصحيةواجه النظام الصحي في السودان قبل الحرب، والذي يشمل إطار "مكونات" النظام الصحي لمنظمة الصحة العالمية – تقديم الخدمات، والتمويل، والقوى العاملة الصحية، والإمدادات الطبية، وأنظمة المعلومات الصحية والحوكمة- العديد من التحديات.
إعلانوقال الباحثون إن نظام الرعاية الصحية كان يعاني -قبل الحرب- من نقص التمويل، ويتسم بنقص حاد في القوى العاملة الصحية، فضلا عن التفاوتات الكبيرة في الوصول إلى الرعاية وجودتها وبأسعار معقولة.
وكان على 95.94% من السكان أن يدفعوا من جيوبهم الخاصة مقابل خدمات الرعاية الصحية. بالإضافة إلى ذلك، واجهت البلاد نقصا حادا في القوى العاملة الصحية، في عام 2019، بلغت كثافة الأطباء والممرضات والقابلات وغيرهم من العاملين الصحيين 3.6 و14 و9.1 لكل 10 آلاف شخص على التوالي، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى لكثافة منظمة الصحة العالمية البالغ 22.8 من المهنيين الصحيين.
ومع ذلك، كانت البلاد تتقدم ببطء نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وأدت الحرب الحالية إلى تدهور النظام الصحي بشكل أكبر وأدت إلى ظهور تحديات جديدة أبرزها في تقديم الخدمات والقوى العاملة الصحية. وتأثرت البنية التحتية الصحية بشكل كبير، حيث أفادت منظمة الصحة العالمية أن 70% من مرافق الرعاية الصحية العامة والخاصة في الولايات المتضررة من الحرب أجبرت على الإغلاق بحلول نهاية عام 2023.
تشير بيانات وزارة الصحة الاتحادية السودانية إلى أن أكثر من 30% من المستشفيات العامة لم تعد في الخدمة في غضون عام من بدء الحرب. وعانت ولاية الخرطوم، مركز الصراع، من أكبر التأثيرات على نظامها الصحي. ومع اندلاع الصراع المسلح، لجأ الآلاف من السكان والمرضى من ولاية الخرطوم إلى ولاية الجزيرة، الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر جنوب شرق الخرطوم، وقد جذبتهم بنيتها التحتية الطبية المتاحة نسبيا وقربها. ومع ذلك، بحلول نهاية عام 2023، انتشر القتال إلى ولاية الجزيرة، مما عرض للخطر ليس فقط سكانها ولكن أيضا النازحين والمرضى الذين فروا إلى هناك بحثا عن الأمان. وعلى غرار ولاية الخرطوم، حيث أجبر 58.5% من المستشفيات العامة على الإغلاق، أدى توسع الصراع إلى ولاية الجزيرة إلى تكرار الهجمات ونهب المرافق الطبية. ونتيجة لذلك، أغلقت العديد من المستشفيات في ولاية الجزيرة (56.2% من المستشفيات العامة) أو أجبرت على تقليص خدماتها، مما أدى إلى تفاقم ظروف النازحين الحاليين.
إعلانوتقع مناطق أخرى متأثرة بالصراع في الأجزاء الجنوبية والغربية من البلاد، وخاصة في دارفور وكردفان. وفي هذه المناطق، تأثرت القدرات التشغيلية للمستشفيات في بعض الولايات بدرجات متفاوتة. تحملت ولاية وسط دارفور وطأة التأثير، حيث أجبر نحو 40% من مستشفياتها العامة على الإغلاق، وشهدت اضطرابات شديدة في تقديم الخدمات الطبية. وفي الوقت نفسه، واجهت شمال دارفور والنيل الأبيض وشمال كردفان تحديات معتدلة نسبيا، حيث أجبر 33% و26.8% و16.2% من مستشفياتها العامة على الإغلاق، على التوالي.
في هذه الولايات المتضررة من الصراع، تضطر المرافق الطبية إلى الإغلاق بسبب تضافر عوامل: انعدام الأمن المستمر، وتدمير ونهب المرافق الطبية، ونقص حاد في العاملين في مجال الرعاية الصحية، والتحديات في شراء الإمدادات الأساسية. على سبيل المثال، في المناطق المتضررة من الحرب حيث نهبت سيارات الإسعاف، لجأ السكان إلى استخدام عربات الحمير وعربات اليد كسيارات إسعاف مؤقتة لنقل المرضى.
وتعرضت أنظمة المعلومات الصحية في البلاد للخطر الشديد بسبب الاستهداف المتعمد لأنظمة الاتصالات والمعلومات الصحية، إلى جانب العنف ضد العاملين في مجال الرعاية الصحية. جعلت هذه الاضطرابات المستهدفة جمع البيانات والاتصالات أمرا صعبا للغاية، مما أعاق جمع بيانات أساسية حاسمة لنظام الصحة.
التحديات الجديدةقبل الحرب، كان الوضع الصحي في البلاد يتميز بعبء من الأمراض المعدية والأمراض غير المعدية، ولم تؤد الحرب إلى تدهور الوضع الصحي المتدهور في السودان فحسب، بل جلبت أيضا تحديات صحية جديدة، مثل الإصابات الجسدية والصدمات المرتبطة بالصراع.
يشير هذا إلى انتقال خطير من عبء مزدوج من الأمراض إلى عبء رباعي – يشمل الأمراض المعدية والأمراض غير المعدية والإصابات الجسدية والصدمات – مما أدى إلى تفاقم الأزمة الصحية.
إعلانوقد أدى ارتفاع عدد النازحين داخليا وانهيار الصرف الصحي البيئي إلى تفاقم عبء الأمراض المعدية بشكل كبير. ويتجلى هذا الوضع المتدهور في تفشي الكوليرا والحصبة وحمى الضنك وحمى شيكونغونيا وحتى ارتفاع حالات داء الكلب في المناطق التي مزقتها الحرب.
من المتوقع أن تزيد الحرب من مشاكل الأفراد الذين يعيشون مع الأمراض غير المعدية وزيادة قابلية العديد من الآخرين للإصابة بها. وتشمل العوامل التي تؤدي إلى تفاقم هذا النزوح وعدم الاستقرار، مما يؤدي إلى محدودية الوصول إلى الخدمات الطبية للفحص والمتابعة، والتحديات في الحصول على أدوية الأمراض المزمنة، وانقطاع العلاج والصعوبات في تخزين الأدوية مثل الأنسولين بشكل مناسب بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
مبادرات
يقول الباحثون إنه على الرغم من التحديات المستمرة، كانت العديد من المبادرات ضرورية في دعم خدمات الرعاية الصحية والتخفيف من حدة الأزمات الإنسانية. وقد اجتذبت الجهود التي تقودها المجتمعات المحلية، ولا سيما المطابخ الخيرية المحلية التي تقدم وجبات مجانية للأفراد المحاصرين في مناطق الصراع، دعما كبيرا من الشتات السوداني، مما يسلط الضوء على الدور الأساسي للمشاركة المجتمعية في تخفيف المعاناة.
وقد دعت مبادرات أخرى مثل "نداء إعادة بناء وتأهيل المستشفيات" و"نداء الوقاية من سوء التغذية لدى الأمهات والأطفال"، الذي أطلقته وزارة الصحة الاتحادية إلى الدعم من الجهات المانحة المحلية والإقليمية والدولية. وقد حظيت هذه المبادرات بمشاركة مجتمعية كبيرة، واستقطبت مساهمات كبيرة من منظمات المجتمع المدني والجمعيات المهنية مثل جمعية الأطباء السودانيين الأميركيين (SAPA)، وجمعية الأطباء السودانيين في قطر.
وعلى الرغم من الجهود الوطنية المبذولة، فلا يزال نظام الرعاية الصحية في السودان أثناء الحرب يواجه تحديات كبيرة. وتشمل هذه التحديات صعوبات في التنفيذ والتنسيق، وبنية تحتية هشة للمعلومات الصحية، والقيود الناجمة عن الموارد المحدودة وغير المستقرة والمجهدة، ونقص العاملين في مجال الرعاية الصحية. وعلاوة على ذلك، تعاني الأزمة الإنسانية في السودان من نقص حاد في التمويل، حيث تقل تعهدات المانحين بشكل مثير للقلق عما هو مطلوب. يتم تمويل 5% فقط من نداء الأمم المتحدة للمساعدات للسودان، مما يترك فجوة مذهلة تبلغ 2.56 مليار دولار.
إعلانويقول الباحثون إن الصراع في السودان تسبب في أزمة إنسانية وصحية قاتمة. إن النزوح الجماعي والجوع الحاد والآثار النفسية والجسدية للحرب، إلى جانب تعطيل تقديم الخدمات الصحية بسبب إغلاق المستشفيات، كل ذلك يؤكد الحاجة الملحة إلى استجابة دولية قوية.
وعلى الرغم من هذه الظروف الخطيرة، فإن المرونة والإبداع اللذين أظهرهما العاملون الصحيون والمجتمعات السودانية جديران بالثناء.
ويختم الباحثون بالقول "لا ينبغي للمجتمع الصحي العالمي أن يسمح للسودان بأن يصبح "حربا منسية" – يجب تجنب هذا السيناريو، بدءا من استعادة نظامه الصحي".