تعيش عدد من الدول العربية، منذ ما يزيد عن العقد من الزمان، حروباً داخلية، أدت إلى إضعاف بنية تلك الدول وإنهاكها، وعلى الرغم من اختلاف الظروف الداخلية بين دولة وأخرى، إلاّ أن الجهة المستفيدة من تلك الخروب، والضالعة في إيقاد نيرانها، والحريصة على استمرارها، جهة واحدة وأهدافها واحدة و وسائلها متشابهة و خطتها معلنة.

على أن الطريقة التي أدار بها السودانيون الحرب التي اندلعت في بلادهم، جعلت نتائج الحرب في السودان ومعالمها، تختلف عن باقي الدول العربية.

في هذا المقال نحاول إجراء مقارنات سريعة لتوضيح أهم خمسة اختلافات بين ما يجري في السودان وما جرى في دول أخرى مثل سوريا وليبيا واليمن.

الإختلاف الأول: في السودان، يقف الشعب و الجيش في خندق واحد، بينهما ثقة و رؤية واحدة. عكس البلاد العربية المشار إليها، حيث أن الجيش محل اتهام والشعب منقسم حوله ولا يبادله ثقة و يعتبره جيشاً حارس للأنظمة الحاكمة.

الإختلاف الثاني: في السودان الجبهة الداخلية الموحدة و الجيش هما مَن تعرض لمحاولة الغدر به، لكنهما تمكنا من امتصاص الضربات الأولى وتحولا لخانة المبادرة و السيطرة و الانتصارات، والصمود أمام الغزو الاجنبي و كسروا كل سهامه و أفشلوا مخططاته و كل أهدافه. بينما في الدول العربية الأخرى فإن القوى الدولية، هي القوى الرئيسية الفاعلة و المسيطرة و المتحكمة في مجريات الأمور و المهيمنة عليها.

الإختلاف الثالث: الانقسام في السودان بين فريقين رئيسيين، الأول هو فريق المشروع الوطني، المكون من مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش و من خلفه الشعب السوداني، بينما الفريق الثاني هو فريق المشروع الخارجي بقيادة دولة الأمارات وقد انضمت إليهم أقلية وطنية معزولة من العملاء الذين لا يستطيعون الآن إقامة أي منشط داخل البلاد و تطاردهم الجاليات السودانية في كل عواصم العالم. بينما في الدول العربية الأخرى نجد الانقسامات كبيرة و متعددة الأطراف و التدخلات الخارجية متناقضة المصالح.

الإختلاف الرابع: كسب السودان تأييد الرأي العام العالمي و تمثل ذلك في حملات الإدانة الواسعة ضد دولة الأمارات وضد المليشيا و اعتبارها تمارس الإبادة الجماعية و في طريقها لتصنف جماعة إرهابية. بينما في الدول العربية الأخرى ماتزال النظرة العالمية منقسمة حول مصالح متعددة و مختلفة.

الإختلاف الخامس: في السودان رؤية الحل واضحة و أنجزت القوات المسلحة والشعب، منها نسبة كبيرة. بينما في الدول العربية الأخرى ماتزال المواقف ضبابية و كل الاحتمالات مفتوحة و واردة.

ترتب على هذه الإختلافات والمقارنات عدة نتائج. إلا أن النتيجة الأساسية و الأهم هي أن السودانيين بنوا رؤيتهم لإدارة الحرب على ثلاثة ركائز أساسية. وهي:

الركيزة الأولى: احترام مؤسسات الدولة ومنحها الاعتراف والشرعية و الحق والعمل من خلالها و ترك جميع المسميات و العناوين الأخرى مهما كانت الروابط والوشائج معها، مثل الحزبية أو القبلية أو المناطقية أو الجهوية أو الفكرية أو الايدلوجية.

الركيزة الثانية: علو السيادة الوطنية والاتفاق حولها وصيانتها والدفاع عنها أمام أي مشروع خارجي مفروض مهما كانت تفاصيله أو امكاناته أو الجهات التي خلفه أو عملائه من الداخل.

الركيزة الثالثة: العمل بمهنية ومعالجة الاشكالات و مواجهة التحديات بمهنية عالية و التزام كل المعايير القانونية مهما كانت التكلفة المادية و الوقت المستغرق. تمثل ذلك في مهنية الجيش في التعامل مع بربرية و وحشية و جرائم المليشيا. كما تمثل في مدنية معالجة الغزو الأجنبي بقيادة الأمارات والمرتزقة من عدة دول. لم يستخدم الجيش القوة المميتة ولا المتفجرات ولم ينتقم و إنما التزم المعايير المهنية و القانونية والعلمية الحديثة.

كذلك في ملف العلاقات الخارجية و الدبلوماسية، كانت مذكرات السودان و شكواه وخطاباته إلى الأمم المتحدة والأدلة التي قدمها، تتميز بكل الرصانة و المهنية و المصداقية مما انعكس على قبولها وتبنيها والبناء عليها من قبل عدد من البرلمانات والمنظمات والصحف و القنوات العالمية في إدانة كلاُ من الأمارات والمليشيا.

كان هذا المنهج سببا في تفجير طاقات أبناء الوطن بصورة جماعية وتلقائية و ذاتية كل يقدم مجهوده في معركة الوطن بدوافع ذاتية و تعاون جماعي بالالتزام بالرؤية الموحدة و الراية الوطنية.

د. محمد عثمان عوض الله
د. محمد عثمان عوض الله
إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: فی السودان

إقرأ أيضاً:

معتصم أقرع: اليسار والدولة مرة أخري

– منذ إنطلاق هذه الحرب اندلع جدل في دار يسار بين جماعة منه تدعو لتدمير الدولة وتيار آخر يري في هذا استعجال شديد الخطورة علي مصير الشعب. شاركت هذه الصفحة في هذا الجدال الذي لم يكن موجودا بهذه الدرجة قبل الحرب حيث كانت شعارات اليسار: ديمقراطية، مدنية، عدالة إجتماعية نسبية، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل. ولم يكن حل الدولة أو الجيش علي طاولة الحوار العام ولا في أوساط فقهاء اليسار ولا أدري لماذا اشتعل بعد الحرب ولكن من الطبيعي لي تخميناتي.
– الداعون لهدم الدولة أحيانا يصوبون سهامهم نحو الدولة في حد ذاتها واحيانا ضد “الدولة القديمة” . لكن عليهم واجب تحديد المشكلة. فلو كانت مشكلتهم مع تدمير “الدولة القديمة” فهل يعني هذا أنهم يدعون لدولة أخري تحل محلها؟ إن كان الأمر كذلك، فعليهم تحديد القوي الإجتماعية الجاهزة لإستلام الدولة وتجديدها بما أنهم يدعون لتحطيم جهاز هنا الآن والبلاد يستبيحها الغزاة.
– يردد الداعون لهدم الدولة حجة إنها أداء قمع طبقي وسوط الطبقة المتنفذة علي حساب الآخرين. وهذا الزعم عموما صحيح ولكنه ليس كل الحقيقة. إذ أن الدولة أيضا هي التي تنسق المصلحة العامة مثل توفير الأمن وحد من التعليم والصحة والبني التحتية وإنفاذ القانون، والمعايير الصحية والمهنية وإدارة العملة وتنظيم الأسواق والتجارة وحماية الحدود وهذه متطلبات لا تقوم حياة حديثة في غيابها. ولكن حتي الآن لم يحدد الداعون لهدم الدولة هنا الآن من سيقوم بهذه المهام. من سيقوم في سودان ما بعد تدمير الدولة ببسط الامن وحماية المواطن في حياته وبدنه وماله ومن سينظم الصحة العامة ويدير المواصلات والإتصالات ومن يحمي الشعب من الغزاة الطامعين؟
– لا جدال في أن الدولة ليست أداة محايدة طبقيا في أي مكان في العالم ولكن هذا لا ينفي حوجة المجتمعات لها مرحليا، وبالذات مجتمعنا. لذلك فان الطرح عن نزاهة الدولة هو السؤال الخطأ لتحديد الموقف منها. من الممكن رفع الوعي بعيوب الدولة بهدف تجاوزها ولكن لتدمير الدولة يجب علي الداعين لذلك إقناع الراي العام بوجود بديل جاهز أحسن منها وجاهز للقيام بكل مهامها ببساطة لان إنهيار الدولة قد يدفع السودان إلي واقع أكثر تخلفا.
– النقاش حول ضرورة الدولة أو ضرورة حلها يجب أن ينطلق من الواقع الماثل أمامنا ولا يحتاج لنصوص فقهية من تاريخ يسار غربي نظر في سياق تاريخي يختلف تماما عن واقعنا الحالي. وهذا لا يعني عدم الإستفادة من الخلفيات التاريخية والفكرية والفلسفية. ولكن – كما قال الصديق عثمانتو- المرجعية الأخيرة يجب أن تكون لواقعنا الماثل هنا الآن وليس لنصوص أنتجت في أزمنة مختلفة وفضاءات جيوسياسية أشد إختلافا. لذلك فان الداعين لهدم الدولة عليهم إقناع الراي العام بوجود بديل أفضل منها وجاهز للتركيب الآن في أثناء قصف مسيرات الغزاة لحيواتنا وبنانا التحتية.
– حسب تقديري هذا البديل للدولة لا يوجد حاليا في أكثر الدول تطورا في أوروبا وأمريكا واسيا دع عنك في عرصات رجل أفريقيا المريض. لذلك فان تدمير الدولة السودانية حاليا لن يقود إلي فردوس أناركي أو شبه أناركي تزدهر فيه العدالة والحريات. تدمير الدولة السودانية يعني عمليا تصفية نهائية للسودان ككيان إجتماعي، ثقافي ولن ينعم أحد بفردوس ما بعد الدولة ولكن سينتقل جميع أهل السودان للعيش كأقنان في كنف دول إستعمارية أخري ونكون فقط قد استبدلنا دولة السودان بدول أخري أشد بطشا واكثر غربة. وفي المساحات من السودان التي تعافها الدول الإستعمارية إلي حين سيخضع المواطن لحكم عصابات لا تختلف كثيرا عن عصابات الجنجويد ولن يعيش في فردوس أناركي. لذلك فان الدعوة لتدمير الدولة والجيش الآن تعني الدعوة لتصفية السودان ككيان/ات إجتماعية مستقلة وهذا حد بعيد من كراهية الذات وكراهية السودان.
– في أدبيات اليسار لا أعلم بنصوص تدعو شعب لحل دولته وحده بينما الدول الإستعمارية والطامعة حوله تحافظ وتنمي من مقدراتها العسكرية ومن قدراتها التقنية علي إخضاع الآخرين. حل الدولة أو حل الجيوش في السياق التاريخي الصحيح يكون باتفاق دولي تقوم فيه جميع الدول في نفس الوقت بتصغير جيوشها ثم حلها في إطار تعاون دولي عميق وواسع. لذلك فان دعوة دولة لحل مؤسساتها وجيشها بينما الدول الأخري تحافظ علي هذه الأدوات هي دعوة للإنتحار وعزومة مجانية للغزاة والمغتصبين وتبرع مجاني بالوطن للأجنبى. وهذه هدية يسارية للاستعمار وهي عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
– جوان روبنسون عالمة إقتصاد بحت رفيعة بقامة كينز أو أعلي كانت في هيئة التدريس في جامعة كامبريدج. يقال أن جائزة نوبل تجاهلتها لانها كانت متهمة بالماركسية وكانت من أنصار ماو المتحمسين له. ويجادل البعض أن غياب جوان عن قائمة شرف نوبل فضيحة للجائزة. وبالنظر للتنمية المذهلة في الصين الآن، ربما كان علي لجنة نوبل أن توقظ جوان من الموت وتمنحها الجائزة مرتين.
– ينسب لجوان قولها أن من أفظع الأشياء للعامل أن يستغله صاحب عمل راسمالي ويحلب عرقه قيمة زائدة. ولكن أسوأ من ذلك ألا يجد العامل راسمالي يستغله. هكذا الدولة السودانية. فظيعة جدا ولكن النقطة الأهم هي أن غيابها أفظع. وهذه هي نقطة عمي أعداء الدولة السودانية إذ هم يرون فظاعتها ومن ثم يقفزون إلي إستنتاج متعجل بضرورة تدميرها الآن بينما المنطق يقول أن تدميرها سيقود إلي واقع أكثر جحيمية. وإلي بزوغ شمس مجتمع آخر، علي العامل أن يجد راسمالي يستغله حتي لا يجوع تحت شعارات ثورية براقة. وإلي أن تتوفر شروط الإنتقال لتنظيم إجتماعي أكثر عدالة وكفاءة الدولة بصلة نتنة في فمنا من يدعو لحلها يضع جمرة “حمراء، يسارية”، متقدة، مكانها. ولا أعتقد أن مضغ الجمر حل مناسب لمشكلة البصلة.

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • أبو الغيط يحذر خلال محاضرة له بالكويت: دول عربية تواجه تهديدات لوجودها وكيانها
  • العراق تاسع أرخص الدول العربية بالبنزين
  • مؤشر الذكاء العالمي لعام 2025.. لبنان في القمة بين الدول العربية
  • وفد الأمانة العامة للجامعة العربية يصل بغداد للاطلاع على استعدادات القمة العربية
  • معتصم أقرع: اليسار والدولة مرة أخري
  • كيف يمكن للمليشيا ومن يدعمها بعد كل تلك الفظائع التى إرتكبتها بحق أهل السودان أن يعيشوا معهم بسلام
  • الدول الأصعب بالحصول على تأشيرة دخول أمريكا.. دولة عربية بينها (إنفوغراف)
  • الكوارث الطبيعية والحروب وتأثيرها على عمل الإعلام في السودان
  • تعليقا على مقالة االاستاذ/جلبير الاشقر : الكارثة الأخرى: إبادة ومجاعة في السودان
  • مصر تتصدر الدول العربية في إنتاج الصلب خلال مارس 2025