تطرقت في مقالتي السابقة إلى معايير جديدة فرضتها معركة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر على الاحتلال الإسرائيلي، وما تبعها من جبهات إسناد، بعيدا عن تبنّي فكرة النصر المطلق للمحور أو الهزيمة المُنكرة للاحتلال، فيما أتحدث في مقالتي هذه عن أصوات تعالت كثيرا خلال الشهور الأخيرة، بدأت توجّه الاتهام المباشر لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بأنها مسؤولة بشكل مباشر لا لبس فيه عمّا آلت إليه الأوضاع في قطاع غزة، من قتل وتهجير وتجويع ونزوح، وافتراش الخيام والعراء، وكارثة إنسانية غير مسبوقة، جراء ضغطها على زر المواجهة مع الاحتلال، غير آخذةٍ بالحسبان تَبعات القرار الذي أرخى بظلاله على حياة أكثر من مليوني فلسطيني، في واحدة من أكثر البقع الجغرافية كثافة سكانية في العالم.



ولستُ بصدد تبرئة المقاومة الفلسطينية من خطأ سوء التقدير، فهذا احتمالٌ وارد جدا، يحتاج إلى استعراض بعد وقف الحرب، لكنْ استوقفني في تلك الأصوات المتصاعدة ضد المقاومة أمرٌ مُهمٌّ جدا، وهو أنه ورغم تبعثر تلك التيارات جغرافيا، وانضوائها تحت أكثر من مظلّة، إلّا أنّ الجامع بينها في كافة أماكن تواجدها، ويوحّد كل منابرها تحت منبر واحد، هو عامل التقصير المطلق تجاه المنكوبين في قطاع غزة، إذ إنّ كل الذين يتبنّون هذا الطرح ينضوون تحت تيارات وأجندة نامت جميعُها على وسادة واحدة، وغطت في نومٍ عميق، ولم يقدّموا قارورة ماء لمن يتباكون عليهم في قطاع غزة، وإن كان ذلك قد حصل فإنه يكون قد تمّ بالقطّارة.

استوقفني في تلك الأصوات المتصاعدة ضد المقاومة أمرٌ مُهمٌّ جدا، وهو أنه ورغم تبعثر تلك التيارات جغرافيا، وانضوائها تحت أكثر من مظلّة، إلّا أنّ الجامع بينها في كافة أماكن تواجدها، ويوحّد كل منابرها تحت منبر واحد، هو عامل التقصير المطلق تجاه المنكوبين في قطاع غزة، إذ إنّ كل الذين يتبنّون هذا الطرح ينضوون تحت تيارات وأجندة نامت جميعُها على وسادة واحدة، وغطت في نومٍ عميق، ولم يقدّموا قارورة ماء لمن يتباكون عليهم في قطاع غزة
لكنهم انتهزوا عذابات الفلسطينيين في القطاع المدمّر، ليسوّقوها كما يريدُ منهجهم السياسي، ولتمرير أفكارهم، وقبل كل شيء لتبرير تقصيرهم، لأنّ عَهْدَنا بالحريص على كرامة الجوعى والمُشرّدين والمنكوبين أن يسعى في أدنى التقديرات إلى محاولة تخليصهم من الواقع المرير الذي يعيشون فيه، وأن يبذل جهدا مُقدّرا واضحا كالشمس في هذا الصدد. لكنّ مثلا شعبيا سبقني للرد على أصحاب ذلك الطرح، مفاده أن الإنسان حينما يعجز عن إنقاذ الضحية فإنه يحمّلها المسؤولية كي يحفظ ماء وجهه، وهذا ما فعله أولئك الأذكياء، نعم الأذكياء، لأنني لو كنت في ظرفهم نفسه لاختصرت على نفسي طريقا طويلة وشاقة، ودروبا مليئة بـ"وجع الراس" ومحفوفة بالمخاطر، وذلك بجملة واحدة فقط: لسنا مسؤولين عن تلك الكارثة، بل حماس!

وليس عار التقصير هو من يلاحقهم وحيدا فحسب، بل عارٌ آخر أشدّ قسوة، وهو الذل والخزي، والظهور بصورة العاجز الذليل الذي لا يجرؤ على إرسال علبة سردين لأخيه في الشق الثاني من الوطن، أو لزميله في لغة الضاد في البلد المُحاذي أو المجاور، أو في البلد القريب أو البعيد، وهو ما يُذكّرني بمشهد رؤسائهم جميعا في القمة العربية الإسلامية غير العادية التي انعقدت في العاصمة السعودية الرياض، والتي لم تفلح في وقف رصاصة واحدة فقط في غزة، أو تمنع إزهاق روح واحدة هناك، بل أزيدُ من الشعر بيتا كي أقول إنّ الاحتلال الإسرائيلي واصل ارتكاب المجازر في القطاع خلال انعقاد القمة، فأوصل إليهم رسالته بالطريقة التي لا يعي سواها، فتحولت القمة، ومن قبلها جامعة الدول العربية، إلى مأوى للعجزة لا يصلح إلا لقصّ الروايات وحفلات السمر، ومشاهدة التلفاز وتصفّح الأخبار، فأضحى كل زعيمٍ منهم مراسلا صحفيا يحدّثنا عمّا وصلت إليه الأوضاع في غزة، وينقل لنا الصورة، ثم يعطي اللاقط لزميله المُجاور كي يتوسّع أكثر فأكثر، في مشهدٍ يبعث على الخيبة ليس إلّا..

ولأنّ الشيء بالشيء يُذكَر، فإنّ أوّل أولئك المُقصرين وأكثرهم وِزْرا وجُناحا، وأشدّهم انتقادا لحماس جراء ذهابها لمواجهة الاحتلال، هي منظمة التحرير الفلسطينية التي تدّعي تمثيل الشعب الفلسطيني كاملا، إذ لم يُسَجّل لها هدفٌ واحدٌ فقط في هذا السياق، ولا حتى تمريرة بَيْنيّة، ولا ركلة زاوية، بل أخذت وضعية سائر الجمهور المتفرّج تندّد كما يندّدون وتستنكر كما يستنكرون، وكأنّ الضحايا ليسوا فلسطينيين قالت إنها تمثّلهم. فعندما قالت عن نفسها إنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني نسيت أو تناست أنها مسؤولة عن كل الفلسطينيين بمختلف توجهاتهم، وليس فقط عن أنصار حركة دون غيرها، وعليها بحكم هذا التمثيل القسري أن تسعى بكل ما أوتيت من قوة لإدخال المساعدات إلى المنكوبين الذين يتباكى مسؤولوها عليهم صباحا ومساء على بعض الشاشات العربية. وقد يقول قائل: لَعمرك يا كاتب هذا المقال، وماذا بوسع هذه المنظمة المسكينة أن تفعل؟ وأنا أجيب: إنّها تستطيع أن تفعل الكثير لو أرادت أو شاءت، وألّا تكتفي بذات البيانات التي تبنّتها كذلك جزر القمر للغاية نفسها..

ألا توجد جهة اتصال رسمية بين الاحتلال الإسرائيلي والحكومة الفلسطينية؟ وهي جهة مدنية معروفة، وبالتالي كم مرة حاولت السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير التواصل مع الاحتلال بشكل مباشر من أجل غزة؟ وكم مرة أجرى رئيس السلطة محمود عباس اتصالاته المكثفة مع الاحتلال من أجل إدخال حبة دواء؟ وكم شاحنة مساعدات إنسانية جهزتها السلطة الفلسطينية لقطاع غزة وحاولت إرسالها؟ كم مظاهرة خرجت في مدن وبلدات الضفة الغربية المحتلة من أجل غزة؟ كم اتصال هاتفي أجراه مسؤولو منظمة التحرير مع ذوي الشهداء والجرحى بالقطاع، أو مع أهالي شهداء حركة فتح في أدنى التقديرات، أو مع كادر طبي للاطمئنان على سير المستشفيات، أو مع عائلة تباد في شمال غزة، أو مع مستشفى كمال عدوان الذي يئن تحت وطأة الإبادة الإسرائيلية، أو مع أحد كواد الدفاع المدني بالشمال والذين توقف عملهم بعد مصادرة الاحتلال لمركباتهم واعتقال عدد من عناصرهم؟

كم مرة اتصل محمود عباس بالأطفال الذي أُحرِقوا في خيام النزوح؟ أو حاول الاطلاع عن كثب على أوضاع النازحين هناك، أو حظيَ أحد المنكوبين بلفتة كريمة منه.. إنّ من أرسل قوافل المساعدات لإغاثة المتضررين من الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، وهو عمل مُقدّر، ليس بعاجزٍ أبدا عن اتخاذ موقف ما تجاه شعبه الأقرب إليه بمنطق الجغرافية، مع التذكير بأنّ كل الشرائع والأعراف والقوانين تقول إنّ الرئيس أو المسؤول الذي يعجز عن نجدة شعبه فَليتنحّ قبل ولوج الصبح، وليعترف بفشله، أو يلجم جماعته عن تحميل الآخرين مسؤولية الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، أو يُلغي شعار "الممثل الشرعي والوحيد".

كما أتساءل في مقالتي هذه: لماذا لا تتدخل السلطة الفلسطينية بشكل مباشر في ملف المفاوضات غير المباشرة بين الاحتلال وحركة حماس؟ ما الذي يمنع؟ ألا توجد قنوات اتصال مباشر بينها وبين الاحتلال؟ لماذا أخذت وضعية القبور الصامتة إزاء هذا الملف؟ لماذا نبقى تحت رحمة القطري مثلا، وهو جهد مشكور طبعا، أو المصري أو الأمريكي، فيما تنحّت السلطة جانبا وكأن الملف لا يعنيها، رغم أن هذا الملف هو أساس الحل ومفتاح وقف إطلاق النار في غزة، لا سيما أن هناك اجتماعات ولقاءات مكوكية بين حركتي فتح وحماس في القاهرة، بشأن اليوم التالي بعد الحرب؟ فلماذا لا يتم طرح الوساطة المباشرة؟

إنّ كل ما سبق يدل على تقصيرٍ واضحٍ، وإهمالٍ متعمّد للملف بأكمله، وبشقّيه السياسي والإنساني، والاكتفاء فقط بالبيانات الورقية، وإلقاء اللوم على الآخرين، بينما تتطلب المرحلة وبشكل عاجل الترفع عن كل هذه المهاترات، والوصول إلى مستوى المسؤولية الحقيقية عن شعب تُرك وحيدا يواجه أشرس آلة تدمير في العالم.. يبقى السؤال المطروح: ماذا عن أهالي قطاع غزة أنفسهم، الذين يحمّل قسمٌ منهم قليلٌ أو كثير، حماسَ المسؤولية عمّا آلت إليه أوضاعهم؟ وبمَ يختلف صوتهم عن بقية الأصوات؟ وما هي المسافة التي يمكن تجاوزها للنهوض من جديد رغم حجم الإبادة؟ هذا ما سوف أستعرضه بمقالتي القادمة بمشيئة الله.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال المقاومة غزة فلسطيني احتلال فلسطين غزة المقاومة مدونات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی قطاع غزة

إقرأ أيضاً:

من غزة إلى جنين.. صورة واحدة للصمود الفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي

بين أطلال المنازل والركام المنتشر في كل مكان، ووسط مشاهد الدمار الهائل التي خلّفتها حرب الإبادة الإسرائيلية يحاول سكان قطاع غزة التشبث بالأمل بحثا عن الاستقرار والأمن الذي غاب عن القطاع طيلة أشهر عديدة، ورغم المعاناة الشديدة بعد أن تحوّلت منازلهم المدمرة إلى ملجأ مؤقت يقيهم التشرد يصرون على البقاء فيها متمسكين بأرضهم وبحقهم في الحياة.

وعرض برنامج «من مصر»، الذي يقدمه الإعلامي عمرو خليل، عبر قناة «القاهرة الإخبارية»، تقريرا بعنوان «من غزة إلى جنين.. صورة واحدة للصمود الفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي».

عادوا من خيام إلى العراء ومنازل تحولت إلى ركام وأنقاض، لكنها كانت العودة التي أفشلت كل مخططات التهجير القسري وأحبطت أهداف الاحتلال في التطهير العرقي والإبادة الجماعية في القطاع، فسجلت مشاهد العائدين لحظة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني لترسخ من جديد لحق العودة والتمسك بالأرض مهما بلغت التضحيات.

على الجانب الآخر من الأرض الفلسطينية وفي الضفة الغربية المحتلة، يتكرر نفس سيناريو التدمير والتهجير، ففي جنين وطولكرم وطوباس وبالتزامن يمضي الاحتلال الإسرائيلي في حربه العدوانية على شمال الضفة الغربية مستخدما تكتيكات أكثر صرامة على غرار ما أحدثه في غزة،  وفق مخطط يعمل على إيقاع أكبر قدْر ممكن من الخراب والدمار والقتل، وتحويل مخيمات اللجوء فيها إلى مناطق غير صالحة للحياة وإجبار سكانها على النزوح.

ما فشلت في تحقيقه في غزة، تحاول حكومة نتنياهو وبدعم من الإدارة الأمريكية تعويضه في الضفة المحتلة سعيا إلى استعادة الهيبة الإسرائيلية المفقودة أمام الفلسطينيين ومنعهم من التصدي لمخططات الضم والتهويد والتهجير القسري، وبينما يسابق جيش الاحتلال الزمن لفرض واقع جديد على الأرض يبقى الرهان على الصمود الفلسطيني الذي لا يعرف مستحيلا، فكما أحبط كل مخططات الاحتلال في غزة فهو قادر أيضا على إفشالها في الضفة المحتلة.

مقالات مشابهة

  • فتح: الاحتلال يسعى لعزل غزة وتدمير معالم المخيمات الفلسطينية
  • السياحة الفلسطينية: تضرر 226 موقعا أثريا في غزة جراء عدوان الاحتلال
  • قيادي بحماس: العدوان الصهيوني على الضفة لن يوقف ضربات المقاومة الفلسطينية
  • الرئيس أردوغان: الشعب السوري الذي ألهم المنطقة بعزيمته على المقاومة قادر على إعادة إحياء بلده 
  • من غزة إلى جنين.. صورة واحدة للصمود الفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي
  • باحث: جيش الاحتلال الإسرائيلي يعلم أن المقاومة الفلسطينية لا يمكن نزعها
  • استشهاد القائد محمد الضيف.. تتويجٌ لتضحيات المقاومة الفلسطينية وانتصاراتها
  • السلطة الفلسطينية تعلن تشكيل لجنة عمل لإدارة شؤون قطاع غزة
  • ما الجديد الذي يقدمه ترامب للقضية الفلسطينية .. جمال سلامة يجيب
  • المقاومة الفلسطينية تنفذ كمائن وتفجر آليات صهيونية في الضفة الغربية