العنف يهدد الاستقرار الصيني.. أسباب عميقة وتحديات مستقبلية
تاريخ النشر: 3rd, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في خضم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها الصين، أظهر عام 2024 سلسلة من الحوادث العنيفة التي شكلت صدمة لمجتمعها، مُعَرِّيةً عمق التوترات الاجتماعية المتزايدة.
من حوادث الطرق المأساوية إلى الهجمات المروعة في المدارس والمرافق العامة، تكشف هذه الأحداث عن تصدعات جوهرية في آليات التكيف الاجتماعي داخل ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
إن هذه الحوادث لا تمثل مجرد انفجارات فردية للغضب، بل هي تعبير عن أزمة أوسع تتعلق بتحديات اجتماعية واقتصادية متراكمة، حيث أصبح الشعور بالظلم والإحباط لدى الأفراد يطال قطاعات واسعة من المجتمع، ويضع النظام الاجتماعي أمام اختبار صعب في معالجتها.
وفي هذا الصدد، نشر موقع "directus" اليوناني، تقريرًا قال فيه إن الصين شهدت في نهاية عام 2024، سلسلة من الحوادث العنيفة التي لم يسبق لها مثيل، مما أثار القلق في جميع أنحاء البلاد وكشف عن توترات اجتماعية عميقة داخل المجتمع.
بدأت أبرز هذه الحوادث في 11 نوفمبر في مدينة تشوهاى، عندما قام رجل في الثانية والستين من عمره، والذي كان يعاني من آثار أزمة طلاقه، بقيادة سيارته إلى أحد المراكز الرياضية المزدحمة، ما أسفر عن مقتل 35 شخصًا وإصابة 43 آخرين.
بعد خمسة أيام فقط، وقع حادث آخر في ووشي، عندما قام خريج سابق من كلية مهنية بتنفيذ عملية طعن مروعة، مما أدى إلى مقتل ثمانية أشخاص وإصابة 17 آخرين بسبب شعوره بالظلم بعد فشله في اجتياز الامتحانات والحصول على شهادته.
لكن هذه الحوادث لم تكن استثناءً، بل تعبيرًا عن مشكلة أعمق. ففي أكتوبر، شهدت البلاد عدة هجمات متفرقة، بما في ذلك هجوم بالسكين بالقرب من مدرسة في بكين، بينما وقعت حوادث مماثلة في شنجهاي وشنتشن في سبتمبر، كما سادت أشهر الصيف سلسلة من الهجمات المتنقلة، سواء بالسيارات أو السكاكين، في مناطق مختلفة من البلاد.
هذا التزايد الكبير في الحوادث العنيفة يشير إلى اختلال في آليات التكيف الاجتماعي في الصين، والتي لم تعد قادرة على استيعاب المشاعر السلبية التي يواجهها الأفراد.
العديد من هذه الهجمات تنبع من دوافع شخصية لأشخاص يشعرون بالتمييز أو بالحرمان من حقوقهم، أو ممن يعتقدون أنهم تعرضوا للخيانة من النظام.
على سبيل المثال، في مدينة قوانغتشو، صدم رجل مليء بالديون حشود الناس بسيارته في محاولة للتنفيس عن مشاعره المكبوتة.
وفي شنجهاي، نتج هجوم قاتل بالسكين عن نزاع على تمويل أحد المشاريع في إحدى ضواحي المدينة.
هذه الحوادث تتسلسل في نمط يظهر تحوّل المظالم الشخصية إلى أفعال عنيفة، مما يعكس فشل المجتمع في إيجاد آليات فعالة لحل النزاعات وتقديم الدعم للأفراد.
من جانبها، استجابت الحكومة الصينية لهذه الظاهرة بحلول تستند إلى فلسفة الحزب الشيوعي في تكثيف الرقابة والسيطرة على المجتمع.
عقب مأساة تشوهاى، وجه الرئيس شي جين بينج وزارة الأمن العام إلى اتخاذ تدابير صارمة، ليس فقط لتشديد العقوبات، ولكن أيضًا للتركيز على الوقاية من خلال تعزيز المراقبة.
تزايدت العمليات التي تشمل "تجربة فينجتشياو" و"جماهير تشاويانغ" وحشود المتطوعين في الحارات، حيث يُشجع المواطنون على الإبلاغ عن أي تهديدات محتملة داخل مجتمعاتهم.
لكن هذا التركيز على الرقابة والمراقبة قد يؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلًا من معالجتها.
أحد الأمثلة على ذلك هو ظهور ظاهرة جديدة بين طلاب الجامعات، حيث بدأوا في ركوب الدراجات ليلًا في مدن كبيرة مثل بكين ونانجينج ووهان.
كان هذا النشاط في البداية مجرد فعل عفوي، لكنه تطور ليصبح رمزًا للمقاومة ضد الضوابط الاجتماعية المشددة.
وقد ردت السلطات على هذا التحدي بفرض قيود صارمة على تحركات الطلاب، بما في ذلك فرض تصاريح خروج مؤقتة، مما يوضح كيف أصبحت الحكومة تركز على تشديد الضوابط بدلًا من فهم ومعالجة جذور الأزمة الاجتماعية.
يظهر الإحباط الكبير في صفوف الشباب في الصين بشكل ملحوظ في ظل التحديات التي يواجهونها.
جيل الشباب في البلاد يعاني من ضغط غير مسبوق نتيجة للتنافس الحاد في سوق العمل، وتزايد تكاليف الحياة، إضافة إلى الضغوط الهائلة لتحقيق النجاح في نظام يبدو أنه يزداد تعقيدًا ضدهم.
الرقابة المشددة على منصات التواصل الاجتماعي مثل Weibo وDouyin، إلى جانب المراقبة المستمرة من قبل السلطات والمدارس، تعمق هذا الشعور بالإحباط، حيث يصعب على الأفراد إيجاد متنفس للتعبير عن همومهم ومظالمهم.
تظهر هذه الحوادث العنيفة نمطًا متكررًا من استهداف الأماكن التي تحمل رمزية اجتماعية، فقد أصبحت المدارس، سواء كانت ابتدائية أو جامعية، أهدافًا شائعة للهجمات.
الهجمات التي وقعت في منطقة هايديان في بكين، ومدرسة تيانهي في قوانجتشو، بالإضافة إلى حادث الحافلة في سوتشو، تكشف أن مرتكبي هذه الجرائم لا يسعون فقط لإلحاق الأذى، بل يسعون أيضًا لضرب المؤسسات التي تمثل النظام الاجتماعي وفرص المستقبل.
من اللافت أيضًا أن هذه الحوادث لا تقتصر على مناطق معينة، بل تحدث في مدن مختلفة من البلاد.
من المدن الكبرى على الساحل مثل شنجهاي وقوانجتشو إلى مدن داخلية مثل شيآن وتشنجدو، يتجاوز العنف الحدود الاقتصادية التي تفصل بين المناطق.
هذا الانتشار يعكس أن المشكلة لا تكمن فقط في ظروف اقتصادية معينة، بل هي انعكاس لتوترات اجتماعية أوسع تشمل نظام المجتمع الصيني بأسره.
من خلال الأسلحة المستخدمة في هذه الهجمات، مثل المركبات والسكاكين، يتضح أن هذه الأفعال غالبًا ما تكون نتيجة لحالات يأس وعفوية.
ورغم القوانين الصارمة التي تحظر الأسلحة في الصين، فإن الأفراد الذين وصلوا إلى نقطة الانهيار يلجؤون إلى أدوات يومية لارتكاب جرائمهم، مما يجعل الإجراءات الأمنية التقليدية أقل فعالية في التعامل مع هذه الأنماط من العنف.
هذا التكيف مع الظروف يبرز التحديات الكبيرة التي تواجه الحكومة في محاولة احتواء مثل هذه الحوادث من خلال الوسائل المعتادة.
التركيز على تعزيز آليات المراقبة من قبل الدولة لحل النزاعات على المستوى الشعبي يعكس سوء فهم جوهري للمشكلة القائمة.
بينما قد توفر هذه التدابير شعورًا بالأمان في المدى القصير، فإنها لا تعالج الأسباب العميقة التي تؤدي إلى هذه المواقف، مثل الضغوط الاجتماعية المتزايدة، وقلة الفرص المتاحة للتعبير عن الرأي، والضعف السريع في أنظمة الدعم التقليدية في مجتمع أصبح يعاني من التفكك المتسارع.
إن النشاطات الأخيرة التي قام بها الطلاب، مثل حركة ركوب الدراجات الليلية، تعكس تغيرًا في أساليب المقاومة الاجتماعية.
على عكس الأجيال السابقة، وجد الشباب الصيني طرقًا جديدة للتعبير عن عدم رضاهم عن الوضع القائم دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الحكومة.
والأمر اللافت أن استجابة السلطات المبالغ فيها لهذا النشاط، الذي يبدو بسيطًا مثل ركوب الدراجات جماعيًا، تشير إلى أن الدولة ترى في أي شكل من أشكال التعبير الجماعي تهديدًا جدّيًا، مهما كانت نوايا المشاركين.
وفي الوقت الذي تواصل فيه الصين تقدمها نحو التحديث والنمو، فإن هذه الحوادث العنيفة تبرز مشكلات عميقة داخل المجتمع الصيني الذي يعاني من ضغوط كبيرة.
المشكلة الرئيسية التي تواجه القيادة الصينية ليست فقط في كيفية منع حدوث المزيد من الهجمات، بل تكمن في الحاجة الملحة للتعامل مع القضايا الاجتماعية الأساسية التي تدفع الأفراد إلى اتخاذ خطوات يائسة.
في الواقع، قد يؤدي التركيز المستمر على تعزيز المراقبة والرقابة، رغم أنه قد يكون فعالًا في الأمد القصير، إلى مزيد من الضغط على الأفراد، مما يفاقم التوترات الاجتماعية وقد يؤدي إلى أزمات أكثر شدة في المستقبل.
إن تصاعد موجة العنف في الصين خلال عام 2024 لا يمثل مجرد تحدٍ في تطبيق القانون، بل هو انعكاس لمشاكل اجتماعية أعمق تحتاج إلى حلول شاملة.
حتى يتم معالجة الأسباب الجذرية مثل الضغوط الاجتماعية، والفرص المحدودة للتعبير، والفجوات الاقتصادية المتزايدة، فإن الصراع بين محاولات الدولة للسيطرة على المجتمع ورغبة الأفراد في التعبير عن أنفسهم سيستمر في النمو ويظهر بطرق أكثر إزعاجًا.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الصين حوادث الطرق هذه الحوادث یعانی من فی الصین
إقرأ أيضاً:
اتجاهات مستقبلية
اتجاهات مستقبلية
إدمان الإنترنت وسلامة النشء ودور الدولة
تداولت وسائل الأنباء حول العالم خبرًا عن “خطوة هي الأولى من نوعها”، وهي إقرار “البرلمان الأسترالي قانونًا يحظر على من تقل أعمارهم عن 16 عامًا الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي، وتغريم شركات التواصل الاجتماعي مبلغ 32 مليون دولار إذا لم تمتثل لتطبيق القانون الذي وصفته هيئة الإذاعة البريطانية بأنه “الأكثر صرامة في هذا المجال”.
بإلقاء النظر على حجم ظاهرة انخراط النشء في التواصل الاجتماعي، تتجلى بعض الأرقام -التي صدرت مؤخرًا في تقرير “الرقمية 2024”- عن حالة القطاع الرقمي الصادر عن مؤسسة “we are social” الأمريكية المتخصصة في وسائل التواصل الاجتماعي، منها أن هناك 5.61 مليارات مستخدم للهاتف المحمول في عام 2024 حول العالم، من إجمالي عدد سكان العالم البالغ 8.08 مليارات نسمة.
تقول الإحصائيات أن عدد المستخدمين النشطين لوسائل التواصل الاجتماعي حول العالم قد زاد على 5 مليارات مستخدم، بمقدار 266 مليونًا خلال عام 2023، بنسبة نمو 5.6%، وأن العدد الإجمالي قد وصل إلى 5.04 مليارات نسمة في بداية عام 2024، وهو الإحصاء الذي يأتي قبل الذكرى العشرين لتأسيس موقع فيسبوك في الرابع من فبراير 2004. ويُثبت هذا الإحصاء أن متوسط عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الجدد في العالم قد وصل إلى 8.4 مستخدمًا في الثانية خلال عام 2023، وأن المستخدم “النموذجي” لوسائل التواصل الاجتماعي يقضي الآن ساعتين و23 دقيقة يوميًا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وهو المتوسط الذي يقل بثماني دقائق يوميًّا عن متوسط تقرير 2023، وأن البشرية ستقضي ما مجموعه 500 مليون عام في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في عام 2024.
وقد انتهى التقرير إلى خُلاصات عدة، أهمها على الإطلاق هي أن بلدان الخليج العربي تشهد أعلى نسب مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى عدد السكان، وأن تطبيقات الدردشة والمراسلة تُعَدُّ الخيار الأكثر شعبية إلى حد ما، حيث أفاد 94.7% من جميع مستخدمي الإنترنت الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و64 عامًا بأنهم يستخدمون تطبيقًا واحدًا منها على الأقل.
ولكن لماذا تلجأ التقارير العالمية بشأن نسب استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى تَجَنُّب التركيز على بيانات الفئات العمرية دون سن الـ 16 عامًا؟ السبب يعود إلى تحديات قانونية وأخلاقية، مثل حماية البيانات الشخصية للأطفال في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهي القوانين التي تمنع جمع أو تحليل بيانات الأطفال دون موافقة أولياء الأمور، والحساسية الأخلاقية؛ حيث إن التركيز على بيانات الأطفال يُعتبر قضية حساسة، وقد يتسبب في انتقادات للمؤسسات التي تحلل أو تنشر تلك البيانات، ناهيك عن تحديات تقنية تتمثل في صعوبة الوصول إلى بيانات دقيقة، حيث إن الأطفال أقل من 16 عامًا غالبًا ما يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي دون الكشف عن أعمارهم الحقيقية، وبعضهم يستخدم حسابات بأعمار زائفة لتجاوز قيود المنصات، هذا يؤدي إلى صعوبة الحصول على إحصاءات دقيقة وموثوقة، بالإضافة إلى قوانين منصات التواصل الاجتماعي، إذ إن معظم المنصات تضع حَدًّا أدنى لعمر المستخدمين (13 عامًا على الأقل)، ولكنها قد لا تتحقق بدقة من صحة المعلومات.
وفي ضوء جسامة الظاهرة وصعوبة توصيفها الدقيق في ضوء الاعتبارات المشار إليها سلفًا، أقر البرلمان الأسترالي تعديلًا على قانون الأمان الإلكتروني لعام 2021 تحت اسم “تعديل الحَدّ الأدنى للعمر لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي (Online Safety Amendment – Social Media Minimum Age Bill 2024). ويهدف هذا القانون إلى حظر استخدام الأطفال دون سن 16 عامًا لمنصات التواصل الاجتماعي التي تُصَنَّف كـ”منصات مقيّدة بالعمر”، ومن أهم ملامح هذا القانون الالتزام بالحد الأدنى للعمر، حيث يتعين على المنصات اتخاذ “خطوات معقولة” لضمان عدم إنشاء أو امتلاك حسابات للأطفال تحت سن 16، وتحديد المنصات المتأثرة بالقانون، وتشمل المنصات الشهيرة؛ مثل: تيك توك، وفيسبوك، وإنستغرام، وسناب شات، بينما تستثنى بعض الخدمات مثل تطبيقات الرسائل والألعاب الإلكترونية التي تركز على التعليم أو الصحة. وفيما يَخُصُّ آلية التحقق من العمر، فمن المتوقع أن يتم استخدام تقنيات تحقق الامتثال للقانون، مع ضمان خصوصية البيانات وحمايتها. أمّا عن العقوبات فقد تُفْرَض غرامات كبيرة على المنصات غير الملتزمة، وتحتفظ الحكومة بالحق في تعديل قائمة المنصات المستهدفة حسب الحاجة. وقد أثار القانون نقاشًا واسعًا حول فعّاليته والتحديات التي تواجه تطبيقه، مثل مخاوف الخصوصية وإمكانية التهرب من الحظر بواسطة الأطفال أنفسهم.
في النهاية، وبصرف النظر عن اللغط الذي أثاره القانون إلّا أنه يبدو فرصة سانحة لفتح الباب أمام خطوات أخرى نحو مزيد من التنظيم للظاهرة؛ حمايةً للنشء ومستقبلهم.