الميزانية الأسرية.. هل ما زالت ممكنة في زمن التضخم؟
تاريخ النشر: 2nd, December 2024 GMT
يشكل التضخم المتسارع تحديا كبيرا للأسر في إدارة ميزانياتها المالية. فمع الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات الأساسية، وثبات الدخل في أغلب الأحيان، أصبح السؤال ملحا: هل ما زال من الممكن تطبيق ميزانية أسرية فعالة؟
ويواجه المخططون الماليون للأسر تحديات غير مسبوقة، فالأسعار تتغير بشكل شبه يومي، والنفقات الثابتة كالإيجار والمواصلات والتعليم تستحوذ على نسبة متزايدة من الدخل.
وفي عصرنا الحالي، ومع تحديات التضخم وارتفاع الأسعار، تبرز أهمية هذا المنهج الإسلامي في إدارة المال. فالإسلام لم يترك جانبا من جوانب الحياة إلا وضع له أسسا وضوابط، ومن ذلك الجانب المالي الذي يعد عصب الحياة المعاصرة.
المنظور الإسلامي للمال والإنفاق:
يواجه المخططون الماليون للأسر تحديات غير مسبوقة، فالأسعار تتغير بشكل شبه يومي، والنفقات الثابتة كالإيجار والمواصلات والتعليم تستحوذ على نسبة متزايدة من الدخل. لكن هذا الواقع، رغم صعوبته، يجعل الحاجة للميزانية أكثر إلحاحا من أي وقت مضى
يقوم المنهج الإسلامي في إدارة المال على أسس مهمة، منها أن المال مال الله والإنسان مستخلف فيه، وأنه يجب حفظه كأحد الضروريات الخمس. كما أن الإسلام يدعو إلى الوسطية والاعتدال في الإنفاق، وينهى عن الإسراف والتبذير. ولنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة، فقد كان يدخر قوت سنة لأهله، وقال: "ما عال من اقتصد" رواه أحمد.
ويؤسس القرآن الكريم لمنهج متكامل في إدارة المال، قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاما" (الفرقان: 67). هذا المنهج الرباني يقدم حلولا عملية للتحديات المالية المعاصرة.
وتبرز أسس التعامل بشأن ميزانية الأسرة في القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام: "تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبا" (يوسف: 47)، والاعتدال في الإنفاق: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ" (الإسراء: 29)، والنهي عن التبذير: "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ" (الإسراء: 27)، والأمر بحفظ المال: "وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ" (النساء: 5).
أما في السنة النبوية المطهرة فيظهر في قوله صلى الله عليه وسلم "نِعْمَ المالُ الصَّالِحُ للمَرْءِ الصَّالِحِ" (رواه أحمد)، وقوله: "ما عال من اقتصد" (رواه أحمد)، وقوله: "إن من حق الولد على والده أن يحسن اسمه، ويحسن أدبه، ويورثه" (رواه البيهقي)، وأيضا في شأن الوصية الوارد في حديث سعد في الوصية بالثلث وتعليل النبي ﷺ "الثلث، والثلث كثير".
أما من السيرة النبوية والصحابة ففي حياة النبي ﷺ العملية وادخاره قوت سنة لأهله، وإدارته للوقف والصدقات، وتوجيهه للصحابة في التجارة، وتعامله مع المال العام والخاص، وفي حياة الصحابة رضوان الله عليهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما، ما يوجه لكيفية إدارة مال الأسرة بصورة تراعي الواقع والمستقبل.
وفي القواعد الفقهية في الإنفاق والادخار ما يضبط بوصلة الأسرة في التعامل مع الموارد المتاحة بما يحقق الحاجة الحالية واحتمالات المستقبل، يبدو ذلك في قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" التي تؤكد على منع الإسراف لأنه ضرر، وضوابط الديون والقروض، وقاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" التي توجه لتجنب المعاملات المشبوهة، والابتعاد عن الاستثمارات عالية المخاطر، وحماية المال من السرقة والضياع، وتجنب المعاملات الربوية، وقاعدة "الضرورات تقدر بقدرها" التي تحدد ضوابط الاقتراض للحاجة وحدود الاستدانة، وحدود التوسع في الكماليات، وتقدير النفقات الضرورية، وقاعدة "العادة محكمة" التي تُعنى بمراعاة المستوى المعيشي المعتاد، وتقدير النفقات حسب العرف، واعتبار التغيرات الاقتصادية، ومراعاة ظروف كل أسرة.
الأحكام الشرعية لإدارة ميزانية الأسرة
النفقات الواجبة هي نفقة النفس والأهل بالمعروف من طعام وشراب وكسوة ومسكن، والزكاة عند بلوغ النصاب وحولان الحول، وسداد الديون في موعدها، ونفقة الوالدين المحتاجين.
أما النفقات المستحبة فتتمثل في الصدقات والإنفاق في وجوه الخير، وصلة الرحم والإحسان للأقارب، والوقف والصدقة الجارية، وإكرام الضيف والجيران.
أما عن الترف والكماليات، فيُتجنب الإسراف والتبذير في الكماليات، وعدم التوسع في الكماليات على حساب الضروريات، ومراعاة المصلحة العامة والموازنة بين الحاجات، وتجنب التباهي والتفاخر في الإنفاق، والاعتدال في التمتع بالطيبات المباحة، وتقديم الصدقات والإنفاق في سبيل الله على الكماليات
أم عن الاقتراض والتعامل مع الديون، فينبغي تجنب القروض إلا للضرورة القصوى، وتحريم القروض الربوية بكافة أشكالها، وتوثيق الدين كتابة والإشهاد عليه، والمبادرة بالسداد عند القدرة وتحريم المماطلة، ووضع خطة واقعية للسداد قبل الاقتراض، وتجنب الديون الاستهلاكية غير الضرورية.
أما عن الادخار والاستثمار، فضرورة الادخار للمستقبل والطوارئ، ووجوب إخراج الزكاة على المال المدخر، وعدم جواز اكتناز المال وحبسه عن التداول.
أما عن الاستثمار، فيجب الاستثمار في المجالات المباحة شرعا، وتجنب الاستثمارات المحرمة كالربا والقمار، ومراعاة قواعد الحلال والحرام في المعاملات، وتوزيع المخاطر وعدم المجازفة بكل المال.
التطبيقات العملية لإدارة ميزانية الأسرة:
- إعداد موازنة شهرية وفق الضوابط الشرعية، وتحديد أوجه الإنفاق حسب الأولويات، وتخصيص نسبة للادخار والصدقات، ووضع هوامش للزيادات المحتملة في الأسعار، ومراجعة وتعديل الميزانية شهريا وليس سنويا، وتوزيع المصروفات بين ثابتة ومتغيرة، وإعداد خطط بديلة للطوارئ المالية.
- المشاركة العائلية: إشراك جميع أفراد الأسرة في التخطيط، وتوعية الأطفال بأهمية الترشيد، وتشجيع الأفكار الإبداعية للتوفير، وتعزيز ثقافة الادخار في الأسرة.
- في مجال الإنفاق بشكل عام، ترشيد الاستهلاك دون تقتير، وتجنب الإسراف والتبذير، والاستفادة المثلى من الموارد، والتوازن بين متطلبات الأسرة، وتصنيف النفقات إلى ضرورية وكمالية، والتركيز على الاحتياجات الأساسية، وتأجيل المشتريات غير الملحة.
- استراتيجيات التوفير الذكي: الشراء بالجملة للسلع الأساسية طويلة الصلاحية، والبحث عن البدائل الأقل تكلفة، واستخدام برامج الولاء وبطاقات الخصم والكوبونات والعروض، وانتظار مواسم التخفيضات، واستخدام المقارنة بين الأسعار، وتجنب الشراء العاطفي.
- في مجال الغذاء:إعداد قائمة طعام أسبوعية مسبقة، والتسوق حسب قائمة محددة، وتجنب التسوق أثناء الجوع، وتخزين المواد الغذائية بطريقة صحيحة، والطبخ المنزلي بدل الوجبات الخارجية.
- في مجال المرافق:ترشيد استهلاك الكهرباء والماء، والاستثمار في الأجهزة الموفرة للطاقة، وإجراء الصيانة الدورية للأجهزة، ومراقبة فواتير الخدمات بدقة.
- في مجال المواصلات:تخطيط الرحلات لتوفير الوقود، واستخدام المواصلات العامة عند الإمكان، والمشاركة في رحلات العمل، والصيانة المنتظمة للسيارة.
- في مجال الترفيه:البحث عن الأنشطة المجانية، والاستفادة من العروض العائلية، وتنظيم نشاطات منزلية، والاشتراك في البرامج الترفيهية الموسمية.
الالتزام بالميزانية الأسرية يتوافق مع المنهج الإسلامي في حفظ المال الذي هو أحد الضروريات الخمس. فقد حثنا الإسلام على التوسط في الإنفاق، كما أنها عبادة وامتثال لأوامر الله في حفظ المال وحسن التصرف فيه
النظرة المستقبلية
الميزانية الأسرية في زمن التضخم ليست مستحيلة، لكنها تتطلب تغييرا في نمط التفكير والإنفاق، ومرونة في التخطيط والتنفيذ، والتزاما من جميع أفراد الأسرة، وتطويرا مستمرا للمهارات المالية.
وفي الختام، رغم التحديات التي يفرضها التضخم، تبقى الميزانية الأسرية أداة فعالة لإدارة الموارد المالية. النجاح يعتمد على المرونة، والالتزام، والتخطيط الذكي. المفتاح هو التكيف مع الواقع الجديد وتبني استراتيجيات مبتكرة للتوفير. فالميزانية ليست قيدا، بل هي خارطة طريق للاستقرار المالي في زمن التضخم، فالميزانية الأسرية ليست مجرد أداة اقتصادية، بل هي تطبيق عملي للمنهج الإسلامي في إدارة المال والحفاظ عليه من الضياع والإسراف.
كما أن الالتزام بالميزانية الأسرية يتوافق مع المنهج الإسلامي في حفظ المال الذي هو أحد الضروريات الخمس. فقد حثنا الإسلام على التوسط في الإنفاق، كما أنها عبادة وامتثال لأوامر الله في حفظ المال وحسن التصرف فيه. ولنتذكر دائما أننا سنسأل عن هذا المال يوم القيامة: من أين اكتسبناه وفيمَ أنفقناه.
فلنجعل من تعاليم ديننا الحنيف منارة تهدينا في إدارة شؤوننا المالية، ولنتذكر دائما أن المال مال الله، ونحن مستخلفون فيه، وسنسأل عنه يوم القيامة من أين اكتسبناه وفيم أنفقناه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المالية ميزانية الأسرة ميزانية أنفاق الاسلام مالية أسرة مدونات مدونات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی إدارة المال فی حفظ المال فی الإنفاق فی مجال التی ت کما أن
إقرأ أيضاً:
رئيس الرقابة المالية يكشف تفاصيل التحركات بشأن تعديل قانون سوق رأس المال
أعلن الدكتور محمد فريد، رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، تفاصيل التحركات بشأن تعديل قانون سوق رأس المال فيما يتعلق بتأسيس صناديق الاستثمار المباشر ورأس المال المخاطر.
جاء ذلك خلال الجلسة العامة لمجلس الشيوخ، أثناء مناقشة تقرير اللجنة المشتركة من لجنة الشئون المالية والاقتصادية والاستثمار ومكتب لجنة الشئون الدستورية والتشريعية عن الطلب المقدم من النائب سامح محمـد أنور عصمت السادات، بشأن دراسة الأثر التشريعي للمادة (29) من القانون رقم (95) لسنة 1992 الخـاص بإصدار قانون سوق رأس المال على نشاطي الاستثمار المباشر ورأس المال المخاطر، والمادتين (46) مكرراً 2، 50) من قانون الضريبة على الدخل الصادر بالقانون رقم 91 لسنة 2005، فيما يتعلق بالحوافز والمعاملات الضريبية.
وأشار إلى أنه تم التوافق بإدخال التعديلات بما يجيز تأسيس الصناديق، وفقا لأي نوع من أنواع الشركات التي يوافق عليها مجلس إدارة الهيئة العامة للرقابة المالية.
وأوضح فريد، أن هذا التعديل يتفق عليه كل من اللجنة والهيئة ووزارة العدل، مؤكدا أن مجلس إدارة الهيئة أرسل تعديلات مقترحة إلى وزارة العدل ويناقشها حاليا مع بنود أخرى في القانون بما يساهم في زيادة الاستثمار وصناديق الاستثمار ورأس المال المخاط.
وكشف رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، أنه جار مناقشة تعديل المادتين 29 و35 بقانون سوق رأس المال رقم (95) لسنة 1992، في هذا المجال.
وحول مقترح إنشاء محكمة متخصصة لمنازعات سوق رأس المال، أكد أن هناك بالفعل المحكمة الاقتصادية، قائلا: من الصعوبة بمكان أن يكون لسوق رأس المال محكمة منفصلة عن المحكمة الاقتصادية.
ولفت إلى أن المحاكم الاقتصادية المتخصصة تعمل في جميع المنازعات، ومنازعات سوق رأس المال لا تحتاج لمحكمة متخصصة، قائلا: لكن قد يكون هناك فروع من المحكمة الاقتصادية، كما أن هناك معهد الخدمات المالية يعمل على رفع كفاءة العاملين في هذا القطاع.
وأشار إلى أن هناك مركز التحكيم المصري للمنازعات في الخدمات المالية غير المصرفية، قائلا: أي منازعات يرغب طرفها فى مناقشتها والتحكيم فيها قبل الوصول إلى المحاكم فهو مرحب به في مركز التحكيم في هذا الأمر.
وقال: نستهدف مساندة المستثمر الأجنبي والمصري أيضا وتبسيط الإجراءات لتأسيس مثل هذه الصناديق الاستثمار المباشر أو رأس المال المخاطر، لأن المستثمر الأجنبي لن يأتي للسوق المصري إلا إذا رأى أن المستثمر المصري يستثمر، ويثق في التشريعات المنظمة".
وشدد على أهمية توحيد أو تقريب المعاملة الضريبية، والاستثمار المؤسسي المحترف، موضحا أن عملية ريادة الأعمال تؤدي إلى طفرات في الاقتصاد، والتوظيف والتشغيل ومعدلات النمو الاقتصادي، وشركات ريادة الأعمال.
وقال: نستهدف زيادة شركات رأس المال المخاطر، وتعزيز دورها في النمو الاقتصادي ودفع ضرائب للدولة، من خلال شركات لديها أفكار رائدة تجذب استثمارات أخرى، وأهمية التأكد من سلامة المراكز المالية للشركات وحماية المستثمر.
وأشار رئيس هيئة الرقابة المالية إلى أهمية الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة بصورة مكثفة.