فاروق حسني ونهضة ساحة الأوبرا: من فضاء عادي إلى مركز ثقافي عالمي
تاريخ النشر: 2nd, December 2024 GMT
عندما نتحدث عن النهضة الثقافية التي شهدتها مصر في العقود الأخيرة، لا يمكننا إغفال دور فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق، الذي لعب دورًا كبيرًا في تطوير دار الأوبرا المصرية ومحيطها الثقافي والفني، لتصبح مساحة نابضة بالحياة الثقافية والفنية، وجعلها مركزًا للإبداع والتفاعل المجتمعي، ومن أبرز مراكز الإشعاع الثقافي في الوطن العربي.
إحياء الأوبرا وبناء مجمع فني متكامل
تولى فاروق حسني الوزارة بعد فترة شهدت غياب الأوبرا المصرية، حيث أُحرقت دار الأوبرا القديمة في عام 1971، وكانت إعادة بناء الأوبرا من أبرز التحديات التي واجهته، تم افتتاح دار الأوبرا الجديدة عام 1988 بالتعاون مع الحكومة اليابانية، التي ساهمت في تصميم وبناء المبنى الحديث على الطراز المعماري الياباني، مع لمسات مصرية تقليدية.
لم يكن الهدف فقط إنشاء مبنى للأوبرا، بل السعي لجعله مركزًا للفنون والثقافة، حرص حسني على توفير مساحات متعددة داخل الأوبرا، منها المسرح الكبير والصغير، ومسرح المفتوح، وقاعات للفنون التشكيلية، مما ساهم في تنوع الأنشطة وتوسيع جمهور الأوبرا.
دعم الفرق الفنية وتوسيع الأنشطة
أولى فاروق حسني اهتمامًا كبيرًا بالفرق الفنية، مثل فرقة باليه القاهرة، فرقة أوبرا القاهرة، وأوركسترا القاهرة السيمفوني، قدم لهم الدعم اللوجستي والمادي، مما ساعد في تقديم عروض على مستوى عالمي، كما شجع على استضافة الفرق والعروض الأجنبية، مما أتاح تبادلًا ثقافيًا غنيًا.
الساحات المفتوحة حول الأوبرا
كان لفاروق حسني رؤية تتجاوز حدود المبنى إلى الفضاء المحيط، طور الساحات المحيطة بدار الأوبرا لتصبح منصات مفتوحة للفن، من خلال استضافة معارض فنية، حفلات موسيقية، وعروض مسرحية في الهواء الطلق، حولت هذه الساحات إلى ملتقى للفنانين والجمهور على حد سواء من خلال مركز الهناجر، ومركز الإبداع وقصر الفنون وغيرها، مما جعل الثقافة أكثر قربًا من الناس.
لم تكن ساحة الأوبرا في البداية سوى مساحة مفتوحة تحيط بمبنى دار الأوبرا المصرية الجديد، ولكن فاروق حسني رأى فيها فرصة لتحويل هذا المكان إلى مركز ثقافي مفتوح للجمهور، يكمل دور الأوبرا كمسرح للفنون الرفيعة، وحرص على أن تكون الساحة امتدادًا طبيعيًا للأوبرا، تستضيف أنشطة فنية وثقافية متنوعة تعكس الطابع الديمقراطي للفن وتجعله متاحًا للجميع.
تطوير البنية التحتية للساحة
بهدف تحقيق رؤيته، أشرف فاروق حسني على تطوير البنية التحتية للساحة، تضمنت أعمال التطوير تجهيز المساحات الخضراء، إنشاء منصات عرض مفتوحة، وتركيب أنظمة صوت وإضاءة متطورة، كل ذلك ساعد في تحويل الساحة إلى فضاء ملائم لاستضافة الفعاليات المختلفة، سواء كانت عروضًا موسيقية، مسرحية، أو معارض فنية.
وأصبحت الساحة مسرحًا مفتوحًا للعروض الفنية والموسيقية التي تستقطب جمهورًا متنوعًا، قدمت فرق موسيقية مصرية وعالمية عروضًا في الهواء الطلق، مما أتاح للناس من مختلف الطبقات الاجتماعية الوصول إلى الفن بسهولة، كما نظمت في الساحة فعاليات سنوية مثل مهرجان الموسيقى العربية، الذي أضفى طابعًا دوليًا على المكان.
ساحة الأوبرا كمعرض للفنون التشكيلية
كانت رؤية حسني، كفنان تشكيلي، واضحة في توظيف الساحة لاحتضان المعارض الفنية المفتوحة، قدمت الساحة فرصًا للفنانين الشباب لعرض أعمالهم في بيئة تتيح التفاعل المباشر مع الجمهور، مما ساعد على خلق مجتمع فني متكامل ورفع الوعي الثقافي.
إقامة المهرجانات والفعاليات الدولية
أسس حسني العديد من الفعاليات التي عززت مكانة الأوبرا عالميًا، مثل مهرجان القاهرة الدولي للموسيقى العربية، كما كان حريصًا على جعل الأوبرا مكانًا للاحتفاء بالمناسبات الوطنية والدولية، مما جذب فنانين عالميين إلى مصر.
تأثير الساحة على الحياة الثقافية في مصر
ساهمت الجهود التي بذلها فاروق حسني في جعل ساحة الأوبرا نموذجًا للمساحات الثقافية المفتوحة في مصر، لم تعد الثقافة والفنون حكرًا على القاعات المغلقة أو الطبقات العليا، بل أصبحت جزءًا من الحياة اليومية، مما عزز من دور الثقافة كعنصر أساسي في التنمية المجتمعية.
تأثيره الثقافي المستدام
لم يكن دور فاروق حسني في النهوض بالأوبرا مقتصرًا على فترة وزارته، بل أسس رؤية ثقافية مستدامة، زرع في الأوبرا ثقافة الابتكار والانفتاح على العالم، مما جعلها مؤسسة قادرة على التجدد ومواكبة العصر، ونجح فاروق حسني في تحويل ساحة الأوبرا إلى رمز للنهضة الثقافية التي شهدتها مصر خلال فترة توليه وزارة الثقافة، وبفضل رؤيته الشاملة، أصبحت الساحة فضاءً يربط بين الفن والجمهور، ونافذة تطل منها مصر على العالم، وتعبر من خلالها عن هويتها الحضارية والإبداعية.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: وزير الثقافة فاروق حسني النهضة الثقافية المزيد المزيد دار الأوبرا فاروق حسنی الأوبرا ا مرکز ا
إقرأ أيضاً:
المسجد فضاء الاجتماع والاختلاف
يحتفي السرد في حكاياته بعالم القرية الصغير مقدمًا أنموذجًا عن حياة الإنسان وتصورات معيشته، متناولًا صورة متخيلة تفضي إلى الواقع في ذلك المكان، كما تظهر القرية بعوالمها وشخوصها وأحداثها في الكتابة القصصية مشكلة مرجعية مهمة في عملية البناء السردي، فقد عاد القاص إلى مكان نشأته الأول وبيئة طفولته، إذ شكّل هذا الفضاء له بيئة خصبة بالأحداث، والشخصيات المختلفة في طبائعها ومصائرها.
واللافت للنظر في الكتابة عن القرية ما نجده من تصوير سردي عن فضاءات العبادة فيها، لا سيما المساجد، إذ تُشكّل مكانًا يجمع أهل القرى لحظة العبادة والانقطاع لها، كما تُشكّل مكانًا تنكشف فيه طبائع الشخصيات كلٌّ حسب درجات ورعه وتقواه، وتمثل المساجد أمكنة للعبادة لها حضورها الفاعل في الصلة بين الإنسان وربه، لكننا قد نستقرئ من سردياتها حكايات مختبئة في دواخل شخصيات القرية تمثّل اختلافًا في الأفكار أو اجتماعًا في الحضور الجمعي.
(1)
تأخذنا قصة (السترة) لعبدالعزيز الفارسي إلى عالم القرية، وتحديدًا إلى فضاء المسجد، فيقدم القاص في قصته صورة عن تنوّع الشخصيات وارتباطها بالمكان لحظة العبادة، وهنا يظهر الارتباط بالمسجد كونه مكانًا جامعًا لأهل القرية، يؤدون فيه فريضتهم، لكنّ القصة تُحيل القارئ على حدث مهم تبدأ به، إذ تدور أحداث القصة في فترة زمنية قصيرة ممتدة بين إقامة الصلاة وانتهائها، وتظهر هناك شخصيتان متمثلتان في خلف بن راشد الإمام والصوت الآتي من ورائه من السترة.
يستمر السرد في إيجاد تدافعٍ في الفعل بين الشخصيتين، يتطور إلى صراع وتخوّف، فمن هذا الذي يخطّئ الإمام الذي لم يخطئ منذ ثلاثين سنة في صلاته؟! وهنا يتحول السرد إلى محاولة للكشف، وتصبح القراءة عملية مهمة في التعرف على الشخصية الأخرى التي تظهر بصوتها في الحدث.
يمتد الحدث عبر مونولوج ينفثه صدر الإمام باحثًا عن أجوبة يحاول الوصول من خلالها إلى شخصية صاحب الصوت، وهنا يصبح المسجد فضاء تتجسد فيه التأويلات وتتسع وصولًا إلى نهاية الصلاة ووصول شخصية الإمام إلى الإرهاق الذهني الذي أضاع عليه صلاته، وأفقده الخشوع، حتى إن الصوت صار يتدخل في سير الصلاة نيابة عن الإمام: "لكنه تفاجأ بالصوت ينهي الصلاة: السلام عليكم ورحمة الله. سلّم المصلون والإمام".
في فضاءات المساجد ما يمكن للقصص أن تتشكّل من الواقع، وعلى القاص اقتناص مثل هذه الحوادث وصياغتها في قالب سردي، فشخصية الإمام لم تكتفِ بتقريع النفس ولومها، بل قدّمت اعتذارات على تقدُّمها في الصلاة على العالِم الفذّ، وهنا تأخذ القصة القارئ إلى نهايتها، وهي نهاية ساخرة نوعًا ما، فمن كان يظنه الإمام عالمًا فذًا ما هو إلا مخبول القرية الذي دخل مع الناس إلى المسجد وصلى معهم في السترة، حتى فاجأ الإمام قائلًا: "شيخنا شو رأيك في صلاتي؟ مثل اللي بالتلفزيون صح؟".
تتكرّر هذه الحوادث في السرد مقدمة صورة متخيلة عن القرية وعن مساجدها ومصليها والحوادث الناشئة من شخصياتها التي تتشكّل أسماؤها وأفعالها من مرجعية بالواقع القروي.
(2)
وكما كتب عبدالعزيز الفارسي قصة (السترة) مقدّمًا صورة الإنسان القروي وحوادثه داخل المساجد، فإن محمد بن سيف الرحبي نقل لنا الصورة ذاتها في قصة (ود هاشول يصلي!!)، ومعها تظهر طبائع الشخصيات، وأنماط تفكيرها واختلافها في الرأي فيما بينها، وينفتح النص على جملة رئيسة يقوم عليها الحكي، وتضطلع الشخصيات بأدوارها، فنجد ذلك في العبارة الآتية: "ركض فاضول بما أوتي من نفس نحو الجالسين في عصريات قرية البارود، القرية الهاجعة مع نهاية يوم صيفي بين جبال المشرق والمغرب، ردّد بلثغته المعروفة عنه: "شفت ود هاشول يصلي!!"، الجملة الأخيرة في العبارة السابقة نهضت بشخصيات القصة وأخرجت لنا سمات كل شخصية ونظرتها إلى الحياة من الحوارات الدائرة بين الشخصيات: "نهض هَدّوب من غفوته، وأزاح اللوح الكرتوني الملتصق بقميصه بسبب الرطوبة العالية، وسأل فاضول إعادة ما قاله، قال فاضول: "ود هاشول شفته يخرج من المسجد"، رد هدوب: "يمكن رايح يشرب من ثلاجة المسجد"، حاصره فاضول بجملة أخرى: "شفته خارج من داخل المسجد".
فتح حمدان نصف عين، وكأنه بعيد عن المشهد، تحدّث ببرود معتاد: "يمكن سار يشوف الشيخ أن كان بعده في المسجد أو طلع"، ثم أغمض عينيه مرة أخرى...".
تتخذ شخصيات القرية هنا من فضاء المسجد مكانًا لإطلاق الأحكام على إحدى شخصيات القرية، فـ"ود هاشول" الذي لم يدخل المسجد من قبل، صار حدث دخوله حكاية تنفتح عليها التأويلات، فالشخصيات مسكونة بالحديث عن الآخر: "غاصت الألسن تبحث عن حقيقة ما حدث، وصل عبود إلى الجالسين، لم يكد يهجع إليهم ويضع كمته فوق ركبته كعادته إذا جلس حتى أخبروه بما رآه فاضول، كلهم اشتركوا في حكاية ما حدث، قال عبود إن فاضول يحلم، وتساءل: كيف يعرف ود هاشول يصلي؟! ثم تدارك كأنه نسي شيئًا: أقول هذا النور فوق المسجد من هين طالع؟!!".
تسير الحكاية وفق سرد ساخر نوعًا ما، تنكشف معه الشخصيات وطبائعها، وإن كان مكان اجتماع الشخصيات خارج المسجد، إلا إنها اتخذت من المسجد مكانًا يأوي إليه السرد: "سأل عبود فاضول الذي خشي من مغبة نقله للحكاية فيعرف ود هاشول بذلك: ما شفته كم ركعة صلى؟ أجاب فاضول بزعل خفيف: أقول أنا ما شفته يصلي، شفته خارج من المسجد".
إن اختلاف آراء أهل القرية في "ود هاشول" قدّم انطباعًا عن شخصيته التي تتحاشى دخول المسجد، فكان دخوله أشبه بالحدث الكبير الذي لا يقبله عقل، لكن القصة تختم حدثها بتأكيد الشخصية ونفيها عن نفسها فعل الصلاة، فكان ود هاشول مؤكدًا لكل ما رسمته عنه الشخصيات الأخرى: "سأله الشايب حمد في محاولة منه لكشف الحقيقة: "سمعنا كأنك خارج من المسجد" رد ود هاشول: "سألت عن منصور، فقالوا بعده يصلي، وأنا مستعجل أريد أبلغه عن الفلج، لازم يدوّر صوار الفلج مع أذان المغرب".
(3)
وإذا كان حدث دخول "ود هاشول" إلى المسجد حدثًا أدهش شخصيات القرية، فإن سعيد الحاتمي ينطلق في قصة (صلاة) من اعتبار المسجد فضاءً ينفض الإنسان داخله كل هموم الحياة وأدرانها، فالطريق إلى المسجد قصير جدًا بقدر ما يُشعل المدخّن مدواخه وينتهي من تدخينه، هنا يصبح المسجد فضاءً يحتضن الإنسان مسبغًا عليه الطمأنينة والنور، يقول: "في طريقه للمسجد أخرج مدواخًا خشبيًا من جيبه، وحشا فوهته بالتبغ. وضع طرفه بين شفتيه، وسلّط لهب الولاعة على كتلة الغليون. قبل أن يدخل، أطلق سحابة من الدخان، وردد خلف المؤذن: "حق وصدق لا إله إلا الله".
(4)
ويصور عيسى البلوشي في قصته (جامع "مفرق") الصراع الحاصل في المساجد في اختلاف الرؤى والأفكار، إن أولئك الأشخاص يمثلون أفراد القرية في توجهاتهم وآرائهم واختلاف كلمتهم، ورغم أن المسجد مكان جامع لهم، فإنهم تفرّقوا حوله وتشتّتت آراؤهم واختلفت كلمتهم عليه، فكان أن جمع العنوان لفظتين متضادتين (الاجتماع والفرقة): "بعمائمهم المختلفة كانوا يتنازعون على المسجد، بعمائمهم التي تمثّل الدين تنازعوا، واستخدموا في نزاعهم الحلال والحرام، بعمائمهم المختلفة تلك أخذوا يحفرون لبعضهم البعض بالكذب وبالحقد وبتقطيع الأرحام، بعمائمهم تلك كانوا يهدمون الدين. وحده بلحيته البيضاء وثمانينية حميمة كان يمقتهم، وحده كان يزدري هرطقاتهم. لم يكن يقرب مسجدهم، وحده صنع لنفسه مسجدًا بين نخيله في بقعة ظليلة عند الساقية. وذات مصارحة قال: "هذا المسجد -بالأصل- مقام على أرض مغصوبة!".