شـواطئ.. سفيرة النجوم فيروز وسوسيولوجيا الإبداع (2)
تاريخ النشر: 2nd, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يتابع الدكتور محمد الشيخ فى كتاب "فيروز.. وسوسيولوجيا الإبداع عند الرحبانية 1960 – 1980" والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بقوله: إن أثر الجدة على الرحبانية على المستوى التأثير الثقافي والفكري والفني يتمثل في عدة قيم ترسخت بداخلهم مثل: الصراعات في العقل الباطن والتفريغ الانفعالي والانسجام بين العقل الباطن والأنا والتخيل وأحلام اليقظة التي كانت تصاحبهم من جراء انعكاس علاقتهم بجدتهم ومن خلال الحكايات والقصص التي كانت تروى لهم وكان لها تأثير مهم على عملية الإبداع، وكان ناتج ذلك أن أصبح لديهم قدرات هائلة على الإبداع مثل: الإبداع التعبيري في طرائق الغناء والموسيقى، والإبداع الفني، والإبداع المتجدد، والإبداع الخلاق.
أما فيروز فقد تأثرت بزيارتها الصيفية الدائمة التي كانت تقضيها عند جدتها التي كانت تعيش في ضيعة "الدبية"، حيث تعلمت منها الحكايات العديدة المختلفة، التي ساهمت في توسيع خيالها وأرست عندها حب محاكاة الطفل، وتعتبر جدتها عاملًا مهمًا في تشكيل وجدانها الفني أيضًا، وتأثرت بها كثيرًا.
وما يزال الحنين، يراود نهاد "فيروز" إلى تلك الأيام التي كانت تستلقي فيها، فى حضن جدتها، لتداعب بيديها الحنونتين شعرها، وتقص لها من حكاياتها الجميلة، التي كانت تمثل لها نهرا يفيض بالقيم، وكانت جدتها تهمس لها بالحكاية وتجسدها بطبقة صوتية منخفضة ناعمة لقربها منها لخلق حالة من التركيز واسترسال الجدة كما كان يحلو لها، وإلى جانب ذلك تراث كبير من أغاني الأطفال من داخل الحواديت ومن خارجها ومن المأثور الشعبي اللبناني لأغنية الطفل، وهذه الحالة نقلت إلى صوت فيروز عند أداء أغاني الأطفال من "طبقة متوسطة" طبقة الصوت المسماة بـ"الألطو" وبنفس الطريقة في نعومة السرد الذي استلهمته من جدتها.
إن البيئة الدينية في المدرسة والكنيسة قد أثرت في تشكيل وتكوين فكر فيروز الديني وحملتها كثيرا من التعاليم وحفظ كثير من التراث الديني في صور ترانيم ومزامير وتعاليم وصلاة، فأصبح قلبها خاشعا مؤمنا بالفطرة وبالتعلم الشرطي، قد تحقق لها سوسيولوجية الإبداع الصوتي، فقد تعلمت حرفة الترتيل ودربت صوتها أن يخرج من منطقة معينة تعكس أداء وحسًا دينيًا وتلون الكلمات بشكل متمكن من حيث النطق بالألفاظ السليمة والتشكيل اللفظي واللحني، مضافًا إلى ذلك دراستها لعلم تجويد القرآن الذي فتح أمامها المجال للتأكد من تقنياته التي تؤكد على: "التحسين"، و"الإحكام"، و"الإتقان"، في كيفية إخراج كل حرف من حروف القرآن من مخرجه دون تغيير وقراءته قراءة صحيحة وفق قواعد التجويد التي وضعها علماء التجويد. ويقال هو: إعطاء كل حرف حقه ومستحقه من المخارج والصفات. وتجويد القرآن الكريم، إتقان تلاوته، وتحسين نطق حروفه، بالتلقي والمشافهة، والاستفادة من تقنيات القراءة مثل: الإظهار، الإضغام، والتنوين.
كان انعكاس كل من الموسيقى والدين ضرورة، وذلك لأنهم تشبعوا من الغناء الكنسي والمصاحبة من خلال آلات موسيقية مسيحية استخدمت في الكنيسة منذ سنين، وفي الأغاني الدينية نجد معطيات من الديانات التوحيدية، مثل الحج والقربان والتطهير والغفران، وكذلك إبراز فكرة الحج التي تظهر عندها جلية، خاصة في "زهرة المدائن"، حيث عين فيروز ونظرها يتجهان نحو القدس، مدينة الصلاة وملتقى ديانات سماوية. وفى القدس، عيونها: "تدور في أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة"، "عيوننا إليك ترحل كل يوم تدور في أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد" وللقربان أيضًا مكانته في الأغنية، فهو الخبز المقدس الذي يقرب على مائدة الرب المقدسة: "المحبة تطحنكم فتجعلكم كالثلج أنقياء ثم تعدكم لنارها المقدسة لكي تصيروا خبزًا مقدسًا يُقرب على مائدة الرب المقدسة" وفى المحبة تقول: التطهير يظهر في أغنية "زهرة المدائن": "وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية" وفى أغنية "جسر العودة": "وبصمت وصفاء ينطلق الأردن يزرع في الأدواء موسمه القدسي"، حيث مياه الأردن القدسية ترمز إلى المعمودية التي لها فعالية نحو الخطايا والتطهير الكامل.
وفيروز التي تعيدنا إلى جو الصلاة بعد أن نكون قد غرقنا في هموم الحياة، لا بل تعيدنا إلى بيت الصلاة، إلى مدينة الصلاة، وتخلق لنا جوًا روحيًا، تحملنا على الدخول فيه وعلى الانسجام مع جوه القدسي، في هذه، هل تكون إلا رسولة صلاة؟ إلا "ملاكًا حارسًا" يرافقنا طوال النهار ليذكرنا بالقيم السماوية وبالحياة المثلى، بلطف ونعومة همسة. فهي تغنى كلمتها وترحل، وتعرف ما للأغنية من وقع في النفوس، هل تكون فيروز، والحالة هذه إلا كما قال فيها سعيد عقل وبعده النقاد الفنيون والصحفيون في أكثر من مناسبة: "إنها سفيرتنا إلى النجوم.. سفيرتنا إلى السماء، وسفيرة السماء إلينا".
وللحديث بقية
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: شواطئ مدينة الصلاة القدس التی کانت
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي والإبداع الأدبي
حقق العلم في مجال الذكاء الاصطناعي قفزات كثيرة وسريعة، في غضون سنوات قليلة، حيث حرص كثير من المستخدمين، على الاستفادة من خدماته وإمكانياته في مجالات عدة، منها مجال الإبداع الأدبي.
وهناك تطبيقات وبرامج كثيرة، لعل أشهرها تشات جي بي تي، الذي وصفه بيل غيتس مؤسس ميكروسوفت بأنه برنامج مهم مثل اختراع الإنترنت! لأنه أحدث تحولاً كبيراً، يمكن أن يحل محل 300 مليون وظيفة بدوام كامل، حسب تعبيره!
هذا التطبيق الذي تداولت اسمه وسائل الإعلام عند ذكر خبر فوز الكاتبة اليابانية ري كودان بجائزة أكوتاغاوا، عن فئة الكاتب الواعد. وأكدّت الكاتبة بعد إعلان فوزها استعانتها بالذكاء الاصطناعي من حلال برنامج تشات جي بي تي، الذي ساهم بنسبة 5% بشكل تام من عملها من حيث المبنى والمعنى. بعد الضجة الكبيرة التي أحدثتها تصريحاتها قالت إنها استعانت به؛ لأن البطل في الرواية كان يستعين ببرنامج مماثل. وهنا نقف عند عدة تساؤلات، منها ما يتعلق بالموقف إجمالاً من الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في مجال الإبداع من حيث مدى الأصالة، ومدى تأثيره على الجانب الأخلاقي.
بداية لابد أن نتذكر أن الإبداع الأدبي لا يقف وحيداً في هذا الأمر، فمعظم المجالات استفادت مثل الهندسة، الطب، وغيرها، لكن كم نسبة الاستفادة الحقيقية؟ كيف توظف هذه الاستفادة؟ إذ كانت الكاتبة اليابانية أقرت بـ5% استفادة كاملة، فلابد أن نفكر أنها قد تكون استفادت منه 95% بصورة غير مباشرة! مثل استفادتها في بناء الرواية، الحبكة، الأحداث. وهي تستفيد بذلك من كل النتاج الإنساني الأدبي والثقافي، بما فيه أيضا الأدب الياباني.
وماذا عن الملكية الفكرية للإبداع الأدبي؟ هل يعدّ الذكاء الاصطناعي من خلال برنامجه شريكاً في العمل الأدبي؟ أم أن هذه المشاركة مرتبطة بما أضافه الكاتب؟ وماذا عن الأدباء والشعراء الذين استعان التطبيق بإنتاجهم الأدبي؟ أذكر هنا أن عدداً كبيراً من الأدباء احتج على استعانة برنامج تشات جي بي تي بنتاجهم الإبداعي. رفع جورج. ر .ر .مارتن مؤلف "صراع العروش" في سبتمبر 2023 قضية على تشات جي بي تي، في نيويورك طالب هو وبعض الكتاب بـ 150 ألف دولار عن كل كتاب يستخدمه التطبيق. وطالب آخرون بمقابل مادي عن كل كتاب يستفيد منه الذكاء الصناعي. وذكرت وسائل الإعلام المختلفة أن المحامين قالوا في الدعوى "إن النماذج اللغوية تشكّل خطراً على قدرة الروائيين على كسب لقمة العيش؛ لأنها تتيح لأي شخص أن يولّد آلياً ومجاناً (أو بسعر متدنٍ جداً) نصوصاً يُفترض به أن يُدفع للمؤلفين أموالاً لقاءها ونبهوا إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن تُستخدّم لإنتاج محتويات مشتقة تقلّد أسلوب الكُتّاب".
ونقلت مجلة فوربس آراء لمشرعين أمريكيين بأن العمل الأدبي لابد أن يكون إنتاجاً أصيلاً ومبدعاً من إنتاج إنساني دون تدخل الذكاء الاصطناعي. ورد مؤسسو تطبيق تشات جي بي تي الذي نُشر في الغارديان، قبل عام، بأن لديهم 150 مليون مستخدم أسبوعيا (وبلغ في أغسطس الماضي 200 مليون نشط أسبوعياً)، وأن أي شخص تًرفع عليه قضية بسبب استخدامه هذا الشات فهم سيتدخلون لصالحه!
لكن كيف يمكن أن نستعين بالذكاء الاصطناعي بشكل أفضل، دون المساس بالأصالة والإبداع لدى الكاتب؟ ربما يمكن أن يكون ذلك ضمن العصف الذهني وتوليد الأفكار، والأفضل عدم الاعتماد عليه 100%. ما يهمنا هنا أنه قادر على مساعدة المبتدئين في الكتابة أو متوسطي المستوى في إنتاج نصوص جيدة جداً، ولابد أن يعملوا على تعديلها. ولا أدري إن كانت المدونة الأوروبية، من أجل قواعد الممارسة لنماذج الذكاء الاصطناعي المتوقع صدورها في مايو 2025، ستشمل الإبداع الأدبي والفني أم لا. وهنا لابد أن نتذكر أن معظم الأمور المستحدثة تأخذ فترة حتى تستقر، وتقنن بتشريعات تحكمها، إنها مسألة وقت.