صدر حديثاً للدكتور يوسف الإدريسي، الناقد المغربي وأستاذ الأدب في كلية الآداب والعلوم بجامعة قطر، كتابان جديدان بعنوان: "نقد الشعر عند العرب: حفريات في النشأة والتكوّن" و"مفهوم التخييل في الفكر البلاغي والفلسفي عند العرب"، عن "دار عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع" في الأردن.

وللدكتور الإدريسي أيضاً أكثر من ثلاثة كتب سابقة، طبعت في مدن عربية عديدة، وصدرت بعضها في أكثر من طبعة، بالإضافة إلى أعمال مشتركة.


ينشغل الإدريسي في أبحاثه بإعادة قراءة التراث العربي من منظور يتجاوز القطيعة المعرفية الصارمة، معتمداً على رؤية جدلية تربط بين مراحل الانفصال والاتصال في التطور المعرفي.
التقى موقع 24 بالدكتور الإدريسي لتسليط الضوء على اهتماماته النقدية وما تناوله في كتابيه الأخيرين.

ضبط المفاهيم ما دوافع انشغالك الأكاديمي واهتمامك البحثي بدراسة التراث البلاغي والنقدي والفلسفي؟

أولاً، اسمح لي أن أشكر موقع 24 على هذه الاستضافة الكريمة، أمّا بالنسبة لسؤالكم، فقد كان الحرص على المعرفة وتجديد صيغ السؤال ومسارات البحث أساساً لذلك، فكلما اتسعت القراءة وتقدم الدارس في بحثه اكتشف جهله بموضوعه، وازداد وعيه بالنقصان والحاجة إلى مزيد من النظر والتمحيص والمساءلة لذاته ومعرفته، وتحتاج أحياناً إلى إعادة صياغة، مادامت الصيغة والبنية تؤثران في المحتوى وتتحكمان فيه.
بهذا الوعي والمسار وجدتني أتخلص من بعض "الأوهام" التي استبدت بفكري، ويعود الفضل في ذلك بداية إلى ما لاحظته لدى رواد الأدب والنقد والفلسفة الغربيين من التزام بمنهجية بحثية في أعمالهم المؤسسة تنطلق من اقتباسات دالة وتلتقط مفاهيم دقيقة في الفلسفة اليونانية، فتعمق نظرها فيها، وتبسط ما اختزل فيها، وتؤسس منه مشاريع علمية جديدة.
وقد أفادني ذلك في إدراك أن المعرفة العلمية تراكم واستثمار دائب للجهود والاجتهادات، وأنها بقدر ما لا تقبل الحدود، تظل خاضعة لحقيقتها الراسخة التي سطرها باشلار واختصرها في مقولة: "القطيعة الإبستمولوجية"، وستترسخ في العقل والوجدان حين وقوفي عند دلالة وصف العرب قديماً أرسطو "بالمعلم الأول"، حيث لم ينظروا في عقيدته، ولكنهم اهتموا بعلمه، فكان لفكره أثر إيجابي في التراث العربي الإسلامي، كان من أبرز تجلياته كتاب حازم القرطاجني "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" الذي قدم من خلاله إسهاماً فريداً وغير مسبوق، بفضل دقيق إحاطته بالمقولات والأحكام الجمالية في التراث البلاغي والنقدي عند العرب وحسن قراءتها وبنائها انطلاقاً من مقولات الشعرية الأرسطية وتصوراتها الفلسفية، وهو ما مثل بالنسبة لي لحظة فارقة علمياً ومنهجياً: فعلى المستوى العلمي أدركت من سطوره الأولى ألا سبيل إلى فهمه الفهم الدقيق دون الإحاطة بالتراث الشعري والبلاغي والنقدي عند العرب قبله، وحسن الاطلاع على الشعريات الأرسطية، وعلى المستوى المنهجي خلصت إلى أن الاقتصار على الوقوف عند المحطات المؤسسة وضبط المفاهيم الأساس والتصورات العامة لا ينتج معرفة دقيقة بالتراث، بل بالبحث في البواكير والمراحل الابتدائية، وتتبع تحولاتها وتوظيفاتها في مختلف الأنساق المعرفية، وهو ما أصبح مجال اشتغالي العلمي وانشغالي الأكاديمي.

مستويات حوارية هل لك أن توضح لنا ذلك؟

حين قراءة الدراسات التي اهتمت ببحث التراث البلاغي والنقدي والفلسفي عند العرب يلاحظ اهتمام العديد منها بالوقوف عند المفاهيم والقضايا الكبرى والأعلام المؤسسين، وهو أمر هام جداً ومفيد كثيراً، لكنه ينتهي إلى تسطير أحكام غير دقيقة تتنافى مع روح العلم وشرائط تطوره، إذ تنسب مفهوماً أو حكماً أو تصوراً إلى عَلَمٍ عرف بها قد يكون وظفها وأكثر من تردادها، فلا تنتبه في ذلك إلى أن للنصوص ذاكرة، وأن اشتغالها لا يأتي من فراغ، بل عبر مستويات حوارية ممتدة في الفكر والسياقات، وأن الوصول إلى صياغة مفهوم جديد أو تصور آخر غير مسبوق يبنى دائماً على استيعاب اجتهادات السابقين، وإعادة صياغتها صياغة قد تكون جديدة في الظاهر، إلا أنها تنطوي في العمق على السابق الذي يصبح جزءاً من ذاكرة النصوص والأحكام العميقة.

ما الفائدة المنهجية والعلمية المبتغاة من هذا المسلك، وما تجلياته في مؤلفاتكم؟

بالنسبة للفائدة فتتمثل في مراجعة كثير من الأحكام التي تقرأ التراث العربي برؤية الانفصال والقطيعة المعرفية الصارمة، ليس بالمعنى الباشلاري كما ذكرت من قبل، ولكن بالمعنى الكلي، والدعوة إلى قراءته ضمن ما يمكن تسميته بجدل الانفصال والاتصال، وذلك بالنظر إلى أن مراحل التطور لا تنحصر قيمتها في استثمار السابق، بل وكذلك التمهيد للاحق.
وبالنسبة لتجلياته في مؤلفاتي، فتتضح عبر تبني منهجية "الحفر في النصوص الابتدائية وتركيز النظر والبحث على الأصول وتتبع طرائق حضورها في الامتدادات"، كما تشير إلى ذلك عناوينها.

الترجمات والشروح هذا الحضور اللافت في عناوين كتبكم لمصطلح الحفر، ما دلالته المنهجية والبحثية؟ وما علاقته بانشغالكم العلمي المذكور آنفاً؟

الحفريات المعرفية أصبحت هاجساً ومساراً في البحث والسؤال، لأنه لا سبيل إلى فهم أية لحظة أو مرحلة من اللحظات والمراحل المعرفية والتاريخية للتراث العربي الإسلامي بالانطلاق من "الإعلان المؤسسي" عن بداية ظهور العلم، بل لابد من العودة إلى أولياته والبحث عن اللحظات الجنينية المبكرة التي تسبق ظهوره ونشأته، وذلك لسبب أراه بسيطاً، لكنه جوهري وحاسم، مؤداه أن شروط العلم تتحدد في ثلاثة عناصر: الموضوع والإشكال والمفهوم، فلا علم دون موضوع، وكذلك لا علم دون إشكال، إذ ما لم يثر الموضوع إشكالاً ويصبح موضوع تفكير ونظر وبحث لا يمكن أن يظهر العلم، لكن أحياناً يظهر الإشكال ويكون مهاداً للتفكير في الموضوع، وتنطلق المحاولات الأولى للفهم والشرح والتأويل، فتمثل المظاهر الجنينية للعلم، التي تسبق تكونه واكتمال تشكله، وتتميز هذه المرحلة، التي وسمت العلوم الأصيلة عند العرب قديماً، بهيمنة لغة الإبدال، وأعني بها مجمل التوصيفات التي تنعت بها الظاهرة المثيرة للانتباه في الموضوع، والتسميات التي تطلق عليها، وتتوسل للتعبير عنها باللغة المجازية والأساليب الاستعارية، فتظل متداولة بين العشائر المهتمة بذلك الموضوع والمعنية بتأسيس علم خاص به إلى حين نضج الشروط العلمية لنشأة العلم، فتستبدل بأجهزة مفهومية واضحة، وتصاغ ضمن مقاربة منهجية أوضح.
وقد كنت في بحوثي المنشورة وكتبي مؤمناً بهذا الاختيار المنهجي، فحرصت على البحث عن البدايات المفهومية الأولى والنظر في عوامل تخلقها ومراحل تكونها وتطورها، ثم رصد مظاهر تأثيرها في المراحل اللاحقة والمتأخرة وتوجيهها لها، اشتغلت بذلك في كتاب: الخَيَال والمتَخَيل في الفلسفة والنقد الحديثين الصادر عام 2005، وتابعت فيه تطور مفهومات الخيال والمتخيل اصطلاحياً ونظرياً وتطبيقياً، فأبرزت فيه الأمشاج النظرية والمفهومية التي حكمت انشغال الفكر الغربي بالخيال والمتخيل والاشتغال عليهما، وتابعت ذلك في كتاب: عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر الصادر في طبعتين (2009- 2015)، ولاسيما في فصله الأول الذي بحثت فيه عن العناصر النظرية الأولى التي حكمت الثقافة العربية الإسلامية في تصدير نصوصهم ومؤلفاتهم واستهلالها وإحاطتها بعناصر تمهيدية، مبرزاً أهميتها المنهجية والنظرية في بدايات ظهور حركة التأليف عند العرب قديماً.
وطورت بعد ذلك هذه الرؤية، فساءلت الترجمات والشروح الابتدائية للتراث اليوناني عامة وللشعريات الأرسطية خاصة في كتاب: التخييل والشعر حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية الصادر في طبعتين (2009- 2015)، وقد أبرزت من خلال المنهج الحفري المندمج المتبع ألا سبيل إلى فهم شروح الفلاسفة المسلمين فهماً دقيقاً وعميقاً دون التخلص من أحكام القيمة حول جهود المترجمين الأوائل للتراث اليوناني والشعرية الأرسطية، والنظر إليها بوصفها قناة أولى ترجمية  قدمت "قراءة" خاصة، سيتلقاها الفلاسفة المسلمون ويعيدون قراءتها قراءة جديدة، ضمن جدل الاتصال والانفصال السالف الذكر.
وقد التزمت بتطبيق المنهج الحفري المتبع في بحوثي وكتبي اللاحقة، لاسيما كتاب: الأدب قضايا وإشكالات (2015-2016)، وكتاب نقد الشعر حفريات في النشأة والتكون (2024)، وكتاب مفهوم التخييل في الفكر البلاغي والفلسفي عند العرب الأصول...والامتدادات (2024).

ملامح جمالية ما هي بعض الخلاصات والنتائج الكبرى التي توصلت لها من دراستك لنقد الشعر عند العرب؟

بعد مراجعة الدراسات التي أرخت لنقد الشعر عند العرب، خلصت إلى أن أصحابها صدروا عن تصور منهجي حديث لمفهوم النقد، أسقطوه –بوعي أو بدون وعي- على التراث النقدي، متناسين في هذا الإطار أننا «حين نضع المنهج نكون في الوقت نفسه قد اختلقنا الموضوع»، كما أوضح ذلك سارتر، مما انعكس سلباً على كثير من الأحكام التي انتهوا إليها، وجعلتهم ينسبون مفاهيماً وتصورات وأحكاماً نقدية إلى نقاد لاحقين، بينما يفيد النظر في بواكير النقد والحفر في بدايات نشأته وتكونه باكتشاف ملامحها الأولى وأصولها العميقة التي تطورت نتيجة عوامل جمالية وذوقية ومعرفية، لتصاغ باصطلاحات جديدة، تستثمر ما سبق وترسخ في ذاكرتها المفهومية نتيجة جهود السابقين، فطورته من جديد.
من هنا حفر كتاب نقد الشعر بحثاً عن الآراء المفهومية، التي أشرت إليها قبلاً، فتتبع المرحلة الدقيقة لانتقال كلمة "نقد" من دلالتها اللغوية القديمة إلى الدلالة الاصطلاحية المرتبطة بالحكم على الشعر والشعراء والتمييز بين درجات الجودة والرداءة في الأشعار، فكان من نتائجه الجلية كشف البدايات الأولى لنشأة الوعي النقدي عند العرب، والوقوف عند تحوله من لغة الإبدال والصياغة المجازية إلى اللغة المفهومية والتعبير الاصطلاحي.

ومضات نقدية هل ثمة مقترحات قدمتها هذه الدراسة، ما هي؟

من خلال المنهج المتبع الذي اعتمده الكتاب، اقترح حفريات دقيقة وعميقة في مفهوم النقد عند العرب قبل ظهور المصطلح الدال عيه، فبحث في مواقف أعلام القرن الثاني أساساً وأحكامهم الشعرية، الدالة على ظهور إرهاصات نشأة نقد الشعر عند العرب، بالتركيز أولاً على ما يسميه الكتاب ومضات نقدية في ظلال الإسلام، وفحص الحمولات الجمالية والمفهومية التي انطوى عليها النقد المجازي في عصور التدوين، وتتبع جهود اللغويين في وضع لبنات النقد ذات الأساس اللغوي، ليخلص بعد ذلك إلى مرحلة قطيعة النشأة التي تمثلها جهود العلماء الرواة الذين أفادت عنايتهم بتحقيق الشعر والتصدي لظاهرتي النحل والانتحال إلى صياغة جملة أحكام وقضايا ومفاهيم حول الشعر تمثل المهاد الأول لنشأة النقد وتكونه عند العرب، قبل مرحلة التأليف النقدي المتخصص.

إبراز المرجعيات المعرفية هل من علاقة بين هذا المنحى الحفري في البحث وكتابك: مفهوم التخييل في الفكر البلاغي والفلسفي عند العرب، الذي صدر حديثاً أيضاً؟ 

الحقيقة أنني ازددت اقتناعاً بأهمية البحث في المراحل الابتدائية للعلوم التي تأتي بعد ظهور الموضوع وبروز الإشكالات المرتبطة به، وقبل نشأة المفاهيم الدقيقة وتكون الرؤى والتصورات الواضحة والمحددة، ولذلك استمر الكتاب في تبني مقتضيات المنهج الحـفـري التاريخـي، بغاية بناء الكيان المفهومي لمصطلح التخييل، فاعتنى باستكشاف الأنوية الدلالية الراسخة في ذاكرة الاستعمالات الأولى لكلمة تخييل ولمختلف المشتقات المرتبطة بها، وركز على إبراز المرجعيات المعرفية والأصول النظرية التي تبلور ضمنها، كما رصد منظومة الترابطات الوظيفية بين سياقات توظيف المفهوم في مختلف تشكلات الخطاب ليحيط بتحولاته النظرية والمنهجية والتطبيقية ويضبط علائقها الواضحة والخفية.
ومما حفزني أكثر على المضي في هذا الاتجاه أنني وجدت تبايناً كبيراً في الدراسات التي اعتنت ببحث مفهوم التخييل، وصل حد التضارب في تحديد مرحلة نحته وتوظيفه، وكشف أصوله ومرجعياته، وضبط مفهومه ودلالاته، انتهى في مجمله إلى تفسيرات غريبة عن الكينونة المفهومية للتخييل ومساراته الاصطلاحية وأنساقه المعرفية.
من هنا انطلق البحث في التخييل في هذه الكتاب من منهج حفري بحثاً عن أصوله الأولى وملامحه الابتدائية؛ لأن من شأن الوقوف عندها أن يجلي الكثير من الحقائق، تتجاوز مراحل النشأة والتكون إلى مسارات التوظيف وامتداداته، فكان بذلك مشروعاً يعنى بوضع تأريخ ذاتي للمفهوم، يتابع مختلف لحظات تشكله واشتغاله وامتداده عبر مجمل الخطابات المعرفية وأجهزتها النظرية وأدواتها المنهجية والتطبيقية، وقد حاول إنجاز ذلك بالتمييز بين أربع لحظات في كينونته الاصطلاحيـة، وهي: النشـأة، والتأصيل، ثم التكامل النظري والمنهجي، فالامتدادات.

بم أفاد بحث مفهوم التخييل من خلال هذه اللحظات الأربع؟ وما الجديد الذي قادت إليه مما لم تنجح في الوصول إليه وكشفه الدراسات السابقة؟

مكّن البحث في مفهوم التخييل في التراث البلاغي والفلسفي عند العرب من خلال هذه اللحظات الأربع من كشف الطبقات الدلالية الابتدائية المترسبة في ذاكرته المفهومية واستعمالاته المختلفة، وأفاد في التمييز بين سياقين مختلفين: بياني وفلسفي ظهرا في مرحلة دقيقة من مراحل نشأة العلوم عند العرب وتطورها، واتخذ كل واحد منهما مساراً مختلفاً، واصطبغ بدلالات ووظائف متنوعة، وفقاً للأنساق والسياقات التي انطلق منها المفهوم واشتغل فيها.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: حرب سوريا عودة ترامب عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله عيد الاتحاد غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية ثقافة وفنون

إقرأ أيضاً:

من الورد الدمشقي إلى حليب الحمير.. مستحضرات التجميل في الحضارات القديمة

ارتبطت مستحضرات التجميل في العصور القديمة بالطقوس الدينية والمكانة الاجتماعية والممارسات الطبية، إلا أن دورها الأساسي بلا شك كان تعزيز الجمال وتحسين المظهر.

وقدم القدماء العديد من المواد المعروفة اليوم بفعاليتها في تفتيح البشرة أو ترطيبها أو تقشيرها، كما ابتكروا طرقا فريدة لصنع الكحل وظلال العيون وأحمر الشفاه وأحمر الخدود، مستخدمين العديد من المواد الطبيعية المستخرجة من النباتات والمعادن والحيوانات.

سنأخذك في جولة سريعة لاستكشاف أسرار التجميل في الحضارات القديمة، من مصر حيث سُحقت الخنافس لاستخلاص صبغات التجميل، إلى روما التي اشتهرت بحمامات الحليب، ومن الصين التي اعتمدت على مسحوق اللؤلؤ، إلى الحضارة الإسلامية التي جعلت من العناية بالبشرة علما متكاملا وفرعا من فروع الطب.

الخنافس والأملاح البحرية وحمامات الحليب في مصر القديمة

من المعروف أن المصريين القدماء أولوا اهتماما خاصا بالمستحضرات التجميلية التي كانت تستخدم من قبل الرجال والنساء على حد السواء، بالأخص الكحل الذي كان يصنع من مسحوق الرصاص الأسود أو الجالينا، ولم يكن يستخدم فقط لأغراض جمالية، بل كان يعتقد أيضا أنه يحمي العينين من أشعة الشمس والأرواح الشريرة.

كذلك استخدم المصريون القدماء الحناء لصبغ الشعر والأظافر وأحيانا الجلد، خاصة في المناسبات الدينية والاحتفالات. كما استخدمت النساء مزيجا من أكسيد الحديد والنباتات لصنع ظلال العيون.

إعلان

أما أحمر الشفاه فكان يُصنع من الدهون الحيوانية أو الزيوت النباتية التي تُمزج بمسحوق المغرة، وهو مسحوق يصنع من التراب، فضلا عن أن كليوباترا كانت تشتهر بطحن الخنافس للحصول على درجة اللون الأحمر المثالية.

اعتمد المصريون القدماء كذلك طرقا عديدة للعناية بالبشرة، بما في ذلك صنع ماسكات الحليب والعسل لعلاج البشرة واستخدام الأملاح البحرية للتقشير. وكان هناك العديد من الطرق لترطيب البشرة وزيادة نعومتها بما في ذلك حمامات الحليب والمرطبات المصنوعة من زيت اللوز أو دهون الحيوانات.

علاوة على ذلك، اخترع المصريون القدماء طرقا طبيعية لإزالة الشعر بمزيج من العسل والسكر، واستخدموا حبيبات البخور تحت الإبطين لتؤدي وظيفة مزيلات العرق.

زوجة الإمبراطور الروماني نيرون كانت تستحم يوميا بحليب الحمير (شترستوك) العناية بالبشرة فرع من فروع الطب في الحضارة الإسلامية

كان المسلمون روادا في مجالات الكيمياء والصيدلة، مما انعكس بدوره على تطوير مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة، والتي كانت حينها تعتبر فرعا من فروع الطب.

فقد خصص ابن سينا ​​في كتابه "القانون في الطب" فصلا بعنوان "أدوية الزينة"، وناقش فيه مختلف المستحضرات الطبية المستخدمة لمنع تساقط الشعر والصلع في فروة الرأس والحاجبين، كما تحدث عن مستحضرات تبييض الشعر، ووصفات للشعر الأشقر، وكريمات مضادة للتجاعيد.

فضلا عن ذلك، اشتهر ابن سينا بتطوير تقنيات استخلاص ماء الورد والزيوت العطرية من الورد الدمشقي، والتي لا تزال تُستخدم حتى اليوم.

ويعتبر أبو القاسم الزهراوي (البوقاصي) واحدا من أبرز المساهمين في تطوير مجال التجميل. فقد تضمنت أعماله أول ذكر لعصي إزالة الشعر، ومزيلات العرق للإبط، ومستحضرات العناية بالبشرة واليدين، كما ذُكرت فيها صبغات الشعر التي تُحوّل الشعر الأشقر إلى أسود، والمواد التي تساعد على تنعيم الشعر المجعد أو الخشن، حتى إنه وصف فوائد كريمات تسمير البشرة ومكوناتها بالتفصيل. وتحدث أيضا عن العطور والمركبات العطرية والبخور.

إعلان

كذلك كان هناك اهتمام خاص بصناعة أدوات التجميل بشكل متقن بما في ذلك قوارير العطر والزجاجات، وأوعية الكحل، ناهيك عن المرايا والملاقط والأمشاط وعلب المجوهرات.

الرصاص الأبيض والطين الأحمر في الحضارة اليونانية القديمة

عرف الإغريق القدماء بولعهم بمستحضرات التجميل حتى إن كلمة "كوسميتيسز" (cosmetics) التي تعني "مستحضرات التجميل"، مشتقة من الكلمة اليونانية "كوسميتيكا" (kosmetika)، وهي كلمة استخدمت في الحضارة اليونانية لوصف المستحضرات التي تحمي الشعر والوجه والأسنان. كما استخدمت كلمة "كوموتيكون" (kommotikon) لتدل على المكياج.

ويعد الرصاص الأبيض من الأمور التي استخدمتها النساء لتفتيح بشرتهن، رغم أنه كان ساما عند استخدامه على المدى الطويل. واستخدمن خليطا من التوت المجفف والطين الأحمر لإضفاء لون وردي على الخدود، كما استخدمت المراهم العطرية لحماية البشرة من التجاعيد.

ووفق الطريقة المصرية، استخدم اليونانيون القدماء المغرة لصنع أحمر الشفاه، في حين صنعوا الكحل من مسحوق يحتوي على السخام أو الإثمد أو الزعفران أو الرماد.

أما العطور اليونانية، فمن المعروف أنها استُخدمت منذ العصر البرونزي الأوسط (القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد) على الأقل، وقد ذُكرت لأول مرة في الأدب في ملحمتي الإلياذة والأوديسة لهوميروس، اللتين كُتبتا في القرن الثامن قبل الميلاد. وقد استخدم الإغريق في صناعة العطور جميع أنواع النباتات والزهور والتوابل والأخشاب العطرية، من المر إلى الزعتر.

لا يزال الورد الدمشقي يستخدم في تركيب العديد من المنتجات التجميلية (شترستوك) حليب الحمير في الحضارة الرومانية القديمة

اهتم الرومان بشكل خاص بتطوير مستحضرات للعناية بالبشرة، إذ صنعوا الكريمات والمراهم المرطبة ومضادات الشيخوخة من شمع العسل والزيوت النباتية. استخدم الرومان كذلك العديد من المواد الأخرى لصناعة كريمات وماسكات الوجه بما في ذلك البيض، والشعير، والصمغ، وبصيلات النرجس، ودقيق القمح، ومسحوق قرون الوعل. صنع الرومان أيضا أحمر الشفاه من مستخلصات الفواكه والنباتات للحصول على لون أحمر داكن.

إعلان

وكما فعل الإغريق، استخدم الرومان بودرة الرصاص لتبييض البشرة، إذ قاموا بخلط نشارة الرصاص مع الخل والطباشير لصنع ماسكات للوجه، على الرغم من معرفتهم بسمية الرصاص الأبيض.

وكانت الحمامات الرومانية جزءا أساسيا من روتين الجمال، حيث استُخدمت الزيوت والعطور بعد الحمام. ومن المواد الغريبة التي استخدمت لتنعيم البشرة، نذكر حليب الحمير الذي كان المفضل لدى بوبايا، زوجة الإمبراطور نيرون والتي كانت تستحم يوميا بحليب الحمير.

للعطور مكانة خاصة أيضا في الحضارة الرومانية القديمة، إذ صنعت من مواد مثل القرفة ونخيل التمر والسفرجل والريحان وجميع أنواع الزهور من السوسن إلى الورود.

اللؤلؤ المسحوق في الصين القديمة

كانت مستحضرات التجميل جزءا هاما من اقتصاد الصين قديما، فقد كانت تشكيلة المنتجات واسعة، ومكوناتها متنوعة، وكانت جزءا هاما من الحياة اليومية للنخبة الصينية القديمة وكل من يمتلك القدرة الشرائية اللازمة.

اهتمت النساء في الصين القديمة ببودرة الوجه خصوصا، فقد كانت البشرة البيضاء رمزا للنقاء ودلالة على الانتماء للطبقة الراقية. ولتفتيح بشرتهن استخدمن مكونات متعددة بما في ذلك مسحوق الأرز والطباشير ومسحوق اللؤلؤ. على صعيد آخر عمدت النساء إلى تلوين حواجبهن باستخدام مسحوق أسود مصنوع من الفحم أو السخام.

كما كان طلاء الأظافر من المستحضرات التجميلية الشائعة المصنوعة من مزيج من الصمغ العربي وبياض البيض والجيلاتين لاستخراج ألوان مثل الأحمر والذهبي.

أما أحمر الشفاه فقد صنع من الزهور والعسل والشمع الطبيعي، وعن طريق خلط معدن الزنجفر مع الغراء الحيواني.

وللعناية بالبشرة استخدم الصينيون القدماء مواد مثل العث، والزيوت النباتية، والراتنج. كما استخدموا الدهون الحيوانية لتخفيف التجاعيد، وهي مادة لا تزال شائعة إلى اليوم، إذ إن معظم علاجات الكولاجين الحديثة المستخدمة لمكافحة الشيخوخة مستمدة من مصادر حيوانية.

إعلان

عموما لم تكن مستحضرات التجميل في الصين القديمة للزينة فقط، بل كانت تحمل معاني ثقافية ورمزية، مثل الطهارة والمكانة الاجتماعية، وحتى الحماية من الأرواح الشريرة وفقا للمعتقدات التقليدية.

مقالات مشابهة

  • نبوءة الشعر بين الأدب والسلطة متن القصيدة في شعر أحمد مطر
  • الأعلى للثقافة يمد فترة التقديم فى مسابقة الشعر البدوى فى مصر
  • أطعمة تسبب تساقط الشعر منها بعض أنواع الأسماك
  • في كل حلقة بيدور على الانتقام.. إسلام فوزي يعلق بشكل ساخر على مسلسل الغاوي
  • رانيا يوسف: أثق في أعمالي التي تضيف لمسيرتي الفنية
  • عيد الفطر.. بيت الزكاة: صرف 500 جنيه إضافية لمستحقي الدعم النقدي غدًا
  • أسباب تساقط الشعر بعد الولادة
  • كيف يحرر التفكير النقدي عقولنا من قيود الجهل والتبعية؟
  • اختراق مفاجئ في علاج تساقط الشعر بواسطة “جل السكر”
  • من الورد الدمشقي إلى حليب الحمير.. مستحضرات التجميل في الحضارات القديمة