أحداث النيجر والمأزق السياسي الأفريقي
تاريخ النشر: 17th, August 2023 GMT
أحداث النيجر والمأزق السياسي الأفريقي
في كل دول أفريقيا تجذر اقتصاد الفساد وتمحور حول ثروات مستخرجة من الطبيعة وما تحت الأرض، وغدت هذه الثروات رهان تنافس دولي محموم.
سياق الانقلابات العسكرية بأفريقيا ينبئ بنهايةَ النموذج الفرنسي لنزع الاستعمار الذي استمر أكثر من نصف قرن في أفريقيا بخصائصه المميزة.
في غرب أفريقيا ظل حضور فرنسا قائماً، عسكرياً وسياسياً واستراتيجياً، رغم الاستقلال الشكلي للدول عام 1960 ولها قواعد عسكرية في مستعمراتها السابقة.
ما تزال اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في غرب ووسط أفريقيا، كما أن عملة الفرنك الأفريقي المرتبطة مباشرةً بالخزينة الفرنسية هي السائدة في تلك البلدان.
لا يتعلق الأمر هنا أساساً بالحضور الروسي الصيني المتزايد في أفريقيا، بل بما يعتبر دينامية «إعادة تمركز جديد» تُدخل أفريقيا في سيرورة تاريخية غير مسبوقة.
تعبر الأنظمة العسكرية الجديدة عن إخفاق التجارب الديمقراطية الانتخابية بالقارة دون آثار إيجابية على التداول السلمي على السلطة ونفاذ الأجيال الجديدة لمركز القرار.
الحركة الشبابية الجديدة أصبحت مقتنعة بأن طريق التغيير يقتضي العنف والقوة بينما انهارت الطبقة السياسية التقليدية والبيروقراطية وفقدت حيويتَها وفاعليتَها في المجتمع.
* * *
في مقالة مهمة للفيلسوف والمؤرخ الكاميروني «أشيل بمبة» في صحيفة «لوموند» الفرنسية حول الأحداث الأخيرة في النيجر، تحليل رصين لسياق الانقلابات العسكرية في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، والتي اعتبرها نهايةَ النموذج الفرنسي لنزع الاستعمار الذي استمر أكثر من نصف قرن في القارة السمراء بخصوصياته المميزة.
في غرب أفريقيا ظل الحضور الفرنسي قائماً، عسكرياً وسياسياً واستراتيجياً، رغم الاستقلال الشكلي للدول عام 1960. وما تزال لفرنسا قواعد عسكرية في عدد من مستعمراتها السابقة، وما تزال لغتها هي اللغة الرسمية في جل دول غرب ووسط أفريقيا، كما أن عملة الفرنك الأفريقي المرتبطة مباشرةً بالخزينة الفرنسية هي السائدة في تلك البلدان.
ولا يتعلق الأمر هنا أساساً بالحضور الروسي الصيني المتزايد في أفريقيا، بل بما أسماه بمبه ديناميكية «إعادة تمركز جديد» تُدخل أفريقيا في سيرورة تاريخية غير مسبوقة.
وتبرز هذه الديناميكية في تغير جوهري طرأ على النظم الاجتماعية وعلى تركيبة المجتمع السياسي والمدني، بما يتجلى في الحركات الاحتجاجية المدنية التي هيمنت على الشارع على حساب الأحزاب السياسية التي أفرزتها تجارب الديمقراطية البرلمانية الفاشلة.
في الدول التي شهدت انقلابات عسكرية مؤخراً نلاحظ صعودَ جيل التسعينيات الذي نشأ في عمق الأزمات الاقتصادية الخانقة، خلال مرحلة تتسم باليقظة التكنولوجية في القارة، وبالتأثير المتزايد للجاليات المغتربة، وبالبحث النشط عن المقاربات التنموية المستندة إلى التقاليد المحلية الثرية بدل الحلول المستوردة العقيمة.
ما تعبر عنه الأنظمة العسكرية الجديدة هو إخفاق التجارب المؤسسية السياسية للديمقراطية الانتخابية التي اعتمدت في القارة، من دون أن تكون لها آثار إيجابية ملموسة على إمكانات التداول السلمي على السلطة ونفاذ الأجيال الجديدة إلى مركز القرار.
وكما يلاحظ بمبة فإن بلدان المنطقة تشهد راهناً انبثاقَ نزعة سيادية قوية هي الوجه الراهن للنزعة الأفريقية التقليدية، كما تتجلى في تشكل مجموعة شعورية ومتخيلة متعاضدة عابرة للحدود، تستقطب الشارع المحبَط والغاضب.
لقد نشأت هذه المجموعة أساساً من شبكات التواصل الاجتماعي وخطاب الجاليات المهاجرة التي تواجه مصاعب الاندماج وتتعلق بشعارات مواجهة العنصرية والكراهية والتمييز. والمشكل الكبير الذي تطرحه النزعة السيادية هو تعارضها مع المرتكزات الثلاثة للوعي الحديث، من ديمقراطية وحقوق إنسان وعدالة كونية، على الرغم أن هذه القيم تشكلت تاريخياً في رحم النضالات الوطنية ضد الاستعمار والهيمنة.
وبالإضافة إلى أن هذه النزعة ترفض من منظور الهوية الغربية فكرة الرابطة الإنسانية الكونية، فهي تصطدم بالدول الأوروبية الشريكة التي تحمّلها مسؤولية كل الإخفاقات والهزائم المحلية، وتريد استبدالها بالقوى الدولية الصاعدة غير الغربية.
وبدلاً من التعلق بالديمقراطية حلاً للمعضلة السياسية الداخلية، فإن هذه النخب الانقلابية لا ترى في الديمقراطية سوى نمط من التدخل الخارجي، بما يفسر الانبهار بالرجل القوي المسيطر والمتحدي للأطماع الأجنبية والمحافظ على الاستقلال الوطني.
وهكذا أصبح للإشعاع الشخصي والقوة الذاتية الأولويةُ على البناء المؤسسي البطيء والثابت، في الوقت الذي ضعفت منظمات المجتمع المدني والتشكيلات الوسيطة، وأصبح نشاطها محصوراً في الصراع من أجل الحد الأدنى من العيش، كما غدت متورطة في صراعات الأعراق والنوع والأجيال.
والأدهى من ذلك كله أن الديمقراطية التنافسية لم تعد قوة دافعة للتغيير والسلم الأهلي، بل صارت السبب الرئيس لتأجيج العنف والتناقضات الأهلية، والطريقة الناجعة لتحكم النخب الموسومة بالفساد في مركز القرار. وهكذا تبدو الانقلابات العسكرية الخيارَ الأوحد للتغيير والأمل الأوحد المنشود للإصلاح والتناوب بين الأجيال.
ما يحذر منه بمبه هو أن الحركة الشبابية الجديدة أصبحت مقتنعة بأن طريق التغيير يقتضي العنف والقوة، بينما انهارت الطبقة السياسية التقليدية والكتل المهنية والبيروقراطية وفقدت كلياً حيويتَها وفاعليتَها في المجتمع. في كل الدول الأفريقية تجذر اقتصاد الفساد وتمحور حول الثروات المستخرجة من الطبيعة وما تحت الأرض، وغدت هذه الثروات رهان تنافس دولي محموم.
وقد واكب هذه التحولات انبثاق سوق واسعة للعنف، تنشط فيه شركات دولية خاصة تقايض حمايةَ الأنظمة السياسية بالسيطرة على الموارد الطبيعية والمعدنية. ما نشهده راهناً، حسب بمبة، هو بروز خريطة سياسية جديدة تهيمن عليها النخب العسكرية المرتبطة بشركات العنف الدولية، والمدعومة من كتل الشباب العاطلة عن العمل من ضحايا السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة للحكومات، وهي نفسها وقود الحركات الاحتجاجية الأهلية العنيفة.
والنتيجة الأساسية لهذا التحول هي إقصاء مجموعات واسعة من المجال العمومي، غدت مضطرة إما للهجرة الخارجية في ظروف مأساوية متردية أو الانغلاق في الملاجئ الداخلية الهامشية. أما الحل الذي يقترحه بمبه فهو العمل على إعادة بناء الديمقراطية الأفريقية على أساس قيم الحياة والمساواة والتضامن، لقطع الطريق أمام مسلك التغيير العنيف الذي لن يفضي في نهاية المطاف إلى نتائج نوعية إيجابية.
*د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني
المصدر | الاتحادالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: النيجر أفريقيا فرنسا اقتصاد الفساد الانقلابات العسكرية الأنظمة العسكرية فی أفریقیا
إقرأ أيضاً:
«حزب صوت الشعب» يردّ على وزير داخلية النيجر: احترام سيادة ليبيا ضرورة
اصدر “حزب صوت الشعب” بيانا بخصوص تصريحات وزير داخلية النيجر حول عمليات ترحيل المهاجرين غير النظاميين”.
وقال بيان الحزب: “تابعنا باستغراب بالغ التصريحات الصادرة عن وزير الداخلية في جمهورية النيجر، محمد تومبا، والتي انتقد فيها عمليات ترحيل المهاجرين غير النظاميين من الأراضي الليبية إلى بلاده، مدعيًا أن هذه الإجراءات تتعارض مع قواعد التعاون والمعاهدات الدولية”.
وأضاف البيان الذي تلقت “عين ليبيا” نسخة منه: “إذ نؤكد في حزب صوت الشعب أن ليبيا ليست طرفًا في اتفاقية جنيف لعام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، فإننا نذكّر الوزير أن الدولة الليبية تستند في تنظيم وجود الأجانب على أراضيها إلى القانون رقم 6 لسنة 1987 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب وخروجهم، والذي يحدد بدقة آليات الدخول القانونية إلى ليبيا كما أن عمليات الإبعاد التي تمت بحق رعايا النيجر جاءت استنادًا إلى القانون رقم 19 لسنة 2010 بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية، والقانون رقم 24 لسنة 2023 بشأن مكافحة التوطين، وهي قوانين نافذة وملزمة، تُطبق على الجميع دون استثناء”.
وتابع البيان: “لقد تعاملت الدولة الليبية في أكثر من مناسبة، بمرونة إنسانية ومسؤولية سياسية تجاه رعايا النيجر، حيث لم تُحِلهم إلى القضاء رغم مخالفتهم الصريحة للقوانين الليبية، بل اكتفت بإبعادهم دون توقيع العقوبات التي يستحقها كل من يخالف قوانين الدولة ذات السيادة وإنّ ما يثير الدهشة هو أن تأتي تصريحات وزير داخلية النيجر وكأن ليبيا مجبرة قانونيًا أو أخلاقيًا على استقبال آلاف المهاجرين غير النظاميين، وتوفير الملاذ الآمن لهم، بل والتغاضي عن تجاوزاتهم وانتهاكاتهم للقانون”.
وقال: “إن حزب صوت الشعب يرفض هذه التصريحات المغلوطة والمسيئة، ويدعو حكومة النيجر إلى احترام سيادة ليبيا والتزاماتها الوطنية، والكف عن المزايدة باسم “المعاهدات الدولية” التي لا تنطبق على الحالة الليبية، لا من حيث العضوية ولا من حيث التوصيف القانوني للمهاجرين المعنيين”.
ودعا الحزب السلطات في جمهورية النيجر إلى “تحمل مسؤولياتها تجاه مواطنيها، والعمل على منعهم من ركوب مخاطر الهجرة غير النظامية، بدلاً من انتقاد الدولة الليبية التي تُكافح، بما تملكه من إمكانيات محدودة، ظاهرة الهجرة وما ترتبه من تحديات أمنية واقتصادية واجتماعية جسيمة”.
وكان “انتقد وزير داخلية النيجر، الجنرال محمد تومبا، عمليات ترحيل المهاجرين غير النظاميين من ليبيا والجزائر باتجاه بلاده”، ووصف هذه الإجراءات بأنها “أفعال مؤسفة وغير مقبولة”، مشيراً إلى أنها “تتعارض مع قواعد التعاون الجيد والمعاهدات الدولية”، كما أشار إلى “وجود آلاف المهاجرين من جنسيات مختلفة على الحدود مع ليبيا، حيث يتم مناقشة سبل إعادتهم إلى دولهم الأصلية بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة”.
آخر تحديث: 27 أبريل 2025 - 13:34