دور المرتزقة الأجانب في دعم مليشيا الدعم السريع المتمردة في الحرب على الدولة السودانية
تاريخ النشر: 2nd, December 2024 GMT
بقلم: لواء دكتور ركن (م) سعد حسن فضل الله
المقدمة:
الحرب الدائرة الان في السودان بين الجيش والقوات المساندة لها ومليشيا الدعم السريع المتمردة على الدولة السودانية والتي إندلعت في 15 أبريل 2023م تعتبر من أقذر وأفظع أنواع الحروب في القرن الواحد والعشرين لانها إتصفت بأنتهاك حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني بصورة لا مثيل لها من حيث القتل المباشر و المتعمد للمدنيين العزل و التهجير القسري للمدنيين و إحتلال منازلهم و تعذيب وقتل كل من إنتمى للقوات المسلحة او الاجهزة الامنية الاخرى المساندة للجيش باللإضافة الى إحتلال الأعيان المدنية مثل المستشفيات و الجامعات و المدارس و المساجد و إستخدامها للأغراض العسكرية.
نتيجة للأنتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها مليشيا الدعم السريع في حق المواطنين الابرياء العزل نتج عنها نقص حاد في الغذاء و المياه الصالحة للشرب وانقطاع الكهرباء و إنعدام الادوية المنقذة للحياة مما ادى الى إراتفاع اسعار السلع الغذائية بصورة جنونية صاحبتها ارتفاع في معدلات التضخم وإنخفاض قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الاجنبية الاخرى. حسب تقارير وكالات الامم المتحدة (منظمة الهجرة الدولية وبرنامج الغذاء العالمي وكذلك المنظمات الدولية ) العاملة في السودان بان عدد المهجرين داخليا بلغ اكثر عشرة مليون نازح بينما نزح اكثر من خمسة مليون الى دول الجوار مثل مصر و ليبيا و تشاد و اثيوبيا و دول الخليج العربي.
من مؤشرات الاستعداد للحرب الدائرة الان في السودان هو الحشود العسكرية التي حشدها من الولايات خاصة ولايات دارفور و كردفان الى داخل العاصمة القومية و كذلك الزيارات المكوكية التي قام بها قائد المليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى كل من دول الجوار الافريقي مثل ليبيا و تشاد و ارتريا وجنوب السودان ومالي و النيجر واثيوبيا بغرض حشد المرتزقة الاجانب و أغرائهم بالمال والحوافز العينية للقتال في صف الدعم السريع ضد القوات المسلحة السودانية. لعب المرتزقة الأجانب دورا" محوريا" وبارزا" في الحرب السودانية في إطالة أمد الحرب وتخريب الاقتصاد الوطني وتدمير المرافق العامة و الخاصة و نهب البنوك وبيوت وممتلكات المواطنين والدور الحكومية المختلفة.
من أهم الادوار التي قام بها المرتزقة في الحرب السودانية تتمثل في الاتي:
1. الدعم العسكري. يتم جلب المرتزقة بإستمرار من دول الجوار من تشاد و افريقيا الوسطى و اثيوبيا و ليبيا ومن الجوار الاقليمي من النيجر و مالي و الكاميرون واخيرا من كولومبيا بامريكا الجنوبية من خلال تعزيز القدرات و الخبرات القتالية للمليشيا وتقديم الإستشارات في مجال الكتيكات الحديثة في حرب المدن و إستخدام الاسلحة المتطورة مثل الكورنيت والجافلين و الطائرات المسيرة التي تدربوا عليها في احد دول الجوار الشرقي للسودان وتم بث فيديو من قبل مليشيا الدعم السريع تؤكد انهم تلقوا تدريبات على الطائرات المسيرة.
2. تأمين المصالح الأجنبية لبعض الدول التي تدعم الحرب في السودان مثل دولة الامارات التي تطمع في أخذ خيرات السودان وموانيها (ميناء ابوعمامة) و إستخدام الأراضي الزراعية في الفشقة. لذلك ما زالت دولة الامارات تدعم المليشيا المتمردة بالسلاح و المعلومات الإستخباراتية و اللوجستية بالتعاون مع بعض دول الجوار مثل تشاد و يوغندا و ليبيا (حفتر) عبر استخدام المطارات لتسهيل عملية نقل الاسلحة و تدفق المرتزقة الى داخل السودان عبر المعابر البرية خاصة معبر أدري التشادية و الحدود المفتوحة بين السودان و بين جنوب السودان.
3. المشاركة المباشرة في العمليات القتالية مما يجعلهم جزء أساسي من المعارك مما أدى إلى التاثير في توازن القوى حيث عززت المليشيا موقفها الميداني بفضل تدفق المرتزقة و القتال إلى جانبها.
من تبعات وجود المرتزقة في الحرب السودانية:
من أهم تعبات وجود المرتزقة الأجانب في الحرب السودانية هي:
1. إطالة أمد الحرب يسهم تدخل المرتزقة ف يجعل الصراع أكثر تعقيدا" وأطول زمنا" بسبب الدعم الذي يقدمونه.
2. زيادة الخسائر البشرية. يزيد المرتزقة من حدة المعارك و شراشتها مما يؤدي إلى إرتفاع عدد الضحايا من العسكريين و المدنيين.
3. جرائم الحرب و جرائم ضد الإنسانية التي ترتكب ضد المدنيين مثل القتل و السحل و التشريد و الإختطاف وطلب الفدية من المخطوفين و الإغتصاب وبيع النساء كأرقاء في اسواق في غرب دارفور و غرب افريقيا.
4. التأثير على الإستقرار الإقليمي. يؤدي وجود المرتزقة إلى تهديد الإستقرار الإقليمي لدول الجوار السوداني و الاقليمي. لقد تم إستخدم هذه المليشيات في الصراع الليبي –الليبي و الصراع التشادي التشادي و الصراع في افريقيا الوسطي.
5. تفشي الجريمة المنظمة وما قد يصاحبها من الإتجار بالبشر و المخدرات وبيع السلاح.
6. تدفق الأرهابيين من دول الجوار مثل بوكو حرام من نيجيريا و كتيبة سبل السلام من ليبيا وغيرها من إرهابي غرب أفريقيا الأمر الذي يجعل امر تحقيق السلام أمرا" صعبا" ومعقدا.
جنسيات المرتزقة:
تشير التقارير الميدانية للقوات المسلحة السودانية من مسارح العمليات إلى مشاركة المرتزقة من جنسيات عديدة من دول الجوار الأفريقي و كولومبيا وقد ظهر بعض من المرتزقة في فيديوهات تم تسجيلها بأنفسهم بعضهم يتحدث العربية بلهجة غريبة من لسان اهل السودان و البعض الاخر يتحدث اللغة الفرنسية. وتم قد نعي بعض المرتزقة في مواقع التواصل الإجتماعي في تشاد ومالي و النيجر و الكاميرون و جنوب السودان.
بعض الدول التي شارك مرتزقتها في الحرب ضد القوات المسلحة السودانية هي:
1. تشاد. بعض الجماعات التشادية أو الأفراد التشاديين لهم أرتباط عرقي مع مليشيا الدعم السريع والبعض لهم ارتباط جغرافي يسعون إلى توطين عرب الشتات في دارفور بصفة خاصة و السودان بصورة عامة.
2. أفريقيا الوسطى. بعض الجماعات الاثنية تورطت في الحرب مثل قبائل السلامات طمعا" في الإستيلاء على الحواكير لقبائل الفور أصحاب الحواكير و قد تم اعلان إنشاء إمارة اولاد بركة و مبارك في وسط دارفور في 15 اكتوبر 2024م.
3. مالي و النيجر. تعتبر المنطقة موطنا" لمجموعات مسلحة ذات صلة بالنزاعات الإقليمية.
4. ليبيا. نتيجة للإضطرابات السياسية و الأمنية في ليبيا ووجود الجماعات المسلحة مما ساهم في تدفق العديد من المرتزقة ساعدهم في ذلك القرب الجغرافي و الحدود المفتوحة التي يصعب مراقبتها.
5. جنوب السودان. النزاعات الحدودية و التوترات المستمرة بين السودان و جنوب السودان وإرتفاع معدلات معدل البطالة و الفقر المدقع مما جعل الأفراد ينخرطون في القتال بدافع الحصول على الأموال والسلب و النهب.
6. أثيوبيا و الصومال. أظهرت بعض الصور و الفيديوهات وجود لأفراد من هذه الدول يقاتلون إلى جانب المليشيا.
7. فاغنر الروسية. تعرف بتورطها في عدة نزاعات في القارة الافريقية ولها علاقات قوية مع مليشيا الدعم السريع إذ كانت تعمل معها في تهريب الدهب من جبال دارفور الى الأمارات ومن ثم روسيا.
الأسلحة المستخدمة في الحرب السودانية:
إستخدمت مليشيا الدعم السريع اسلحة متنوعة في حربها ضد الدولة السودانية منها:
1. الأسلحة الخفيفة مثل الكلانشكوف و ال 16M, حيث توفر سهولة الإستخدام و الصيانة وهي فعالة في الإشتباكات قصيرة ومتوسطة المدى.
2. الأسلحة الرشاشة الخفيفة و المتوسطة مثل القرنوف و البراون و الدكتريوف التي توفر كثافة نيران عالية و تستخدم في تثبيت العدو وحماية المواقع.
3. قاذفات القنابل ار بي جي 7 تستخدم في تدمير المركبات المدرعة و المباني المحصنة وهي فعالة بشكل خاص في المناطق الحضرية.
4. الأسلحة المضادة للطيران تستخدمها المليشيا بكثافة في ضد المدنيين وهي محرم إستخدامها ضد البشر مثل المدفع الرشاش 7,12,14 و 23 و صواريخ أرض ارض جو المحمولة لإستهداف الطائرات و المروحيات وقد نجحت المليشيا في إسقاط عدد من المروحيات و الطائرات.
5. المدفعية الثقيلة تستخدمها المليشيا بكثافة ضد المدنيين لإرهابهم مثل الهاون بعياراته المختلفة و الكاتوشا والراجمة 40 دليل والدي ثيرتي و الهاوزر.
6. القناصات. تستخدمها المليشيا لوقف تقدم متحركات الجيش والمشاة من مسافات بعيدة حيث تعطي ميزة تكتيكية للتحكم في بعض المناطق الإستراتيجية. إستخدمت المليشيا بعض الاعيان المدنية و مآذن المساجد و بيوت المواطنين من اجل نصب قناصيها.
7. الألغام و المتفجرات . سواء أكانت ألغام أرضية او عبوات ناسفة مثل القرنيت وتستخدم لإقاعة تقدم القوات و إضعاف الروح المعنوية.
8. المسيرات. تمتلك المليشيا أعداد كبيرة من المسيرات بأنواعها المختلفة سواء للإستطلاع او هجومية او إنتحارية.
9. الآليات العسكرية الخفيفة والمدرعة . تمتلك مليشيا الدعم السريع تقريبا حوالي 10 الف عربة دفع رباعي مسلحة بمختلف الاسلحة مثل الثنائي و الرباعي و الدوشكا. كذلك تمتلك المليشيا عربات مدرعة أمارتية الصنع ومدرعات بي تي ار ودبابات من نوع T55 تستخدم في عمليات الهجوم و الفزع و الالتفاف.
10. المدفع الم/ د مثل SPG8 و الكورنيت و الجافلين وال بي 10.
تاتي اسلحة و ذخائر المليشيا من دولة الامارات عبر ليبيا و تشاد و ميناء دوالي في الكاميرون وجنوب السودان ويوغندا.
المهام القتالية للمرتزقة:
• الاماراتيون. يقومون بتدريب افراد المليشيا على استخدم المسيرات ومنظومات التشويش. وتقديم المعلومات الاستخبارية والتدريب على استخدام الكورنيت والجافين ومنظومات الدفاع الجوي و إيصال الاسلحة و الذخائر.
• الليبيون. تقديم الدعم فى مجال استخدام القناصات والاسلحة الم /ط .
• فاغنر.قامت بتدريب قوات المليشيا على حرب المدن ويقومون بالامداد عبر الطائرات والتدريب على استخدام منظومات الدفاع الجوى.
• بقية المقاتلين يقومون بقيادة العربات المصفحة واعمال المشاة والقناصات وحماية بعض القيادات.
حشد أعداد جديدة من المرتزقة:
من المحتمل ان تقوم المليشيا بحشد اعداد جديدة من المرتزقة ولكن يعتمد ذلك على عدة عوامل رئيسية:
أ. التمويل المالى . تمتلك قوات المليشيا تمويلاً جيداً بسبب سيطرتها على بعض مناجم الذهب في جبل عامر بولاية شمال دارفور و سنقو بولاية جنوب دارفور بالإضافة إلى الدعم الأماراتي مما يمنحها القدرة على تجنيد المرتزقة من دول الجوار الاقليمي.
ب. العلاقات مع الجماعات المسلحة فى المنطقة . مثل قوات حفتر وجماعة فاكت التشادية وبعض الجماعات الاخرى في أفريقيا الوسطى و مالي و النيجر وبوركينافاسو و الكاميرون والمعارضة الجنوب سودانية التي تنشط في الحجود, كل هذه الجماعات تنشط في النزاعات الاقليمية مما يسهل عمليات التجنيد و فتح قنوات لتجنيد مقاتلين جدد.
ج الحوافز والمكافآت. توفر قوات المليشيا حوافز مغرية للمجندين مثل الرواتب العالية مقارنة بالجندي السوداني ومستوى المعيشة في دول معينة بالمنطقة مما يجذب الافراد من الدول الفقيرة و المضطربة امنيا.
د. الوضع الامنى والسياسى الاقليمى. البيئة السياسية غير المستقرة في بعض دول الجوار الافريقي مثل ليبيا وتشاد و افريقيا الوسطى تتيح للمليشيا فرصة تجنيد الافراد بسهولة حيث يبحث كثيرون عن فرص اقتصادية و يستغل آخرون الفوضى للإنضمام إلى النزاعات بغرض السلب و النهب.
هذه الاستراتيجية لها تحديات ومخاطر منها الصعوبة فى تامين الولاء الحقيقى لهؤلاء المقاتلين اللذين قد ينقلبون على الجهة التى يعملون معها اذا قدمت لهم عروض افضل بالاضافة الى التدخلات الدولية التى قد تزيد من الضغوط والعقوبات.
أعداد القتلى و الأسرى:
لاتوجد احصائيات دقيقة وموثوقة حول اعدادا لقتلى او الاسرى من المرتزقة فى حرب السودان وذلك للاسباب الآتية:
• صعوبة التوثيق فى ظل النزاع الدائر وتدهور الوضع الامنى خاصة ان اعداد الفتلى لا يتم تسجيلهم رسمياً.
• التكتم من المليشيا على عدد القتلى او الاسرى تجنبا للاضرار بسمعتها وذلك لإعتبارات سياسية.
• التنوع الكبير فى المرتزقة نظرا لتعدد الجنسيات والخلفيات.
فى ظل هذه العوامل لاتتوفر ارقام دقيقة ويظل تقدير اعداد القتلى او الاسرى فى اطار التكهنات وغالبا ما تعتمد المعلومات على تقارير غير رسمية.
• التوصيات:
• محاكمة من يتم القبض علية بقانون مكافحة الارهاب لعام 0221م.
• اعداد قوائم بالمرتزقة وملاحقتهم عبر الانتربول والمحكمة الجنائية الدولية باعتبارهم مجرمي حرب.
• التعاون الاقليمى والدولى خاصة مع دول الجوار(تشاد، اثيوبيا، ليبيا، جنوب السودان) للسيطرة على الحدود ووقف تدفق المقاتلين و الاسلحة.
• التواصل مع المنظمات الدولية والاتحاد الافريقى ومنظمات مكافحة الاتجار بالبشر لتعزيز الرقابة وفرض عقوبات على جهات التي تسهل دخول المرتزقة.
• تفعيل العمل الدبلوماسي بشرح قضية المرتزقة بالإستعانة بالتسجيلات المتوفرة.
• تكثيف الحملات التي توضح خطورة وجود المرتزقة في القتال إلى جانب المليشيا.
• ممارسة ضغط التي أعلامي وتاليب الرأي العام العالمي ضد الجهات تدعم المقاتلين الاجانب.
• تفعيل الأتفاقيات مع روسيا و الصين لضمان إتخاذ موقف إيجابي في المحافل الدولية. إستخدام الفيتو الروسي في مجلس الامن الدولي بتاريخ 18 نوفمبر 2024م برفض قرار إيقاف الحرب في السودان.
الخاتمة:
• معالجة قضية المرتزقة الاجانب تتطلب نهج متعدد الابعاد يشمل التعاون الاقليمى والدولى ودور أكبر للحكومة السودانية و الشركاء المحليين.
• وضع استراتيجية شاملة تجمع بين الامن والسياسة وتحتاج الى التزام مستمر.
• نسأل الله النصر لقواتنا المسلحة والقوات النظامية الاخرى وتقبل الله الشهداء وعاجل الشفاء للجرحى وعودا" حميدا" للأسرى و المفقودين.
hseisi2009@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ملیشیا الدعم السریع فی الحرب السودانیة وجود المرتزقة من دول الجوار جنوب السودان من المرتزقة حرب السودان المرتزقة فی فی السودان
إقرأ أيضاً:
الصحة تحت النار: أثر الحرب على المنظومة الصحية السودانية
تقرير: د. يسار البشرى حمور
مقدمة
بعد مرور عامين على اندلاع النزاع المسلح بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، يواجه السودان ما وصفته الأمم المتحدة بأنه أكبر أزمة إنسانية ونزوح في العالم، حيث يحتاج أكثر من 30 مليون شخص، أي 60% من السكان، إلى مساعدات إنسانية، منهم ما يزيد عن 20 مليون بحاجة ماسة لخدمات صحية.
لقد خلّف الصراع المستمر، الذي اتسم بمستويات مفرطة من العنف وانتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين، آثارًا كارثية على جميع القطاعات، لا سيما القطاع الصحي الذي كان يعاني أصلاً من الهشاشة وضعف الموارد حتى قبل اندلاع القتال. يهدف هذا المقال الموسع إلى تسليط الضوء بشكل أعمق على الوضع الصحي المتدهور في السودان، وتفصيل تأثير النزاع المستمر على النظام الصحي مستندًا إلى تحليل شامل للمعلومات الواردة من مصادر متعددة بما في ذلك تقارير الأمم المتحدة، منظمة الصحة العالمية، أطباء بلا حدود، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين،اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان بالإضافة إلى توثيقات محلية مفصلة.
إن انهيار النظام الصحي ليس مجرد إحصائية، بل هو واقع مرير يعيشه الملايين يوميًا، حيث تلد الأمهات دون مساعدة طبية متخصصة، ويموت الأطفال من أمراض يمكن الوقاية منها، ويُترك المصابون بأمراض مزمنة أو إصابات خطيرة دون علاج، مما يرسم صورة قاتمة لمستقبل الصحة العامة في البلاد.
تدهور البنية التحتية الصحية والهجمات المباشرة
كانت الهجمات على البنية التحتية الصحية سمة مروعة للنزاع منذ ساعاته الأولى. لم يكد يمض يومان على اندلاع الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم في منتصف أبريل 2023، حتى أعلنت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان عن تعرض أربع مستشفيات حيوية للقصف المباشر، مما أدى إلى خروج ثلاثة منها عن الخدمة بشكل كامل، وتعرض مستشفى رابع لاعتداء مباشر، بالإضافة إلى إخلاء قسري لمستشفيات أخرى، بما في ذلك مركز الدكتورة سلمى التخصصي لأمراض الكلى، المرفق حيوي بالقرب من رئاسة قيادة الجيش بوسط الخرطوم، مما ترك مرضى غسيل الكلى في وضع حرج للغاية. لم يقتصر الضرر على العاصمة، بل امتد بسرعة ليشمل مستشفيات رئيسية في ولايات أخرى؛ ففي 17 أبريل 2023، تم اقتحام مستشفى الضمان التخصصي في مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، مما أدى إلى خروجه عن الخدمة. كما أكدت التقارير خروج مستشفى الجنينة التعليمي في ولاية غرب دارفور، ومستشفى الضمان، ومشفى مروي العسكري عن الخدمة في الأيام الأولى ذاتها. وسرعان ما ظهرت النتائج المأساوية لهذه الأضرار، حيث حُبس مئات المرضى الذين كانوا يتلقون الرعاية الحرجة داخل هذه المستشفيات، إلى جانب مرافقيهم والكوادر الطبية العاملة، ليجدوا أنفسهم عالقين في مرمى النيران. كما قامت قوات الدعم السريع باقتحام بعض هذه المرافق المحاصرة وشنت عددًا من الهجمات من داخلها أو بالقرب منها، مما زاد من تعريض حياة المدنيين للخطر. ومنذ البداية، أدانت منظمة الصحة العالمية، عبر مديرها الإقليمي آنذاك الدكتور أحمد المنظري، بشدة هذه الهجمات المتزايدة على الموظفين والمرافق الصحية وسيارات الإسعاف، مؤكدةً أنها تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني والحق الأساسي في الصحة، وطالبت بوقفها فورًا.
خروج المستشفيات عن الخدمة واحتلالها
استمر تدهور البنية التحتية الصحية بشكل متسارع وممنهج خلال العامين الماضيين، مؤكدًا التحذيرات المبكرة التي أطلقتها جهات مثل اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان في أواخر أبريل 2023، والتي نبهت إلى أن "النتيجة الحتمية للحرب العبثية" ستكون "شلل المنظومة الصحية" وأن "انهيار النظام الصحي أصبح وشيكاً"، حيث بدأت المرافق الصحية تخرج عن الخدمة الواحدة تلو الأخرى وأخرى أصبحت مهددة بالإغلاق فبحلول مايو 2023، أي بعد شهر واحد فقط من بدء القتال، أعلن الجيش السوداني عن سيطرة قوات الدعم السريع على 22 مستشفى ومرفقًا صحيًا رئيسيًا، وتحويل بعضها إلى ثكنات وقواعد عسكرية للتخطيط للعمليات أو لإطلاق النيران، مما حرم السكان من الوصول إليها. وأكدت اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء في ذلك الوقت أن 66% من مستشفيات البلاد الخاصة الواقعة في المناطق القريبة من الاشتباكات قد توقفت عن تقديم خدماتها. وبشكل عام، من أصل 89 مستشفى أساسيًا في الخرطوم والولايات المتأثرة بشكل مباشر، توقف 59 مستشفى عن الخدمة خلال الشهر الأول
بحلول يوليو 2023، أي بعد مرور 100 يوم فقط على بدء الحرب، ارتفع هذا الرقم بشكل مقلق، حيث أعلنت اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء أن 70% من المستشفيات في مناطق الاشتباكات (أي 62 مستشفى) أصبحت متوقفة تمامًا عن الخدمة. وتشير التقديرات الأحدث، بعد عامين من النزاع، إلى أن ما بين 70% إلى 80% من المرافق الصحية في مجمل المناطق المتأثرة بالنزاع قد خرجت عن الخدمة كليًا أو أصبحت تعمل بشكل جزئي للغاية وبقدرات محدودة جدًا. وقد وثقت وزارة الصحة السودانية حتى ديسمبر الماضي خروج 250 مستشفى من أصل 750 مستشفى في البلاد عن الخدمة بسبب الدمار المباشر أو غير المباشر الناجم عن الحرب، وقدرت الوزارة الخسائر المالية الفادحة التي تكبدها القطاع الصحي بنحو 11 مليار دولار أمريكي، وهو رقم يعكس حجم الكارثة التي حلت بالبنية التحتية الصحية.
لم يقتصر الأمر على التدمير، بل تم توثيق احتلال واستخدام المرافق الصحية لأغراض عسكرية في 52 مناسبة على الأقل حتى فبراير 2025، وفقًا لبيانات "Insecurity Insight"، حيث تم في كثير من الأحيان استخدام المستشفيات كقواعد عسكرية، ونُشر قناصة على أسطحها، وتم إجلاء المرضى قسرًا في بعض الحالات لإفساح المجال أمام جرحى المقاتلين. كما تعرضت المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات والصيدليات لعمليات نهب وتخريب واسعة النطاق ومنهجية، شملت سرقة الأدوية الحيوية والمعدات الطبية الأساسية وحتى الأسرة والأثاث، بالإضافة إلى تدمير متعمد لمختبرات حيوية، كمختبرات أكاديمية الحلم الدولية للعلوم الصحية في مدينة الأبيض التي دمرت بقصف مدفعي في مارس 2025.
استهداف مدينة الفاشر وصمود القطاع الصحي بها
تعتبر مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، مثالاً صارخًا على التأثير المدمر الذي خلفه النزاع على الخدمات الطبية وعلى صمود العاملين الصحيين والمجتمع في مواجهة الشدائد. طالت الهجمات المدينة بشكل خاص ومكثف، حيث تعرضت جميع مستشفياتها الرئيسية (المستشفى التعليمي، مستشفى النساء والتوليد التخصصي، المستشفى العسكري، مستشفى الشرطة، المستشفى الجنوبي) لهجمات وصفت بالممنهجة والمتعمدة، مما أدى إلى إغلاق بعضها أكثر من مرة ابتداءً من يونيو 2023، وصولاً إلى توقفها شبه الكامل عن الخدمة.
رغم استمرار الهجمات والحصار المشدد الذي فرضته قوات الدعم السريع على المدينة منذ مايو 2024، أظهر السكان والعاملون الصحيون صمودًا لافتًا ومذهلاً. حيث بادر المواطنون بجهود أهلية لافتتاح بعض المراكز الصحية الصغيرة لتقديم الإسعافات الأولية، وتمسكوا بالمستشفى السعودي للولادة، الذي كان يعد آخر مستشفى مدني كبير يعمل في المدينة ويقدم خدمات حيوية لآلاف الأشخاص، على الرغم من استمرار قوات الدعم السريع في استهدافه بشكل متكرر وعنيف، مما أدى إلى إغلاقه عدة مرات، كان آخرها في ديسمبر 2024. وفي محاولة يائسة للحفاظ على استمرارية الخدمات الطبية الأساسية وحماية الأرواح، تم تصميم وبناء ملاجئ تحت الأرض داخل حرم المستشفى السعودي باستخدام حاويات شحن كبيرة (سعة 20 قدمًا) تم دفنها وتغطيتها بأكياس من التراب لتوفير بعض الحماية من القصف. ضمت هذه الملاجئ غرفة مكتب متواضعة للأطباء والطاقم الطبي، بالإضافة إلى غرفة عمليات صغيرة مجهزة للتدخلات الطبية الطارئة في حال اشتداد القصف أو الاشتباكات، لتمكين الأطباء من مباشرة مهامهم بأمان نسبي. وفي يناير الماضي، انتشرت صورة مؤثرة لأطباء في المستشفى السعودي يجرون عملية جراحية دقيقة مستخدمين أضواء هواتفهم المحمولة كمصدر للإضاءة الوحيد أثناء تعرض المستشفى للقصف وانقطاع التيار الكهربائي، وهي صورة عكست أقصى درجات الصمود والتفاني والإنسانية في مواجهة ظروف تفوق الخيال.
توقف المراكز الطبية المتخصصة
لم تسلم المراكز الطبية المتخصصة، التي كانت قليلة ومواردها محدودة أصلاً قبل الحرب، من الدمار والتوقف، مما فاقم معاناة المرضى ذوي الحالات الحرجة. ففي يوليو 2023، أشارت تقارير الإدارة العامة للطب العلاجي إلى خروج جميع مراكز قسطرة وجراحة القلب الستة المعروفة في البلاد (خمسة منها في ولاية الخرطوم وواحد في ولاية الجزيرة) عن الخدمة بسبب وقوعها في مناطق الاشتباكات أو تضررها المباشر. كما توقفت مراكز المخ والأعصاب الرئيسية في الخرطوم ومدني ونيالا عن العمل أما مراكز غسيل الكلى، فقد واجهت أزمة وجودية حقيقية؛ فمع نزوح آلاف المرضى من مناطق النزاع إلى الولايات التي كانت تعتبر آمنة نسبيًا، تعرضت المراكز القليلة العاملة فيها لضغط هائل يفوق طاقتها الاستيعابية بأضعاف. وبحلول أغسطس 2023، أصبحت غالبية مراكز الغسيل في الولايات الآمنة مهددة بالإغلاق بسبب نقص الإمدادات والمحاليل وتعطل الأجهزة وتزايد أعداد المرضى، بينما توقفت المراكز تمامًا في الأقاليم التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع وكانت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان قد دقت ناقوس الخطر مبكرًا في بيانها الصادر في 28 أبريل 2023، محذرة من أن "الموت يهدد مرضى الفشل الكلوي" وأن بعض مراكز غسيل الكلى قد "نفذت فيها الإمدادات". وأوضحت النقابة أن هذه المراكز كانت تجري غسيل الكلى لحوالي 12 ألف مريض فشل كلوي مزمن بالإضافة إلى الحالات الحادة، بمتوسط 140 ألف جلسة غسيل شهريًا، مؤكدة أن حياة معظم هؤلاء المرضى أصبحت "على المحك" وأن البلاد أمام "خطر فقدان 12 ألف مريض فشل كلوي" ما لم تصل الإمدادات بشكل عاجل. وبالفعل، أشارت التقارير إلى أن 44 مركزًا فقط من أصل 102 مركز غسيل كلى في عموم السودان كانت تعمل بشكل متقطع في يوليو 2023، مما هدد حياة آلاف المرضى المعتمدين على هذه الجلسات للبقاء على قيد الحياة.
وفيما يتعلق بمرضى السرطان، فقد كانت الكارثة أشد وطأة، ، حيث تعرضت خدمات رعاية مرضى السرطان لانهيار شبه كامل. فقد أصبح مستشفى الخرطوم للأورام والذي كان يعد المحور الرئيسي لعلاج وتشخيص وأبحاث السرطان في السودان، خارج الخدمة تمامًا بعد سيطرة قوات الدعم السريع على العاصمة السودانية الخرطوم . كما واجه المعهد القومي للسرطان في ود مدني، ثاني أكبر مركز لرعاية مرضى السرطان، مصيرًا مشابهًا بعد امتداد النزاع إلى ولاية الجزيرة في ديسمبر 2023، حيث تعرض لهجوم مسلح من قبل قوات الدعم السريع، مما أدى إلى ترويع العاملين الصحيين والمرضى وإخلائه وتوقفه عن العمل. وقد أدى انهيار هذين المركزين الرئيسيين، إلى خسارة فادحة في البنية التحتية والمعدات الحيوية، فقد السودان بسبب الحرب خمسة أجهزة حيوية للعلاج الإشعاعي كانت موجودة في ولايتي الخرطوم والجزيرة، ولم يتبق سوى جهاز واحد قديم في مستشفى مروي شمالي السودان، لا يستطيع تغطية سوى حوالي 5% من الحاجة الفعلية للعلاج الإشعاعي في البلاد، مما قضى فعليًا على قدرات العلاج الإشعاعي في أهم منطقتين. ولم يقتصر الضرر على العلاج الإشعاعي، بل شمل أيضًا توقف الخدمات التشخيصية والجراحية والعلاج الكيميائي في هذه المراكز. وزاد الطين بلة تعرض مخازن الإمدادات الطبية المركزية في الخرطوم للهجوم والتخريب من قبل قوات الدعم السريع في الأشهر الأولى للنزاع، مما أدى إلى خسارة مخزون طبي يقدر بنحو 500 مليون دولار أمريكي، شمل المخزون الرئيسي لأدوية ومستلزمات علاج السرطان في البلاد. ولم يتبق سوى عدد قليل جدًا من المراكز التي تقدم بعض خدمات الأورام، مثل مركز الدمازين للأورام والعلاج الإشعاعي في مروي (وهو مرفق خاص يتطلب دفع تكاليف باهظة، حيث تصل تكلفة علاج حالة سرطان الثدي إلى حوالي 4600 دولار أمريكي لا تشمل العلاج الهرموني)، وقد أدى هذا الانهيار إلى نزوح مرضى السرطان، بمن فيهم الأطفال، بشكل متكرر بحثًا عن الأمان والعلاج، وغالبًا ما يضطرون لقطع مسافات طويلة وخطيرة (تصل إلى 2000 كم للوصول إلى مروي)، ويواجهون صعوبات مالية جمة في تحمل تكاليف السفر والإقامة والعلاج الباهظ. كما شهدت المراكز القليلة التي استقبلت النازحين قبل انهيارها اكتظاظًا شديدًا، حيث أفاد الأطباء بوجود 3-4 أطفال مرضى بالسرطان يتشاركون السرير الواحد في وحدة الأطفال التي تضم 12 سريرًا فقط. وقد أدى انقطاع العلاج وتأخره أو توقفه بالكامل إلى عواقب وخيمة على نتائج المرضى، وتدهور حالتهم، وزيادة كبيرة في معدلات الوفيات التي يصعب تقديرها بدقة في ظل الظروف الحالية. واضطر حوالي 275 طفلاً يتلقون علاج السرطان في المعهد القومي للسرطان بود مدني إلى الفرار مع عائلاتهم عند اقتحام المدينة، ليواجهوا مصيرًا مجهولاً
تأثير النزاع على العاملين في القطاع الصحي
واجه العاملون في القطاع الصحي، وهم خط الدفاع الأول عن صحة المجتمع، مخاطر جمة وانتهاكات مستمرة ومروعة منذ اليوم الأول للنزاع، مما أعاق قدرتهم على تقديم الرعاية وأجبر الكثيرين منهم على النزوح أو التوقف عن العمل. فمنذ أبريل 2023 وحتى فبراير 2025، تم توثيق مقتل ما لا يقل عن 127 عاملًا صحيًا، وإصابة 96 آخرين بجروح متفاوتة، واعتقال 73 منهم بشكل تعسفي، وفقًا لبيانات "Insecurity Insight". وقد قُتل 11 طبيبًا في الشهر الأول للحرب وحده، بعضهم داخل المستشفيات التي تعرضت للقصف وآخرون أثناء محاولتهم الوصول إلى أماكن عملهم أو العودة منها. وأشارت وزارة الصحة السودانية إلى فقدان 60 كادرًا صحيًا لحياتهم أثناء تأدية واجبهم الإنساني حتى ديسمبر الماضي.
لم تقتصر الانتهاكات على القتل والإصابة، بل تعرض الأطباء والكوادر الصحية الأخرى للمضايقات والتهديد والاعتقال بشكل ممنهج ومقلق، خاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع. وقد وثقت منظمة أطباء السودان من أجل حقوق الإنسان في تقرير صدر في أبريل الحالي، ارتفاعًا في وتيرة الاعتقالات التعسفية للأطباء، حيث سجلت اعتقال 10 أطباء في عام 2023، وارتفع العدد إلى 15 طبيبًا في عام 2024، بالإضافة إلى 11 حالة اعتقال جديدة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025. تركزت هذه الاعتقالات في أحياء متفرقة من العاصمة المثلثة (أم درمان، شرق النيل، جبل أولياء، الرياض، الكلاكلة، المنشية، الحاج يوسف) وفي مدينة ود مدني بولاية الجزيرة بعد سيطرة الدعم السريع عليها، بالإضافة إلى حالات متفرقة في شمال كردفان، الدمازين، ربك، والدويم. وأشار التقرير إلى أن العديد من هذه الاعتقالات تمت بشكل تعسفي من داخل المستشفيات والعيادات الخاصة أثناء تأدية الأطباء لعملهم، أو من منازلهم، أو حتى من المساجد، مما يعكس استهدافًا شخصيًا ومقصودًا للكوادر الطبية وترهيبها.
أدى هذا الاستهداف المباشر، بالإضافة إلى انهيار المرافق ونقص الإمدادات والمخاطر الأمنية العامة، إلى نزوح أعداد كبيرة من الكوادر الطبية المؤهلة داخل وخارج السودان. أما من بقي منهم، فيواجهون ظروف عمل شبه مستحيلة، تتسم بنقص حاد في الموارد والأدوية والمعدات الأساسية، وانقطاع متكرر للكهرباء والمياه، وضغوط نفسية هائلة ناجمة عن مشاهدة الموت والمعاناة اليومية والعمل تحت التهديد المستمر. ورغم كل هذه التحديات، وفي مواجهة هذا الانهيار شبه الكامل للنظام الصحي الرسمي، برزت مبادرات تطوعية ملهمة لأطباء أفراد ومجموعات، حيث بادر بعضهم بنشر أرقام هواتفهم عبر منصات التواصل الاجتماعي لتقديم استشارات طبية مجانية عن بعد للمرضى المحاصرين، بينما حول آخرون أجزاء من منازلهم إلى عيادات مؤقتة لخدمة سكان أحيائهم، كما تم إنشاء مجموعات عبر تطبيق "واتساب" تحولت إلى ما يشبه العيادات الافتراضية لتقديم الدعم والمشورة الطبية قدر الإمكان.
تداعيات انهيار النظام الصحي على السكان
أدى انهيار النظام الصحي المتسارع إلى عواقب وخيمة ومباشرة على صحة وحياة السكان المدنيين في جميع أنحاء السودان، وخاصة في مناطق النزاع والمناطق التي تستضيف أعدادًا كبيرة من النازحين. فقد حُرم الملايين من أبسط حقوقهم في الحصول على الرعاية الصحية الأساسية، حيث تشير التقديرات إلى أن ثلثي السكان يجدون صعوبة بالغة أو يستحيل عليهم الوصول إلى الخدمات الطبية عند الحاجة إليها. ويضطر الناس في كثير من الأحيان للسفر لمسافات طويلة ومحفوفة بالمخاطر بحثًا عن مستشفى أو عيادة عاملة، وغالبًا ما يُمنعون من التنقل بسبب انتشار حواجز الطرق التي تقيمها الأطراف المتحاربة وانعدام الأمن على الطرقات. أما المستشفيات والمرافق القليلة التي لا تزال تعمل، والتي لا تتجاوز نسبتها 20-30% من إجمالي المرافق قبل الحرب، فتعاني من اكتظاظ شديد يفوق طاقتها الاستيعابية بأضعاف، ومن نقص حاد ومزمن في الأدوية الأساسية والمستلزمات الطبية والوقود اللازم لتشغيل المولدات والكوادر الطبية المدربة.
أدى هذا الوضع إلى توقف أو تعطل شبه كامل لبرامج صحية حيوية كانت تشكل شبكة أمان للمجتمع، مثل حملات التطعيم الروتينية للأطفال، وبرامج رعاية الأمومة والطفولة، وخدمات الصحة الإنجابية، وعلاج الأمراض المزمنة كالسكر والضغط وأمراض القلب. وكنتيجة مباشرة لذلك، ارتفعت معدلات الوفيات التي كان يمكن تجنبها؛ فعلى سبيل المثال، سجلت وزارة الصحة وفاة 870 أم حامل بسبب غياب الخدمات الصحية الأساسية في مناطق سيطرة الدعم السريع حتى ديسمبر الماضي. كما تفاقمت الأزمة الصحية بشكل كارثي مع تفشي الأوبئة والأمراض المعدية نتيجة انهيار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وتدهور أنظمة المراقبة الوبائية، وتعطل حملات التطعيم ومكافحة نواقل الأمراض، بالإضافة إلى سوء الظروف المعيشية للنازحين في المخيمات ومواقع التجمع المكتظة.
تواجه أكثر من ثلثي ولايات السودان حاليًا ثلاث أو أكثر من الأوبئة المتزامنة، أبرزها الكوليرا التي أودت بحياة أكثر من 1565 شخصًا وأصابت ما يزيد عن 58 ألفًا في (12) ولاية حتى ديسمبر الماضي، وحمى الضنك التي سجلت أكثر من 13,000 إصابة، بالإضافة إلى تفشي أمراض الحصبة وشلل الأطفال والدفتيريا والملاريا بشكل مقلق. ولم تقتصر الكارثة على الأمراض المعدية، بل تفاقم سوء التغذية بشكل حاد ومخيف، خاصة بين الفئات الأكثر ضعفًا كالأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات، لدرجة أن الأمم المتحدة أعلنت رسميًا عن وصول الوضع إلى مستوى المجاعة في عدة مناطق، بدءًا بمخيم زمزم للنازحين في أغسطس 2024، ثم امتدت لعشر مناطق إضافية، مع وجود سبع عشرة منطقة أخرى على حافة المجاعة. وتشير التوقعات إلى أن 24.6 مليون شخص، أي ما يعادل نصف سكان السودان، سيواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد في عام 2025، بينهم 770 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم الذي يهدد حياتهم بشكل مباشر. وقد أكدت الفحوصات التي أجرتها فرق أطباء بلا حدود في مناطق مختلفة بدارفور هذه المعدلات المقلقة، حيث وجدت أن نسبة سوء التغذية الحاد الشامل بين الأطفال تصل إلى 30-35.5%، ونسبة سوء التغذية الحاد الوخيم تصل إلى 7%.
بالإضافة إلى المعاناة الجسدية، يعاني السكان، وخاصة النازحين، من مستويات عالية من الضغط النفسي والصدمات النفسية نتيجة العنف المباشر الذي شهدوه أو تعرضوا له، وفقدان الأحباء والممتلكات، والنزوح المتكرر، وانعدام الأفق. كما تزايدت التقارير الموثوقة عن أعمال عنف جنسي واسعة النطاق ارتكبتها الأطراف المتحاربة كأداة حرب، ويواجه الناجون والناجيات من هذا العنف صعوبة بالغة في الحصول على الرعاية الطبية والنفسية اللازمة بسبب انهيار الخدمات والخوف الشديد من الوصم المجتمعي الذي قد يؤدي في حالات متطرفة إلى جرائم شرف. وقد وثقت وزارة الصحة السودانية وفاة 12 ألف مدني داخل المستشفيات حتى ديسمبر الماضي، لكنها اعتبرت أن هذا الرقم لا يمثل سوى حوالي 10% فقط من إجمالي عدد القتلى المدنيين المحتملين نتيجة الحرب وتداعياتها الصحية.
الاستجابة الإنسانية والتحديات القائمة
في مواجهة هذه الكارثة الصحية والإنسانية غير المسبوقة، تواجه الجهود الإنسانية لتلبية الاحتياجات الهائلة تحديات جمة ومعقدة. يظل الوصول الآمن ودون عوائق للمساعدات الإنسانية هو التحدي الأكبر والأكثر إلحاحًا، حيث يستمر القتال وانعدام الأمن وإغلاق الطرق الرئيسية وانتشار نقاط التفتيش وفرض القيود البيروقراطية من قبل الأطراف المتحاربة، مما يعيق بشكل كبير قدرة المنظمات على الوصول إلى السكان المحتاجين، خاصة في المناطق النائية ومناطق القتال النشط. كما تعاني الاستجابة الإنسانية برمتها من نقص حاد ومزمن في التمويل، مما يحد بشكل كبير من القدرة على توسيع نطاق العمليات وتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية والغذاء والمياه النظيفة ودعم المرافق الصحية القليلة المتبقية.
على سبيل المثال، لم يتم تمويل سوى خُمس خطة استجابة منظمة الصحة العالمية لعام 2025، التي تبلغ قيمتها 135 مليون دولار، حتى الآن، وهو ما يمثل جزءًا ضئيلًا مما هو مطلوب بشكل عاجل. ورغم هذه التحديات الهائلة، تبذل منظمات دولية ومحلية، مثل منظمة الصحة العالمية، وأطباء بلا حدود، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، واليونيسف، بالتعاون الوثيق مع وزارة الصحة السودانية والهلال الأحمر السوداني والشركاء المحليين، جهودًا مضنية ومستمرة لتقديم المساعدة المنقذة للحياة. تشمل هذه الجهود دعم المستشفيات والمراكز الصحية القليلة التي لا تزال تعمل، من خلال توفير الإمدادات الطبية الأساسية والوقود اللازم لتشغيل المولدات ودفع حوافز للكوادر الصحية. كما يتم تشغيل عيادات متنقلة للوصول إلى المناطق التي لا تتوفر فيها خدمات ثابتة، وتقديم الرعاية الطارئة للجرحى والمصابين، وعلاج حالات سوء التغذية الحاد، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين والناجين من العنف.
وتستمر الجهود لإجراء حملات تطعيم واسعة النطاق قدر الإمكان، حيث تم تطعيم أكثر من 10 ملايين طفل ضد الحصبة والحصبة الألمانية، و11.5 مليون ضد شلل الأطفال، وقرابة 12.8 مليون شخص ضد الكوليرا، كما تم إدخال لقاح الملاريا لأول مرة في ولايتي القضارف والنيل الأزرق بدعم من منظمة الصحة العالمية. وتقوم المنظمات أيضًا بتوزيع الأدوية والمستلزمات الطبية الحيوية، حيث قامت منظمة الصحة العالمية وحدها بتسليم أكثر من 2250 طنًا متريًا من الإمدادات الطبية إلى 18 ولاية سودانية منذ بدء النزاع، بما في ذلك عبر عمليات معقدة عبر الحدود من تشاد وجنوب السودان.
وفي محاولة لمعالجة الاحتياجات الطارئة والتنموية على المدى الطويل، ومع تقدم الجيش في بعض المحاور، تم إطلاق "مشروع المساعدة الصحية والاستجابة للطوارئ في السودان (SHARE)" مؤخرًا، وهو شراكة استراتيجية بين وزارة الصحة والبنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية واليونيسف، يهدف إلى إعادة تأهيل النظام الصحي ودعم تقديم الخدمات الصحية والتغذوية الأساسية في عشر ولايات كمرحلة أولى، بميزانية إجمالية تبلغ 80 مليون دولار (منها 20 مليونًا من البنك الدولي كمنحة أولية، و20 مليونًا عبر منظمة الصحة العالمية لتطوير المستشفيات، و62 مليونًا عبر اليونيسف لدعم الرعاية الصحية الأساسية). ومع ذلك، يظل هذا المبلغ ضئيلًا مقارنة بالحاجة الفعلية، حيث تقدر وزارة الصحة الحاجة المالية لإعادة تأهيل القطاع الصحي في العام الأول وحده بحوالي 2.2 مليار دولار. ويزيد اقتراب موسم الأمطار من تعقيد الوضع الإنساني الهش أصلاً، حيث يهدد بقطع طرق الإمداد القليلة المتاحة، وزيادة انتشار الأمراض المنقولة بالمياه والحشرات مثل الكوليرا والملاريا، وعزل المجتمعات المتضررة بشكل أكبر، مما يتطلب استعدادات وتدابير وقائية عاجلة.
ختامًا، لقد أدى عامان من النزاع المسلح الوحشي في السودان إلى انهيار كارثي وغير مسبوق في النظام الصحي، مما ترك الملايين من المدنيين دون رعاية طبية أساسية وفاقم من معاناتهم الإنسانية إلى مستويات لا تطاق. إن الهجمات المستمرة والمتعمدة على المرافق الصحية والعاملين فيها، ونهب الإمدادات الحيوية، وتفشي الأوبئة الفتاكة، وتفاقم سوء التغذية إلى حد المجاعة في بعض المناطق، تشكل جميعها انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وتتطلب استجابة دولية ومحلية عاجلة ومنسقة وحاسمة. وفي نهاية المطاف، إن الحل المستدام والوحيد للأزمة الصحية والإنسانية المروعة في السودان يكمن في الوقف الفوري للقتال والتوصل إلى سلام عادل ودائم يضع حدًا لمعاناة الملايين. إن شعب السودان قد عانى بما فيه الكفاية، ولا يمكنه، ولا يجب أن يُطلب منه، الانتظار أكثر للحصول على الرعاية والحماية والمساعدة التي يستحقها بشكل عاجل.
drhammor@gmail.com