شاركتُ مؤخرًا في المؤتمر السابع والثلاثين لمركز الدعوة الإسلامية، حيث أُثيرت العديد من القضايا حول مستقبل الفقه والتحديات التي تواجهه في عالمنا المعاصر. وفي سياق هذه النقاشات، بدا أن هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في مفهوم الفقيه نفسه، خاصة في ظل التغيرات العميقة التي يشهدها العالم، والتي تتطلب نمطًا جديدًا من التفكير والقراءة للنصوص الشرعية.

إن مفهوم الفقيه التقليدي، الذي يعتمد على استيعاب النصوص وحفظها وتفسيرها وفق سياقات زمنية قديمة، أصبح محل تساؤل في ظل ظهور قضايا جديدة لم تكن موجودة في عصر الفقهاء الأوائل. فالتحولات الاجتماعية والاقتصادية، والتقدم التكنولوجي الهائل، جعلت من الضروري أن يكون الفقيه اليوم أكثر من مجرد ناقل للمعرفة الفقهية. يجب أن يكون الفقيه قادرًا على فهم العالم الذي يعيش فيه، وعلى تحليل المعطيات الجديدة التي تؤثر في حياة المسلمين وغيرهم.

لقد حاولتُ في ورقتي الموسومة “التجديد الفقهي وتجديد الفقيه في السياق اللاتيني” أن أُبرز أهمية تجديد الفقيه بما يتناسب مع واقع المسلمين في السياق اللاتيني. هذا السياق يتميز بتحدياته الفريدة، حيث يعيش المسلمون كأقليات في مجتمعات يغلب عليها الطابع العلماني والثقافات المتعددة. هنا، لا يمكن للفقيه أن يعتمد على مفاهيم تقليدية فقط، بل يجب أن يكون ملمًا بتفاصيل السياق الثقافي والقانوني والسياسي الذي يتحرك فيه.

إن الفقيه الذي نحتاجه اليوم هو فقيه يمتلك رؤية مقاصدية، تجمع بين الحفاظ على جوهر الشريعة ومقاصدها الكبرى وبين التفاعل الإيجابي مع الواقع. فالفقيه ليس فقط من يستنبط الأحكام من النصوص، بل من يدرك أن النصوص نفسها تخضع لفهم بشري قابل للتجديد بما يتوافق مع التحديات المعاصرة. على سبيل المثال، كيف يمكن للفقيه أن يُصدر فتوى تتعلق بالذكاء الاصطناعي أو الهندسة الوراثية دون أن يكون له إلمام بهذه المجالات؟ كيف يمكن له أن يتعامل مع قضايا البيئة أو العولمة الثقافية دون فهم عميق للواقع العالمي؟

إحدى القضايا التي تناولتها في الورقة هي دور المؤسسات الدينية في تأهيل الفقيه العصري. المؤسسات التقليدية في كثير من الأحيان تُنتج نمطًا من الفقهاء يركزون على الجزئيات والتفاصيل، دون أن تكون لديهم رؤية شاملة لقضايا العصر. هذه المؤسسات بحاجة إلى تجديد مناهجها التعليمية لتشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأن تفتح الباب أمام الفقهاء ليكونوا شركاء في بناء مجتمعات متعددة الثقافات، وليس مجرد مراقبين من بعيد.

ومع ذلك، فإن هذا التجديد ليس خاليًا من التحديات. هناك مخاوف مشروعة من أن يؤدي التجديد إلى التهاون في الثوابت أو إلى تقديم تنازلات لا تتوافق مع القيم الإسلامية. ولكن، هل يمكن أن يكون هناك تجديد دون مخاطرة؟ أليس الحفاظ على الجمود أشد خطورة على الأمة من التغيير المدروس؟ هنا تكمن الشجاعة الفكرية المطلوبة للفقيه العصري؛ شجاعة تجعل منه قادرًا على مراجعة التراث دون القطيعة معه، وعلى مواجهة الواقع دون الخضوع له.

التجديد الفقهي هو بالأساس عملية توازن بين الثابت والمتغير، بين النص والواقع. ولكن هذا التوازن يتطلب فقيهًا واعيًا ومطلعًا، قادرًا على التفكير النقدي والتحليل العميق. في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن مستعدون لتقبل هذا الفقيه الجديد؟ وكيف يمكننا بناء منظومة فقهية تدعم هذا التجديد دون أن تفقد صلتها بجوهر الشريعة ومقاصدها العليا؟

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الدعوة الإسلامية المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة محمد بشاري المزيد المزيد أن یکون

إقرأ أيضاً:

د. عصام محمد عبد القادر يكتب: صلابة الشعوب طريق النصر.. التهجير في عقول واهمة

نبدأ من حيث انتهينا، ونكرر بكل ثقة بأن الشعوب وحدها قادرةٌ على إحداث التغيير مهما تعالتْ التحديات، وتفاقمت الضغوطات، وتزايدت الصعوبات؛ فلا مناصَ عن توحد شعبي يوصف بالصمود، والعمل من أجل نيل الحرية، وكسب القضية التي أضحى يتلاعب بها من لا يؤمن بالتاريخ، والجغرافيا، ويعتقد أن القوة، والبطش تمثلان العامل الرئيس في تحقيق غاياته؛ لأنه العامل الرئيس في المعادلة صلابة الشعوب على أرضها، وتمسكها بحقها مهما بلغت الذُرىَ.
وصف الرئيس عبد الفتاح السيسي القضية الفلسطينية من بداية الأزمة، وقال بلسان مبين إنها أم القضايا، وحدد الموقف المصري بكل تبيان، وبلاغة متكلم، وقال إنه لا تهجير، ولا تقبل لتصفية القضية الفلسطينية تحت أي مسمى، أو ادعاءات، واقترح حلًا مثاليًا، وأكد أنه لا مناصَ عن حل الدولتين بناءً على حدود عام (1967)، للتمكن من إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ عاصمتها القدسُ الشرقيةُ، ورغم تفاقم الأحداث، وتغير المعادلات، وزيادة الضغوط على الدولة المصرية تحديدًا نتساءل بأريحيّةٍ، هل تغير الموقف المصري؟، والإجابة الدامغة لم، ولن يتغير الموقف المصري.
لم، ولن يتغير الموقف المصري؛ لأنه يقوم على حقيقة دامغة، وهي حق الفلسطينيين في أرضهم، وعدالة قضيتهم التي دافعت عنها مصرُ بداية من 1948م، إنه موقفٌ يقوم على عقيدة راسخة تتمثل في أن تصفية القضية الفلسطينية يُزيد من لهيب الصراع، ويُعْلى من وتيرة النزاع؛ فالشعوب جيل بعد جيل تدرك ما لها، وما عليها، ولن تترك حقوقها تذهب سدى؛ فلا أمن، ولا أمان تحت سماء غابت عنها شمس الحق، والعدل؛ ومن ثم سوف يعيش الجميع تحت وطأة التهديد مهما تكلفنا من تدشين سياجِ الحماية.
إن الاستعمار في حد ذاته بات فكرة بالية، لا تتسق مع سياسة عالم يتطلع إلى التقدم، والازدهار، والحرية والعدالة، والمساواة؛ فالشعارات متعارضة؛ فقد تأكدت الشعوب المظلومة أنه لا ناصرَ للحق، ولا فارضَ للعدل إلا ربُّ السماوات السبع، وأنه الصمود، والمقاومة المشروعة هي سبيل نيل الحقوق، وأن من يدعى الهيمنة بسلاح القوة هو خاسرٌ في نهاية المطاف، ولن يرحمه التاريخُ بذكر صفاته، وأفعاله مهما زينت آلة الإعلام، وصفه، ورسمه.

نؤكد على أن صلابة الشعوب طريق النصر؛ فمن يرى بأم عينه صور القمع، والقهر، والقتل، والانتهاك ومن يرى بشاعة تدمير الحجر، والبشر، وما يُشاهد آليات عزلة الشعوب، والمجتمعات، وتهميشها، وتأكيد حالة العوز، وصولًا إلى منع أدني مقومات، وأساسيات الحياة، هل يأمن بواتقكم، وجوركم؟، وهل يتنازل عن أرضه التي تمثل عرضه؟ ، وهل يتناسى حضن موطنه، وغلاوة ترابه؟ ، وهل يرتضي مزيدًا من الضيم؟، وهل يقبل بقرار التهجير؟ إنها إجابةُ واحدةٌ لا تقبل التفريد، أو التجزئة، أو حتى التأويل.. لا للتهجير، وإن فاضتْ الأرواحُ، وفارقت الأجساد؛ فسوف يجعل الله – عزوجل- بعد عسرٍ يسرًا.
إن الوجدان المصري لا يؤمن بسياسة الكيل بمكاييل، وازدواجية المعايير، ولا يكترث للشعارات التي تبدو برّاقة؛ فقد غاب ضمير المجتمع الدولي في أوج العدوان، والانتهاك، وغاب الضمير في نزع حقوق الضعفاء، وانتهاك مقدساتهم، وغاب أيضًا في إنقاذ الملهوف الذي لم يجد المأمن، والمسكن، والمأكل، والتداوي من الجراح في ظل عالم ينعم برفاهية العيش، ورغده؛ إنها لسخريةٌ من إناسٍ يدّعون الحرية، ويأمرون بتهجير قسري لشعب له حق أصيل، ونضالٌ مشهودٌ على مر التاريخ.
إن من يبرر التهجير بغرض صعوبة العيش على أرض مهدَّمة يعتمد على فلسفة واهية، وعقل واهم؛ فمن تحمل القتل، وكافح أن يحيا في ظل جحيم الإبادة، ونُدْرةِ مورد الحياة يستطيع أن يعمر أرضه، ويعيد مجده، ويحي نهضته، ويوفر قوته، ويستكمل مسيرته تجاه الحرية التي فطرنا عليها، بل، ويخرج من صلبه أجيال ترفع راية النصر المبين مهما طال الزمان، أو قصُرَ؛ فنوقن بأن كل احتلالٍ إلى زوالٍ.
لقد اختار السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي طريق الحكمة المتمثلة في الحل السلمي الذي ينعم بثمرته الجميع دون استثناء؛ فلا عُنْفَ، ولا اقتتال، ولا نزال، بل إلى إعمار، ونهضة، وازدهار للشعوب جنبًا إلى جنب، وفق ما تنادي به الطبيعة الإنسانية المستخلفة في الأرض، والشرائع السماوية المعضدة للسلام، والرافضة للظلم، وسفك الدماء دون وجه حق؛ لكن أصحاب المخططات لا يتنازلون عن أوهام قبُعتْ في العقول؛ فما كان منهم إلا أن زادوا من مشاريع التهويد، والاستيطان، بل وصدّ عودة اللاجئين إلى أرضهم، ناهيك عن مخطط التهجير الذي تنادي به دولٌ تدّعي أنها مرصدٌ للحريات، والديمقراطيات، والحقوق.
إن مصر قيادة، وشعبًا، رافضة للتهجير، ومنّاعةً لكل ما من شأنه أن يُقوّضَ القضية الفلسطينية، وهذا موقفٌ ثابتٌ راسخٌ، لا يتغير بتغير الزمان، ولا بتغير المكان، ولا بتغير الأشخاص؛ فهي قضيةُ وطن؛ ومن ثم نصْطَفُّ خلف قيادة، ومؤسسات وطننا، وندعم ما يتخذ من إجراءات في سبيل نُصْرةِ القضية الأم، ونتحمل كافة التبعات التي قد تنتج عن ذلك، دون مواربةٍ، وبكل عِزّةٍ، وثباتٍ.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.

مقالات مشابهة

  • تحديد جلسة عاجلة لمحاكمة إعلامي لبناني في تهمة سب وقذف ياسمين عز
  • محمد مغربي يكتب: من «ترامب» إلى «دافوس».. استعدوا لعالم الذكاء الاصطناعي
  • أخصائية: يمكن منع هروب العاملات بتقديم حوافز لهن قبل رمضان .. فيديو
  • محمد كركوتي يكتب: الإمارات.. آفاق مستدامة للذكاء الاصطناعي
  • محمد عثمان إبراهيم يكتب: تقدم وتسول
  • تمصلوحت :جمعويون يطالبون بفتح تحقيق حول المعايير التي اعتمدها رئيس الجماعة لاقتناء العقار الخاص بالسوق
  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب: صلابة الشعوب طريق النصر.. التهجير في عقول واهمة
  • صلاح يرفض التجديد مع ليفربول بعد خفض راتبه
  • كيف يمكن لترامب أن يكون صانع سلام؟
  • تفكيك خطاب الإقصاء والتكفير في كتاب "الفرقة الناجية.. وهم الاصطفاء".. جديد الدكتور محمد بشاري في معرض الكتاب