الشيخ ماهر حمود
لا نحب أن نخوض في جدل عقيم مع الذين يرفضون رؤية الحقائق والتعامل مع الوقائع، ويفضلون أن يكون موقفهم نابعاً من الانغلاق على الذات واختراع أوهام يتم التعامل معها كأنها حقائق دامغة، وسنعدد من جهتنا ما يؤكد أن المقاومة انتصرت، وكذلك لبنان، وسنتجاوز عن الرأي المعاكس، مع تأكيدنا أن ثمة سلبيات تجب الإشارة إليها، وقد تكون الإشارة إليها في جلسات مغلقة أجدى نفعاً:
أولاً، الأهداف: ظلت الصواريخ والمسيرات حتى لحظة وقف إطلاق النار تنطلق من لبنان وتصيب أهدافاً عسكرية وأمنية في غاية الأهمية.
ثانياً، قبول نتنياهو بالاتفاق: استمعنا إلى تسجيل لنتنياهو عام 2006، ولم يكن رئيس وزراء وقتها، ينتقد القرار (1701) ويعتبر أنه يحضّر لمعركة أخرى، باختصار نتنياهو ليس مع هذا القرار، ولكنه اضطر إلى القبول به لمنع تساقط الصواريخ والمسيرات على مناطق الكيان كافة، بما ذلك تل أبيب، وكلها أهداف دقيقة، وتجاوز عن كثير من البنود غير الواضحة، وأهمها عدم تحديد أسماء اللجنة المشرفة على تنفيذ الاتفاق.
ثالثاً، استهداف المدنيين: نفذ الصهيوني عشر ضربات حقيقية، خاصة ابتداء من 17 أيلول، أي من عملية (أجهزة النداء) وصولاً إلى اغتيال القائد الاستثنائي الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله وعدد من القادة، نعم كانت ضربات ثقيلة جديرة بأن تشل المقاومة وتدفعها إلى «الاستسلام»، ولكن ذلك لم يحصل، والذي حصل أن الصهيوني ركّز بعد ذلك على أهداف وهمية مدنية في قلب بيروت وبعلبك، وغيرهما، في تغطية لفشله في الحصول على أهداف حقيقية بعد الأهداف الأولى، وتركيزه على المدنيين دليل حقيقي على هزيمته وعجزه عن توجيه ضربات حقيقية بعد تلك الضربات «القاتلة».
رابعاً، الناس: فلنقارن بين جمهور المقاومة في جنوب لبنان والضاحية والبقاع كيف استقبل وقف إطلاق النار، وكيف تعامل الجمهور الصهيوني مع وقف النار ببرود، ورفض المستوطنون رغم الإغراءات العودة إلى المستوطنات)؟.
خامساً، التأكيد على وحدة الساحات ووحدة الأمة ورفض التجزئة. والمضحك المبكي كيف كان الجمهور المعارض للمقاومة يسخر من شعار وحدة الساحات ويتهم حزب الله بالتخاذل في الأشهر الأولى، وكيف أصبح يتهم حزب الله بأنه استدرج العدو إلى معركة حقيقية كنا في غنى عنها. لقد تأكد الشعار القرآني (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) (الانفال).
إن التأكيد بالدم والدمار على وحدة الأمة وتحطيم الحواجز المذهبية والإقليمية يستحق كل هذه التضحيات.
سادساً، هزالة المنطق المخالف. إذ يتحدث أخصام المقاومة عن حصر السلاح بالدولة وجيشها، كشعار رئيسي، وحتمية أن يكون قرار الحرب والسلم بيد الدولة، وهم أنفسهم عملوا على إضعاف هذه الدولة وأسهموا بشكل أو بآخر في نهب الدولة والتعامل معها كمزرعة وبقرة حلوب، أو كأكلة الجبنة بحسب تعبير الرئيس الراحل فؤاد شهاب، وهم يعلمون أن القرار الدولي وجزءاً كبيراً من الرأي المحلي يمنع الجيش من التسلح الحقيقي، كما أن الانقسام الداخلي الذي برز خاصة عبر تجاوز اتفاق الطائف والمصلحة الوطنية بتعطيل توظيف موظفين من الفئة الرابعة، يؤكد أن أحداً من أصحاب هذا الشعار لم ولن يسهم في بناء دولة حقيقية.
الانقسامات الداخلية والسيطرة الخارجية على قرار الدولة، والركام من الأخطاء والفساد وعدم وجود بوادر لإصلاح حقيقي، كل ذلك وغيره يجعل شعار حصرية السلاح بيد الدولة، شعاراً وهمياً لذر الرماد في العيون.
سابعاً، المبدأ: إن خوض حزب الله معركة الإسناد وصولاً إلى عدوان أيلول يؤكد مبدأ يرتبط بالعقيدة الإسلامية والانتماء العروبي، وبعض اليسار العالمي وكثير من أحرار العالم، ألا وهو حتمية مواجهة هذا النظام العنصري التوسعي المسمى إسرائيل، وصولاً إلى زوال هذا الكيان المصطنع، وهو أمر يعيش في وجدان الصهاينة جميعا من دون استثناء، كما يشير إلى ذلك الحوار الذي فتحه رئيس الحكومة الأسبق ايهود باراك حول عمر هذا الكيان الذي لن يدوم حسب «الثقافة الإسرائيلية» أكثر من ثمانين عاماً.
طوفان الأقصى وحرب الإسناد وعدوان أيلول ومشاركة المحور من اليمن إلى العراق وغيرهما، كل ذلك جزء لا يتجزأ من حركة التاريخ التي تسير باتجاه واحد لا غير ألا وهو زوال هذا الكيان.
إن فريقاً من اللبنانيين وكثيراً من العرب والمسلمين لا يشاركوننا هذه القناعة، ولا يمكن لنا التنازل عن المبدأ لإرضاء أخصام لا يستندون إلا على أوهام وأحقاد، كما أن أفكارهم تتأثر بالعدو مباشرة أو بشكل غير مباشر.
ثامناً، الشهداء والدمار: عبرت المقاومة عن هذا الجانب عبر الآية الكريمة «وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا» (النساء – 104)، نعم تألّمنا وتألم النازحون وأهالي الشهداء والجرحى وذاقوا مرارة كل ذلك، ولكن في المقابل العدو أيضاً تألم كثيراً، وقد يكون ألمه أكبر لأن المقاومة أصابت فكرة الكبار الرئيسية كوطن آمن لصهاينة العالم، وهذه الفكرة أصيبت في الصميم، كما أن نمط الحياة في الأرض المحتلة يجعل خسائرهم نسبياً أهم مما نُصاب به، ونحن أهل الصبر والإيمان.
نعم كان يمكن لهذه الخسائر أن تكون أقل من ذلك بكثير لو أن المجتمع الدولي، كما يسمونه، والمجتمعات والحكومات العربية والإسلامية، كانت أوعى مما رأينا، ولو كان ثمة بقية باقية من دين أو إنسانية أو مبدأ عند هؤلاء، كان يمكن أن تكون المجازر والدمار أقل من ذلك بكثير ، ولكن!
وقد قلنا مراراً كان يمكن للمواقف العربية الإسلامية أن تكون أفضل بكثير، وأن تصل إلى مستوى المعارضة الصهيونية الداخلية التي كانت، وللأسف، أهم بكثير من مواقف القمة العربية – الإسلامية.
تاسعاً، مقاومة لا ترتبط بشخص: إن آفة حركات المقاومة والتحرير أنها ترتبط بقيادة واحدة تقوم معها وتغيب معها، وأثبتت المقاومة في لبنان أنها «مؤسسة» لها قائد فذ استثنائي، ولكنه لا يختزلها بشخصه، وهذا أمر في غاية الأهمية، وكأنها استحضرت الآية الكريمة «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» (آل عمران – 144).
عاشراً، دور إيران: يعيش أخصام المقاومة أوهاماً كبيرة في ما يعني دور إيران، وكذلك إسرائيل، المنهزمة في بُعد من الأبعاد أمام المقاومة، تربأ بنفسها أن تقول هزمني حزب أو فئة صغيرة في بلد صغير، فيتعمّد نتنياهو وغيره التركيز على الدور الإيراني وتضخيمه، حتى يقول هُزمتُ أمام دولة كبيرة، والحق أن ايران تدعم المقاومة لا شك، ولكن المقاومة محلية بكل إنجازاتها.
أما في الداخل اللبناني، فإن من المضحك المبكي أن تتحدث فئات متعددة عن التبعية لإيران والخضوع لولاية الفقيه، فيما جميعهم يعيشون تبعية قبيحة للأميركي أو للسعودي أو غيرهما، والحق يُقال إنه لا مجال للمقارنة بين علاقة إيران بحزب الله، من حيث الاحترام وتقدير الظروف واتخاذ القرارات المهمة، وبين الفئات الأخرى حيث تدخّل الأميركي، على سبيل المثال، بتفاصيل إنشاء حركة 14 آذار وفي كل القرارات الصغيرة والكبيرة. أما السعودي فألغى بشحطة قلم تياراً حقيقياً يمثل جزءاً وازناً من اللبنانيين ومنعه من خوض الانتخابات والعمل السياسي، هل مثل هذا يحصل مع ولاية الفقيه؟
ومن جهة أخرى، فلنقارن بين حركة الجنود الأميركيين من وإلى مطار حامات العسكري، ومطار رياق، وحركة الطيران المروحي من السفارة الأميركية إلى قبرص والعكس، من دون الخضوع إلى أي رقابة لبنانية، ثم يتحدثون عن السيادة والتبعية؟ وغير ذلك كثير.
حادي عشر، لا نستطيع التنازل عن قناعتنا بجدوى المقاومة لأوهام يعيشها الآخرون. نحن على طريق ذات الشوكة (بحسب التعبير القرآني)، والآخرون يحاولون التمتع بحياة ملؤها الذل والهوان والتبعية، وشتان بين الأمرين، «وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ» (هود – 122).
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: حزب الله
إقرأ أيضاً:
أمريكا بحاجة إلى استراتيجية حقيقية للمحيط الهندي
في الشهر الماضي، التقى قائد القيادة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ، الأدميرال صموئيل بابارو، بنظرائه من أستراليا والهند واليابان في نيودلهي. أعلنت هذه المجموعة غير الرسمية المكونة من أربع دول، والمعروفة باسم «الرباعية»، مرارًا وتكرارًا أنها لا تمتلك ركيزة دفاعية، لذا يُعد اجتماع قادتها العسكريين حدثًا نادرًا للغاية.
في يناير ركز اجتماع وزراء خارجية «الرباعية» على القضايا الأمنية، على نحو غير معتاد، فمنذ تأسيسها، تعاملت «الرباعية» أساسًا مع تحديات أمنية غير تقليدية، مثل الكوارث الطبيعية والصيد غير المشروع، بينما امتنعت إلى حد كبير عن دمج عملياتها العسكرية التقليدية، ومع ذلك، قد يتغير هذا النهج قريبًا، وهو تغيير سيكون موضع ترحيب، إذ لم تعد الولايات المتحدة وشركاؤها قادرين على تجاهل أهمية التعاون الأمني في مواجهة تنامي قوة الصين ونفوذها.
رغم حجم وأهمية الاستراتيجية للمحيط الهندي، غالبًا ما اعتبره الاستراتيجيون الأمريكيون منطقة راكدة. صحيح أن أخطر التهديدات الأمنية لواشنطن تتركز في غرب المحيط الهادئ، إلا أن منطقة المحيط الهندي بدورها تحظى بأهمية حاسمة، فممراته البحرية تربط اقتصادات آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، ويزخر المحيط بموارد سمكية ومعدنية أساسية للأمن الغذائي الإقليمي وسلاسل التوريد العالمية.
اليوم، يتغير ميزان القوى في المحيط الهندي بطرق تهدد مصالح الولايات المتحدة وشركائها في الرباعية، فالصين تعمل على توسيع نفوذها في المنطقة من خلال شراء دعم النخب السياسية، وبناء بنى تحتية كالموانئ والسكك الحديدية، إلى جانب تسريع بناء أسطول بحري بعيد المدى وتعزيز أنشطتها الاستخباراتية.
وإذا عجزت الولايات المتحدة وحلفاؤها عن التصدي لطموحات بكين، فسيتزايد تعرضهم لضغوطها. ومع توسع الوجود البحري الصيني خلال العقد المقبل، قد تتعرض ممرات الشحن العالمية للتهديد، كما ستتمكن بكين من استغلال موارد المنطقة واستعراض قوتها بما يفوق قدراتها الحالية.
قبل فوات الأوان، تحتاج الولايات المتحدة إلى صياغة استراتيجية متكاملة للمحيط الهندي، تركز على معالجة مخاوف دول المنطقة، وتُعزز قدرة واشنطن على استخدام قوتها العسكرية عند الضرورة.
في السنوات الأخيرة، اتسمت سياسة الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بالعمومية والغموض؛ فقد اقتصر هدفها المعلن على تعزيز «منافع عامة دولية» والحفاظ على «منطقة حرة ومفتوحة»، وهي شعارات واسعة بما يكفي لعدم إثارة الجدل، لكنها فضفاضة بحيث لا تقدم إطارًا عمليًا للعمل في المحيط الهندي، ومن دون استراتيجية واضحة ومتكاملة، ستتزايد التحديات الأمنية الناجمة عن صعود الصين، سواء من حيث العدد أو الخطورة.
على واشنطن أن تُدرك أن التوسع العسكري الصيني في المحيط الهندي يشكل تهديدًا طويل الأمد لمصالح الولايات المتحدة وشركائها، فالنشاط المتزايد للغواصات الصينية سيتجاوز قريبًا قدرة الهند، أو أي دولة أخرى، على التصدي له، ورغم أن البحرية الهندية تنفّذ عمليات نشطة عبر المحيط الهندي، إلا أن استثمارها في القدرات الجديدة يبقى محدودًا مقارنة بالصين، وقد تباطأ بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من إطلاق الهند بين الحين والآخر سفنًا جديدة تبدو مبهرة، إلا أن الواقع يكشف عن قصور في تجهيزها لمواجهة تصاعد الوجود البحري الصيني.
نظرًا لهذه المخاطر، يجب على الولايات المتحدة أن تتعامل بجدية مع التعاون العسكري مع شركائها في «الرباعية».
فعلى مدار الأعوام الماضية، ركزت دول الرباعية على مبادرات غير عسكرية، مثل توزيع لقاحات «كوفيد-19»، وإجراء أبحاث السرطان، وتطوير معايير الاتصالات الدولية. هدفت هذه الجهود إلى تعزيز قدرة الدول الصغيرة على الصمود أمام الضغوط الصينية، عبر تحسين بنيتها التحتية للاتصالات وتقليل اعتمادها على الموردين الصينيين المرتبطين بالحكومة، بالإضافة إلى تقديم مساعدات طارئة لمواجهة الكوارث الطبيعية، مثل الانهيار الأرضي في بابوا غينيا الجديدة، والإعصار الذي ضرب فيتنام العام الماضي، كما ساعدت الرباعية العديد من الدول على الوصول إلى بيانات تجارية لرصد عمليات الصيد والشحن غير المشروع في مياهها الإقليمية.
ومع ذلك، لا تزال «الرباعية» تتجنب أي تعاون عسكري قد يُفسر على أنه مسعى لبناء قوة قتالية مشتركة، خشية إثارة قلق دول جنوب شرق آسيا من تصاعد التنافس الأمني بين الولايات المتحدة والصين. وقد اقتصر التعاون العسكري بين الدول الأعضاء على ترتيبات خارج إطار الرباعية، مثل التدريبات البحرية السنوية ضمن سلسلة «مالابار»، التي تجمع الدول الأربع لكنها لا تصنف رسميًا كنشاط رباعي. تسهم هذه التدريبات في تعزيز عادات التعاون العسكري، لكنها لا تحدث تغييرًا جوهريًا في ميزان القوى العسكري مع الصين.
من خلال اقتصارها على تقديم المنافع العامة الدولية، والعمل الأمني غير التقليدي، والتعاون العسكري المحدود للغاية، تظل «الرباعية» غير قادرة على ردع الأنشطة العسكرية الصينية المتزايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
في الوقت الحالي، تلعب الهند دور «مزود الأمن الصافي» للمنطقة، وتسعى إلى ضمان استمرار الوضع القائم الملائم. وبتزايد قدراتها ونفوذها، كثّفت الهند من جهودها في مجال الإغاثة الإنسانية، وقدّمت مساعدات أمنية أساسية للدول الإقليمية الأصغر. منذ عام 2023، بدأت الهند أيضًا بالتنسيق مع الولايات المتحدة وشركائها ضمن القوات البحرية المشتركة، وهو تحالف دولي في شمال غرب المحيط الهندي، لمكافحة القرصنة. رغم أهمية مساهمات الهند في تعزيز الأمن الإقليمي، إلا أنها لن تكون كافية بمفردها لمواجهة الوجود البحري الصيني المتنامي.
ينبغي أن يكون بناء قوة عسكرية جماعية هدفًا محوريًا لأي استراتيجية أمريكية جديدة في المحيط الهندي، وعلى واشنطن أن تراعي المصالح الاقتصادية والبيئية للدول الإقليمية، لا يمكن أن تقتصر استراتيجيتها على توفير المنافع العامة، بل ينبغي أن تعمل على صياغة استراتيجية تعزز الأسس التمكينية لقوتها العسكرية وقوة شركائها: الاستخبارات، والعمليات، والاستعداد، والتحديث.
هذه الأسس، غير المرتبطة بمهمة بعينها، تُعزز القدرة على تنفيذ مجموعة واسعة من المهام، بدءًا من الإغاثة الإنسانية وصولًا إلى العمليات القتالية، كما توفر خيارات سياسية متعددة، مما يمنح واشنطن وشركاءها مرونة أكبر، ويُبقي خصومهم، في حالة من عدم اليقين.
تُعد الاستخبارات الركيزة الأساسية لأي قوة عسكرية، إذ يحتاج الجيش الأمريكي وشركاؤه إلى وعي أوضح بالوضع، لا بشأن سفن الصيد غير المشروع فحسب، بل أيضًا تجاه السفن العسكرية القادرة على التهرب من الاكتشاف، وينبغي لواشنطن وشركائها تحسين قدرتهم على تبادل المعلومات الاستخباراتية الدقيقة حول القوات المعادية. حاليًا، يعيق نقص قنوات الاتصال الآمن وتبادل البيانات الفعّال، القدرة على التعاون العملياتي بين القوات الأمريكية والقوات الهندية، رغم استخدام الهند لمعدات أمريكية مثل طائرات P-8.
وتتطلب مهمة بناء أسس القوة العسكرية أيضًا تحسين آليات تنسيق العمليات العسكرية المشتركة. على غرار ما فعلته الولايات المتحدة عام 2003 بإنشاء مركز العمليات الجوية المشتركة في قطر لتنسيق قوات التحالف بالشرق الأوسط، يمكن تكييف نموذج مشابه للتنسيق العسكري في أوقات السلم بالمحيط الهندي والمناطق المجاورة، وبالنظر إلى اعتماد واشنطن على حقوق الوصول والتمركز والتحليق عبر العديد من الدول الأجنبية، ينبغي لشركائها، مثل أستراليا والهند، توسيع نطاق هذه الامتيازات، ليس فقط لصالح الولايات المتحدة، بل أيضًا لصالح بعضهم البعض.
أخيرًا، يجب على الولايات المتحدة وشركائها مواصلة تعزيز الجاهزية العسكرية وتحديث القوات بمعدات جديدة، ويشمل ذلك دعم جهود الصيانة والإصلاح والتجديد، بما في ذلك في الدول الصديقة. ومع مرور الوقت، ينبغي دمج أبحاث الدفاع وسلاسل التوريد، بما يسمح بتجميع المواهب والقدرات الصناعية.
في هذا السياق، تبرز تجارب ناجحة، مثل شركة أندوريل الأمريكية التي أنشأت سلسلة توريد عالمية لتزويد البحرية الأسترالية بمركبات بحرية غير مأهولة خلال فترة زمنية قياسية، ومبادرة شركاء AUKUS الذين طوروا خوارزميات لمعالجة بيانات السونار المشتركة لتعقب الغواصات. بإمكان هذه القدرات الجديدة أن تُحدث تغييرات ملموسة وسريعة في ميزان القوى بالمحيط الهندي.
ورغم أن بعض هذه الجهود قد بدأ بالفعل، إلا أنه لا يزال يتسم بالتشتت، لذلك، تحتاج واشنطن إلى استراتيجية جديدة تحدد الأولويات العسكرية بوضوح، وتصدر التوجيهات على أعلى مستوى، بما يسهم في تنسيق الجهود داخليًا بين الوكالات الأمريكية، وخارجيًا مع الحلفاء والشركاء.
لا يمكن لأي استراتيجية أمريكية أن تنجح دون دعم الحلفاء والشركاء، وينطبق هذا بشكل خاص على منطقة المحيط الهندي، حيث تركّز واشنطن، وبشكل مُبرّر، وموارد متزايدة على المنافسة الأمنية في غرب المحيط الهادئ. تُعدّ الهند القوة المحورية في المحيط الهندي، لما تتمتع به من نفوذ يمتد عبر كامل المنطقة، ولعلاقتها الاستراتيجية العميقة مع الولايات المتحدة، كما تُعد أستراليا شريكًا أمنيًا فاعلًا وفعّالًا، إذ تراقب بعضًا من أكثر نقاط الاختناق أهمية في شرق المحيط.ستكون الهند وأستراليا في صميم أي استراتيجية أمريكية مقبلة، لكن يمكن أن تنضم إليهما دول أخرى مثل فرنسا، وإندونيسيا، واليابان، وجميعها تمتلك مصالح حيوية في المحيط الهندي.
سيتفاعل كل شريك في مجموعة الرباعية (كواد) مع واشنطن من موقعه الخاص، حاملًا معه مزايا مختلفة واهتمامات فريدة، ومع ذلك، فإن التعاون العسكري مع الولايات المتحدة من شأنه أن يعزز قدرة هذه الدول على اتخاذ قرارات سيادية مستقلة، وبشكل جماعي، يمكن لهذا التعاون أن يُنتج موقفًا عسكريًا أكثر حزمًا، ويوسّع الخيارات السياسية المتاحة لهم في المنطقة، ولتحقيق ذلك، ينبغي أن يعملوا مع واشنطن على تعزيز الأسس التمكينية للقوة العسكرية في المحيط الهندي.
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، أثارت إدارة ترامب شكوكًا حول مدى التزام الولايات المتحدة تجاه شركائها، ومع ذلك، لا تزال المؤسسة العسكرية الأمريكية مهتمة بتطوير قدراتها بالتعاون مع القوات الحليفة، في وقت تتزايد فيه رغبة هذه القوات في تعميق التعاون الأمني لمواجهة أي تهديد، وفي ظل التقلبات الكبيرة التي تعانيها السياسات الأمريكية المتعلقة بالتجارة والمساعدات، ينبغي على صناع السياسات الأمنية في واشنطن أن يواصلوا تقديم بديل فعّال للهيمنة الصينية في المنطقة.