دار خولة للكويتية بثينة العيسى.. في مواجهة زحف الحداثة وفقدان الجذور
تاريخ النشر: 2nd, December 2024 GMT
تمثل "دار خولة"، أحدث أعمال الكويتية بثينة العيسى، عملًا أدبيًا يعكس الصراع العميق بين الذات والقيم المحيطة، فعبر شخصية "خولة"، قدمت الكاتبة نموذجا للمرأة العربية التي تعيش في عزلة نفسية وسط عائلتها، لتخوض مُجبَرة صراعًا داخليًا لاستعادة الشعور بهويتها، في ظل تأثيرات ثقافية واجتماعية تتغير بشكل متسارع، بسبب واقع تأثير "الآخر" على بناء الشخصية العربية وما ينجرُّ عن ذلك من صراع داخلي، كثيرا ما يؤثر سلبا على العلاقات المفترض أن تكون سويّة.
شخصية البطلة في "دار خولة" هي مثال للشخصية المركبة، فهي تعيش بين ماض تقليدي وحاضر متغيّر، ففي مشهد معبّر، تقول خولة "كنت أفتقد زوجي، وأردت التفرج على الأطفال الذين يرقصون بتلك الأزياء" (ص: 38)، يعكس هذا البوح، التوق لبناء علاقة قوية مع مَن تحبهم، ولكنها تشعر بتشتت عاطفي تجاههم، فأبناء خولة، كناصر ويوسف، يُجسدون التحول الاجتماعي الذي تكرَّس بتبني الشباب للقيم الغربية، حيث يعيش ناصر حياة "فردانية مطلقة" بعيدًا عن تواصل حقيقي مع والدته.
هذا التباعد يعمق من اغتراب خولة ويجعلها أمّا تتصارع مع ذاتها للحفاظ على هويتها التقليدية أمام تحول جذري، يشبه بنحو ما، ما رسمه قلم "د.هـ. لورانس" في عمله "أبناء وعشاق"، حين وصف علاقة بطلته "جيرترود موريل" بأبنائها، حيث تسعى الأم إلى تحقيق سيطرة كاملة على حياة أبنائها، مما يؤدي إلى صدام مستمر.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2في الذكرى العاشرة لرحيل رضوى عاشور.. "الطنطورية" تنتظر العودة من الشتاتlist 2 of 2السرد المزدوج بين عمر وغابرييل.. رواية جون وايت "غزة: هذه الأرض النازفة"end of listبيد أن الفرق هنا، هو أن خولة لا تسعى إلى تقييد أبنائها، بل كلّ ما ترجوه هو إيقاف انجرافهم نحو ثقافة لا تمتّ لها بصلة، مما يعكس خوفها من فقدان هويتها العائلية، التي حوّطتها العيسى بذكاء بأسوار من النوستالجيا المتماهية مع جدران "الدار"، فالمنزل في الرواية وظّفته الكاتبة ليكون رمزًا قويًا يعكس الصراع بين ما هو تقليدي وما هو حديث.
تشعر خولة بأن دارها لم تعد تحمل ذات المعنى، بل أصبحت فضاءً فارغًا؛ "بيت للعائلة لكنه فارغ" (ص: 38)، وكأنما يُفرغ ذلك الفراغ الروحي في ساكنيه خاصة أبناءها؛ ليَحضُر القارئ وهو يحاول تأمل رمزية المنزل في رواية دار خولة، ما سبق للمفكر عبد الوهاب المسيري أن أعلنه: "الحداثة تبتلع هوياتنا الأصلية"، وهو ما أدركته خولة أيضا، بعكس أبناء جيلها، مما يضفي على الرواية بعدًا فلسفيًا حول الهوية والصراع من أجل التمسك بالجذور.
فظاعة الاغتراب الداخلي وانسلاخ الهويّةأحد الجوانب المحورية في الرواية هو طرح موضوع الهوية وما يعنيه من أن يفقد الإنسان إحساسه بالانتماء. نقرأ في أحد المقاطع:
"كلّ ما أرادته هو تنشئة أبناء فائقين… لكنها في نهاية المطاف، وجدت نفسها محاصرة بأبناء بلا جذور ولا سيقان"
(ص:43)
يعكس هذا الاقتباس مرارة الفجوة التي نشأت بين الأجيال. وهي نتيجة حتمية عن ابتعاد الإنسان المعاصر تدريجيًا عن جذوره، ليجد نفسه في عالم بلا روابط حقيقية، مثلما استنتج إريك فروم أو جورج ستاينر الذي اكتشف -وهو يدرس علاقة الاغتراب باللغة- أن اللغة نفسها قد تكون مصدرًا للاغتراب، إذ يصفها كـ"جسر غير مكتمل" بين الذات والآخر، مما يعمّق الشعور بالعزلة والفصل النفسي.
رؤية تتناسب مع شخصية خولة التي -رغم محاولتها التعبير والتواصل مع أبنائها- تجد نفسها غريبة في بيتها ولغتها، حيث تصبح اللغة نفسها حاجزًا عاطفيًا. يبدو تواصلها مشوبًا بالقيود، وكأنها تعجز عن بناء جسور حقيقية معهم، مما يضفي بعدًا فلسفيًا على عزلة خولة.
هذا الاغتراب اللغوي يُشعرها أنها باتت غريبة وسط أفراد عائلتها، حتى ضمن إطار ثقافتها ولغتها الأم. تجربة خولة قد تكون فردية كما يحاول النص إيهامنا به، لكنها في الوقت ذاته تسلط الضوء على تصاعد تأثير الثقافة الغربية في الأوساط العربية، وهو تأثير لا يمكن تجاهله ولا تجاهل الوسائل الداعمة له، والتي أهمها السلطة الثقافية المهيمنة، أهمّ أدوات الغرب في تغريب الشعوب على حدّ تعبير جورج لوكاش، الذي تقاطعت رؤيته هذه مع رؤية قسطنطين جيورجيو في روايته "الساعة الخامسة والعشرون"، التي طرحت فكرة فقدان الذات أمام قسوة الحداثة وعزلة الإنسان في عالم متغير.
في رواية جيورجيو، يعاني الإنسان من امِّحاء هويته أمام قوة مهيمنة، حيث تُسلب منه ذاته وقيمه الأصيلة في دوامة الحداثة. في "دار خولة"، نجد تجربة مماثلة تتجسد في فقدان خولة لهويتها العائلية والأمومية، حيث ترى أبناءها يتبنون قيمًا وثقافات لا تمت بصلة إلى جذورها، وكأنها تخوض صراعًا للحفاظ على وجودها في مواجهة زحف عولمة تجعلها مجرد شخصية هامشية في عالم لا يشبهها.
لغة جميلة لواقع قبيحتتميز "دار خولة" بلغة شاعرية، تختلط فيها مشاعر الألم والأمل، مما يجعل النص نابضًا بالحياة ومعبرًا بصدق عن الوجع النفسي لشخصية خولة. في مقطع من الرواية، نقرأ: "تكتشف أن الصمت وراء الصمتِ صمتٌ ثانٍ، وثالث، وعاشر" (ص:9). يظهر استخدام الكاتبة للغة كأداة لنقل العزلة والترددات النفسية التي تعيشها الشخصية.
وتذكرنا هذه اللغة بمقولة الشاعر محمود درويش: "في داخلي صوت يخبرني أن العزلة نوع من العودة إلى الذات". فالكاتبة تنجح في جعل اللغة جزءًا من رحلة البحث عن الذات، مستخدِمة إياها لتجسيد الحالة النفسية لخولة بكل وضوحها وتعقيداتها.
كذلك، يعيد أسلوب الكاتبة في وصف المنزل والجدران التي تروي..، قصصًا قديمة إلى الأذهان "بيت الأرواح" لإيزابيل الليندي، حيث تُروى القصص عبر تراكمات الماضي وسكون الحاضر. فبناء المنزل وصمته العميق يُكمل الصورة الرمزية للعزلة في حياة خولة.
دعوة للبحث عن الذاترواية "دار خولة" للكويتية بثينة العيسى، مرآة تعكس صراعات الإنسان (العربي) المعاصر مع هوية متغيرة تحت وطأة العولمة. من خلال شخصية خولة، تُبرز الكاتبة ضرورة العودة إلى الجذور لإيجاد القوة الداخلية التي تحمي الذات من التلاشي في عصر الحداثة. الرواية تستحق التقدير لأصالتها في معالجة قضايا الهجرة الثقافية والعزلة الروحية، وتقدم صوتًا يعبر عن الحاجة إلى الارتباط بالجذور. إن هذا العمل الأدبي يعبر بحق عن قلق الإنسان العربي المعاصر، ويذكرنا بمقولة نيتشه الخالدة: "إذا قطعت جذورك، لن تستطيع الوقوف أبدا".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دار خولة فی عالم
إقرأ أيضاً:
حكومة الاحتلال تشنّ حرباً على الكتب والثقافة والفنون لمنع أي رواية معارضة لها
قال الرئيس الأسبق للكنيست والوكالة اليهودية، أبراهام بورغ، عبر مقال له، نُشر بموقع "ويللا" العبري، إنّ قيام شرطة الاحتلال بمداهمة متجر للكتب في شرقي القدس المحتلة، ومصادرة الكتب، واعتقال اثنين من أصحابها مع إساءة معاملتهما، ثم إحضارهما أمام قاضٍ لمزيد من المعاملة الفظّة، تسبّب بإحراج كبير لدولة الاحتلال، في الرأي العام الغربي.
وأبرز بورغ، في المقال الذي ترجمته "عربي21" أن دولة الاحتلال الإسرائيلي "بدت كدولة يحكمها الجهلة وليس أهل الكتب، فيما يُعيد للأذهان ما أقدم عليه النازيون في 1933 وسط برلين، حين أحرقوا أعمال مئات الكتاب والمفكرين والفلاسفة والعلماء".
أكد أنّ: "مداهمة الشرطة للمكتبة المقدسية، استنساخ لما أقدم عليه النظام النازي، حين جمع طلابه الهتلريون المتحمسون عشرات آلاف الكتب، ثلثاها من تأليف اليهود، في مجالات العلوم والفلسفة والفن والتاريخ، كان مؤلفوها معارضين للنظام بأشكال مختلفة، من اليهود والشيوعيين والمثقفين والليبراليين".
وأضاف: "بتحريض من وزير الدعاية النازي حينها، جوزيف غوبلز وبصحبة جوقات قوات الأمن الخاصة، تم إحراق أعمال توماس مان، كارل ماركس، سيغموند فرويد، إريك كاستنر، هينريخ هاينه، والعديد من الآخرين، وكان هذا الحريق الرئيسي، الذي أعقبه إشعال العديد من نيران الجهل في جميع أنحاء ألمانيا، وحرق مئات آلاف الكتب".
وأوضح أنّ: "مسيحيي إسبانيا سبق لهم أن أحرقوا القرآن في القرن السادس عشر، واليوم عندما منعت شرطة الاحتلال، مصحوبة بأصوات جوقة إيتمار بن غفير العنصرية، وأوركسترا سموتريش العنصرية، الحرب على بائعي الكتب الفلسطينيين، فإنهم لا يختلفون كثيرًا في جوهرهم عن غيرهم من حارقي الكتب في تاريخ البشرية، لاسيما من النازيين".
في سياق متصل، لا تتورّع حكومة الاحتلال على انتهاج كل الأساليب القمعية لحجب أي رأي مُخالف لروايتها الكاذبة عن العدوان على غزة، بما في ذلك الأصوات الصادرة من داخل المجتمع الاسرائيلي، حيث تتصدّى لكل صوت ليبرالي ديمقراطي إنساني، من خلال إبراز التهديدات الدينية القومية، لاقتلاع هذه الأصوات من المجال العام، خاصة في الثقافة والفنون.
وأكد الكاتب بصحيفة "معاريف" العبرية، ران أدليست، أنه: "منذ تأسيس حكومة اليمين الحالية عموما، ومنذ بدء الحرب على غزة خصوصا، فرضت حظرا على إنتاج وصناعة الأفلام الوثائقية التي تتعامل مع الصراع مع الفلسطينيين بمنطق مخالف لرواية الحكومة".
"يستمر هجوم حكومة بنيامين نتنياهو، وشركائه في الجريمة على عالم الفنون والثقافة في كل المجالات، وهو الشغل الشاغل والهدف الأساسي لجميع الوزارات الحكومية" تابع أدليست، في مقال ترجمته "عربي21" أن "محاولة إلغاء المحكمة العليا لهذه العروض فشلت في هذه المرحلة".
وأكّد: "تستمر محاولات الالتفاف عليها على مدار الساعة، حيث تشنّ الحكومة الآن حملة تدمير بنفس القدر من الأهمية ضد عالم الثقافة، وعلى النقيض من النظام القانوني الذي يكافح من أجل بقائه بدعم إعلامي وجماهيري، لا أحد يسمع أو يرى انهيار الشجرة الثقافية في مكان ما من الغابة الإسرائيلية، خاصة الفنون التي تحتوي على محتوى يتعارض مع أوامر الحكومة".
وأوضح أنه: "منذ تشكيل الحكومة اليمينية، خاصة منذ اندلاع حرب غزة، فرضت حظر إنتاج على صناع الأفلام الوثائقية التي تتناول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لاسيما التي تركّز على الاحتلال، بسبب وجود كيانات "غير مرئية" تعمل من داخل أحشاء الحكومة".
وتابع: "تشارك بتخريب عرض الوجه الحقيقي للدولة، وتتعرض المحاولات الرامية لشنّ حملة ضد المقاطعات من خلال اللجان والمؤسسات الخاصة لعملية تخريب عنيفة".
وفي السياق نفسه، ضرب على ذلك مثالا بـ"منع الشرطة لعرض فيلم أميركي في حيفا، بزعم أنه يحتوي على تحريض ضد دولة الاحتلال وجنودها، وسبق الحظر مضايقات هاتفية ضد إسرائيليين مهتمين بالفيلم، وتم إلغاء العرض، ناهيك عن التهديدات الموجهة للمذيعين لمنعهم من بث مواد خطيرة، بل إن العديد من المنتجين يعلنون أنهم عالقون مع فيلم وثائقي ليس لديه أي فرصة لإنتاجه وتمويله في دولة الاحتلال".
وأشار إلى أنه: "لا جدوى من الشكوى، والطريقة الوحيدة هي جمع التمويل من خارج دولة الاحتلال، لكن النكتة المريرة هنا أنه في عالم من المفترض أنه ليبرالي، فإن حقيقة كون الفيلم إسرائيلياً، حتى وإن كان نقدياً، تجعله غير مؤهل لعرضه في شركات الإنتاج بسبب الطريقة التي يصور بها الفيلم سلوك الحكومة والجيش في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا أحد مكونات العالم الثقافي الفني في دولة الاحتلال".
وكشف أنّ: "وزير الثقافة والرياضة، ميكي زوهر، طالب وزير المالية، بيتسلئيل سموتريتش، بمنع ميزانية "السينماتيك" لعرض الأفلام الروائية الفلسطينية، كما تم إغلاق مكتبة فلسطينية في القدس بتهم كاذبة، كما يتم استهداف الممثلين الكوميديين في حيفا، بزعم أنهم يمثلون عملاً فنياً يتناول الواقع بعيون عربية فلسطينية".