أربع مفارقات خطرة عاشها المغرب مؤخراً
تاريخ النشر: 2nd, December 2024 GMT
في أقلّ من شهر عاش المغرب حالات أربعًا، تَشي باندحار فكري مريع، وأخلاقي مهول. كل حالة كان من شأنها أن تملأ الدنيا وتشغل الناس، وكادت أن تمرّ مرور الكرام، سوى الحالة الرابعة، حين انبرى صاحب أكبر مجموعة إعلامية مغربية ينتقد المحكمة الجنائية الدولية التي أدانت نتنياهو وغالانت، على أساس أن قرار المحكمة الجنائية الدولية يمسّ بسيادة إسرائيل، ويتدخل في شؤون القضاء الإسرائيلي، وهو الأمر الذي استهجنه أصحاب الرأي ولم يدعوه يمرّ مرور الكرام.
وأولى هذه القضايا التي تستأثر بالاهتمام، زعيمة سياسية من اليسار الجديد الذي يؤاخذ على اليسار القديم تخليه عن مبادئه، نادت من قبة البرلمان أن يجهر الخطباء في خطب الجمعة بالجهاد في فلسطين، وذكّرت أن تاريخ المغرب تاريخ جهاد ومجاهدين، وسبق للمغرب أن فتح الأندلس وغزاها.
لا يُشكُّ في حسن نوايا الزعيمة اليسارية، وفي صواب توجهاتها فيما يخصّ واجب النُّصرة والدفاع عن المظلوم، لكن الجهاد، والفتح، والغزو، لم تكن قطُّ مرجعية يسارية، وهي بلا مراء مرجعية إسلامية. وكان يكفي أن تدافع الزعيمة اليسارية عن واجب النصرة، وحرية الأئمة في الخطب، من غير ما حاجة للتذكير بفتح الأندلس واحتلالها كما ورد على لسانها.
والمفارقة الثانية، هي لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، الذي أفشى ما دار بينه وبين وزير الداخلية الفرنسي، إذ قال القيّم على الشأن الديني بالمغرب إن المغرب بلد علماني، وأن الكل حر فيما يريده، وبقي وزير الداخلية مشدوهًا، (أو حال فمُّه) حسب تعبير السيد الوزير، وطالب بلقاء ثانٍ، لأن "اجتهاد" وزير الشؤون الدينية المغربي يعطي الوزير الفرنسي المدد في الحرب ضد "أهالي الجمهورية"، أو مسلمي فرنسا.
حاول الوزير سُدى أن يُنسّب ما ورد عنه، من أن العلمانية علمانيات، لكن السهم طاش. طبعًا، لم يأتِ الوزير بجديد، لأن واقع الحال يفيد أن هناك علمنة مع وقف التنفيذ، كما ينعتها بعض الباحثين العلمانيين، ولكن ليس لوزير الأوقاف أن يقول بذلك، أو يُقرَّ به، أو حتى أن يُفشي ما جرى له مع المسؤولين الفرنسيين، ومع وزير الداخلية بالأساس، حيث يُعتبر الإسلام في فرنسا شأنًا أمنيًا.
وقد كتب كاتب يرد على الوزير: أتُعتبر مؤسسة إمارة المؤمنين، التي هي المرجعية التي تحتكم إليها وزارة الشؤون الدينية، من العلمانية، ما دام المغاربة "علمانيين"؟ وهل تستقيم مع العلمانية، أو لا يُخشى تنافر بينهما، يوجب رفع إحداهما؟ وهل يجوز الإفطار علانية في رمضان، والقانون الجنائي يُجرم ذلك، والوزير يقول بأن الكل حر أن يصنع ما يشاء؟
كان حريّا بوزير الشؤون الدينية المغربي أن يقول لوزير الداخلية الفرنسي إن الدين يُسر، ومن غالب هذا الدين غلبه، وأن الإسلام يدعو بالمجادلة بالتي هي أحسن، وأن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، ولن يعدم الوزير استشهادات من مرجعية إسلامية حول "تدبير الشأن الديني" في المغرب، في اتجاه الرفق، وخفض الجناح، وعدم الغلو، عوض الخوض في مرجعيات أخرى، يمكنه أن يشاطرها توجهها بصفته الشخصية، ولكن لا يسوغ له أن يجهر بذلك من منطلق المسؤولية.
وثالثة الأثافي، وزير التعليم المغربي الجديد، الذي في أول خروج إعلامي له بالبرلمان، وجد العَنت الشديد في قراءة ما كُتب له بالدارجة المغربية، ولم يجد حرجًا أن يرد في حصة الأسئلة الشفوية بالقول إن وزارته سترد كتابة.. ولا يُدرى لِمَ تُسمى الحصة بأسئلة شفوية، إن كان الرد سيكون كتابيًا؟. بضاعة وزير التعليم، من اللغة العربية ليست مزجاة فقط، بل منعدمة، ولا يُعرف عنه أن عُني بالشأن العام، ولا أن له أدنى إلمام بقضايا التعليم، ويوكل له مع ذلك أهم قطاع يبني الإنسان.
والحقيقة أن هناك استهتارًا بهذا القطاع إذ أوكِل لتقنيين لا يعرفون قضايا التربية، ولا حتى قضايا المجتمع، واشتغل أحسنهم بتحسين الوضع المادي للمؤسسات التربوية، أما محتوى التعليم وكيفية التدريس، فكانت قضايا مستغلقة عليهم، واعترفوا أنهم لا يفقهون فيها. فهل من قبيل المصادفة أن يتولى قطاع التربية أشخاصٌ يجهلون العربية ويمقتونها، وعلى جهل تام بالجوانب الثقافية لبلدهم؟
أما الطامة الكبرى، فهو ما كتبه السيد أحمد الشرعي، في تايمز أوف إسرائيل منتقدًا قرار المحكمة الجنائية الدولية بتجريم كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، واعتبر ذلك مساسًا بسيادة دولة إسرائيل وتدخلًا في القضاء الإسرائيلي.
لسنا في هذه النازلة في حرية الرأي، لأن حرية الرأي تفترض الجهر بآراء يعتبرها مثقف أو صحفي، متعارضة لتوجهات فكرية يؤمن بها، أو لمرجعية يأتمُّ بها، أو لمبدأ عام، ومن حقه أن يعارضها أو يدحضها.
وهي ليست حالة السيد الشرعي الذي لم يسبق له أن تحرك في قضية ما تهم المغرب والمغاربة، فلم يكتب حرفًا واحدًا أو أدلى بتصريح، حين ضرب الزلزال منطقة الحوز بالمغرب، ولم يُعرف عنه تجنده لقضية إنسانية خارج المغرب، وكل إسهاماته هي تلك المرتبطة بإسرائيل، دفاعًا عنها، وتعريضًا بمن يقف ضدها، كما في مقال له بعد طوفان الأقصى بعنوان "كلنا إسرائيليون". أي إننا، في حالة السيد الشرعي، أمام ما يمكن اعتباره عمالة لدولة أجنبية، وفق ما ورد في بلاغ لحزب العدالة والتنمية.
مرد الخطورة، كما ورد في أقلام صحفية، هو أن السيد الشرعي تم احتضانه من قِبل جهات أمنية، في فترات للرد على الصحافة الحرة، إبّان عنفوانها، ويحظى برعاية ضافية، مثلما تسرب في الصحافة، من أشخاص كانوا قريبين من الأوساط الأمنية، ويحدثون بلسانها، ويلهجون بخطابها.
هل هي رَمْية من غير رامٍ؟ أو أن وراء الأكمة ما وراءها، كما كتب صحفي اعتبر أن خرجة الشرعي تقتضي قراءتين، إما أنها كُرة اختبار، أو أن السيد الشرعي شبّ عن الطوق مما يجعله أكبر من أن يأتمر بأمر محتضنيه.
لقد أضحت الكثير من الهيئات المؤثرة مخترقة، ومن شأنها أن تهدد سياسة الدولة، وتُقلب سُلّم القيم، وترفع من ترفع؛ لأنه ينطبق مع توجهاتها، وتحط من لا يطابق تلك التوجهات، وتُزري به في أحسن الأحوال، وتُضيّق عليه في غالب الأحوال.
كنا نُغبَط في المغرب، لفترة، لعقلانيتنا وعمق تصورنا، لكن ما نشهده على مستوى النخب السياسية والإعلامية والفكرية يظهر وميض نار، قد يأتي على هذا الرصيد الذي كنا نفخر به ونفاخر.
لم يعد اليساري يساريًا، وأضحى وزير الشؤون الدينية مدافعًا عن العلمانية، ووزير التعليم غير متعلم لا يُحسن التعبير، والعمالة أصبحت تُعتبر حرية رأي.
ولعل ما يعزز هذا التوجه المريع، ما كتبه صحفي مغربي عن واقع الجامعة المغربية، التي سرت فيها السرقات في رسائلها وأبحاثها، والمحاباة والولاء (الزبونية) للارتقاء في أسلاكها، والرشوة للانخراط فيها، و"القصاير" على مستوى بعض الأساتذة، أي الحفلات الماجنة، يُستغل فيها حالات بعض الفتيات لأغراض غير التعليم والمعرفة.
ليس باندحار الجامعة يمكن أن نحافظ على الرصيد الذي كان يميز المشهد الثقافي المغربي والتي أنجبت أساطين أغنوا المكتبة العربية، ومدوها بأدوات عقلانية.
وليس هو المغرب الذي كان يُؤمله جيل ما عُرف بالانتقال الديمقراطي. لا جَرَمَ أن المغرب عرف قفزة نوعية في البنيات التحتية، ولكنه عرف اندحارًا من حيث القيم والمرجعيات، حتى كاد أن يكون بدون نخب سياسية وثقافية. ويعجبني الاستشهاد دائمًا ببيت أبي الأسود الدؤلي:
لا يَصلُح الناسُ فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جُهالهم سادوا
أو بالمثل: "إن البغاث بأرضنا يستنسر"، أي إن صغير الطير يحاكي النسر. وهو حالنا للأسف الشديد، كما تُبين الحالات الأربع التي ألمعتُ لها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الشؤون الدینیة وزیر الداخلیة السید الشرعی ما ورد
إقرأ أيضاً:
بنكيران يرد على تصريحات وزير الأوقاف: المغرب دولة إسلامية وليست علمانية
أكد عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية والرئيس الأسبق للحكومة المغربية، أن المغرب دولة إسلامية، مستبعدا أي توجه نحو العلمانية.
جاء ذلك في لقاء مفتوح نظمه الحزب مساء أمس الأحد مع ساكنة أولاد برحيل والنواحي بإقليم تارودانت جنوب المغرب، في سياق لقاءات مباشرة يقوم بها قادة العدالة والتنمية مع قواعدهم وأنصارهم في مختلف أنحاء البلاد.
وشدد بنكيران على أن المغاربة متشبثون بدينهم وهويتهم الإسلامية عبر التاريخ، مركزا على ضرورة إعادة الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، بما في ذلك الأحزاب السياسية.
وفي تلميح لافت لتصريحات التوفيق، أشار بنكيران إلى أن المغرب لم يكن يوما دولة علمانية، بل هو بلد يحكمه أمير المؤمنين، حيث يشكل الإسلام العمود الفقري للدولة.
وقال: "المغاربة مسلمون ومتمسكون بدولتهم الإسلامية، وليست العلمانية، وملكهم أمير المؤمنين، وليس ملكا عاديا، وصفة أمير المؤمنين أطلقت من قرون عديدة.. وكان السلطان لا يملك جيشا، وإنما مجموعة من الحراس، ويحكم في البلاد من خلال المدارس القرآنية والتي تطورت إلى مدارس عتيقة، والتي هناك من يكيد لها اليوم، وبالتأكيد هم سيرحلون وستبقى المدارس العتيقة".
وأضاف أن ارتباط المغاربة بالدين ليس مجرد اختيار فردي، بل هو توجه متجذر في هوية الدولة ومؤسساتها.
وجاءت تصريحات بنكيران كرد غير مباشر على ما أدلى به وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، حول مفهوم العلمانية في سياق حديثه مع وزير الداخلية الفرنسي خلال زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للمغرب.
وصرح التوفيق قائلا: "إن وزير الداخلية الفرنسي أخبره في اللقاء الذي لم يعلن عنه في الإعلام، بأن فرنسا مقتنعة بأن الإسلام المعتدل للمغرب في صالح الجميع."
وأضاف الوزير: "وزير الداخلية الفرنسية قال لي من جملة ما قال، إن العلمانية تصدمكم، قلت له لا، فقال لي كيف؟، قلت له لأننا علمانيون، وليست لدينا نصوص عام 1905"، مردفا: "نحن دولة علمانية ومن يرغب في فعل شيء يمكنه القيام به، لأنه لا إكراه في الدين وإسلام المغرب معتدل".
وتأتي ردود بنكيران غير المباشرة على تصريحات وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أياما قليلة بعد معركة إعلامية بين بنكيران ومؤسسات أحمد الشرعي الإعلامية في المغرب، عقب إقدام العدالة والتنمية على إصدار بيان رفضوا فيه مقالا للإعلامي المغربي أحمد الشرعي في صحيفة عبرية انتقد فيها إصدار الجنائية الدولية لمذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت بسبب ارتكابهم لجرائم حرب ضد الفلسطينيين في غزة..