لا تستقيم حياة بدونها ولا يكون جهاد في جهلها، فهي الركيزة والأساس لكل مؤسس، إنها البصيرة، فحيثما وجدت البصيرة وجد الحق ووجد العدل ووجد القسط، البصيرة التي بها تدرك الحق وأهله فتتبعهم، وتعرف الباطل وحزبه فتتجنبهم بل تقف في وجههم وتقارع ظلمهم، البصيرة التي تكون عن معرفة لا عن هوى.
وقد كانت البصيرة هي منبع ثورة الإمام زيد ابن علي-عليهما السلام- على هشام أعمى البصيرة والبصر، والذي أكمل ما بدأه يزيد في كربلاء مع الإمام السبط الحسين -عليه السلام-؛ ليقوم الدعي ابن الأدعياء بقتل حفيد الإمام الحسين إمام البصيرة زيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين -عليهما السلام- شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، في محاولة لاجتثاث هذه الشجرة الطيبة المباركة من قبل من استحوذ عليهم الشيطان في استحلالهم دماء العترة الطاهرة من آل بيت النبي، فما أجرأهم على الله وما هم إلا كشجرة خبيثة، لا أصل لها ثابت ولا فرع لها نابت، بنو أمية أخبث الأشجار هم ومن سار على نهجهم في معاداة النبي الطاهر وآل بيته الأخيار في ذلك الزمان أو في هذا الزمان وإلى آخر الزمان.
ومن كان دون بصيرة فلن يرى الحق مهما كان واضحا وجليا، وما ثورة الإمام زيد إلا مكملة لكربلاء، وما كانت بصيرة زيد إلا امتداد لبصيرة جده الحسين، الإمام زيد الذي قال: “إنّي شهدت هشاماً ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يسبّ عنده، فلم ينكر ذلك ولم يغيّره فو الله لو لم يكن إلاّ أنا وآخر لخرجت عليه”، أين أنت يا إمام البصيرة مما يحدث اليوم من إساءات للإسلام وللنبي ومن تدنيس وإحراق للقرآن الكريم، على مرأى ومسمع من حكام المسلمين الذين لم ينبسوا ببنت شفة، إزاء ما يحدث وأنى لهم أن يكونوا بشجاعة الإمام زيد أو ببصيرة الإمام زيد الذي قال: “ما كره قوم حَرَّ السيوف إلا ذلوا”.
فهو قد علم أن النصر بالحق لا بالقوة وبالبصيرة التي تجعلك تعرف في ما خرجت، وقد كانت بصيرته نافذة وحجته واضحة وقد خرج على أئمة الظلم وفراعنة عصره، ولقي الله شهيدا، ولأنه هزمهم حيا فقد هزمهم شهيدا، فما فتئوا يحاربون جسده الطاهر، فقد صلبوه لسنوات علهم ينتصرون عليه وأحرقوه علهم يمحون أثره وقد خابوا وخسروا كما خاب أسلافهم في كربلاء، وكما سيخيب ظن كل دعي يريد أن يطفئ نور الله وبصيرته التي أودعها أولياءه المتقين فبصيرة الله باقية ما بقي من يقف في وجه كل ظالم أو معتدى.
وقد كان الإمام زيد إمام حق وبصيرة في كل مواقفه ولم تأخذه بالحق لومة لائم، فقد كان رده واضحا وجليا عندما سئل عن الشيخين أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، عندما أتاه رؤساء أهل الكوفة وأهل الحل والعقد فسألوه عما يراه في أبي بكر وعمر فقال لهم : (ما سمعت أحداً من آبائي تبرّأ منهما، ولا يقول فيهما إلاّ خيراً)، فقالوا له: فلم تخرج على هؤلاء اذن، فقال: إن هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم؛ وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وإلى السنن أن تُحيى وإلى البدع أن تُطفأ، فإن أنتم أجبتمونا سُعدتم وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل، ففارقوه ونكثوا بيعته، فتبرأ زيد منهم: ولما بلغ الصادق -عليه السّلام- حديثهم معه تبرأ منهم؛ وقال: برئ الله ممّن تبرّأ من عمّي زيد، وقال لجماعة من أهل الكوفة سألوه عن زيد والدخول في طاعته: (هو والله خيرنا)، فكتموا ما أمرهم به وتفرقوا عنه.
ومن كانت هذه سيرتهم وتلك سجاياهم فحري بنا جميعاً أن نستظل في تحت غصون شجرتهم فهم الأئمة الأطهار من آل بيت النبوة وأن ننهل من كوثرهم العذب ونستقي الماء من منبعه ونحذو حذوهم ولا نقبل أن ينسب إليهم ما لا يليق بهم لكي نسعد في الدارين.
لقد هدَّ جسمي رزءُ آل محمدٍ
وتلك الرزايا والخطوب عظامُ
وأبكتْ جفوني بالفرات مصارعٌ
لآل النبيِّ المصطفى وعظامُ.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
الأمام الصادق المهدي: فالعنقاء أكبر أن تصادا
أثارت ردود فعل في أوساط حزب الأمة على الخطاب الذي ألقاه السيد عبد الرحمن الصادق المهدي في مسجد الأنصار بود نوباوي في يوم الجمعة الماضي سقمي القديم من حزب الأمة. فقد ساءني منذ حين، بفطرة المؤرخ، أن معادلة الحزب-الجماعة الدينية (الأنصار) قد اختلت، وغلب الحزب على الجماعة الدينية التي خرج من رحمها في العبارة الشائعة. فلست من حزب الأمة، ولكن جماعة الأنصار كيان انتمى له كسائر السودانيين بصورة أو أخرى. فاشتغالي بالتاريخ إلى يومنا بدأ بكتابة “الصراع بين المهدي والعلماء” (1968) التي استحسنها الناس وعلى رأسهم استاذي مكي شبيكة. وصرت مؤرخاً من يومها. لم احتج لحزب الأمة، بل وللمفارقة، كتبت كتابي نفسه عن حجة المهدي الثورية في وجه تنطع علماء النظام التركي من باب مقاومة الحزب الذي ضلع في حل حزبنا الشيوعي في 1956. وهذه كلمة قديمة علقت فيها على خطبة للأمام الصادق المهدي تجد فيها نازعي لإعلاء الانصارية على الحزب (بل حله) فيما سميته “المهدية الثالثة”.
كان خطاب السيد الصادق المهدي مساء السبت الماضي (ضاع مني التاريخ، ولكنه في نحو عام 2011)، كما أحسن وصفه فيصل محمد صالح، عودة إلى منصة التأسيس في المشروع المهدوي وهي الأنصار. كان عودة للإمام إل “قندهاره”. فكانت المناسبة أنصارية خاطبها إمامها واحتشدت لها الجماعة بسهر هيئة شؤون الأنصار وبآلية وكلاء الإمام. وكانت هداياها أنصارية مثل تذكيرها بشرعيتها الأولى في ثورة جده، وببشارتي البقعة والجزيرة أبا الجديدتين، ونجاحات مجلس حل الهيئة وعقدها ومكتبها التنفيذي. وكانت هذه العودة لمنصة التأسيس واجبة لأمرين. أولهما خروج بني عمومة الإمام من مثل نصر الدين الهادي ومبارك الفاضل مع الجبهة الثورية يبتغون سنداً من الأنصار في حقول المهدية التاريخية في جبال النوبة ودار البقارة. فزعم نصر الدين الهادي مثلاً أنه مهدي الجبهة الثورية بخروجه من جبل قدير الشهير في جبال النوبة. أما الأمر الثاني فقد كان اللقاء لماً لشعث حزب الأمة الذي طغت صورته على القندهار الأنصاري. فالحزب تفرق أيدي سبأ حتى أنه يعمل اليوم بدون أمانة عامة، أو بأمانة مشاكسة ناهيكم عن التيار العام والمادبوز والقيادة الجماعية وهلمجرا.
واضح خمول ذكر حزب الأمة في خطاب الأمام. فأقصى المطلوب منه، في قوله، أن يستعد لنظام جديد ويلتزم فيه برأي محدد. وبدا لي أن أعضاء مخالفين للإمام هتفوا حين عرض للحزب فألتمس منهم أن يستمعوا له لا أن يُسمِعوا. ونبه إلى أن الحزب لن تتخطفه الأجندة الطائشة. فظل الحزب “يشد ويلين” على مر الزمن انقلع الطغاة الذين أرادوا به شراً وظل كالطود بفضل قوة قيادته وحكمتها. واستهدى الإمام من لم يرغب بالعمل في إطار رشد القيادة أن يذهب “والباب يفوت جمل”.
لو كنت بين حشد البقعة والإمام خطيباً لتمثلت بالحلفاوي في الطرفة الشائعة. فقد منح الأزهري حلفاويين إجازة لغد زيارته لهم لحسن استقباله فطلب منه الحلفاوي أن لو ألغى رمضان . . . كمان. وكنت هتفت: “وحزب الأمة كمان يا ريس”. فقد ظللت لسنوات أدعوه لتنشئة الأنصارية الثالثة العاقبة لأنصارية جده الأكبر الأولى وجده المباشر الثانية. فالأنصارية عندي كيان أعظم خطراً من حزب الأمة. فهي استثمار تاريخي وتربوي سوداني جامع لغمار الناس من كل فج. وضمت أهل البادية بشكل خاص ممن لا وجيع لهم حتى تورطوا في “الجنجويدية” والمراحيل في الملابسات المعروفة. واستحق الأنصار من إمامهم عناية مستديرة بحيواتهم أفضل مما سمحت به أنصارية الإمام عبد الرحمن التي أحصتهم، سياساً عدداً، كمجرد أصوات لحزب الأمة. ولذا تساءلت يوماً، وأنا أعرض كتاباً قيما للإمام الصادق، إن كانت هناك جامعة للأنصار تسرب بالموالاة معانيه الحسان عن مسائل المسلمين إلى أفئدة غمار الأنصار مع الراتب العذب.
أما حزب الأمة فقد دخله الذي لا يتداوى. فقد ظل يستقوي به من لا قاعدة له بين الشعب منذ طلائع المتعلمين في مؤتمر الخريجين حتى صغار البرجوازيين المستفحلين على أيامنا هذه. وحوّل هؤلاء المتعلمون زعيم الأنصار إلى “مقاول أنفار”، في وصف دقيق للترابي، يجيش لهم الأصوات والساحات. وصغار البرجوازيين هذه طبقة وصفتها بأنها “كديسة أم خيط” سياسياً. وتقال العبارة في الذي يتغشى الأبواب. فهي جماعة مودراليها حزب. وتغشى أحزاب الجمهرة الدينية عن يأس من أحزابها الصغيرة الفاشلة حاملة مطلب “المؤسسية” كجرثومة لا منهجاً في العمل. ولم نر منها مع ذلك المؤسسية حيث أتفق له إنشاء حزب من أحزابها الصغيرة.
ومرحباً بالأنصارية الثالثة بعد خطاب الإمام.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتساب