الفرص البديلة.. استحقاقات الوفرة والندرة
تاريخ النشر: 1st, December 2024 GMT
يبدو أن المعادلة ليست سهلة على الإطلاق؛ فما بين البحث عن فرص بديلة لما نحن عليه -وهو الكفة الأولى من المعادلة- وبين ما هو متاح ومعروض على طاولة الحياة أمام كل فرد فينا -وهو الكفة الثانية للمعادلة- حيث تبدأ عندها مرحلة حرجة، فتدخلنا في متون صراعات فكرية قبل كل شيء، ثم مادية؛ حيث محصلة أو نتيجة المعادلة، مع أن التفكير لوحده له استحقاقات ليست يسيرة، وفي مقدمتها الهدف الذي يسعى إليه كل منا لتحقيقه، وهل هذا الهدف أو ذاك يدخل في مفهوم آخر وهو الحتمي، أو يتصادم معها، لأن التفكير في حد ذاته مرتبط بحياة الإنسان ارتباطا غير منكور، وقد يكون حتميا بالضرورة، ولأنه كذلك فهو الذي يقلّب الأنفس يمنة ويسرة، صعودا وانخفاضا، فيذهب بهذه الأنفس إلى أن كل شيء يمكن تحقيقه، فيتموضع بها إلى حيث الوفرة، وقد يوقعها مأزق الندرة؛ حيث استحالة تحقيق أي شيء في الحياة، وأن هذه الحياة عبارة عن لوحة سوداء لا تستحق منا، أي بذل، إلا إذا ارتبط هذا البذل بمقابل مادي، نلمسه بين أيدينا، وتقر به أنفسنا؛ حيث المفهوم السائد عند الماديين، على وجه الخصوص والقائم على مفهوم السوق (الربح/ الخسارة) وعلى الرغم من هذا الالتحام بين الأنفس وتفكيرها، فإن هناك من يحاول أن يهرب من هذا التفكير، على أنه مضيعة للوقت، وأن على الإنسان -وفق هذا الفهم- أن يعيش ما هو ملموس؛ وهذه إشكالية موضوعية في علاقتنا مع مختلف الظروف التي نمر بها، يقول إنشتاين: «2% من البشر يفكرون، و3% من البشر يظنون أنهم يفكرون، و95% من البشر يفضلون الموت على أن يفكروا» ويقول: «حياة هادئة ومتواضعة تجلب قدرا من السعادة، أكبر من السعي للنجاح المصحوب بالتعب المستمر» -وفق المصدر- ونسبة (95%) هي النسبة الحاكمة في نتائج تصرفاتنا في الحياة، ولذلك لن يستطيع الإنسان أن يتحرر من أخطائه، ولن يستطيع أن يدفع بحياته نحو ما يتوقع منه، وما تسلسل الأخطاء في حياتنا الخاصة والعامة، إلا انعكاس لهذه النسبة المرتقعة لحقيقة نظرتنا إلى الحياة، ومما يؤسف له أن هذه النسبة تعلي من سهمها الثقافة الاجتماعية، فتكرسها على أنها حقيقة، وحتى لا تتداخل المفاهيم على بعضها، فهذه النسبة؛ يقينا؛ أنها لا تتعلق بإيماننا -كمسلمين- بالاستسلام للقضاء والقدر الذي يتسرب مفهومه المغلوط إلى ذاكرتنا؛ إطلاقا؛ فالإسلام دين الجهد، والاجتهاد، والتفكير الواعي الرفيع، وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تشجع على التفكير في الكون، وفي السعي إلى ضرورة تغيير وجه الحياة إلى الأفضل، ولا تستسلم لواقع يميت النفوس، ويهلك العقول، فالوعي الإسلامي وعي يحفز الإنسان، ويسمو بتفكيره، وله في ذلك الأجر الكثير «من بات كالا من طلب الحلال بات مغفورا له».
ومن يوجد الفرص البديلة؛ إلا التفكير؟ ومن ينقلنا من حالة الندرة إلى حالة الوفرة إلا التفكير؟ ومن يغير مسارات حياتنا اليومية نحو الأفضل؛ وأحيانا؛ نحو الأسوأ عندما تخوننا الحكمة؟ ومع أن التفكير سلاح ذو حدين، إلا أن حده الآمن أكثر اتساعا؛ حيث عوائد الوفرة، ولذلك فهناك من يرى أن الوفرة واقع غير متحقق للجميع، حيث يحتاج إلى مكابدة، وجهد مضنٍ، كما يحتاج إلى تنمية فكرة ما، لتنقل صاحبها من حالة الندرة إلى حالة الوفرة، ولذلك فهناك من يبدأ بفكرة تنميته مشروعه الصغير، ويصبر عليه سنوات كثيرة يقلم من خلال هذه السنوات مجموعة النتوءات التي تخرج عن مسارها الصحيح، حتى يصل بهذا الفكرة «المشروع» إلى مستويات متقدمة من العوائد، وهذا النوع من الناس هو ما يعنيهم إنشتاين بـ (2%) من المفكرين، وهؤلاء هم الملتحمون بمفاهيم الوفرة، لأن العبرة؛ في خاتمة الأمر؛ بالنتائج المتحققة، أما المتململون، والقلقون، والمهرولون هم من فئة (95%) وفق تقييم إنشتاين، وهم المتجمعون في خاتمة المطاف في ميدان الندرة، حسب مفهوم «ثقافة التبرير» وهذه الصورة مرتبطة كثيرا بمحددين أساسيين: فيزيائي، وفلسفي، ولا غنى للإنسان عن كليهما لكي تصل المعادلة إلى توازن الكفتين، هذا على أقل تقدير؛ حيث «لا ضَرر ولا ضِرار» بينما الطموح يذهب إلى الأبعد من ذلك، وهو شيوع الوفرة، حتى يتحقق الوجه المشرق للحياة، ويبتهج الناس، وتقرأ على وجوههم الصور الاحتفالية، والتي عادة ما تكون زاهية، ومشرقة، فالندرة كئيبة، ومزعجة في كل اتجاهات الحياة، ما عدا في حالات الخصومة والعداء، حيث يجب أن تسود الندرة، ويعلو صوتها، ويشتد عودها وفق مفهوم «تجفيف منابع الخلاف» أما فيما ينفع الناس، ويعلي من قدر مكانتهم، وجهدهم، ونشاطهم، فلا يجب أن تحل الندرة دارهم، وإلا أماتوا أنفسهم قبل أن تبدأ خطوتها الأولى.
ومسألة الفرصة البديلة، هي مسألة في غاية التعقيد، وتحتاج إلى كثير من الجهد المعنوي «التفكير العميق» فأنت حتى تنتقل إلى فرص متاحة أمامك إلى فرص أخرى لا تدري عنها شيئا؛ هو نوع من المغامرة؛ غير مأمونة العواقب، ومع ذلك فالذين يغامرون، وهم قلة (2%)، هم الأكثر حظا «وفرة» من الذين يتقوقعون، وهم كثرة (95%) على واقعهم «ندرة» وهؤلاء الأخيرون لا يكتفون بتقوقعهم هذا فقط، بل يأتوك يشتكون، ويلعنون الأزمان، ويصدرون أخطاءهم إلى أعناق الآخرين من حولهم، ويمارسون عليهم قناعاتهم، وأن الدهر والظروف تقف ضدهم، وأنهم غير محظوظين، فيضعون أمامهم العراقيل حتى لا يتحرروا من عقدة الندرة، خاصة إذا وجدوا أنفسهم أن لا مصلحة لهم فيما يذهب إليه الآخرون من حولهم من أفكار إبداعية من شأنها أن تعلي من نصيب الوفرة، فيصبحوا أكثر الناس مكاسب، ومكانة، وتميزا في الحياة.
أتصور أنه من المهم طرح الأسئلة التالية في هذه المناقشة؛ ومن هذه الأسئلة: هل متاح لأي منا أن يبحث عن فرص بديلة في أي وقت يشاء؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ وبهذه البساطة أو التلقائية: هل تساعدنا ثقافتنا؛ قناعتنا؛ أعمارنا تجربة حياتنا لأن نبحث عن فرص بديلة؟ هل يمكن أن ننتقل من مجالنا إلى مجالات أخرى، للبحث عن فرص بديلة؟ ثم ما الفرص البديلة في كل محطة من هذه المحطات؟ مع أنني أتصور أن تغيير المجال ليس بالأمر اليسير لأن يتيح لنا فرصة البحث عن فرص بديلة، لأن هذا يتطلب تغييرا بنيويا شاملا قد يتصادم مع الثقافة المتأصلة، أو المتوارثة، وهذا ما لا يمكن تحققه، خاصة بعد مضي عمر مقدر من تجربة الحياة في المجال ذاته، ولذلك يتعثر كثير من الناس عندما يصلون إلى عمر معيّن في أي مشروع قد يتجهون إليه، ولعل تجربة الناس المتقاعدين أقرب الأمثلة إلى تأكيد هذه القناعة، وفي هذه الصورة الأخيرة إن توفرت المادة؛ وهي هنا الوفرة «تحويشة» التقاعد، فلن تتوفر الخبرة؛ وهي هنا الندرة، وبالتالي فالذين يجازفون سرعان ما سقطوا، وخسروا هذه «التحويشة» وهذا لا يتنافى مع ما يطرحه إنشتاين في نسبة الـ (2%).
هناك آخرون غادروا أوطانهم الأصل؛ ولو لفترة مؤقتة؛ للتحرر من عقدة الندرة، ووجدوا في الأوطان البديلة الوفرة في كثير من مجالات الحياة، وعلى ما يبدو أن العلاقة بين الوفرة والندرة؛ علاقة ضدية أو عكسية، يقوم أحدهم على حساب الآخر، ومتى طغا أحدهما على الآخر، كان له فضل السبق للبقاء، والنمو، فالنفوس؛ كعادتها؛ تتموضع على الحالة التي تكون عليها، وحتى تنتقل من حالة إلى أخرى تحتاج إلى محفز كبير، وإذا كنا نؤمن أن الندرة حالة من الضمور في كل شيء، وأن الوفرة هي الانتعاش، فإن علاج هذه الضمور الذي تتموضع عليه الندرة، هو بضرورة وجود هذا الانتعاش الذي تحفزه الوفرة، مع التأكيد أن الندرة والوفرة هما محصلة جهد الإنسان وتفكيره، وليسا حالة حتمية مفروضة على الإنسان، ومعنى هذا أنه كلما وجد الإنسان في نفسه القدرة على تغيير حالته من الأسوأ إلى الأفضل، فلن يكون معذورا لكي يتقوقع على واقعه المتأصل من خلال قناعاته التي يؤمن بها.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
تركيا وسياسة انتهاز الفرص.. لماذا عرضت أنقرة إرسال جنودها إلى أوكرانيا؟
وضعت تركيا نفسها مجددًا في مركز الجهود الدبلوماسية فيما يتعلق بالصراع في أوكرانيا، فبعد زيارات رفيعة المستوى إلى أنقرة قام بها الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعداد بلاده للعب دور الوساطة مشيدًا بمبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب.
قال مصدر بوزارة الدفاع التركية إن بلاده التي تملك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي «الناتو» بعد الولايات المتحدة قد تساهم بجنودها في مهمة محتملة لحفظ السلام في أوكرانيا، إذا اُعتبر ذلك ضروريًا من أجل إرساء السلام والاستقرار في المنطقة، مؤكدًا رغبة تركيا في أن تكون جزءًا من أي هيكل أمني أوروبي حال انهيار الحلف العسكري على خلفية العلاقات المتوترة بين أمريكا وحلفائها الغربيين، وفقًا لـ«فرانس 24».
وأضاف المسؤول العسكري التركي خلال إفادة صحافية أسبوعية، الخميس: «نتابع المبادرات الدبلوماسية متعددة الأبعاد الرامية إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا بالتنسيق مع المؤسسات ذات الصلة وبوجهة نظر تركية في إمكانية تحقيق السلام العادل والدائم من خلال تمثيل طرفي الصراع على قدم المساواة والإنصاف».
وعبّرت تركيا عن ترحيبها بمبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، مؤكدةً استعدادها لاستضافة المفاوضات بين الجانبين، كما فعلت من قبل عندما استضافت جولة مباحثات أولية في إسطنبول خلال إبريل 2022، أي بعد وقت قصير من اندلاع الحرب.
وقال الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان في كلمة خلال مشاركته في إفطار لسفراء بلاده في أنحاء العالم، إنه لا يمكن تصور أمن القارة الأوروبية من دون تركيا التي تعتبر «جزءاً لا يتجزأ من أوروبا» ترى أن عملية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي «أولوية استراتيجية».
وفي سياقٍ متصل، أضاف مسؤول الدفاع التركية الذي لم يذكر اسمه، أن «أنقرة» بصفتها عضواً في حلف شمال الأطلسي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ودولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يصبح التعاون معها أمرًا ضروريًا لكي تصبح أوروبا «لاعباً عالمياً» مستفيدةً بصناعتها الدفاعية المتطورة، وأدوارها المهمة في حل الأزمات الإقليمية، و«جيشها القوي»، خاصةً في هذه المرحلة التي تزداد فيها مخاوف القارة العجوز في مجال الأمن.
فيما أكد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أن بلاده تريد أن تكون جزءاً من أي هيكل أمني أوروبي جديد حال تفكك حلف الـ«ناتو»، مشيرًا في تصريحات لصحيفة «فاينانشيال تايمز» على هامش مشاركته في قمة أوروبية بشأن أوكرانيا في لندن، إلى أن الإجراءات الأخيرة التي اتخذها ترامب تمثل «دعوة للأوروبيين كي يستقيظوا ويتحدوا لتصميم مركز ثقل خاص بهم».
وأضاف «فيدان»: «لقد خرج المارد من القمقم، ولا يمكن إعادته، وحتى لو قرر ترامب عدم الانسحاب من أوروبا في الوقت الحالي، فمن الممكن أن يأتي في المستقبل شخص يحمل وجهات نظر وأفكاراً سياسية مماثلة ويفكر في تقليص مساهمات أمريكا في أمن أوروبا».
من جانبها، حللت مؤسسة «الدفاع عن الديمقراطيات»، وهي مؤسسة بحثية تابعة للمحافظين الجدد ومقرها العاصمة الأمريكية واشنطن، موقف تركيا الأخير الذي يعبر عن استراتيجيتها الأوسع، ففي المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره الروسي، ألقى وزير الخارجية التركي باللوم في تعثر مفاوضات عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي على سياسات الهوية الأوروبية، مشيرًا إلى أن الكتلة كانت مترددة في قبول دولة ذات أغلبية مسلمة.
وقد توقفت عملية ترشيح تركيا للاتحاد الأوروبي، التي بدأت في عام 1999 وشهدت بدء المفاوضات في عام 2005، منذ عام 2016 بسبب المخاوف بشأن التراجع الديمقراطي والنزاعات مع اليونان وقبرص.
وتوضح «الدفاع عن الديمقراطيات»، أنه من خلال تعزيز دورها في محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا، ربما تحاول تركيا الضغط على الاتحاد الأوروبي لحمله على تقديم تنازلات، مثل تحرير التأشيرات وتوسيع اتفاقيات الجمارك، أو ربما تستغل «أنقرة» المخاوف الأوروبية المتزايدة من تضاؤل الوجود الأمني الأميركي، على أمل وضع نفسها كلاعب جيوسياسي رئيسي.
ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يعرض أردوغان العلاقات مع روسيا للخطر من خلال الدفاع الكامل عن قضية أوكرانيا، بل إن اعتماد أنقرة الاقتصادي على موسكو بدءًا من واردات الطاقة إلى الصادرات الزراعية، يمنح بوتن نفوذًا على تركيا، ومن غير المرجح أن يتغير سلوك أردوغان المتوازن نُصرةً لـ«كييف»، فهو سيواصل تقديم الدعم اللفظي لسيادة أوكرانيا في حين يعمل في الوقت نفسه على تسهيل المحادثات بين موسكو وواشنطن، بحسب تحليل المؤسسة البحثية الأمريكية.
وتتجلى حالة الريبة حول توجهات تركيا وسعيها إلى اللعب على حبلين من وجهة نظر حلفاء الناتو، في تصرفات الرئيس التركي التي تجعله «شريكًا غير موثوق به»، فمن مقاومة بلاده لانضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي مرورًا برفضه التخلي عن نظام الصواريخ الروسي الصنع «S-400» وصولاً إلى التقرب من خصوم أوروبا خاصةً روسيا والصين، كل هذه الأمور تعزز الشكوك حول نية أردوغان من تدخله على خط المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا.
المصري اليوم
إنضم لقناة النيلين على واتساب