أسرار خطة وتوقيت المعركة في سوريا
تاريخ النشر: 1st, December 2024 GMT
لأكثر من شهرين تناقل الناشطون في سوريا أنباء الحشود العسكرية للمعارضة السورية المسلحة في إدلب، وذاع الخبر أن التجهيزات العسكرية هي لتحرير مدينة حلب في الوقت الذي تنشغل فيه القوات الحليفة للنظام في محافظة حلب وشرق إدلب من الحرس الثوري الإيراني وقوات حزب الله اللبناني بالمعارك التي بدأتها إسرائيل في لبنان.
بينما غلب النفي والتشكيك من ناشطين ومحللين آخرين في أن يصل الأمر إلى مدينة حلب أو أن يطالها، مرجحين أن يسمح لفصائل المعارضة أن تفتح معارك محدودة للرد على الهجمات والانتهاكات التي تتعرض لها مناطقها، أو ربما أن الحشود العسكرية هي لمجرد تحسين الظروف التفاوضية.
لم تكن المفاجأة أن فصائل "غرفة عمليات الفتح المبين" التابعة للمعارضة السورية أعلنت بدء المعركة صباح 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وأطلقت عليها اسم "عملية ردع العدوان" بل كانت المفاجأة بحجم المعركة الذي تجاوز سريعًا تحرير مدينة حلب، أمام انهيار متسارع لقوات النظام وحلفائه.
مجريات المعركة وحدودهابدأت الفصائل إعلان أخبار المعركة وبياناتها عبر ما أسمته: "القيادة العامة لإدارة العمليات العسكرية"، وبدأت تنتشر أخبار التقدم وتحرير المدن والبلدات في ريف حلب الغربي، لينطلق محور ثانٍ للمعارك في ريف إدلب الشرقي، بالتزامن مع توسع دائرة المشتركين من الفصائل في هذه المعارك، خاصة مع التقدم السريع الذي بدأت تحرزه الفصائل في اليوم الثاني للمعركة، ثم النتائج المفاجِئة في اليوم الثالث بسيطرة الفصائل بشكل كامل على مدينة حلب.
كانت السيطرة السهلة والسريعة على مدينة حلب بعد ريفها الغربي دافعًا رئيسيًا للاستمرار في المعارك بعد ارتفاع هائل في معنويات المعارضة السورية، إلى جانب ما وفره انهيار دفاعات النظام والقوات الإيرانية من أسلحة وذخائر استخدمتها الفصائل مباشرة في تقدمها، حيث حصلت الفصائل في الأيام الثلاثة للمعركة فقط على أكثر من 65 مدرعة بينها عدد كبير من الدبابات، ومستودعات من الصواريخ والطائرات المسيرة، ويقدر حجم السلاح والعتاد والذخيرة التي حصلت عليه الفصائل بأكثر من ضعف ما كانت جهزته لدخول هذه المعركة.
قبيل الفجر من اليوم الرابع للمعركة كانت فصائل الجيش الوطني – التي يتم ربطها بتركيا- شمال حلب قد بدأت باستهداف مناطق النظام في بلدة تادف، وأعلنت العمل تحت اسم "غرفة عمليات فجر الحرية" لتدخل المعارك يومها الرابع ويكون حافلًا بتقدم كبير وواسع في بلدات نبل والزهراء وتل رفعت في شمال حلب، وباقي المواقع العسكرية في مدينة حلب ومحيطها، واستكمال التحرير الذي بدأ في إدلب من سراقب ليصل إلى معرة النعمان وخان شيخون ومورك، ويتم الإعلان رسميًا عن بدء معركة تحرير حماة.
دوافع المعركة وأسبابهاأكدت الفصائل في بياناتها عن المعركة أن أسبابها تتلخص في اسم المعركة الذي تم اختياره وهو "ردع العدوان"، حيث بدأت قوات النظام السوري والمجموعات الإيرانية ومجموعات حزب الله التصعيد ضد مناطق المعارضة، وخصوصًا ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
فعليًا فإن الاستياء من تجاوزات النظام وانتهاكاته لم ينحصر في المعارضة فقط، بل كان هذا واضحًا على الجانب التركي الذي أوصل رسالة صريحة للروس في جولة أستانا 22 أنها لن تمنع الفصائل من مواجهة النظام، وأعاد المسؤولون الأتراك ما كان يرددونه في كل جولة من ضرورة رجوع النظام عن المناطق التي اقتحمها بعد اتفاق 2019.
إلى جانب الاستياء من انتهاكاته وتجاوزاته، فإن استمرار النظام في دعم "قوات سوريا الديمقراطية (قسد)" ورفضه التطبيع مع تركيا ربما كان ذلك دافعًا إضافيًا يمكن أن يدفع أنقرة لدعم الفصائل والسماح لها بخوض المعركة، خاصة أن المستجدات الإقليمية والدولية قلبت موازين القوة بين الفاعلين المحليين في سوريا، على الأقل باتت المعارضة أكثر تماسكًا وحاجة إلى خوض المعركة، وبات النظام أكثر ضعفًا وتفككًا.
بعيدًا عن الأسباب والدوافع المباشرة، فإن الموازين في المنطقة قد تغيرت بالفعل، وشكل المنطقة لا بد أن يتغير مع تغير الموازين، سيربح من زادت موازينه، وستكون أمامه فرص أكبر على حساب أطراف أخرى تراجع نفوذها ودورها الإقليمي والدولي.
وإن صحت التوقعات، فقد شعرت تركيا أن قدرتها على التحرك في سوريا قد ارتفعت منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، وحالة الاستنزاف التي تعانيها موسكو هناك، ثم تعززت بعد تراجع الدور الإيراني في المنطقة عمومًا إثر الضربات التي تلقتها من إسرائيل، وبعد الضعف الكبير الذي أصاب القوات الإيرانية وحزب الله اللبناني.
مواقف الفاعلين الإقليميين والدوليينلم تزد تركيا أن أعلنت أن المعركة التي انطلقت من إدلب هي معركة الفصائل، ضمن حقهم في استعادة المناطق التي سيطر عليها النظام بعد إبرام اتفاقيات خفض التصعيد ووقف إطلاق النار بين موسكو وأنقرة عام 2019. والشائع أن الفصائل المشاركة في المعركة أو جزء منها تحظى بدعم أنقرة، ما يرجح أن تكون تركيا داعمة للمعركة بشكل كامل بقدر استفادتها منها.
والظن أن تركيا لم تدعم هذه المعارك بالتوافق والتنسيق مع روسيا، بل على العكس تمامًا فإن المعارك كانت نتيجة للفشل في الوصول إلى تفاهمات بين أنقرة وموسكو في نقاشات امتدت لأشهر، ثم وصلت إلى طريق مسدود في جولة أستانا 22، لكن في الوقت نفسه كانت تركيا تعلم أن روسيا مضطرة للتعامل مع الواقع الجديد دون أن تستطيع مساعدة النظام.
فهي من جانب، مستنزفة في حروبها مع أوكرانيا. ومن جانب آخر، فإنها دوليًا لن تضع نفسها في مكان المدافع عن إيران وحزب الله في سوريا قبيل مجيء ترامب للسلطة.
روسيا لا يسرّها المشهد الجديد، وفي نفس الوقت لا تمتلك رفاهية مواجهته، فقوّاتها في سوريا غير كافية لتحقيق تغطية جوية، وهي ترى أن التكلف بنقل عتاد وسلاح إلى سوريا يكاد يكون غير مجدٍ مع عدم وجود قوات على الأرض قادرة على الاستفادة من هذه التغطية، خاصة بعد مشهد الانهيار الذي حصل خلال الأيام الأولى للمعركة.
ومع ذلك فقد ترسل موسكو دعمًا عسكريًا، كما وعدت النظام، لحماية مصالحها، وإيقاف الانهيارات عند حد ما للانتقال للتفاوض، لكن قبل ذلك تنتظر موسكو أن يأتيها من يمول هذا الدعم ويدفع فاتورته، مع صعوبة ذلك في ظل الأحداث على مستوى المنطقة منذ عام حتى الآن.
ويستبعد أن يكون هناك أي دور للولايات المتحدة والغرب عمومًا أو إسرائيل في المعركة، غير أن ما يحصل لا بد أنه خصم من أرصدة إيران في المنطقة، لذلك ستنظر له الولايات المتحدة والغرب بإيجابية، فيما لن تنظر له إسرائيل بإيجابية في ضوء توتر علاقاتها مع تركيا بعد معركة طوفان الأقصى، لكنها سوف تستثمره وتستفيد منه ضمن حربها على المحور الإيراني في المنطقة.
آثار المعركة وتداعياتهاستترك المعارك الجارية آثارها وتداعياتها على المشهد السياسي في سوريا تمامًا، كما تركت أثرها في تغيّر خريطة النفوذ والسيطرة بهذا الحجم الكبير نسبيًا، خاصة مع عدم قدرة النظام وحلفائه على تغيير الواقع الميداني واضطرارهم للتعامل معه.
ربما يكون مبكرًا أو حتى مستبعدًا القول: إن المعركة قد أنهت جميع التفاهمات والاتفاقيات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها تلك التي وثقتها جولات أستانا، أو التي جرت بشكل ثنائي بين أنقرة وموسكو.
لكن المؤكد أن نتائج هذه المعارك ستكون في صالح تركيا على طاولة المباحثات السياسية، سواء مع روسيا في الملفات المشتركة بين البلدين، أو مع الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية بعد عودة ترامب للبيت الأبيض وشروعه في تنفيذ سياسات بلاده الخارجية في الشرق الأوسط.
ربما لا تصل المعارك إلى حد تهديد النظام السوري وجوديًا وإسقاطه، لكنها ستعيد الحسابات في طريقة النظر إلى هذا النظام والنظر إلى جدوى التطبيع أو التعامل معه، كما أنها ستدعم المعارضة السورية، وتساعدها لاحقًا في استعادة التأثير في العملية السياسية المتوقفة.
الخطر الأكبر على النظام يتمثل في أن تستطيع المعارضة السورية وبدعم من تركيا إعمار حلب وباقي المناطق الخارجة عن سيطرته، وأن تديرها بشكل جيد فتتحول إلى مكان آمن لعودة اللاجئين من خارج سوريا، وهروب من تبقى في مناطق النظام إليها، الأمر الذي سيساهم في زيادة تفكك النظام وضعفه تمهيدًا لسقوطه.
أسرار توقيت المعركةاختيار التوقيت كان شديد الدقة، فما كان لتركيا أن تتغاضى عن تحرك الفصائل في سوريا ضد النظام (وبالتالي ضد إيران وحزب الله)، بينما تستمر المعارك في لبنان ضد إسرائيل، حيث تقف أنقرة ضد تل أبيب منذ بدء حربها على غزة بما تضمنته من مجازر وانتهاكات.
ولذلك كان تحرك الفصائل بعد إعلان وقف إطلاق النار في لبنان لحظة مناسبة، فلا تتهم تركيا أو المعارضة بطعن ما يسمى محور المقاومة في الخاصرة لصالح إسرائيل.
وفي نفس الوقت كان تأخير خيار العمل العسكري محاولة لتسوية الأمر عبر التفاوض مع روسيا، بناء على تقديرات بضعف القدرة الروسية والإيرانية في سوريا. وتتراجع قوات النظام بناء على هذه التسوية عن المناطق التي سيطرت عليها بعد اتفاق عام 2019، وتلتزم بها روسيا بتعهدها بإخراج "قسد" من تل رفعت ومنبج.
أعطت أنقرة المفاوضات الفرصة الكافية، وكانت الجولة الأخيرة من مفاوضات أستانا التي عقدت في 11 و12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، فرصة أخيرة أمام روسيا للاستجابة لمطالب أنقرة، فلا تضطر للتحرك لحماية أمنها القومي، أو تسكت عن تحركات فصائل المعارضة لاستعادة المناطق بالقوة والحرب.
جاء توقيت المعركة في وقت يعاني فيه النظام من خلل بنيوي في مؤسسته الأمنية والعسكرية، فضلًا عن تعب واستنزاف حلفائه روسيا وإيران ما يشغلهما عن تقديم دعم له، فضلًا عن الإنهاك والاضطراب الكامل الذي يعانيه حزب الله اللبناني بعد الضربات القاصمة التي تعرض لها في حربه مع إسرائيل.
المعركة أيضًا جاءت ضمن الفترة الانتقالية للإدارة الأميركية، وهي إن كانت تستهدف النظام وإيران وحزب الله بشكل رئيسي إلا أنها ستطال قوات "قسد" المدعومة أميركيًا في غرب الفرات، ووضع مثل هذا يفضل أن يحدث لتثبيت أمر واقع قبل أن تتولى الإدارة الأميركية الجديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الفصائل فی فی المنطقة وحزب الله مدینة حلب فی سوریا ما کان
إقرأ أيضاً:
من غزة إلى اليمن .. السيد الحوثي يكشف خطوط المعركة الكبرى
كان الخطاب محمّلاً بنبرة من يعرف أن ما يحدث في غزة ليس مجرد حرب، بل محطة فاصلة في عمر المنطقة، بل وفي صلب معنى الوجود العربي ذاته.
كان السيد يقول – دون أن يحتاج إلى العبارة – إن ما نراه اليوم هو سقوط أخلاقي عالمي يتدحرج من فوق منصة الأمم المتحدة حتى أرصفة العواصم الأوروبية التي تقمع صوت طلابها. لم يكن الخطاب تصعيدًا بقدر ما كان تذكيرًا بأن المسألة ليست فلسطين وحدها، بل معيار الأخلاق الكونية في زمن السوق والعهر السياسي.
السيد الحوثي الذي لم يعتد أن يتحدث بلغة المهزومين، كان يُعرّي العدو الإسرائيلي ويضعه في صورة الكائن المتوحش الذي يتغذى على أشلاء الأطفال الفلسطينيين بتمويل أمريكي واضح، لا لبس فيه. لم تكن الإدانة أخلاقية فقط، بل وصف دقيق لماكينة إبادة تمارس القتل بنَفَس بارد، بينما يراقب العالم المشهد كأنه جزء من مسرحية تلفزيونية انتهت صلاحيتها الأخلاقية منذ سنوات.
لكن اللافت، كالعادة، أن خطاب السيد لا ينفصل عن الحقل العمل... هجمات بحرية، حظر للملاحة، إسقاط للطائرات، رد مباشر على العدوان الأمريكي، تحرك شعبي واسع، تأكيد على أن اليمن – بمقاومته – لم يعد على الهامش، بل في قلب معادلة الردع الإقليمي.
وكأنه يريد أن يقول نحن هنا لا لنستنكر، بل لنصنع أثراً، والدم اليمني لم يعد حزينًا وحيدًا، بل ممتزجًا بروح فلسطين وجراح غزة.
ومع ذلك، فإن ما يميز الخطاب أنه لا يكتفي بتوصيف الحدث، بل يغوص في بنيته، يشير إلى السياق المتكامل، يُفكك المصطلحات. فحين يتحدث عن "التهجير الطوعي" الذي يروّج له الاحتلال، فهو يدرك أن التهجير الطوعي، كعبارة، لا تقل جريمة عن القصف نفسه. هناك رغبة إسرائيلية قديمة لتفكيك الوجود الفلسطيني جغرافيًا، وتفريغه ديموغرافيًا، والغرب يصمت، بل ويشارك أحيانًا بإعادة إنتاج الخطاب الصهيوني نفسه بعبارات أكثر تحضّرًا ولكنها لا تقل قبحًا.
لم يكن السيد يوجه خطابه للداخل اليمني فقط، بل كانت نبرته عابرة للحدود، موجّهة إلى الأمة، بل وإلى الإنسانية كلها.
دعا إلى انتفاضة ضمير، لا مجرد غضب لحظي، دعا إلى مقاطعة اقتصادية وسياسية وثقافية، إلى عزلة كاملة لهذا الكيان الذي تم طرده من الضمير الإنساني لكنه لا يزال يحظى باعتراف الأمم المتحدة.
وربما أهم ما في الخطاب، أنه أعاد تعريف الاصطفاف. لم يعد الصراع بين إسرائيل وفلسطين، بل بين محور الهيمنة ومحور المقاومة. بين من يملك الطائرات الشبح، ومن يملك إرادة الصمود. بين قاذفات القنابل التي تنطلق من قواعد أمريكية، ومجاهدين حفاة يعيدون ترتيب المعنى من بين الركام.
والملاحظة الدقيقة، أن السيد لم يُغفل الإشارة إلى الداخل العربي. أشار – ولو بحذر – إلى الخذلان، إلى الصمت، إلى ازدواجية المعايير، إلى خيانة بعض الأنظمة التي تفتح أجواءها للطائرات الأمريكية وتغلقها أمام شحنات الدواء إلى غزة. وكان صريحًا في الإشارة إلى أن العدوان الأمريكي على اليمن هو امتداد لذات المعركة، وأن ما يواجهه اليمن اليوم هو نتيجة لموقفه الأخلاقي من القضية الفلسطينية.
وفي هذا السياق، فإن السيد، دون أن يقولها بشكل مباشر، يرسم حدود المعركة القادمة لا فصل بين الساحات. من البحر الأحمر إلى غزة إلى الجنوب اللبناني إلى دمشق، كلها جبهات لمعركة واحدة...العدو واحد، والخندق واحد، والراية واحدة. ومن يقف في الحياد، فهو جزء من الجريمة، حتى وإن رفع الشعارات.
المعادلة الجديدة التي يكرّسها الخطاب، فشل العدوان الأمريكي في اليمن لم يعد تحليلاً، بل اعترافًا أمريكيًا. حاملة الطائرات في حالة هروب، MQ9 تسقط تباعًا، الملاحة لم تعد آمنة، والقدرات العسكرية اليمنية تتنامى، لا تتآكل. هنا، يلمح السيد إلى معادلة ردع لم يجرؤ أحد من قبل على قولها نحن لسنا في موقع الدفاع، بل في موقع المبادرة.
وإذا أردنا أن نقرأ الخطاب من زاوية استراتيجية بحتة، فهو خطاب تثبيت حضور أكثر من كونه خطاب رد فعل. الحوثي لا ينتظر موقفًا عربيًا داعمًا، بل يؤكد أن اليمن يقوم بدوره الأخلاقي والإنساني والديني، دون مساومة، ودون رهانات على نظام رسمي عربي أثبت عجزه أو تواطؤه. وكأن الخطاب يريد أن يقول: نحن هنا لأننا اخترنا هذا المكان، ولسنا بانتظار من يبارك تحركنا أو يخذله.
أما الإشارات إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فلم تكن تعويلا، بل إدانة مزدوجة. فحين يتساءل السيد: لماذا لا يتم طرد الكيان الصهيوني من الأمم المتحدة؟ فهو لا ينتظر جوابًا، بل يكشف التواطؤ، ويقيم الحجة على المؤسسة الدولية كما على الأنظمة.
بالمجمل، كان خطابًا هادئًا في لغته، صادمًا في محتواه، عميقًا في دلالته، ثابتًا في موقعه من معادلة الصراع الكبرى. خطاب من لا يحتاج إلى أن يرفع صوته ليُسمع، لأن الفعل الميداني يسبقه دائمًا. السيد الحوثي كعادته، يقول ما يعنيه، ويفعل ما يقوله، ويعرف أن التاريخ لا يصنعه الحياد، بل من يقف في وجه الطغيان، ولو وحيدًا، كما قال المتنبي يومًا:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
المصدر : عرب جورنال / كامل المعمري